مكانة رئيس الدولة بين الشريعة والقانون
تختلف الدساتير والقوانين الوضعية المعاصرة في نظرتها لرئيس الدولة، عن نظرة الشريعة الإسلامية، من نواحي متعددة، وزوايا مختلفة يبرز من خلالها بوضوح الميزات والملامح الرئيسة، التي وضعتها الشريعة الإسلامية لمكانة رئيس الدولة، وحقوقه، وواجباته.
ولعل من أهم زوايا الاختلاف هو ذلك التوازن، الذي ميَّز نظرة الشريعة لرئيس الدولة، وعلاقته بالرعية، وخلت منه القوانين الوضعية التي نراها في بعض الأحيان تهمِّشُ دور الرئيس، وتجعله مجرد رمز لا يملك من الأمر شيئًا، إلا استقبال الزوار ووداعهم في المطارات، وعلى الفرش الحمراء، وما بين أخرى مفرطة قاربت أن تضعه في منزلة الإله أو قريب من ذلك، في صورة تحاكي ما كان عليه الأقدمون من تقديس وتعظيم لملوكهم قد يصل إلى حد العبادة.
فالشريعة الإسلامية قد خطَّت لنفسها، منذ القدم، صورة مفردة، تشمل الجوانب المختلفة لرئيس الدولة، وعلاقته بالمرؤوسين، ونظر الرعية له، في منظومة متزنة متكاملة الأركان والأسس، نعرض ملامحها مقارنة بالقوانين الوضعية على الوجه التالي:
أولاً: منصب رئيس الدولة وأهميته
اتفق الأئمة من علماء أهل السنة والجماعة على أن الإمامة فرض، وأنه لا بد للمسلمين من إمام يقيم شعائر الدين وينصف المظلومين، وعلى أنه لا يجوز أن يخلو الزمان من إمام ينظر في حال الرعية.
فقد جاء في السياسة الشرعية لابن تيمية: "يجب أن يُعرف أن ولاة أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي، صلى الله عليه وسلم، في الحديث الذي رواه أبو داود: "إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم".
ويقول الإمام علي، رضي الله عنه، :"لا بد للناس من إمارة بارة كانت أو فاجرة، فقيل: يا أمير المؤمنين هذه البارة قد عرفناها فما بال الفاجرة؟ فقال: يُقام بها الحدود، وتأمن بها السبل، ويجاهد بها العدو، ويُقسم بها الفيء".
ويقول أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية: نصبة الإمام واجبة، وقد قال أحمد، رضي الله عنه، في رواية محمد بن عوف بن سفيان الحمصي: "الفتنة إذا لم يكن إمام يقوم بأمر الناس".
ويقول الشهرستاني: "وما دار في قلبه (أي الصديق) ولا في قلب أحد، أنه يجوز خلو الأرض من إمام فدلَّ ذلك كله على أن الصحابة، وهم الصدر الأول كانوا على بكرة أبيهم متفقين على أنه لا بد من وجود الإمامة".
وهذا الحشد من الآثار وغيره، الذي لم يتسع المقام لذكره، ليؤكد أن الرئيس في الشريعة الإسلامية هو قطب الرحى، وعمود الفسطاط في الدولة، وليس مجرد صورة رمزية، مهما اختلف شكل الدولة أو تعددت صورها، بخلاف ما تذهب إليه بعض القوانين الحالية من إفراغ منصب رئيس الدولة من مضمونه، والحفاظ عليه في صورة هيكلية عبثية لا فائدة ترجى من ورائها.
ثانيًا: وظيفة رئيس الدولة وحقوق الأمة عليه
في القوانين الوضعية، تقتصر مهام رئيس الدولة على تدبير الأمور السياسية، فيما يوكل المهام الدينية إلى وزارت غالبًا ما تكون منخفضة الأهمية، ويكرِّس همَّه هو في الشأن السياسي، وقلَّما يلتفت إلى غيره، وفي أحيان أخرى لا يوجد ذكر للدين بالأساس في مجال الحكم، أو مهام الرئيس، أما في الشريعة الإسلامية فالأمر جد مختلف، فعناية رئيس الدولة بالشأن الديني على قدم المساواة مع تدبير الأمور السياسية؛ لأنهما المحوران الرئيسان اللذان يقوم عليهما دوره، ومنهما يكتسب أهميته.
يقول ابن خلدون في مقدمته: الإمامة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية.. فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في شئون الدنيا والدين.
فواجبات الإمام تتركز في حفظ الدين وسياسية الرعية، وقد فصَّل الإمام الماوردي في الأحكام السلطانية واجبات الإمام، فقال: والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء، أولها: حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع أو زاغ ذو شبهة عنه أوضح له الحجة، وبيَّن له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود؛ ليكون الدين محروسًا من خلل، والأمة ممنوعة من زلل.
وعد منها كذلك إقامة الحدود لتصان محارم الله، تعالى، عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
وتحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة؛ حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرمًا أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا، وجهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل في الذمة ليقام بحق الله، تعالى، في إظهاره على الدين كله.
ومن واجباته أيضًا، أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض؛ تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين، ويغش الناصح.
هذه بعض واجبات رئيس الدولة، وحقوق الأمة عليه، ويظهر منها جليًا واضحًا أنه حتى وإن وكلّ بعض وظائفه لوزرائه، فهو المسئول الأول أمام الله، عز وجل، أولاً، ثم الأمة ثانيًا، وليس من وكله الأمر، بخلاف ما عليه بعض الأنظمة الوضعية، التي لا تعرف من سبيل لمحاسبة الحكام ومواجهتهم؛ لأنهم ببساطة، ليس عليهم من واجبات ولا التزامات تجاه الأمة، وعليه لا يجوز محاسبتهم ولا لومهم.
فالخلفاء الراشدون ـ رضوان الله عليهم ـ لم يجعلوا لأنفسهم منزلة فوق منزلة الناس، ولم يجعلوا أنفسهم فوق النقد واللوم، بل دعوا الناس إلى نقدهم ولومهم، ومواجهتهم إذا انحرفوا أو حادوا عن واجباتهم، ولن يكون باب النقد مفتوحًا إذا جعل الحاكم ذاته مصونة لا تمس، أو ظن أنه أمام الأمة صاحب حق فقط، وليس عليه من التبعات من شيء.
إذن، فليس في الشرعية الإسلامية، كما يقول أبو زهرة في كتابة "الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي"، ما ابتدعه بعض الحكام والملوك من جعل ذواتهم فوق المستوى البشري، وأن سبهم اعتداء على ذات مصونة لا تمس، نعم وجد ملوك كانوا يفعلون ذلك في الإسلام، ولكن أحدًا من فقهاء الإسلام من عصر الاجتهاد الفقهي كان يظله حكم هؤلاء لم يذكر ذلك في الجرائم على أنه جريمة توجب حدًا أو تعزيرًا.
ثالثًا: حقوق رئيس الدولة على رعيته
وكما أوجبت الشريعة على الرئيس واجبات تجاه المرؤوسين، فله كذلك حقوق عليهم.. فإذا قام بما ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدى حق الله، تعالى، فيما لهم وعليهم، ووجب له عدة حقوق منها الطاعة والنصرة والمناصحة، ما لم يتغير حاله.
وعن وجوب طاعة الإمام الحق يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: "فطاعة الله ورسوله واجبة على كل أحد، وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم، فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمور لله فأجره على الله ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية، فإن أعطوه أطاعهم، وإن منعوه عصاهم، فماله في الآخرة من خلاق".
ونقل ابن حجر في فتح الباري ـ رحمه الله ـ الإجماع على عدم جواز الخروج، حتى على السلطان المتغلب الظالم، فقال: قال ابن بطال: "وقد أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب، والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه لما في ذلك من حقن الدماء وتسكين الدهماء".
ولكن هذه الطاعة مُقيدة كما ذكر شيخ الإسلام، ابن تيمية، في منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية: "إنهم (أهل السنة والجماعة) لا يجوزون طاعة الإمام في كل ما يأمر به، بل لا يوجبون طاعته إلا فيما تسوغ طاعته فيه في الشريعة، فلا يجوزون طاعته في معصية الله، وإن كان إمامًا عادلاً".
وعلى الأمة كذلك، واجب النصرة للرئيس، وأن تقوم بجانبه وتساعده على نوائب الحق، ولا تسلمه لأعدائه سواء في داخل الدولة الإسلامية أو خارجها.. يدل على ذلك قول الله، عز وجل: {تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة :2]، ولاشك أن معاضدة الإمام الحق ومناصرته من البر، الذي يترتب عليه نصرة الإسلام والمسلمين.
ومن حقوق الإمام أو الرئيس على الأمة كذلك، واجب المناصحة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم واجب على الإنسان، وإن لم يعاهدهم عليه، وإن لم يحلف لهم الأيمان المؤكدة، كما يجب عليه الصلوات الخمس والزكاة والصيام وحج البيت، وغير ذلك مما أمر الله به ورسوله من الطاعة؛ فإذا حلف على ذلك كان ذلك توكيدًا وتثبيتًا لما أمر الله به ورسوله من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم".
ويقول في موضع آخر: "وأما أهل العلم والدين والفضل، فلا يُرخِّصون لأحد فيما نهى الله عنه من معصية ولاة الأمور، وغشهم، والخروج عليهم بوجه من الوجوه كما قد عرف من عادات أهل السنة والدين قديمًا وحديثًا، ومن سيرة غيرهم.
ولذا كان السلف، كالفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وغيرهم يقولون: لو كان لنا دعوة مستجابة لدعونا بها للسلطان.
وبهذه أيضًا تتميز الشريعة على بعض القوانين المعاصرة، التي تجعل من الحاكم ورقة في مهبِّ الريح، وألعوبة في يد أصحاب الأهواء يتقلبون بالدولة، ومصالح الناس كيف شاءوا، بيد أن الشريعة قطع الطمع في الفتن، وإن كانت الأبواب مشرعة للنصح، والأخذ على يد رئيس الدولة، إن حاد عن واجباته تجاه الأمة.
ممَّا سبق، يتضح لنا أن الشريعة في نظرتها لرئيس الدولة تمايزت واختلفت عن القوانين المعاصرة، من نواحي مختلفة منها:
1- في الشريعة الإسلامية رئيس الدولة قطب الرحى، وعليه عماد الدولة، ولا يتصور قيامها بدونه، فهو ليس مجرد رمز ديكوري تُزين به الدولة، كما هو الحال في بعض القوانين الوضعية.
2ـ في الشريعة الإسلامية الإمام يقوم بوظائف الدين والدنيا معًا، لا فرق بينهما، بل هو يمارس أدواره من منطلقات دينية، وليس مجرد وظيفة سياسية يتقوت منها، بخلاف بعض القوانين الوضعية أو غالبها، الذي يجعل من رئيس الدولة مجرد موظف مهامه الرئيسة سياسة الدولة، دون غيرها.
3- رئيس الدولة في الشريعة الإسلامية مسئول أمام الله، عز وجل، ثم أمام الأمة عما يقوم به هو أو يوكل فيه غيره، فهو صاحب الحق الأصيل، والمسئول الوحيد، بينما بعض القوانين الوضعية تجعل رئيس الدولة صاحب الحق في التصرف، ثم هو لا يُسأل بعد ذلك، بينما يسأل وزراؤه، وبعضها يستلب منه حق التصرف مطلقًا.
4ـ إن قام الإمام بواجباته حق قيام استحق من أمته ما له من حقوقه، ولا يجوز حينها الخروج عليه بأية صورة من الصور، وإن جاز في كل الأحوال أن يكون في موضع السؤال، والمواجهة.
وهذا التوازن، الذي أقامته الشريعة بين الرئيس والأمة، والذي يحفظ على الرئيس هيبته، وعلى الأمة حقوقها، وعلى الدولة استقرارها، قل أن تجد له نظيرًا في القوانين الوضعية.