الامام محمد عبده .. رائد الاصلاح السياسى والاجتماعى.
يعد أحد الأعلام البارزة لمدرسة التجديد فى الفكر الاسلامى فى العصر الحديث. ويرجع إليه الفضل فى التأكيد على ربط الدين بالمعاصرة. كما قاد الدعوة لتأكيد الذات وتقوية إيمان وثقة المسلم فى تراثه مع محاربة التغريب، وإن كان حريصاً على عدم الانغلاق والاستفادة مما وصل إليه الغرب من تقدم لمسايرة حركة المجتمع وتطوره فى مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولد الإمام محمد عبده عام 1849 فى قرية محلة نصر بمركز شبراخيت بالبحيرة، وتلقى تعليمه الأولى وحفظ القرآن فى القرية ثم انتقل إلى الجامع الأحمدى بطنطا حيث تأثر بالمذهب الصوفى وبالطريقة الشاذلية على وجه الخصوص، وبعدها انتقل إلى الدراسة بالجامع الأزهر الشريف الذي تلقى فيه العلوم المختلفة فدرس الفقه والحديث والتفسير واللغة والنحو والبلاغة، وغير ذلك من العلوم الشرعية واللغوية، واستمر في الدراسة في الأزهر حتى حصل على شهادة العالمية عام 1877م رغم الجهود الجادة من جانب بعض العلماء لاسقاطه نتيجة لارائه وصحبته لجمال الدين الافغانى الذى ترك أثاراً هامة على أفكاره وحياته.
وبعد حصول الامام محمد عبده على شهادة العالمية اشتغل بتدريس المنطق والكلام المؤيد بالفلسفة في الجامع الأزهر، وكانت له العديد من الجهود فى مجال شرح المؤلفات الفكرية القديمة والحديثة لطلبته، وقد تقلد مفكرنا الكبير العديد من المناصب حيث عين مدرساً للتاريخ بدار العلوم كما عين مدرساً للعلوم العربية بالالسن، ورئيساً لتحرير "الوقائع المصرية" وتولى الرقابة على المطبوعات ثم عضواً فى المجلس الاعلى للمعارف العمومية بعد انشائه.
وخلال هذه الفترة، ركز محمد عبده على العمل بالصحافة والسياسة وانضم مع الحزب الوطنى الحر مع العرابيين حتى صار أحد زعمائهم. وبعد هزيمة الثورة حوكم مع زعمائها وحكم عليه بالسجن ثلاثة أشهر ثم نفى إلى بيروت عام 1882 التي اقام بها لنحو عام ثم لحق بالافغانى فى باريس وعمل معه رئيساً لتحرير إصدار جريدة "العروة الوثقى" التى كانت لسان الجمعية السرية المعروفة بنفس الاسم والتى انتشرت فى بلاد الشرق خاصة فى مصر والهند وصدر منها 18 عدداً،.
وانتقل الإمام محمد عبده بين العديد من البلدان فى اوربا والشرق واستطاع دخول مصر أثناء ثورة المهدى فى السودان، كما زار لندن داعياً لضرورة جلاء الانجليز عن مصر والتقى بوزير الحربية هناك وبكبار الصحفيين وممثلى الرأى العام. ولكن بعد توقف "العروة الوثقى" وعمله المباشر لنهضة بلاد الشرق هجر باريس إلى بيروت على أمل العودة إلى مصر وأنشأ جمعية سرية للتأليف بين الأديان شارك فيها ممثلون للأديان الثلاثة السماوية. هذا بجانب نشاطه الثقافي والتربوي والفكري والذي كان من ثماره تعيينه بالمدرسة السلطانية التي استطاع بجهوده أن يحولها من مدرسة شبه ابتدائية إلى شبه عليا.
وبدأ الإمام تفسير القرآن بالمسجد العامري ببيروت، وبمنهج عقلى طبق فيه منهج أستاذه الافغانى، وجذب ذلك التفسير العديد من الفئات بما فيها بعض المسيحيين المستنيرين. وبجانب ذلك عمل الامام على التأليف فضلاً عن التدريس فألف "رسالة التوحيد" وقام بترجمة العديد من أعمال جمال الدين الافغانى عن الفارسية، كما قام بترجمة بعض المؤلفات عن الفرنسية التى تعلمها باعتبارها مفتاحاً للعلوم العصرية.
وفى النهاية، عاد محمد عبده إلى مصر حيث حصل على عفو من اللورد "كرومر" بعد أن اقتنع أنه لن يعمل بالسياسة وسيحصر نشاطه على المجال الثقافى والتربوى والفكرى، وقدم إليه مباشرة اللائحة التى كتبها لاصلاح التربية والتعليم فى مصر. ولكن رفض الخديوى عودته للتدريس، وعين قاضياً أهلياً فى محكمة بنها وتدرج إلى مستشار فى محكمة الاستئناف الأهلية ثم عين عضواً فى مجلس إدارة الأزهر كأول مجلس يؤسس بهدف اصلاحه. ثم عين الامام محمد عبده مفتياً للديار المصرية، وظل بمنصبه هذا حتى وفاته.
وأثناء فترة توليه منصبه نادى باصلاح المحاكم الشرعية، وألف واحداً من أهم مؤلفاته وهو كتاب "الاسلام والنصرانية مع العلم والمدنية" وقام في هذا الكتاب بإجراء مقابلة بين الدينين الإسلامي والمسيحي وأثرهما في العلم والمدنية. وقد رأى محمد عبده فى الاصلاح السياسى والاجتماعى والوصول للشعب وسيلة للتخلص من الاحتلال بمقاومته، ونتيجة لذلك دعا إلي تجديد الفكر الدينى، الاصلاح الأدبى واللغوى، الاصلاح التعليمى والتربوى، إصلاح الأزهر وإدخال العلوم العصرية فضلاً عن الاصلاح السياسى.
واعتبر محمد عبده التعليم أهم أهم العوامل المسببة للحراك الاجتماعى، وكان ضد التركيز على العلم المدنى بعيداً عن الدين، أو العلوم الدينية بعيداً عن العلوم المدنية؛ فالدين عنده هو دعامة المجتمع وركيزة التعليم أى كان نوعه، ومن ثم طالب باصلاح الأزهر وإخراجه من حالة الجمود وبعث الفاعلية فيه من خلال ادخال العلوم العصرية المختلفة، وهى الدعوات التي يتردد صادها حتى الآن لا في القاهرة وحدها بل في كل جنبات العالم الإسلامي.
والخلاصة إن الامام محمد عبده قد قدم برنامجاً شاملاً متكاملاً للتجديد فى كافة النواحى وإن احتل المجال التربوى والتعليمى عنده مكانة متميزة باعتباره مفتاح المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمتغير المستقل بالنسبة لبقية المتغيرات الأخرى "فالفكر وليس المادة هو أساس التغيير".