حقوق الإنسان بين الشريعة والقانون
كانت بداية اتجاه المجتمع الدولي لرعاية حقوق الإنسان والاهتمام بها عام 1948 من خلال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة وتنصُّ المادتان الأولى والثانية على مساواة البشر في الكرامة والحقوق، بينما تتناول المواد من الثالثة حتى الثلاثين وهي المادة الأخيرة الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والمعاملات والمراسلات والتملك والتنقل وحرية الفكر والعقيدة والحقوق الاجتماعية والثقافية.
وبعد هذا الإعلان تم وضع 24 اتفاقية دولية تناولت جوانب مختلفة من حقوق الإنسان إلى أن عقد مؤتمر فيينا عام 1994، وقد ركز على أربع قضايا رئيسة، الأولى: هل حقوق الإنسان عمومية الطابع أم نسبية؟، والثانية: هل يتم إلزام البشرية كلها بحضارة واحدة أم بحضارات متعددة؟، والثالثة: قضية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والرابعة: قضية الرقابة والمتابعة وهل المسئولية جماعية للمجتمع الدولي أم مسئولية الدولة ذاتها؟
ثم جاء مؤتمر السكان في القاهرة عام 1994، ثم مؤتمر المرأة في بكين عام 1995، وبالرغم من هذه المؤتمرات والاتفاقيات والوثائق فقد برزت خلال الثلاثين سنة الماضية، ظواهر ذات اتصال بما يسمى بالنظام الدولي الجديد، وهي ظاهرة الحروب الدينية والعرقية، وبرزت في أبشع صورها في المذابح الجماعية وعمليات التطهير العرقي في البوسنة وكوسوفا، ثم ظاهرة العنصرية الجديدة التي ظهرت بوضوح في ألمانيا وفرنسا في شكل معاداة الأجانب والاعتداء عليهم.
والمتابع لتصرفات الدول الكبرى التي شاركت في وضع هذه الوثائق لحقوق الإنسان يتأكد من تراجعها الصريح أحيانًا والضمني أحيانًا أخرى عما تعهدت به وعما شاركت في وضعه، فهم أصحاب شعارات جوفاء ودعاية كاذبة.
وحينما نتحدث اليوم، عن حقوق الإنسان فلم يعد يكفي الثلاثون مادة الموجودة في ميثاق حقوق الإنسان الصادر عام 1948. فهذه المواد القديمة صارت خارج إطار التعامل، فتعريف الأسرة حسب بنود ميثاق 1948 تغير تمامًا، فقد أصبح في مؤتمري السكان والمرأة هو (فردان يعيشان معًا على وجه الاستمرار)، ولم يوضح إذا كان هذان الفردان ذكرين أم أنثيين، وذلك بهدف فتح المجال لأشكال جديدة من الأسر تتكون من امرأتين أو ذكرين، وهذا عكس التعريف التقليدي في الميثاق للأسرة التي تتكون من رجل وامرأة.
فالميثاق القديم تحدث عن النوع على أنه ذكر وأنثى وكان النوع يترجم على أنه sex أما الآن، وبعد القاهرة وبكين فأصبح النوع يترجم على أنه gender وهي كلمة تعني نظرة الإنسان إلى نفسه، فإذا رأت امرأة أنها أميل إلى الذكورة تصبح ذكرًا، ويكون لها الحق في أن تعاشر زوجة أخرى، ونفس الشيء بالنسبة للذكر.
وهكذا بعدما أضيفت للميثاق القديم أمور في مجال المرأة والطفولة والأسرة وغيرها أصبح الميثاق قديمًا وباهتًا وشبه لاغ .
أما الشريعة الإسلامية الغراء، فلها فضل السبق على كافة المواثيق والإعلانات والاتفاقيات الدولية في تناولها لحقوق الإنسان وتأصيلها لتلك الحقوق، منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا من الزمان، وأن ما جاء به الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية اللاحقة، ومن قبلها ميثاق الأمم المتحدة ما هو إلا ترديد لبعض ما تضمنه الشريعة الإسلامية الغراء.
وحقوق الإنسان كما جاء بها الإسلام حقوق أصيلة أبدية لا تقبل حذفًا ولا تعديلاً ولا نسخًا ولا تعطيلاً، إنها حقوق ملزمة شرعها الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ، فليس من حق بشر كائنًا من كان أن يعطلها أو يتعدى عليها، ولا تسقط حصانتها الذاتية لا بإرادة الفرد تنازلاً عنها ولا بإرادة المجتمع ممثلاً فيما يقيمه من مؤسسات، أيًّا كانت طبيعتها وكيفما كانت السلطات التي تخولها، أما فيما يتعلق بالقيمة القانونية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان فهو ليس إلا مجرد تصريح صادر عن الأمم المتحدة غير ملزم.
وعليه، فإن حقوق الإنسان في المواثيق الدولية عبارة عن توصيات أو أحكام أدبية، أما في الإسلام فحقوق الإنسان عبارة عن فريضة تتمتع بضمانات جزائية، فللسلطة العامة في الإسلام حق الإجبار على تنفيذ هذه الفريضة، خلافًا لمفهوم هذه الحقوق في المواثيق الدولية التي تعتبرها حقًا شخصيًا مما لا يمكن الإجبار عليه إذا تنازل عنه صاحبه.
وهذه الحقوق في الإسلام أعمق وأشمل من حقوق الإنسان في الوثائق الوضعية، ففي الإسلام مصدرها كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، أما في القوانين والمواثيق الدولية فمصدرها الفكر البشري، والبشر يخطئون أكثر مما يصيبون، ويتأثرون بطبيعتهم البشرية بما فيها من ضعف وقصور وعجز عن إدراك الأمور والإحاطة بالأشياء، وقد أحاط الله بكل شيء علمًا.
فالحقوق في الإسلام تبلغ درجة الحرمات، وهي في هذا تمر بدرجات، فالحقوق مُسَلَّمة، ومن بعدها تدعمها الواجبات، ومن بعد الواجبات تحميها الحدود، ومن بعد الحدود ترتفع إلى الحرمات.
وإذا كانت المواثيق البشرية قد ضمنت بعض الحقوق، فإن الإسلام بمصدريه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة شملا جميع أنواع الحقوق التي تكرم الله بها على خلقه.
وحقوق الإنسان في القوانين الوضعية لم توضع لها الضمانات اللازمة لحمايتها من الانتهاك. فبالرجوع إلى مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948م نجده لم يحدد الوسائل والضمانات لمنع أي اعتداء على حقوق الإنسان، وبخاصة ما يكون من هذه الوسائل والضمانات على المستوى العالمي.
كما تضمن الإعلان تحذيرًا من التحايل على نصوصه أو إساءة تأويلها دون تحديد جزاء للمخالفة، وتضمنت أيضًا تشكيل لجنة لحقوق الإنسان تقوم بدراسة تقارير الدول الأطراف عن إجراءاتها؛ لتأمين الحقوق المقررة، كما تتسلم التبليغات المقدمة من إحدى الدول الأطراف ضد أخرى بشأن أدائها لأحد التزاماتها المقررة بمقتضى الاتفاقية وذلك بشروط معينة.
وبالنظر إلى الحماية الدولية لحقوق الإنسان نجدها محاولات لم تصل إلى حد التنفيذ، وهي تقوم على أمرين هما: محاولة الاتفاق على أساس عام معترف به بين الدول جميعًا، ثم محاولة وضع جزاءات ملزمة تدين الدولة التي تنتهك حقوق الإنسان.
ثم إن كل ما صدر عن الأمم المتحدة والمنظمات والهيئات بخصوص حقوق الإنسان يحمل طابع التوصيات ولا يعدو كونه حبرًا على ورق يتلاعب به واضعوه حسبما تمليه عليهم الأهواء والشهوات، أما في الإسلام فقد اعتمد المسلمون في مجال حماية حقوق الإنسان على أمرين أساسين، هما: إقامة الحدود الشرعية، إذ أن من أهم أهداف إقامة الحدود الشرعية في الإسلام المحافظة على حقوق الأفراد، ثم تحقيق العدالة المطلقة التي أمر الله بها ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وحثا عليها في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. قال تعالى: {إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ} [النحل:90].
وإذا كانت حقوق الإنسان في القوانين الوضعية تبيح وتقر المحرمات كالزنا واللواط والشذوذ الجنسي باسم الحرية، فإن الإسلام يحفظ الإنسان من شرها ووبالها وآثارها المدمرة، ويعطيه البدائل النظيفة والطيبة.