المفسدة الثامنة
النُّصْحُ في المَلأ
فإذا كان من صدق المحبة ومن أدب الصحبة ومن حقوق الأخوة
أن تنصح أخاك إذا وجدته على منكر أو معصية أو خطأ وأن ترشده للصواب
وما ينجيه من غضب الله وعقابه
إلا أن ذلك لا يعني أن تنصحه في العلن دون ضرورة تلجئ لذلك
إذ لا يختلف اثنان في أن النصيحة في العلن يكرهها الناس
فجميع الناس يكرهون أن تُبرز عيوبهم أمام الآخرين
بل النصيحة في العلن أو ذكر خطأ صاحبك في الملأ من أسرع ما يزيل المحبة
ويزرع العداوة لما يشعر به من الفضيحة والتوبيخ، وقد يولد في نفسه العناد
والرغبة في الانتقام... وإلى هذا أشار الإمام الشافعي رحمه الله بقوله():
تعمدني بنصحك في انفرادي
فإن النصح بين الناس نوع
فإن خالفتنِي وعصيت قولي
وجنبني النصيحة في الجماعة
من التوبيخ لا أرضى سماعه
فلا تَجْزَعْ إذا لم تُعْطَ طَاعَة
ولكن إذا أخِذ الرجل جانبًا ونصح على انفراد لكان ذلك أدعى للقبول
وأدعى لفهم المسألة، ولأحبك لأنك قدمت إليه معونة وأسديت إليه خدمة
بأن نصحته وصححت خطأه().
وبعض الناس يريد أن تكون النتائج لحظية فيحب في الناس أن يغيروا ما بهم
بمجرد أن يُنْصَحوا، فإذا لم يجد الاستجابة في نفس المجلس أو اللحظة التي
نصح فيها ظن أن النصيحة لم تأت بنتيجة أو ربما أثقل على المنصوح لدرجة
النزاع ظنًا منه
أن مفهوم النصيحة لم يصله بعد أو لم يقتنع به...
وهذا الناصح مخطئ في تقديره للأمور
لأن الغالب على طبيعة البشر أنهم لا يتراجعون في لحظة
وإنما يأخذون فترة للتفكير أو ينتظرون فرصة للانسحاب.
وإذا نصحت أخاك فلا تعيره بخطئه
فإن التعيير بالذنب ليس من النصيحة بل هو خلق رذيل وهو سلوك من لا يخشى
على نفسه من سوء الخاتمة، ولذا قد يكون لهذا السلوك عاقبة سيئة على صاحبه
وقديمًا قيل: من عيّر أخاه بذنب لم يمت حتى يقع فيه().
المفسدة التاسعة
كَثرةُ المعَاتبَة وعَدمُ التّسَامُحِ
والنّظر إلى السَّلبيَّاتِ دون الإيجابيات
وعَدم الاعتِذَار أو عَدم التّجاوز عن الزّلات
قال الفضيل: الفتوة الصفح عن عثرات الإخوان().
وعن عليّ رضي الله عنه في قوله تعالى:
]فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ[
[الحجر: 85]
قال: الرضى بغير عتاب().
وما أحسن قول الشاعر:
إذا كنتَ في كل الأمورِ معاتبًا
فعِشْ واحدًا أو صِلْ أخاك فإنه
إذا أنْتَ لمْ تشْرَب مرارًا على القَذى
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
خليلَك لم تلقَ الذي لا تُعَاتِبُه
مقارِفُ ذنْبٍ مرةً ومُجَانِبُه
ظَمِئْتَ، وأيُّ الناس تصفو مَشَارِبه
كفى بالمرءِ نبلاً أن تُعَدَّ معايِبُه
فالأخ قد يعاتب أخاه أحيانًا بتلطف وتودد
ولكن يكره له المعاتبة في الصغيرة والكبيرة
بل ليصفح دون معاتبة وليغض الطرف عن بعض ما يعده من الهفوات
أو يتغابى ـ إن صح التعبير ـ أو يتعامى عنها على حد قول الطائي:
ليس الغَبيُّ بسيدٍ في قوْمِه
لكن سيَّد قومِه المتُغَابِي
وذلك لأن كثرة المعاتبة والإحراج مما يفضي إلى قطع المودة؛ لأن ذلك يشعر أخاك أنك لا تتحمل أدنى شيء منه، أو أنك دائمًا تسيء به الظن
أو تنظر إليه على أنه مقصر في حقك
وتوشك إذا مضيت على هذه الطريقة أن لا تجد من تعاتبه
أقصد أن لا تجد صديقًا مصاحبًا.
على حد قول القائل:
أغمِضْ للصديقِ عن المسَاوِي
مخافَةَ أن أعيشَ بلا صَدِيقِ
وقال غيره وقد أجاد:
ومن لا يغْمِض عينَه عن صَدِيقِه
ومن يتتبع جاهدًا كل عثرة
وعن بعضِ ما فيه يمت وهو عَاتِبُ
يجدْها ولا يسْلمُ له الدهْر صاحبُ
وقال آخر:
اقْبَل أخاك ببعْضِه
واقْبلْ أخاك فإنه
قد يُقْبَلُ المعروف نزرًا
إن ساءَ عصْرًا سرّ عصرًا
فاعلم أولاً أنه لابد من القناعة في طلب مواصفات الصديق
وأنك لن تجد صديقًا ليس في وده خلل
وأنت كذلك لا تخلو من نقص، فاقبل في أخيك ما قبله فيك
وإلا دام غمك وطال همك ولن تظفر بمطلوبك...
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: من طلب أخًا بلا عيب بقي بلا أخ().
وقد أجاد من قال:
عاشِرْ أخاك على ما كان من خُلقٍ
فأطولُ الناسِ غمًا من يريدُ أخًا
واحفظْ مودَّتَه بالغيبِ ما وَصَلا
ذا خِلَّة لا يرى في وُده خَلَلا
(فلا يوجد صديق بلا عيوب، ولذا قال الشاعر:
لا يُزهدنَّك في أخٍ لك
ما من أخِ لَكَ لا يُعاب
أن تراهُ زلَّ زَلَّه
ولو حرِصتَ الحرصَ كله
وقد نكره أشياء في بعض الناس ولكن عندما نفتقدهم
ونخالط من هم أسوأ منهم ندرك الخير الذي كان فيهم ولم نعبأ به، يقول الشاعر:
بكيتُ من عمروٍ فلما تركتُه
وجربْتُ أقوامًا بكَيْتُ على عمْروٍ
وقال آخر():
عتبتُ على سلْمٍ فلمّا فقدتُه
وجرَّبْتُ أقوامًا بكيتُ على سَلْمٍ)()
فمن حسن الفهم إذًا ومن الفطنة أن توقن أنه لا يخلو صاحب من نقص
فالبشر هم البشر:
هم النَّاس والدنيا ولابدَّ من قَّذَى
ومن قلةِ الإنصافِ أنك تبتغي المهُــ
يُلِمُّ بعين أو يكدَّرُ مشْرَبَا
ـذبَ في الدنيا ولستَ المهذَّبا()
وأنشد بعضهم:
لا يؤيسنّك من صديق نبوة
فإذا نَبَا فاستبْقِه وتأنَّه
يَنْبُو الفتى وهو الجَوَادُ الخضرمُ
حتى تفيء به وطبعُك أكرمُ()
وقد قالت الحكماء: أي عالم لا يهفو، وأي صارم لا ينبو، وأي جواد لا يكبو().
وقالوا: من حاول صديقًا يأمن زلته ويدوم اغتباطه به كان كضال الطريق الذي لا يزداد لنفسه إتعابًا إلا ازداد من غايته بعدًا().
وقال بعض البلغاء: لا يزهدنّك في رجل حمدت سيرته، وارتضيت وتيرته، وعرفت
فضله، وبطنت عقله عيب تحيط به كثرة فضائله، أو ذنب صغير تستغفر له قوة
وسائله، فإنك لن تجد ـ ما بقيت ـ مهذبًا لا يكون فيه عيب، ولا يقع منه ذنب،
فاعتبر نفسك بعد أن لا تراها بعين الرضا، ولا تجري فيها على حكم الهوى،
فإن في اعتبارك واختيارك لها ما يؤيسك مما تطلب، ويعطفك على من يذنب().
وما أبلغ قول الكندي: نفس الإنسان التي هي أخص النفوس به ومدبَّرة باختياره
وإرادته لا تعطيه قيادها في كل ما يريد، ولا تجيبه إلى طاعته في كل ما
يحب، فكيف بنفس غيره؟! وحسبك أن يكون لك من أخيك أكثره().
ولذا قال الماوردي رحمه الله:
من حق الإخوان أن تغفر هفوتهم وتستر زلتهم؛ لأن من رام بريئًا من الهفوات
سليمًا من الزلات رام أمرًا مُعوِزًا واقترح وصفًا معجزًا().
وعن عبد الله بن المبارك قال: إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه
لم تذكر المساوئ، وإذا غلبت المساوئ عن المحاسن لم تذكر المحاسن().
(والمقصود أن من غلب خيرُهُ شرَّه وُهب نقصُه لفضله
وأنك إن طلبت منزهًا عن كل عيب لم تجد
ومن غلبت محاسنه على مساوئه فهو الغاية).
ويُرسِّخ هذه القاعدة العظيمة ويؤصلها قول المصطفى صلى الله عليه وسلم
فيما رواه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه :
((لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقًا رضي منها آخر))
, (فالحديث و إن كان وارادًا في العلاقة بين الزوجين
إلا أن التوجيه الذي يحمله يمكن أن يعمم في كل قضايا التعامل
وأعني بهذا التوجيه عدم تركيز النظر إلى السلبيات ونسيان الإيجابيات
فلا يسلم أحد من العيوب، فلا توجد زوجة بلا عيوب,
ولا صديق بلا عيوب، ولا رئيس ولا مرؤوس بلا عيوب.
يقول سعيد بن المسيب: ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا فيه عيب
ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه
())().
وهذا يعلمنا أن لا ننفعل لزلة من صديق أو لعيب نكتشفه في صاحب فيعمينا ذلك
عن إيجابياته الكثيرة ويفقدنا الميزان العادل والحكم المنصف، وبعض الناس قد
يرفع شخصًا إلى السماء في لحظة ويخفضه إلى الحضيض في لحظة، وربما جرّب
أحدنا أن ينظر لشخص ما مرة على أنه أسوأ شخصية في أصحابه، ومرة على أنه
أفضل شخصية، ولم يتغير شيء من الشخص، ولكن كانت النظرة الأولى في لحظة تذكر
للإيجابيات وغفلة عن السلبيات، وكانت الثانية في لحظة غيظ من السلبيات
وعمىً عن الإيجابيات().
وإذا ضبط الإنسان انفعالاته وجاهد نفسه وحملها على تركيز النظر في إيجابيات
الأصحاب وأنها أضعاف أضعاف السلبيات فإنه لن يظلم أخًا من إخوانه ولن
يبغضه، وإذا ما غلبته الذكرى فتذكر هفو أخيه رد على نفسه فقال:
فإن يكنِ الفعلُ الذي ساءَ واحدًا
فأفعَالُه اللائي سَرَرْن كثِير
ونحن في واقعنا قد يجد أحدنا نفسه أحيانًا شديد الحنق على أخيه، وينمي في
نفسه البغض له، كل ذلك لجانب ما في شخصية أخيه، بل أحيانًا لموقف واحد حدث
في ظرف من الظروف وكأن أخاه قد أصبح كله هو هذا الموقف أو ذلك الجانب...
ومقتضى الأخوة والمحبة وحسن العشرة أن تستحضر محاسن أخيك دائمًا أمامك
فتشفع له إذا ما أخطأ مرة معك أو اطلعت على جانب نقص فيه، على حد قول
القائل:
وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ
جاءت محاسنُه بألفِ شَفِيع
ولا تكن كالمرأة التي إذا رأت من زوجها شيئًا تكرهه قالت:
ما رأيت منك خيرًا قط، فقد سمى رسول الله
ذلك كفرًا، وبه صار النساء أكثر أهل النار، فإنه لما سئل رسول الله
عن سر كونهن أكثر أهل النار؟ قال:
((يكثرن اللعن ويكفرن))
قيل: يكفرن بالله؟ قال: ((يكفرن العشير))
أي الزوج، وفسره بما ذكرنا(
. بل مع زيادة المحبة وحسن الظن
قد لا تحضرك عيوب صاحبك أصلاً ولا تراها
كما قال القائل:
فلسْت براءٍ عيب ذي الوُدَّ كله
وعينُ الرضا عن كلَّ عيب كليلة
ولا بعض ما فيه إذا كنت راضِيًا
كما أن عينَ السخط تُبدي المساويا()
وينبني على هذا الكلام أن
تعلم أن من حسن المودة وحقوقها والإغضاء عن التقصير، قال الحسن بن
وهب: من حقوق المودة أخذ عفو الإخوان، والإغضاء عن أي تقصير كان().
وقال أحدهم:
أحِبُّ من الإخوانِ كلّ مواتي
وكل غضِيضِ الطرفِ عن عَثَراتي()
وحكى الأصمعي عن بعض الأعراب أنه قال: تناس مساوئ الإخوان يدُم لك ودهم().
فلا تدفعنك هفوة بدرت من أخيك إلى قطعه وتركه، وقد قال رسول الله r: ((ليس
الواصل بالمكافئ ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها))().
وقال الشاعر:
وصِلِ الكرامَ إذا رمَوْك بجفوةٍ
فالصفحُ عَنْهم والتجاوُزْ أصْوبُ
وقال آخر:
من لي بإنسانٍ إذا أغضبْتُه ورضيتُ
كان الحلمُ ردَّ جَوَابِه
فتغافل عن هفوات أخيك طلبًا لدوام الألفة، وهذا من الفطنة ووفور العقل...
قال بعض الحكماء: وجدت أكثر أمور الدنيا لا تجوز إلا بالتغافل().
وقال أكثم بن صيفي: من شدَّد نفَّر، ومن تراخَ تألف، والشرف في التغافل().
وقال شبيب بن شيبة: الأريب العاقل هو الفطن المتغافل().
وسبق قول الطائي:
ليس الغبيُّ بسيد في قومه
لكن سيَّد قومه المتغابي()
وقد تغافل أقوام عن أذى الأعداء فكيف بالأصدقاء!!
فهذا قول الشافعي رحمه الله يقول():
لما عفَوْتُ ولم أحقدْ على أحدٍ
إني أحيي عدوي عند رؤيته
وأظهِرُ البِشرَ للإنسان أبغِضُه
الناس داء وداء الناس قربهم
أرحتُ نفسي من همَّ العداواتِ
لأدفع الشر عني بالتحيّاتِ
كأنما() قد حشا قلبي محبَّاتِ
وفي اعتِزالهِم قَطعُ المواداتِ!()
وقال القاضي التنوخي:
القَ العدو بوجهٍ لا قطوبَ به
فأحزم الناس من يلقى أعاديه
الرفق يُمْنٌ وخيرٌ القولِ أصدقُه
يكادُ يقطرُ من ماء البشاشَات
في جسمِ حِقْد وثوبِ من مودَّات
وكثرةُ المزح مفتاحُ العداوات()
وقال الشاعر:
وإذا عجزتَ عن العدو فدارِهِ
فدارِه فالنارُ بالماء الذي هو ضدها
وامزحْ له إن المزاحَ وفاقُ()
تعطي النضاج وطبعُهَا الإحراقُ()
فإذا كانت هذه أقوالهم وتلك أفعالهم مع من يعاديهم، فكيف مع الأصحاب والأحبة الذين إن أخطأوا لم يعادوا ولم يقصدوا أذية؟!
فلا ينبغي بحال أن يطول الهجران أو ينقطع التواصل بين الإخوان لموقف أو هفوة مما لا تخلو منه عشرة بين الأصحاب...
تواصُلُنا على الأيامِ باقٍ
يروعُكَ صوبُه لَكِنْ تراهُ
وَلكِنْ هجْرنا مطَرُ الربِيع
على عِلاتِه داني النزوعِ()
فينبغي أن يكون دون مَنٍ سمة الأخ مع أخيه، والناس يبغضون من لا ينسى
زلاتهم أو لا يزال يذكِّر بها ويمنُّ على من عفا عنه، فالإنسان يكره ذلك
الذي يظل يذكره بأخطائه السالفة ويعيدها عليه مرة بعد مرة، والله تعالى
يقول:
]وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ[
[آل عمران: 134]
يمتدح الذين يعفون عن أخطاء الناس وينسونها.
ويتأكد والتجاوز إذا أتاك الصديق معتذرًا فـ
((كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون))().
فإياك أن تكسر قلب الصديق إذا أتاك معتذرًا نادمًا على خطئه، وعامله بمثل ما تحب أن يعاملك به لو كنت مكانه.
إذا اعتذرَ الصديقٌ إليك يومًا
فصُنْه عن عتابك واعفُ عنه
من التقصير عذر أخ مُقِر
فإن الصفحَ شيمة كلَّ حر()
قال يونس النحوي:
لا تعادين أحدًا وإن ظننت أنه لا يضرك
ولا تزهدن في صداقة أحد وإن ظننت أنه لا ينفعك
فإنك لا تدري متى تخاف عدوك وترجو صديقك
ولا يعتذر أحد إليك إلا قبلت عذره وإن علمت أنه كاذب
وليقل عتب الناس على لسانك().
وما أحلى كلام ذلك الأعرابي حين قال: الودود من عذر أخاه
وآثره على هواه.
وقال عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب:
لا يزهدنّك في أخٍ
ما من أخٍ لك لا يعيب
لك أن تراه زلَّ زلَّة
ولو حرصت الحرص كُلَّه()
واحذر التدني في معاملة أخيك إذا أساء معك بأن ترد إساءته بإساءة أو تشغل
نفسك بالتفكير في تصرف تدخل به عليه الغم كما أغمك، فهذا أبعد ما يكون عن
علاقة الأخوة...
وإذًا فإذا بدرت من أخيك إساءة أو خطأ في حقك فإما أن تتجاوز عن ذلك وتتغافل إن قدرت عليه مع طيب نفسك وصفائها
وإلا فعليك بمعاتبته في ود كما قال أبو الدرداء رضي الله عنه:
معاتبة الأخ خير من فقده، ومن لك بأخيك كله().
وهذا يقودنا إلى الكلام عن فقه المعاتبة:
فأحيانًا نقرأ كلامًا منقولاً عن بعض الصالحين
في استحباب ترك العتاب بين الأحبة
وأحيانًا يجعلون المعاتبة من حسن الصحبة، فما الضابط في هذه المسألة؟
وبيان ذلك أنه يحسن ترك العتاب
إذا كنت لن تتخذ موقفًا تُسِرُّه ولن تحكم على أخيك حكمًا
تكنه في داخل نفسك
وإلا فأنت محسن في الظاهر بترك العتاب
مسيء في الباطن بحكمك على أخيك قبل أن تعطي للمعاتبة فرصتها
فربما كان ذلك رافعًا لظلمك له.
وإذن فأنت بين أمرين: إما أن تترك العتاب ونفسك صافية ولا تتخذ موقفًا
تضمره في داخل نفسك من أخيك... وهذه درجة رفيعة... وفي مثل ذلك يقول ابن
السماك لما قال له صاحبه: غدًا نتعاتب، قال: بل غدًا نتغافر().
وقال آخر():
أقلل عتابك فالزمان قليل
لم أبك من زمنٍ ذممت صروفه
والمنتَمون إلى الإخاء جماعة
ولعل أيامَ الحياة قصيرة
والدهر يعدل مرة ويميلُ
إلا بكيتُ عليه حينَ يَزُول
إن حُصَّلُوا أفناهم التّحصِيلُ
فعلام يكثر عتبُنا ويطولُ
وقال آخر:
من اليوم تعارفنا
فلا كَانَ ولا صارَ
وإن كان ولابُدَّ
ونطوي ما جرى منَّا
ولا قلتُمْ ولا قُلْنَا
من العتْبِ فبِالحُسْنى
فجعل المرتبة الأولى ترك العتاب مطلقًا مع صفاء النفس
فإن كانت لا تصفو بذلك فالمرتبة الثانية العتاب ولكن بالحسنى
فهذه المرتبة خير من فقد الصديق أو الحكم عليه في السر دون معاتبة...
وفي ذلك يقول أبو الدرداء: معاتبة الأخ خير من فقده().
ومن ذلك قول بعضهم: وفي العتاب حياة بين أقوام.
وقول الآخر:
إذا ذهبَ العتاب فليس ودّ
ويبقى الودّ ما بقي العتاب()
ولكن هذا مع الحذر من الإكثار أو المعاتبة في كل صغيرة وكبيرة.
وإذن فالمعاتبة لابد منها إذا كنت بصدد اتخاذ موقف أو حكم فصل في أخيك
فالعتاب في هذه الحالة يغسل درن ما حصل ويعيد وصل ما انقطع.
والبعض للأسف قد يهجر أخاه ويكتم السبب
ويظل أخوه متألمًا ولا يدري ما السبب
فأين دور العتاب؟
لكن احذر من معاتبة صاحبك في وقت غير مناسب
خاصة إذا أصابته نازلة أو مصيبة لاسيما إن كانت بسبب خطئه...
وأقبح من ذلك لو عيرته بما أصابه بسبب خطئه
فتذكَّر أن الأيام دول، وقد تبتلى بمثل خطئه
فالأفضل في مثل هذه الظروف أن تترك العتاب مؤقتًا
ولتتحول إلى التجاهل لخطئه
والترفق به إلى أن يحين الوقت المناسب للعتاب
فباختيار الأوقات المناسبة للعتاب تحسن بينكما المعاملة وتتجنبان شر المجادلة.
ومما سبق يتبين أن هنالك عدة خطوات ينبغي مراعاتها
في تعاملك مع صاحبك إذا أخطأ: فأول ذلك أن تكون قد تبينت الخطأ
بنفسك وتيقنت منه
فإذا ما كان ذلك فليكن تصرفك الأول والتجاوز عن زلته.
فإذا ما تجاوزت عن زلته مرة بعد مرة ومع ذلك لم ينته
وإذا بخطاياه تزداد فهنا
ـ وقبل أن تتعجل الحكم عليه وتقرر الإعراض عنه ـ
اجعل أمرك معه وسطًا بين هجره ووصله
وعاتبه قبل الحكم الفصل
فكم يوضح العتاب من حقائق كانت محل شك وارتياب().
وإذا فشل العتاب فالتمس النفع بالصدود عنه، فإن وجدت رجوعًا منه إليك
وميلاً فقابل ذلك ب والمسامحة، فإن الصفح والمغفرة أولى للذي يقدر على
العقاب، وهذه طبيعة الأحياء أنهم يخطئون، ولا يخلو من الذنوب إلا الأموات.
وفي هذا يقول سعيد بن حميد:
إذا كثرَتْ ذنوب مِنْ خليلٍ
وعاتِبْهُ فكمْ أبدى عتابٌ
ورجِّ النفع في الإعراض عنه
وراجعه بعفوك حين يثني
فإن من ذي الحزم أولى
فإنك واجد للحي ذنبًا
فقِفْه بينَ وصل واجْتِناب
جليَّة مُشكلٍ بعد ارتياب
إذا أخفقت من نفع العِتَاب
عِنانًا للرجوعِ أو الإيابِ
إذا قَدَرَت يداك على العقابِ
وتعدم ذنب من تحت الترابِ()
ومما يتعلق بفقه المعاتبة ضرورة الابتعاد عن الطقوس
التي يقررها البعض في علاقاتهم، فبعض الناس مثلاً يقول لأخيه:
(المفروض أنك أنت الذي تزورني)
أو يشعر أخاه دائمًا بأنه محتاج أن يعتذر إليه في كل أمر حتى لا يسيء به الظن.
وقد كان من مضى من الصالحين يبتعدون عن هذه الطقوس والتعقيدات
بل يجتهد كل منهم في رفع الحرج عن أخيه في مثل هذه المواقف.
فهذا أحد السلف يقول لأخيه وقد جاء معتذرًا لتقصيره في زيارته:
إنا إذا وثقنا بمحبة أخينا لا يضرنا أن لا يأتينا().
وقال آخر:
فَرُبَّ شخصٍ بعيدٍ
وربَّ شخصٍ قريبِ
ما البعدُ والقربُ إلا
إلى الفؤاد قريبِ
إليك غيرُ حبيبِ
ما كان بين القلوبِ
وروي أن أبا عبيد بن سلام ذهب لأحمد بن حنبل فقال
يا أبا عبد الله، لو كنت آتيك على قدر ما تستحق لأتيتك كل يوم
فقال أحمد بن حنبل: لا تقل هذا
إن لي إخوانًا لا ألقاهم إلا كل سنة مرة أنا أوثق بمودتهم ممن ألقى كل يوم().
وهذا واقع مشاهد، فالود ليس بالضرورة مقصورًا على من تكثر رؤيته
فقد تتكرر رؤية الإنسان لمن لا يحبه بل يضيق به، على حد قول القائل:
ومن نكد الدنيَا على الحر أن يرى
عدوًا له ما مِن صداقته بدُّ()
ولو تفرغ الإنسان لزيارة الأصحاب لما وجد وقتًا لأداء واجبات أخرى
كطلب العلم وطرق أبواب جديدة للدعوة
والقيام على حقوق الوالدين والأسرة
والناس يتفاوتون فيما يتحملون من الأعباء
فينبغي أن يتسامح مع صاحب الأعباء الكثيرة ويعذر في ذلك ما لا يعذر غيره.
وكان بعضهم يرى الفضل دائمًا لأخيه سواء كان هو الزائر أو المزور
ولو كان أخوه أصغر منه أو أقل مرتبة.
وتأمل ما قاله الإمام الشافعي في حق الإمام أحمد رحمهما الله
وقد كان الشافعي شيخًا لأحمد
أي إن أحمد رحمه الله كان يومئذ يُعَدُّ تلميذًا للشافعي رحمه الله
وأخذ منه شيئًا من العلم، ومع ذلك يقول الشافعي ـ
وقد سئل:
يزورك أحمد وتزوره
فأنشد ـ:
قالوا: يزورك أحمد وتزوره
إن زارني فبفضله، أو زرتُه
قلتُ: المكارم لا تفارق منزله
فلفضله، فالفضل في الحالين له
حقًا إنهم علماء أبرار...
إذا كان هذا قول الشيخ وأدبه تجاه تلميذه
فكيف بالتلميذ مع شيخه؟!
ثم قارن بين هذا الصفاء والتواضع
وتلك السهولة، وبين من يثقل على صاحبه
ولا يستفيد من حفظ حقوق الأخ على أخيه
سوى محاسبة أخيه عليها ومطالبته بها
وفي كل يوم يعاتبه أو يكلمه في واحد منها
على حد قول القائل():
لي صديق يرى حقوقي عليه
لو قطعت الجبال طولاً إليه
لرأى ما صنعت غير كبير
نافلاتٍ، وحقَّه الدهرَ فرضا
ثم من بعد طولها سرت عرضا
واشتهى أن أزيد في الأرض أرضا
(وبعض الناس قد يقابل أحد إخوانه بلوم شديد
لماذا لا نراك؟ لماذا لا تسأل عنا؟
فإذا اعتذر أخوه تمادى في اللوم والتأنيب
وينسى أن اللوم يمكن أن يوجه إليه أيضًا من أخيه)
ولكن لأدب أخيه سكت على نحو أدب الأنصار لما قال لهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم
: ((ألم آتاكم ضلالاً فهداكم الله بي...))
إلخ، ((أجيبوني يا معشر الأنصار)) فلم يجبه أحد
ولكنه صلى الله عليه وسلم
لما كان أعظم أدبًا وإنصافًا قال لهم
((لو شئتم لقلتم: ألم تأتنا طريدًا فآويناك...))
إلخ الحديث().