المفسدة الثالثة
وهذا باب واسع يدخل الشيطان منه لإيقاع التنافر والتباغض بين الإخوان
وأول هذا الأمر
أن يعتقد البعض أن شدة قربه من أخيه تبيح له ترك مراعاة الأدب في الحديث
ويسمى ذلك خطأ:
رفع الكلفة
ولا يمكن أن يكون المراد برفع الكلفة رفع الأدب والحياء
وإنما رفع الكلفة بانبساط النفس والسهولة في التعامل مع بقاء الأدب والحياء
والمحافظة على كل ما يرشد إليه الشرع من خلق أو سلوك.
ومن المظاهر التي يتمثل فيها الإخلال بأدب الحديث
والتي تفسد المحبة والعلاقة بين الأصحاب:
الحدة وعلو الصوت في مخاطبتك لأخيك أو مناقشتك معه والكلام الخشن:
فإن ذلك يشعر أخاك بتغير قلبك نحوه كما يشعره بالإهانة
مع كونه مخالفًا للسمت العام
الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم
وقد قص الله علينا وصايا لقمان وهو يؤدب ولده ويعظه
لنستفيد منها فقال:
]وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ
إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ[
[لقمان: 19].
ومما ينبغي للأخ مع أخيه في الحديث
أن يلزم الكلمة الطيبة اللينة اللطيفة العفيفة
ويحذر من الكلام الخشن والكلام الذي يستحيا منه
أو ينفر منه أصحاب المروءة
وقد قال صلى الله عليه وسلم
: ((أطيبوا الكلام))
()
وفي الحديث الصحيح():
((لم يكن رسول الله فاحشًا ولا متفحشًا))
ولنا فيه أسوة حسنة
وقال علي رضي الله عنه:
"من لانت كلمته وجبت محبته"
().
عدم الإصغاء إليه
وعدم الإقبال عليه بوجهك إذا سلم عليك أو حدثك
أو عدم تقديره واحترامه والاهتمام به:
ومن عدم الإصغاء وعدم الإقبال أن تقطع حديثه أو تتلفت
وتتشاغل عنه وهو يكلمك.
قال بعض السلف :
"إن الرجل ليحدثني بالحديث أعرفه قبل أن تلده أمه
فيحملني حسن الأدب على الاستماع إليه حتى يفرغ"
().
قال أحدهم:
وتراه يصغي للحديثِ بسمعهِ
وبِقلبه ولعَله أدْرَى به
وتأمل الخلق العظيم للنبى
وهو يسمع عتبة وهو مشرك فلا يقاطعه
حتى إذا سكت قال له :
((أقد فرغت يا أبا الوليد))
().
ومن عدم الأدب في الحديث
أن تستهلك الوقت كله لتتحدث عن نفسك أو لتقول ما تريد
وتريد من صاحبك أن يصغي إليك في الوقت
الذي لا تدع له فرصة كهذه ولا تهتم بالإصغاء إلى ما يقول.
ومما ينبغي أن نتفطن له دائمًا أن لكل إنسان مهما كان مستواه الاجتماعي
ومهما كان عمره بحاجة أن يشعر باحترام الآخرين وتقديرهم له
حتى الصغير.
وحين يشعر الإنسان بتقدير الآخرين له
ويطمئن إلى أنهم يحترمونه حينئذ لا يشعر بأدنى حساسية
ولا يجد غضاضة حتى من العمل والخدمة لهم ليل نهار
ما دام قد اطمأن إلى وجود التقدير والاحترام وانتفاء الإهمال والاحتقار.
وبعض المغرورين لا يحسن احترام الآخرين بحجة الخوف عليهم من الغرور
ونحن ما طلبنا منه إطراءهم أو المبالغة في مدحهم
لكن مجرد التقدير والاحترام الذي يجعلك أنت أولاً مهذبًا محترمًا.
ولكي تكون دمث الأخلاق مع غيرك محترمًا لهم
تأمل في جوانب الحسن والإيجابية فيهم
فكلما عرفت الصفات الحسنة في الشخص ازداد حبك وتقديرك واحترامك له.
إن مجرد مناداة أخ بكلمة
(يا أخ فلان)
بدلاً من (يا فلان)
تشعره بهذا الاحترام والتقدير والعاطفة الحية
والود وإن لم يكن فيها شئ من الإطراء أو ما يوجب الغرور
فتأمل!
كذلك يشعر من تحدثه بالتقدير والود حين تناديه بكنيته
أو بأحب الأسماء إليه كبيرًا كان أو صغيرًا
وقد كنى رسول الله
بعض الصبيان كما في قوله:
((يا أبا عمير ما فعل النغير))()
وكما قال بعض السلف:
إن مما يصفي لك ود أخيك أن تبدأه السلام إذا لقيته
وتوسع له في المجلس وتناديه بأحب أسمائه إليه().
ومن الأشياء ذات الأثر الإيجابي على الناس أن تحفظ أسماءهم
وإن نسيتها أو جهلتها لا تتحرج أن تسألهم عنها
بأسلوب التعارف المهذب لا بأسلوب التحقيق المريب
فإن سؤالك عنها يدل على اهتمامك بهم
وذلك خير من أن تترك سؤالهم عنها حياءً فيكون له أثر سلبي عليهم
إذ قد يفسرونه بعدم الاهتمام.
ومن تقديرك لمحدثك أن لا تسفهه إذا أشار بأمر بل اطلب رأيه
في بعض الأمور فربما انفتح لك باب من التفكير
أو على الأقل تكون قد أشعرته بالتقدير والاحترام
إن لم يكن رأيه محلاً للقبول
().
وسيأتي مزيد من ذلك مع بيان هديه في الإصغاء لأصحابه
وإعطائهم الفرصة لبسط الحديث().
الاجتراء عليه في المُزاح
():
فإذا كان المزاح اليسير في أدب وبالحق
يضفي على العلاقة بين الأخوين مزيدًا من العذوبة والمحبة والأنس
فإن المزاح الثقيل
وتجاوز حد الأدب فيه من أسرع ما يفسد العلاقة بين اثنين.
الرفقُ يمْنٌ وخير القولِ أصدَقُه
وكثرةُ المزحِ مفتاحُ العداواتِ()
ومن صور ذلك أن تجترئ على أخيك في المزاح بضربة مهينة
أو كلمة نابية أو تتعرض لما يكره التعرض له من حاله
وخصوصياته وأهل بيته ونحو ذلك
أو أن تناديه بغير ما يحب, وتظن ذلك من رفع الكلفة
ورفع الكلفة لا يعني هجران الآداب الشرعية والتوجيهات النبوية.
فعليك بالاقتصاد في المزاح
والحذر من الإسراف ومن سيئ المزاح الذي يجافي الطيب من القول
ويجلب الخصومة وتغير القلب
فإن المزاح إذا خرج عن حد الآداب والاقتصاد
كما يذهب بهيبتك فإنه يجلب لصاحبك الهم والغم والغيظ والنفور.
كما أن المزاح أو مجرد الكلام
إذا كان فيه تهاون في تقدير الصاحب واحترامه
فإنه يجرح قلبه ويؤلم نفسه فيندم على صحبته لك.
وربما كان مزاحك الثقيل سببًا لسماعك ما تكره
أو سببًا لكره الآخرين أو احتقارهم لك
وقد قال بعضهم:
إياك وكثرة المزاح فإن السفيه يجترئ عليك، واللبيب يحقد عليك.
كذلك ينبغي للصاحب أن لا يتعجل في المزاح مع صاحبه
ولو كان مزاحًا مقبولاً
ولا يكثر في الكلام قبل أن تكشف طبيعة صاحبه
ويعرف أبعاده النفسية فالبعض قد يأتي المزاح معه بآثار سلبية..
والبعض يكره المزاح جملة وينفر منه...
والبعض يناسبه لون ما من المزاح ولا يناسبه لون آخر...
وهكذا.
المراء أو الجدل و كثرة المعارضة له:
مع ما يصحب ذلك من الاعتداد بالرأي أو كثرة النقد أو التعالم فيه
أو استخدام العبارات اللاذعة التي تجرحه في فهمه أو تفكيره واستيعابه
فإن (من أشد الأسباب إثارة للحقد والحسد بين الإخوان المماراة)
()
التي تجنح بالطرفين بعيدًا عن الإخلاص في طلب الحق وأداء الواجب
أو التي تجنح بهما إلى ما غمض، ولا يتوفر فيه أدلة واضحة
أو التي تجنح بأحدهما إلى الإصرار على الحديث
بعدما بدا له أن لا نتيجة إلا زيادة الشر وتغير القلوب.
ولا يبعث على المماراة في هذه الصور
(إلا إظهار التميز بزيادة الفضل والعقل واحتقار المردود عليه
ومن مارى أخاه فقد نسبه إلى الجهل والحمق
أو الغفلة والسهو عن فهم الشيء على ما هو عليه
وكل ذلك استحقار وهو يوغر الصدر
ويوجب العداوة وهو ضد الأخوة)
().
وكان يقال:
لا تمار حليمًا ولا سفيهًا فإن الحليم يقليك، وإن السفيه يؤذيك
().
والمسلم لا يستطيع الانضباط في هذه القضية إلا إذا ملك لسانه
وسيطر على زمامه بقوة فكبحه حيث يجب الصمت
وضبطه حين يريد المقال
أما الذين تقودهم ألسنتهم فإنما تقودهم إلى مصارعهم.
والإنسان نهي عن الجدل والمماراة في القرآن وأمور الدين
()
وأولى كذلك أن يترك الجدل في أمور الدنيا وتوافه الأمور
التي لا يترتب على سكوته عنها حدوث منكر.
(ذلك أن هناك أحوالاً تستبد بالنفس وتغري بالمغالبة
وتجعل المرء يناوش غيره بالحديث ويصيد الشبهات
التي تَدْعم جانبه والعبارات التي تروج حجته
فيكون حب الانتصار عنده أهم من إظهار الحق
وتبرز طبائع العناد والأثرة في صورة منكرة
لا يبقى معها مكان لتبين أو طمأنينة
والإسلام يُنَفِّرُ من هذه الأحوال
ويعدها خطرًا على الدين والفضيلة.
وهناك أناس أوتوا بسطة في ألسنتهم تغريهم بالاشتباك مع العالم والجاهل
وتجعل الكلام لديهم شهوة غالبة، فهم لا يملونه أبدًا.
وهذا الصنف إذا سلط ذلاقته على شئون الناس أساء
وإذا سلطها على حقائق الدين شوه جمالها وأضاع هيبتها.
وقد سخط الإسلام أشد السخط على هذا الفريق الثرثار المتقعر
قال النبي
: ((إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم))
()
وقال:
((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل))
().
هذا الصنف لا يقف ببسطة لسانه عند حد، إنه يريد الكلام فحسب
يريد أن يباهي به ويستطيل
إن الألفاظ تأتي في المرتبة الأولى، والمعاني في المرتبة الثانية
أما الغرض النبيل فربما كان له موضع أخير
ورما عزّ له موضع وسط هذا الصخب...
والجدال في الدين, والجدال في السياسة
والجدال في العلوم والآداب، عندما يتصدى له هذا النفر من الأدعياء البلغاء
يفسد به الدين، وتفسد به السياسة والعلوم والآداب
ولعل السبب في الانهيار العمراني والتحزب الفقهي
والانقسام الطائفي وغير ذلك
مما أصاب الأمة الإسلامية هو هذا الجدل في حقائق الدين وشئون الحياة.
والجدل أبعد شيء عن البحث النزيه والاستدلال الموفق)().
لكل ذلك قال صلى الله عليه وسلم:
((أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقًا))
()
فالجدل حول كل صغيرة وكبيرة
يؤدي لاختلاف القلوب.
ولذا فعليك أخا الإسلام
إذا لاحظت أن الحديث قد اتجه للجدل أن تنسحب منه بلطف
وعليك أيضًا إذا حدثت أحدًا أن لا تستفزه لمجادلتك
فلا تحرجه أمام الناس
ولا تهدده بأنك ستعرّفه كيف أنه لا يعلم شيئًا
ونحو ذلك من الكلمات
بل استخرج الكوامن الطيبة التي في نفسه كأن تقول له:
أنا أعرف أنك لو تبين لك الحق في المسألة فلن تتركه
أو لعل كلامك يوضح لي أمرًا أنا غافل عنه
وسأكون سعيدًا بمعرفة خطئي ورجوعي للصواب
...إلخ
فأنت تفتح بذلك بابًا له ولك للخروج من مأزق الجدل والمكابرة
()
وتسد باب التمادي في الخطأ رغم وضوحه.
وبعض الناس للأسف يؤثر الجدل والتمادي في الخطأ على الرجوع للحق
وذلك مما يفسد العلاقة مع الآخرين
وليس عيبًا بل شجاعة أن تعود للصواب
وتشكر من وضح لك خطأك
ولا تطيل الذيل في الحديث بغية التبرير رغم وضوح الخطأ
فهذا مما ينقصك عند الناس
ويرونك حينئذ في أقبح صورة ويفقدون الثقة بكل ما تقول بعد ذلك
وعليك أن تتفادى الخطأ من البداية
فقل:
لا أدري، إن كنت لا تدري.
وهذا عالم كبير معروف على مستوى الأمة
وهو الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله
مع علمه ومكانته يقول في بعض المواقف:
(سأنظر ـ سأبحث المسألة)
ولا يحط ذلك من قدره
وقد يتسرع من هو دونه في الفتيا والحديث فيخطئ
فإذا اعْتُرِضَ عليه لجّ في الجدل والمكابرة
واعلم أن النقاش مع صاحبك إذا تطور لكثرة الجدل والمراء
فإنه كما يذهب بهيبتك فإنه يجلب لك ولصاحبك الهم والغم
ونفس المحب تتأثر بأدنى قدر من المراء فإذا كثر ندم على صحبته لك.
النقد اللاذع الجارح للمشاعر:
فمما يفسد جو الحديث ويفسد الأخوة النقد اللاذع والتعالم في النقد
كقولك لأخيك:
كل ما قلته ساقط لا أصل له من الصحة
أو أنت في وادٍ آخر
...إلخ.
وحسن الأدب كان ينبغي أن يحملك على أن تقول له:
ولكن ما قلته يحتاج إلى وقفة وتأمل في بعض النقاط
أو في ذهني شيء آخر
أو عندي رأي آخر أود أن تسمعه وتبدي لي ملاحظتك
أو نحو ذلك.
يقول الدكتور عبد الله الخاطر رحمه الله:
(الناس يحبون من يصحح الخطأ دون أن يجرح المشاعر)
ويضرب مثلاً في ذلك في أحد الكتب
(أن شخصًا ألقى خطابًا "محاضرة" في عدد كبير
ولكنها كانت طويلة وفيها تفصيل ملَّ الناس
فجاء إلى زوجته فقال: ما رأيك في المحاضرة؟
قالت: هذا الموضوع يصلح مقالة رصينة في مجلة علمية متخصصة
وقد فهم منه ذلك المحاضر أن الموضوع لا يصلح للمحاضرة.
وهذا أسلوب طيب يبرز جوانب إيجابية
يقدم بها لمسألة النقد
فرجل جاء يستشيرك في أن يعمل في التجارة تقول له:
أنت رجل ذو قلم وفكر ولا تدع ذلك المجال
إذا رأيت أنه لا يصلح للتجارة وهو مبرز في ذلك المجال
وهكذا فلا تطرح القضية بأسلوب
"أنت ما تصلح لكذا"
ولكن بأسلوب
"أنت تصلح لغير ذلك".
ويحدث في المجالس أن يتكلم أحد الناس بأسلوب طيب جدًا
ثم يخطئ خطأ في نهاية الحديث
فنجد البعض يتوقف عند الخطأ ويأمره بالتوقف عن الكلام.
ولكن الأسلوب الصحيح أن يقدم من يريد النقد الإيجابيات
فيقول: أنا أوافق المتحدث في كذا وكذا
ولكن النقطة الأخيرة لي عليها ملاحظات
فيبدأ بالإيجابيات
ثم يصحح فيكون ذلك أدعى أن يتقبل المتحدث الملاحظات
دون الدخول في جدل لا طائل من ورائه.
وكذلك نطبق القاعدة:
"نبدأ بالقضايا المتفق عليها"
ثم بعد ذلك نناقش القضايا الأخرى)
().
مازال للدرس بقيه