رموز وقمم مصرية
سبتمبر
18
2010
محمد فريد.. واحد وتسعون عاما علي الرحيل..
المناضل تحت الحصار .. بقلم: د. رفعت السعيد
09:43 ص
مهما كتبنا عن محمد فريد فإننا نحتاج إلي مزيد. فهو يستحق الكثير, وعندما كتبت عنه بمناسبة ذكري وفاته التسعين تلقيت كثيرا من التساؤلات. لماذا هاجر فريد تاركا وطنه وشعبه وحزبه؟.
ولعل اجابتي ودون أدني رغبة في التبرير لما لا يمكن تبريره هي ماذا يفعل المناضل عندما يتراجع الآخرون؟
الخديو ارتمي في أحضان الاحتلال وكذلك الأعيان فازداد الاحتلال شراسة ووحشية, بينما فريد يرفع شعارات صعبة أو حتي مستحيلة التنفيذ مثل لا مفاوضة إلا بعد الجلاء. فكيف يأتي الجلاء. بينما هو ينفي من نفسه وعن حزبه تهمة الدعوة للعمل الثوري؟ وفي نفس الوقت يرفض التفاوض, ومثل عار علي المصري أن يقبل الوظيفة الحكومية في ظل الاحتلال فكيف يعيش المثقف المصري المخلص لوطنه في بلد مصدر الرزق فيه هو التوظف؟ الأمر الذي دفع الكثيرين إلي الهجرة باعتبار أنه الموقف الوطني الصحيح, وماذا يفعل عندما يسعي البعض لشق صفوف الحزب بمقولة الدعوة للاستقلال جريمة في حق الإسلام, لأنه لا وطنية في الإسلام, ولأنه من الضروري الخضوع لدولة العثمانية؟
وفي ذات الوقت انهالت المطارق علي الحزب ورجاله؟ ويكتب السيد ألن جورست المعتمد البريطاني مبشرا حكومته في عام1912 بأن المعتدلين منحوا البلاد مناخا يبعث علي الأمل بأن الجو قد صفا وروح التعقل تغلبت( جورست ـ تقرير عن الحالة العمومية ـ صفحة ح).
ويكتب كتشنر في عام1913 ان مصر أدركت ما تؤدي إليه نصائح المتطرفين من وخامة العاقبة فمالت إلي ضدها برد الفعل,( تقرير الحالة العمومية ـ1913 ص9) ماذا يفعل والصحف تنشر وبلا استحياء قصائد مديح في الانجليز كتبت أيضا بلا استحياء. فولي الدين يكن يشكر جورج الخامس علي إعلان الحماية علي مصر.
يا أيها الملك العظيم سلام
هتفت ببيعتها لك الأقوام
مصر الوفية لاتزال وفية
وكما عهدت النيل والأهرام
نالت حمايتك التي اعتزت بها
أمثالها واستمكن الاسلام
(المقطم1914/12/18).
وحتي حافظ إبراهيم شاعر الوطنية أدهش الجميع بقصيدة يهنيء فيها السلطان حسين كامل بتولية الانجليز له سلطانا علي مصر فيقول:
ووال القوم إنهمو كرام
ميامين النقيبة أين حلوا
لهم ملك علي التاميز أضحت
ذراه علي المعاقل تستهل
فإن صادقتهم صدقوك ودا
وليس لهم أن فتشت مثل
ماذا يفعل فريد وقد حوصر من كل مكان؟ لقد فقد ثروته كلها. تلك التي ورثها عن أبيه والتي كسبها من مهنته كمحام شهير, ولم يعد لديه ما يصدر به جريدة الحزب ولا حتي ما يعيش به, والاحتلال دس إلي صفوف حزبه من يدعون للاعتدال وآخرين يدعون للعنف كي يمنح الاحتلال الفرصة لضرب الحزب ضربات موجعة.
وفي31 أغسطس1912 صدر قرار بتعطيل اللواء نهائيا. وفي7 نوفمير1912 صدر قرار باغلاق جريدة العلم التي يصدرها الحزب بحجة أنها لسان حال حزب اتخذ رئيسه خطة التهييج ( الرافعي ـ محمد فريد ـ ص344).
وظن الخصوم أن الصيد أصبح سهلا فهو محاصر ومفلس وحزبه يزداد ضعفا وتفككا وصحفه توقفت وفي باريس يقابله مندوب يعرض عليه الوزارة وأن تحل كل مشاكله المالية فرد فريد بإباء ان ضياع ثروتي لا يؤثر علي مبادئي وإني أرفض أي منصب حكومي مادام الانجليز في مصر( الهلال العثماني1912/5/24) مقال لمحمد فريد) لكن الرسول يتبعه إلي الاستانة منتهزا فرصة تقديم فريد للمحاكمة بتهمة كتابة مقدمة ديوان وطنيتي فيعرض عليه تسوية القضية وتعيينه وزيراً ويقول ملخصا عرضه الوزارة أم السجن؟ ويرفض فريد ويقول هائنذا عائد إلي مصر لأحبس( المرجع السابق) وسمع العثمانيون بالعرض ويالرفض فعرضوا عليه منصب عميد كلية الحقوق بالآستانة لكنه رفض وهو في أشد الحاجة لمورد رزق( محمد علي غريب ـ محمد فريد, الفدائي الأول ـ ص73).
وعندما يقبض عليه زاره زنزانته كوكس باشا مدير مصلحة السجون وقال له إني أسعي للعفو عنك إذا وعدت بتغيير خطتك فاجابه فريد: إن ما تطلبه مستحيل. فتراجع كوكس وقال: أنا لا أطلب منك تغيير مبادئك ولكن تخفيف لهجتك فرفض. فقال كوكس أنت إذن تريد ان تمضي الستة اشهر في السجن؟ فأجاب فريد: وأزيد عليها يوما وزارة في السجن الدكتور عثمان غالب موفدا من الخديو وقال له: ان الخديو مستعد للعفو عنك إذا قدمت طلبا بذلك, فإن لم تشأ تقديم الطلب اقدمه أنا نيابة عنك فقال فريد أنا لا أطلب ولا أسمح لأحد من أهلي وأصدقائي أن يطلبه نيابة عني. وإذا صدر فلن أقبله( عبدالرحمن الرافعي ـ المرجع السابق ـ ص384). وعندما نشر أحمد لطفي السيد مقالات تطالب ب عنه قال لزائريه أرجو أن تبلغوا لطفي باشا أن يتحاشي طرق هذا الموضوع, فهذا مالا اقبله ولا أرغب فيه ( الرافعي ـ المرجع السابق ـ ص384).
وهكذا...
أري العنقاء تكبر أن تصادا
فعائد ما استطعت له عنادا
ولكن تجربة فريد تؤكد أن الشجاعة والإصرار والترفع لا تكفي كلها, فلابد معها اتخاذ الموقف الصحيح والقادر علي جذب الجماهير إلي المعركة. وليس التغريد بعيدا عن ممكنات التحرك الثوري.
استشعر فريد عزلة خانقة, فقد خيمت روح الاستسلام والخضوع للإرهاب الاحتلالي وتراجع الكثيرون ولزموا حدود الاعتدال أو ما هو أكثر تراخيا من الاعتدال. وظن فريد
وكان مخطئا تماما أنه لا مهرب من هذا الوضع إلا الهروب الي خارج الوطن بدلا من إعادة لم الصفوف وفق مواقف ممكنة. لكن فريد لا يعرف في السياسة إلا لونين فقط أبيض ناصع البياض أو أسود شديد السواد.والغريب أنه اختار الاختيار الأشد سوادا وهو الهجرة. وتتبدي دلالات تشير الي أن كثيرين من المحيطين به وهم من المدسوسين من الخديو أو من الاحتلال قد زينوا له ذلك. والمثير للدهشة أن أول من بادر بالهجرة من قادة الحزب كان الشيخ عبد العزيز جاويش وكان الأكثر تشددا في صفوف الحزب. ثم هاجر فريد في مارس1912 وهاجر قبله وبعده عشرات من أفضل كوادر الحزب. فالأفكار المتشددة حظرت عليهم التوظف في حكومة تخضع للاحتلال ولا وظائف خارج الحكومة فسافروا بحثا عن لقمة العيش, ولعل هذه المفارقة تلخص كل شيء: أن ترفض ما تعتقد أنه خطأ وهو ليس كذلك فتهاجر لتقع في الخطيئة الكاملة.وكانت هجرة فريد بمثابة انقطاع التيار الكهربائي عن ماكينة العمل الوطني فتوقف إنشاء النقابات والجمعيات التعاونية ومدارس الشعب, وأصيبت حركة النهوض الوطني بالانكماش والضعف أما اللجنة الإدارية للحزب فقد انقسمت ولم تعد قادرة علي مجرد الاجتماع( صبري أبو المجد ـ أمين الرافعي ـ ص54). ويتلقي فريد في المنفي الاختياري رسائل تملأ النفس حسرة نورد كنموذج منها رسالة من د. اسماعيل صدقي مؤرخة في أغسطس أي بعد أربعة أشهر فقط من هجرته تقول إن الأسف يخالجني بأشد تأثيره كلما رأيت الضعف قد تغلب علي تلك الهمم التي كانت عمادنا في عملنا الوطني( المصور ـ14 ـ11 ـ1969) ورسالة أخري من أحمد وفيق مؤرخة في13 ـ6 ـ1914 تقول اننا عدد قليل جدا وبكل أسف لا نعمل أي شيء والحركة تغط في النوم.ثم يأتي إعلان فرض الحماية البريطانية علي مصر في1914/12/18 وقبلها بشهر فرضت الأحكام العسكرية ثم تم خلع الخديو توفيق( الوقائع المصرية1914/12/19). لكن فريد يبقي علي كبريائه رغم كل شيء وعندما عرض عليه أن يقابل الصدر الأعظم يقول للرسول سأقابله ولكن فليحسن استقبالي لأني لا أتحمل أي إهانة واشترطت أن أحمل علي صدري شارة الحزب الوطني المكتوب عليها مصر للمصريين ويكتب فريد في مذكراته قابلت الصدر الأعظم فأحسن مقابلتي( محمد صبيح.
مواقف حاسمة ص319). ويروي فريد في مذكراته أنه خلال إقامته القصيرة في الأستانة استدعاه عزيز بك مدير الأمن العام فجلست إليه بلا أقل احترام وتعمدت إظهار العظمة وخلعت طربوشي ووضعته علي كرسي والبالطو ووضعته علي كرسي آخر ووضعت إحدي رجلي علي الأخري وسألته بكبرياء هل أنا أجلس إليك كمتهم فقال بآدابهم التركية المبنية علي الرياء أستغفر الله أفندم نحن إخوان أنا فقط أستعلم منك عن بعض نقاط( فتحي رضوان ـ مقال بالمصور1969/11/14) ويمضي فريد في تشدده ويروي كيف قابله مسيو بوسنو وهو مسئول فرنسي كبير وتحاور معه موجها اللوم الي مواقف الحزب التي تقاربت مع ألمانيا وتركيا خلال الحرب ثم قال هل تتفقون مع انجلترا إن وعدتكم بالاستقلال فقلت نحن لا نثق في وعود انجلترا ولا فيكم( صبيح ـ ص300) وعندما سئل فريد وماذا تفعل إذا هزمت تركيا وألمانيا في الحرب؟ أجاب نجتهد ساعتها في تجهيز الثورة في مصر وليس الاعتراف بالحماية البريطانية مهما كان شكلها ومهما أعطانا الانجليز من الامتيازات( صبيح ـ ص320) ونلاحظ انها المرة الأولي التي ينطق فيها فريد بلفظ الثورة. لكن الثورة تقوم بالفعل ولكن علي أيدي من عاداهم فريد بسبب اعتدالهم. والحقيقة أن قيادتهم للثورة لم تكن بسبب الاعتدال وإنما لأنهم كانوا علي أرض مصر.
ويفاجأ فريد بالثورة تشتعل علي أيديهم ومع ذلك يكتب في رسالة وجهها الي الشعب المصري إخواني المصريين الأعزاء. ان الصوت الذي يناجيكم اليوم صوت منعته الظروف من الارتفاع في صحف مصر من نحو سبع سنوات لكن منعه من الارتفاع علي ضفاف وادي النيل لم يكن عقبة تعوقه عن الدفاع عن القضية المصرية. صوت هذا الضعيف لم يخفت يوما, ولم يتأخر بما تفرضه عليه الوطنية طرفة عين, بل كان يزادد قوة ونشاطا كلما تراكمت أمامه الموانع. ان هذا الصوت يناجيكم ليهنئ الأمة المصرية علي تضامنها في المطالبة بحق أمنا المظلومة مصر ثم يقول وكأنه يذكر الجميع إن الثورة هي ثمرة من ثمار البذور الذي غرستها الحركة الوطنية( المصور ـ مقال لصبري أبو المجد1963/11/14). لكن أحدا في مصر لم يسمع بالرسالة ومن سمع بها لم يهتم بها, فقد كان الجميع منغمسين في غمار الثورة ولا وقت لديهم لغيرها بل انها أثارت حفيظة سعد وهو خارج البلاد. وأرسل له عبد الرحمن فهمي وهو في غاية السعادة ليبلغه ان بقايا الحزب الوطني دعت الي احتفال بذكري مصطفي كامل فأرسلت شبابنا الي الاحتفال فأسكتوا زعانف هذا الحزب وهتفوا عاليا بحياة سعد.ويرحل فريد حزينا وربما غاضبا من نفسه علي هجرته. ويصل نعيه الي مصر لكنه يتوه في غمار ثورة الشعب وبسبب من التعتيم الوفدي. غير أن الأهرام تنعيه قائلة مات فريد وكفي باسمه وصفا لحياته, مات غريبا عن وطنه حبا بذلك الوطن فأحياه موته في قلب كل مصري.استمات في حب الاستقلال فمات وحياة أمته في عنفوان الشباب(1919/11/19) وتقول الاجيبسيان ميل لسنا من رأي الزعيم الوطني الراحل ولكننا لا نملك إلا أن نبدي اعجابنا بخلقه وصدق شعوره بالوطنية(1919/11/19). ويتجاهل الوفد وزعيمه جثمان فريد حتي يتطوع مواطن بدفع نفقات نقله الي مصر وأمام القبر يقف حافظ إبراهيم ليقول وكأنه يعتذر له:ها هنا قبر شهيد في هوي
أمة أيقظها ثم رقد .. نعم أيقظها ثم رقد. ويودع جثمان فريد الثري في حضور عدد محدود من المصريين وكأنه أقل شأنا من أي واحد من آحاد الناس.مات فريد وقد ظلم نفسه وظلم حزبه وظلم وطنه, لكنه يبقي دوما ساطعا في السماء المصرية فقد كان رمزا للكبرياء الوطني والعطاء بلا حدود.. انه نموذج نادر يعطي كل شيء ولا يأخذ لنفسه شيئا.
[ نقلاً عن جريدة الأهرام ]
سبتمبر
18
2010
محمد فريد.. واحد وتسعون عاما علي الرحيل..
المناضل تحت الحصار .. بقلم: د. رفعت السعيد
09:43 ص
مهما كتبنا عن محمد فريد فإننا نحتاج إلي مزيد. فهو يستحق الكثير, وعندما كتبت عنه بمناسبة ذكري وفاته التسعين تلقيت كثيرا من التساؤلات. لماذا هاجر فريد تاركا وطنه وشعبه وحزبه؟.
ولعل اجابتي ودون أدني رغبة في التبرير لما لا يمكن تبريره هي ماذا يفعل المناضل عندما يتراجع الآخرون؟
الخديو ارتمي في أحضان الاحتلال وكذلك الأعيان فازداد الاحتلال شراسة ووحشية, بينما فريد يرفع شعارات صعبة أو حتي مستحيلة التنفيذ مثل لا مفاوضة إلا بعد الجلاء. فكيف يأتي الجلاء. بينما هو ينفي من نفسه وعن حزبه تهمة الدعوة للعمل الثوري؟ وفي نفس الوقت يرفض التفاوض, ومثل عار علي المصري أن يقبل الوظيفة الحكومية في ظل الاحتلال فكيف يعيش المثقف المصري المخلص لوطنه في بلد مصدر الرزق فيه هو التوظف؟ الأمر الذي دفع الكثيرين إلي الهجرة باعتبار أنه الموقف الوطني الصحيح, وماذا يفعل عندما يسعي البعض لشق صفوف الحزب بمقولة الدعوة للاستقلال جريمة في حق الإسلام, لأنه لا وطنية في الإسلام, ولأنه من الضروري الخضوع لدولة العثمانية؟
وفي ذات الوقت انهالت المطارق علي الحزب ورجاله؟ ويكتب السيد ألن جورست المعتمد البريطاني مبشرا حكومته في عام1912 بأن المعتدلين منحوا البلاد مناخا يبعث علي الأمل بأن الجو قد صفا وروح التعقل تغلبت( جورست ـ تقرير عن الحالة العمومية ـ صفحة ح).
ويكتب كتشنر في عام1913 ان مصر أدركت ما تؤدي إليه نصائح المتطرفين من وخامة العاقبة فمالت إلي ضدها برد الفعل,( تقرير الحالة العمومية ـ1913 ص9) ماذا يفعل والصحف تنشر وبلا استحياء قصائد مديح في الانجليز كتبت أيضا بلا استحياء. فولي الدين يكن يشكر جورج الخامس علي إعلان الحماية علي مصر.
يا أيها الملك العظيم سلام
هتفت ببيعتها لك الأقوام
مصر الوفية لاتزال وفية
وكما عهدت النيل والأهرام
نالت حمايتك التي اعتزت بها
أمثالها واستمكن الاسلام
(المقطم1914/12/18).
وحتي حافظ إبراهيم شاعر الوطنية أدهش الجميع بقصيدة يهنيء فيها السلطان حسين كامل بتولية الانجليز له سلطانا علي مصر فيقول:
ووال القوم إنهمو كرام
ميامين النقيبة أين حلوا
لهم ملك علي التاميز أضحت
ذراه علي المعاقل تستهل
فإن صادقتهم صدقوك ودا
وليس لهم أن فتشت مثل
ماذا يفعل فريد وقد حوصر من كل مكان؟ لقد فقد ثروته كلها. تلك التي ورثها عن أبيه والتي كسبها من مهنته كمحام شهير, ولم يعد لديه ما يصدر به جريدة الحزب ولا حتي ما يعيش به, والاحتلال دس إلي صفوف حزبه من يدعون للاعتدال وآخرين يدعون للعنف كي يمنح الاحتلال الفرصة لضرب الحزب ضربات موجعة.
وفي31 أغسطس1912 صدر قرار بتعطيل اللواء نهائيا. وفي7 نوفمير1912 صدر قرار باغلاق جريدة العلم التي يصدرها الحزب بحجة أنها لسان حال حزب اتخذ رئيسه خطة التهييج ( الرافعي ـ محمد فريد ـ ص344).
وظن الخصوم أن الصيد أصبح سهلا فهو محاصر ومفلس وحزبه يزداد ضعفا وتفككا وصحفه توقفت وفي باريس يقابله مندوب يعرض عليه الوزارة وأن تحل كل مشاكله المالية فرد فريد بإباء ان ضياع ثروتي لا يؤثر علي مبادئي وإني أرفض أي منصب حكومي مادام الانجليز في مصر( الهلال العثماني1912/5/24) مقال لمحمد فريد) لكن الرسول يتبعه إلي الاستانة منتهزا فرصة تقديم فريد للمحاكمة بتهمة كتابة مقدمة ديوان وطنيتي فيعرض عليه تسوية القضية وتعيينه وزيراً ويقول ملخصا عرضه الوزارة أم السجن؟ ويرفض فريد ويقول هائنذا عائد إلي مصر لأحبس( المرجع السابق) وسمع العثمانيون بالعرض ويالرفض فعرضوا عليه منصب عميد كلية الحقوق بالآستانة لكنه رفض وهو في أشد الحاجة لمورد رزق( محمد علي غريب ـ محمد فريد, الفدائي الأول ـ ص73).
وعندما يقبض عليه زاره زنزانته كوكس باشا مدير مصلحة السجون وقال له إني أسعي للعفو عنك إذا وعدت بتغيير خطتك فاجابه فريد: إن ما تطلبه مستحيل. فتراجع كوكس وقال: أنا لا أطلب منك تغيير مبادئك ولكن تخفيف لهجتك فرفض. فقال كوكس أنت إذن تريد ان تمضي الستة اشهر في السجن؟ فأجاب فريد: وأزيد عليها يوما وزارة في السجن الدكتور عثمان غالب موفدا من الخديو وقال له: ان الخديو مستعد للعفو عنك إذا قدمت طلبا بذلك, فإن لم تشأ تقديم الطلب اقدمه أنا نيابة عنك فقال فريد أنا لا أطلب ولا أسمح لأحد من أهلي وأصدقائي أن يطلبه نيابة عني. وإذا صدر فلن أقبله( عبدالرحمن الرافعي ـ المرجع السابق ـ ص384). وعندما نشر أحمد لطفي السيد مقالات تطالب ب عنه قال لزائريه أرجو أن تبلغوا لطفي باشا أن يتحاشي طرق هذا الموضوع, فهذا مالا اقبله ولا أرغب فيه ( الرافعي ـ المرجع السابق ـ ص384).
وهكذا...
أري العنقاء تكبر أن تصادا
فعائد ما استطعت له عنادا
ولكن تجربة فريد تؤكد أن الشجاعة والإصرار والترفع لا تكفي كلها, فلابد معها اتخاذ الموقف الصحيح والقادر علي جذب الجماهير إلي المعركة. وليس التغريد بعيدا عن ممكنات التحرك الثوري.
استشعر فريد عزلة خانقة, فقد خيمت روح الاستسلام والخضوع للإرهاب الاحتلالي وتراجع الكثيرون ولزموا حدود الاعتدال أو ما هو أكثر تراخيا من الاعتدال. وظن فريد
وكان مخطئا تماما أنه لا مهرب من هذا الوضع إلا الهروب الي خارج الوطن بدلا من إعادة لم الصفوف وفق مواقف ممكنة. لكن فريد لا يعرف في السياسة إلا لونين فقط أبيض ناصع البياض أو أسود شديد السواد.والغريب أنه اختار الاختيار الأشد سوادا وهو الهجرة. وتتبدي دلالات تشير الي أن كثيرين من المحيطين به وهم من المدسوسين من الخديو أو من الاحتلال قد زينوا له ذلك. والمثير للدهشة أن أول من بادر بالهجرة من قادة الحزب كان الشيخ عبد العزيز جاويش وكان الأكثر تشددا في صفوف الحزب. ثم هاجر فريد في مارس1912 وهاجر قبله وبعده عشرات من أفضل كوادر الحزب. فالأفكار المتشددة حظرت عليهم التوظف في حكومة تخضع للاحتلال ولا وظائف خارج الحكومة فسافروا بحثا عن لقمة العيش, ولعل هذه المفارقة تلخص كل شيء: أن ترفض ما تعتقد أنه خطأ وهو ليس كذلك فتهاجر لتقع في الخطيئة الكاملة.وكانت هجرة فريد بمثابة انقطاع التيار الكهربائي عن ماكينة العمل الوطني فتوقف إنشاء النقابات والجمعيات التعاونية ومدارس الشعب, وأصيبت حركة النهوض الوطني بالانكماش والضعف أما اللجنة الإدارية للحزب فقد انقسمت ولم تعد قادرة علي مجرد الاجتماع( صبري أبو المجد ـ أمين الرافعي ـ ص54). ويتلقي فريد في المنفي الاختياري رسائل تملأ النفس حسرة نورد كنموذج منها رسالة من د. اسماعيل صدقي مؤرخة في أغسطس أي بعد أربعة أشهر فقط من هجرته تقول إن الأسف يخالجني بأشد تأثيره كلما رأيت الضعف قد تغلب علي تلك الهمم التي كانت عمادنا في عملنا الوطني( المصور ـ14 ـ11 ـ1969) ورسالة أخري من أحمد وفيق مؤرخة في13 ـ6 ـ1914 تقول اننا عدد قليل جدا وبكل أسف لا نعمل أي شيء والحركة تغط في النوم.ثم يأتي إعلان فرض الحماية البريطانية علي مصر في1914/12/18 وقبلها بشهر فرضت الأحكام العسكرية ثم تم خلع الخديو توفيق( الوقائع المصرية1914/12/19). لكن فريد يبقي علي كبريائه رغم كل شيء وعندما عرض عليه أن يقابل الصدر الأعظم يقول للرسول سأقابله ولكن فليحسن استقبالي لأني لا أتحمل أي إهانة واشترطت أن أحمل علي صدري شارة الحزب الوطني المكتوب عليها مصر للمصريين ويكتب فريد في مذكراته قابلت الصدر الأعظم فأحسن مقابلتي( محمد صبيح.
مواقف حاسمة ص319). ويروي فريد في مذكراته أنه خلال إقامته القصيرة في الأستانة استدعاه عزيز بك مدير الأمن العام فجلست إليه بلا أقل احترام وتعمدت إظهار العظمة وخلعت طربوشي ووضعته علي كرسي والبالطو ووضعته علي كرسي آخر ووضعت إحدي رجلي علي الأخري وسألته بكبرياء هل أنا أجلس إليك كمتهم فقال بآدابهم التركية المبنية علي الرياء أستغفر الله أفندم نحن إخوان أنا فقط أستعلم منك عن بعض نقاط( فتحي رضوان ـ مقال بالمصور1969/11/14) ويمضي فريد في تشدده ويروي كيف قابله مسيو بوسنو وهو مسئول فرنسي كبير وتحاور معه موجها اللوم الي مواقف الحزب التي تقاربت مع ألمانيا وتركيا خلال الحرب ثم قال هل تتفقون مع انجلترا إن وعدتكم بالاستقلال فقلت نحن لا نثق في وعود انجلترا ولا فيكم( صبيح ـ ص300) وعندما سئل فريد وماذا تفعل إذا هزمت تركيا وألمانيا في الحرب؟ أجاب نجتهد ساعتها في تجهيز الثورة في مصر وليس الاعتراف بالحماية البريطانية مهما كان شكلها ومهما أعطانا الانجليز من الامتيازات( صبيح ـ ص320) ونلاحظ انها المرة الأولي التي ينطق فيها فريد بلفظ الثورة. لكن الثورة تقوم بالفعل ولكن علي أيدي من عاداهم فريد بسبب اعتدالهم. والحقيقة أن قيادتهم للثورة لم تكن بسبب الاعتدال وإنما لأنهم كانوا علي أرض مصر.
ويفاجأ فريد بالثورة تشتعل علي أيديهم ومع ذلك يكتب في رسالة وجهها الي الشعب المصري إخواني المصريين الأعزاء. ان الصوت الذي يناجيكم اليوم صوت منعته الظروف من الارتفاع في صحف مصر من نحو سبع سنوات لكن منعه من الارتفاع علي ضفاف وادي النيل لم يكن عقبة تعوقه عن الدفاع عن القضية المصرية. صوت هذا الضعيف لم يخفت يوما, ولم يتأخر بما تفرضه عليه الوطنية طرفة عين, بل كان يزادد قوة ونشاطا كلما تراكمت أمامه الموانع. ان هذا الصوت يناجيكم ليهنئ الأمة المصرية علي تضامنها في المطالبة بحق أمنا المظلومة مصر ثم يقول وكأنه يذكر الجميع إن الثورة هي ثمرة من ثمار البذور الذي غرستها الحركة الوطنية( المصور ـ مقال لصبري أبو المجد1963/11/14). لكن أحدا في مصر لم يسمع بالرسالة ومن سمع بها لم يهتم بها, فقد كان الجميع منغمسين في غمار الثورة ولا وقت لديهم لغيرها بل انها أثارت حفيظة سعد وهو خارج البلاد. وأرسل له عبد الرحمن فهمي وهو في غاية السعادة ليبلغه ان بقايا الحزب الوطني دعت الي احتفال بذكري مصطفي كامل فأرسلت شبابنا الي الاحتفال فأسكتوا زعانف هذا الحزب وهتفوا عاليا بحياة سعد.ويرحل فريد حزينا وربما غاضبا من نفسه علي هجرته. ويصل نعيه الي مصر لكنه يتوه في غمار ثورة الشعب وبسبب من التعتيم الوفدي. غير أن الأهرام تنعيه قائلة مات فريد وكفي باسمه وصفا لحياته, مات غريبا عن وطنه حبا بذلك الوطن فأحياه موته في قلب كل مصري.استمات في حب الاستقلال فمات وحياة أمته في عنفوان الشباب(1919/11/19) وتقول الاجيبسيان ميل لسنا من رأي الزعيم الوطني الراحل ولكننا لا نملك إلا أن نبدي اعجابنا بخلقه وصدق شعوره بالوطنية(1919/11/19). ويتجاهل الوفد وزعيمه جثمان فريد حتي يتطوع مواطن بدفع نفقات نقله الي مصر وأمام القبر يقف حافظ إبراهيم ليقول وكأنه يعتذر له:ها هنا قبر شهيد في هوي
أمة أيقظها ثم رقد .. نعم أيقظها ثم رقد. ويودع جثمان فريد الثري في حضور عدد محدود من المصريين وكأنه أقل شأنا من أي واحد من آحاد الناس.مات فريد وقد ظلم نفسه وظلم حزبه وظلم وطنه, لكنه يبقي دوما ساطعا في السماء المصرية فقد كان رمزا للكبرياء الوطني والعطاء بلا حدود.. انه نموذج نادر يعطي كل شيء ولا يأخذ لنفسه شيئا.
[ نقلاً عن جريدة الأهرام ]