مُفْسِدَاتُ الأخوّةِ
وقبل الشروع في هذه المفسدات على وجه التفصيل
فلابد من الإشارة إلى أن المقصود
من ذكر هذه المفسدات اتقاؤها
وصون أخوتنا عنها
ومعرفة كيف يحافظ الأخ على أخيه
وكيف تدوم له مودته
وإن الأمور التي يحافظ بها الأخ على أخيه
وتدوم له بها مودته خضم عظيم، وبحر لا ساحل له
والحديث فيه لا تبدو له نهاية...
والحديث عما تدوم به الأخوة فيه إجمال وتفصيل:
فإجمالاً:
كرم العشرة سبب دوام الأخوة.
وكرم العشرة عبارة جامعة لكل ما ينمي العلاقة بينك وبين أخيك
وإن شئت فقل:
هي حسن الخلق
الذي أرشد إليه رسولنا
صلى الله عليه وسلم
في وصيته الجامعة:
((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها
وخالق الناس بخلق حسن))()
وقد تعددت عبارات السابقين الضابطة لكرم المعاشرة...
وما يجب للصديق على الصديق.
قال أبو العتاهية:
قيل لعلي بن الهيثم:
ما يجب للصديق؟ قال: كتمان حديث الخلوة
والمواساة في الشدة، وإقالة العثرة.
وقيل لأعرابي:
من أكرم الناس عشرة؟
قال: من إن قَرُب منح، وإن بَعُدَ مدح
وإن ظُلِمَ صفح، وإن ضويق سمح
فمن ظفر به فقد أفلح ونجح.
وقال رجل من قريش:
خالطوا الناس مخالطةً إن غبتم حنُّوا إليكم، وإن متم بكوا عليكم
().
وهي كلمة عظيمة تفتح مجالاً واسعًا رحبًا للتنافس والاجتهاد
فيما يحقق كرم العشرة.
وأما تفصيلاً فهناك نقاط كثيرة تفوق الحصر تندرج تحت كرم العشرة
وما الحديث الآتي عن مفسدات الأخوة
ـ التي ينبغي صون أخوتنا عنها ـ
إلا محاولة في سبيل الوصول إلى تحقيق كرم العشرة فيما بيننا...
فلنتناول هذه المفسدات على وجه التفصيل.
المفسدة الأولى
الطمعُ في الدّنيا أوْ فيما عند الناس
وربما يتساءل البعض:
وهل من علاقة بين المحبة بين اثنين وطمع أحدهما أو كليهما في الدنيا؟
والجواب ـ بلا تردد ـ نعم
إذا وجد الطمع في الدنيا والنظر إلى ما بأيدي الناس
كان أكبر طارد لمحبة الناس، كما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس))
().
وقال تعالى:
]وَلا تمدَّنَ عينيكَ إِلى ما متعنا بهِ أَزْوَاجاً منهمْ
زَهرَةَ الحياةِ الدُّنيا لنفتنهمْ فيهِ
وَرِزْقُ رَبكَ خيرٌ وَأَبقى[
[طـه:131].
فكم من أخوين كانا متحابين متصافيين .
يصعب على كل منهما فراق الآخر تغيرت نفوسهما
بعدما تعرضا للدنيا وتنافسا في النيل منها...
وكم من أخ حبيب، مطمئن الفؤاد
راضٍ بما قسم الله له، صافي القلب لجميع إخوانه
اضطرب قلبه بعدما صار ينظر في دنياه إلى من هو أكثر منه
ويمد عينيه إلى ما متِّعَ به غيره
وينظر في دينه إلى من هو أقل منه...
فتغير قلبه ولم يعد صفاؤه لإخوانه كما كان عليه من قبل
ولم يعد اهتمامه ونظره في الدين
وإلى من هو أكثر منه دينًا كما كان عليه من قبل.
ومع ازدياد التعلق بالدنيا يندثر الإيثار وينسى قوله
صلى الله عليه وسلم
: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))
()
وتحل الأنانية البغيضة التي لا تعدو منطق: (نفسي نفسي).
(يقول سبحانه وتعالى:
]إِنما المؤْمنونَ إِخوَةٌ[
[الحجرات: 10]
والأخوة من أجمل المعاني
التي يمكن أن يتحدث عنها الإنسان شفيفة لطيفة كالنور!
ندية محببة إلى القلوب... ولكن ما
"الإخوة"
التي وردت الإشارة إليها في كتاب الله؟
يستطيع اثنان من البشر وهما يسيران في الطريق الواسع
ـ في الأمن والسلامة ـ أن يتآخيا!
أن يسيرا معًا وقد لف كل منهما ذراعه حول أخيه من الحب.
ولكن انظر إليهما وقد ضاق الطريق
فلا يتسع إلا لواحد منهما يسير وراء الآخر
فمن أقدم؟
أقدم نفسي أم أقدم أخي وأتبعه؟
ثم انظر إلى الطريق قد ضاق أكثر...
فلم يعد يتسع إلا لواحد فقط دون الآخر! إنها فرصة واحدة...
إما لي وإما لأخي... فمن أقدم؟
أقول: هذه فرصتي، وليبحث هو لنفسه عن فرصة؟
أم أقول لأخي: خذ هذه الفرصة أنت، وأنا أبحث لنفسي؟!
هذا هو المحك.
إن الأخوة في الأمن والسلامة لا تكلف شيئًا
ولا تتعارض مع رغائب النفس...
بل هي ذاتها رغبة من تلك الرغائب يسعى الإنسان لتحقيقها
مقابل الراحة النفسية التي يجدها في تحققها...
أما في الشدة ـ أو في الطمع ـ
فهنا تُخْتَبَرُ الأخوة الاختبار الحق
الذي يتميز فيه الإيثار والحب
للآخرين من الأثرة وحب الذات
التي قد تخفى على صاحبها نفسه في السلام والأمن
فيظن نفسه أخًا مُحَقِّقًا لكل مستلزَمَات الأخوة.
كم جلسة... كم درسًا... كم موعظة... كم توجيهًا...
يحتاج إليها الإنسان الفرد وتحتاج إليها الجماعة
وتحتاج إليها القاعدة ليرسخ في حسهم جميعًا
هذا المعنى فلا يعود حقيقة ذهنية
يستوعبها الذهن ثم ينتهي بها المقام هناك...
إنما تتحول إلى وجدان قلبي يتعمق في القلب
حتى يصدر عنه سلوك عملي كذلك الذي ورد ذكره في كتاب الله:
]وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ
يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ
وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً
مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ
وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[
[الحشر:9]
)().
مازال لهذا الدرس بقية