الجنوبيين باعتبارهم أقلية متمايزة ثقافيا وعرقيا وتاريخيا في إطار السودان
الموحد. تخضع لتأثيرات سياسات القوي الإقليمية. فإذا ما أضفنا إلي ذلك
الأهمية الجيوبوليتيكية لموقع السودان فإن أطرافا أخري خارجية. لا سيما
القوي العظمي تمارس دورا فعالا في تطور مشكلاته الداخلية ولا سيما مشكلة
الجنوب السوداني. وبتتبع الجهد الأمريكي نجد انه بذل جهودا لا تفتر حتي تم
التوصل لاتفاق نيفاشا عام 2005 والحرص علي أن يكون هناك استفتاء لتقرير
مصير الجنوب إما بالاستمرار في إطار السودان الموحد أو الانفصال. كما لا
يخفي الجهد الأمريكي لقيام ذلك الانفصال في موعده المقرر حتي ولو لم تحل
المشاكل العالقة بين الحركة الشعبية والمؤتمر الوطني الحاكم بشأن عدة قضايا
مثل الحدود وابيي وغيرها. وفي هذا السياق قال “جوني كارسون”. مساعد وزيرة
الخارجية للشئون الافريقية. انه سيتم ارسال دبلوماسيين أمريكيين اضافيين
لعواصم أقاليم جنوب السودان. للمساهمة في “مضاعفة الوجود الأمريكي في
الجنوب ثلاث مرات” مقارنة بما كان عليه الحال في بداية هذا العام.
ولا مراء في أن الأهداف الرامية إلي
انفصال الجنوب تترك اثارا بالغة الخطورة علي الأمن القومي العربي في مجمله
والأمن القومي المصري بصفة خاصة ويمكن في هذا السياق أن نشير إلي ثلاثة
تأثيرات هامة:
الأول: انفصال الجنوب قد يؤدي إلي تفكك السودان الموحد باعتباره أحد الحلقات الهامة في الحزام الجنوبي للأمن القومي العربي.
الثاني: انفصال الجنوب واستمرار المعارك في دارفور أو احتمال قيام معارك بين الشمال.
والجنوب يفتح المجال واسعا أمام تدخلات
قوي خارجية عديدة بصورة أكبر وأعمق عن ذي قبل بما يزيد من تأثيرات القوي
الخارجية الرامية إلي تفويض أطراف النظام الإقليمي العربي.
الثالث: تأثيرات الانفصال علي قضايا تأمين الحدود الجنوبية لمصر بما في ذلك ضمان وصول حصتها من مياه النيل.
ان أحد الاستراتيجيات الهامة والثابتة
التي اتبعتها ولا تزال القوي المعادية للوطن العربي والذي يمثل تهديدا
مباشرا للأمن القومي العربي هو استراتيجية شد الأطراف. ومضمون هذه
الاستراتيجية ان اضعاف الجسد العربي يجب أن يأخذ طريقين في آن واحد احدهما
يتجه إلي القلب والثاني يتجه إلي الأطراف. اضعاف الأطراف من خلال عملية جذب
سياسية محورها ابعاد الأطراف عن مساندة منطقة القلب وهو ما يؤدي بالضرورة
إلي اضعاف القلب واحتلال توازن الجسد ومن ثم تسهيل عملية الانهيار الذي
يسعي أعداء الوطن العربي إلي تحقيقها. ولا شك أن هذه الاستراتيجية تمثل
خطورة علي الجسد العربي في امتداده الافريقي ولا سيما السودان. إذ انه قادر
علي تمزيق وحدة السودان وانقطاع أجزائه الغنية في الشرق “اثيوبيا” وفي
الجنوب أوغندا. وفي الشرق تشاد.
فبالنسبة لانفصال الجنوب وتفجير وحدة السودان.
فقد كان السعي لفصل الإقليم الجنوبي عن
بقية السودان هو محور السياسة البريطانية في الفترة من 1924 حتي 1936 عن
طريق إغلاق الحدود الجنوبية أمام الشمال بمدرسيه وتجارته وإنهاء تدريس
اللغة العربية واستبدالها بتدريس اللغة الانجليزية وفتح الباب أمام حملات
التبشير والتجارة الأوروبية بل لقد فكرت بريطانيا في ضم جنوب السودان
لأوغندا. إلا أن مؤتمر جوبا أظهر رغبة الجنوبيين في استمرار الوحدة مع
الشمال مع ملاحظة ظهور شعور قوي بعدم الثقة بين ممثلي الجنوب إزاء نوايا
أهل الشمال وقد تم تكريس هذا الشعور من خلال العديد من المواقف والسياسات
الوطنية وهو ما أدي إلي اندلاع التمرد الجنوبي عام 1955. وجاء قرار الحكومة
العسكرية بزعامة إبراهيم عبود في نهاية الخمسينيات بطرد الارساليات
التبشيرية ليضفي بعدا جديدا علي الصراع حيث تعاطف الغرب مع حركة التمرد في
ذلك الوقت باعتباره حركة دينية محورها الصراع بين المسيحية والإسلام.
ان انفصال الجنوب لا يعني بقاء الشمال.
فالجنوب والشمال تعبيران جغرافيان ولكنهما لا يعكسان واقعا حضاريا متكاملا.
ويري عديد من الباحثين ان انفصال الجنوب سيقود إلي انفصال الغرب أو بعض
أجزائه.
والطروحات الانفصالية في السودان تطرح
اثارا سلبية بالغة الخطورة علي الأمن القومي العربي من منطلق استراتيجية شد
الأطراف كما أسلفنا بفتح المجال أمام حدوث انهيارات أخري تضاف إلي ما
نشهده في الصومال وربما يمتد إلي موريتانيا.
كما ان انفصال الجنوب قد يؤدي إلي تفكك السودان إلي دويلات صغيرة في الغرب وفي الشمال وفي الشرق.
وفيما يتعلق باختراق الخارج للسودان
الجنوبي. فقد رأينا ان إسرائيل قدمت الدعم لحركة انيانيا الأولي حتي مكنتها
من تكوين جيش مدرب وقوي وحسن التنظيم بلغ تعداده نحو عشرين ألف مقاتل في
عام 1972. وازداد هذا الدور خلال عقد الستينيات حيث قدمت إسرائيل الكثير من
الدعم وعملت علي إمداد الحركات الانفصالية بالسلاح والمعدات والخبرات بما
في ذلك التدريب داخل إسرائيل نفسها. ومحاولاتها لاختراق الحركة الشعبية.
ومن المعلوم ان الوجود الإسرائيلي في تلك
المنطقة المليئة بالصراعات أمر منطقي لتدعيم أمنها القومي وذلك فيما يتعلق
بالمدخل الجنوبي للبحر الأحمر والمحيط الهندي.
ويمكن القول ان مجلس الكنائس العالمي أسهم
في تدويل الصراع السوداني حيث تم تقديمه علي انه صراع بين الشمال المسلم
والجنوب المسيحي مع ان عدد المسيحيين في الجنوب لا يتعدي 9% من السكان
بينما تسود الديانات المحلية هناك. ونلاحظ ان هذه الهيئات والمؤسسات
التبشيرية والمسيحية لعبت دوراً واضحاً في التسوية السلمية عبر اتفاق أديس
أبابا عام 1972 وفي اتفاق نيفاشا .2005
ونلاحظ ان القوي الغربية كثيرا ما هددت
الحكومة السودانية لفرض مناطق آمنة في جنوب السودان؟. كما عملت كل جهدها
لرأب الانشقاقات داخل الحركة الشعبية.
وأخيراً بالنسبة لمصر. ثمة ارتباط وثيق
بين أمن مصر وأمن السودان. ولم تتردد مصر في الماضي في استخدام القوة
العسكرية لتأمين حدودها الجنوبية ضد غارات النوبة عام 1821. وفي بعض
الأحيان سيطرت مصر بشكل فعلي علي بلاد النوبة وجعلتها جزءامن الكيان المصري
الإسلامي. ويمكن القول ان السودان يشكل عمقا أمنيا استراتيجيا لمصر.
ويمثل السودان نقطة تلاقي المصالح العربية
الافريقية. كما ان تأثير الصراعات في القرن الافريقي علي العالم العربي
إنما يكون عبر السودان. ولا يخفي ان الحرب التي كانت دائرة في الجنوب قد
أضرت بمصالح مصر المائية مثل عرقلة إقامة مشروع جونجلي 1 لنقل مياه الفيضان
إلي النيل الأبيض عند ملكال علي أن تتقاسم الدولتان مناصفة الفوائد
المائية المتحققة.
وكذلك الأمر بالنسبة لقناة جونجلي 2 والذي
تضمن إقامة قناة أخري موازية لجونجلي 1 ومن ثم تتم مضاعفة الطاقة. ويلاحظ
أن الجنوبيين اعترضوا علي هذه المشروعات علي أساس انها بمثابة استنزاف
لمواردهم الطبيعية والاقتصادية. وأياً كان الأمر فإن الارتباط العضوي بين
الأمن القومي المصري وأمن السودان يجعل من المتعين أمام القيادة المصرية ان
تميز بين “الثوابت” و”المتغيرات” عند صياغة توجهها الاستراتيجي الجنوبي.