هدى شعراوي .. وانحلال المرأة
المولد وعوامل النشأة:
وُلِدت نور الهدى محمد سلطان أو هدى شعراوي في مدينة المنيا في صعيد مصـر، في 23 يونيو 1879م، وهي ابنة محمد سلطان باشا، رئيس المجلس النيابي الأول في مصر في عهد الخديوي توفيق، وهو حاكم الصعيد العام.
وحتى نقف على عوامل النشأة التي انتهت بهذه الشخصية إلى ذلك الانحلال الفكري، وجعلتها ترتمي في إحضان الحضارة الغربية، فلابد من ذكر أسماء ثلاثة، كان لها أكبر الأثر فيما وصلت إليه هدى شعراوي، وهذه الشخصيات الثلاث هي:
والدها: محمد سلطان باشا، وزوجها: علي شعراوي باشا، وأستاذتها الفرنسية زوجة حسين رشدي باشا.
أما عن والدها، فقد تربت هدى شعراوي في سنين حياتها الأولى في بيت والدها، والذي اشتهر بخيانته لبلاده وتعاونه الصريح مع الإنجليز، وتهيئة الأجواء لهم؛ لكي يبسطوا نفوذهم على مصـر، حيث يقول الدكتور عبد العزيز رفاعي عن والدها محمد سلطان:
(إنه كان من أعلام الثورة العرابية، ولكنه تنكر لها في أحلك أوقاتها، ومشى في ركاب أعدائها: الخديو والإنجليز ... حتى نال حظوته من الخديوي بالإحسان، ومن الإنجليز بالتقدير) [رجال اختلف فيهم الرأي، أنور الجندي، ص(25)]، فهذا هو البيت الذي نشأت وترعرعت في جنباته.
وهذا ما أثبته الأستاذ محمد رشيد رضا رحمه الله حين تكلم عن دور محمد سلطان في خدمة مخابرات الإنجليز في سبيل الوصول إلى معسكر العرابيين في التل الكبير، فقال: (وهكذا حمل لواء الخيانة للثورة العرابية، وطاف ببورسعيد والإسماعيلية بجيش عرابي معلنًا الثقة في الجيش الغازي، ومطمئنًا الأهالي على حياتهم وقد أفهمهم حسن نيات الإنجليز إزاء المصريين) [الأستاذ الإمام محمد عبده، محمد رشيد رضا، (1/258-259)]، فإن كان رب البيت بالخيانة مشتهرًا، فكيف ستكون شيمة الذرية؟!
تُوفي والدها وهي في الخامسة من عمرها، يوم 14 من أغسطس سنة 1884م فى مدينة جراتسي بالنمسا، ومن ثم راعتها والدتها ونشأتها على دراسة العلوم واللغات وتعلم الموسيقى، وتعلمت مبادئ القراءة والكتابة، وتعلمت الفرنسية والتركية، وتزوجت هدى شعراوي وهي فى الثالثة عشـر من عمرها من ابن عمتها على شعراوي باشا وهو أحد قادة ثورة 1919م.
وأما الشخصية الثانية فكان زوجها علي شعراوي باشا، والذي سميت باسمه كعادة الغربيين في تسمي المرأة باسم زوجها، وشعراوي باشا كان رجلًا موسرًا صديقًا لوالدها، ويكبرها بأربعين عامًا تقريبًا، وهو أحد الثلاثة الكبار ـ هو ومعه سعد زغلول وعبد العزيز فهمي ـ الذين قابلوا المندوب البريطاني بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى بوصفهم من رجال حزب الأمة الموالي للاستعمار البريطاني لعرض مطالب البلاد.
ثم دخلت الشخصية الثالثة على الخط، فقد كانت هُدى تعتزُّ بأنها تلميذةٌ لزوجة حسين رشدي باشا الفرنسية، وكانت هذه المرأة الفرنسية قد ألفت كتابين الأول بعنوان "حريم ومسلمات مصر"، والثاني كتاب "المطلقات"، والذي عبرت فيهما ـ على حد قولها ـ عن مدى الألم والتعاسة التي تعانيها من أجل ما أسمته بتعاسة المصرية وظلم الرجل لها.
مراحل حياتها:
انشغلت هدى شعراوي بالعمل الاجتماعي، فأسست جمعية لرعاية الأطفال سنة (1325هـ = 1907م)، وطالبت في سنة (1326هـ = 1908م) القائمين على الجامعة المصـرية بتخصيص قاعة للمحاضرات النسائية والاجتماعية، فكان لها ما أرادت، وأسهمت في تأسيس (مبرة محمد علي) للأطفال المرضى سنة 1909م.
قادت هدى شعراوي مظاهرات السيدات الأولى في تاريخ مصر سنة (1338 هـ - 1919م)، وكونت لجنة الوفد المركزية للسيدات، وأشرفت عليها، وألفت الاتحاد النسائي المصـري سنة 1923م، وشاركت في عدد من المؤتمرات النسائية الدولية، ومن هنا بدأ تأثرها بكثير من الأفكار الغربية يظهر إلى العلن، لتبدأ مرحلة الدعوة إلى الانحدار الفكري والأخلاقي في حياة هدى شعراوي.
لمحة من التاريخ:
وقبل أن نستفيض في محاولات هدى شعراوي التغريبية، لابد من نظرة في تاريخ الدعوات إلى التغريب وما يستتبعها من الانحلال الأخلاقي والاجتماعي، فقد (ظهر كتاب في مصر عام 1894م ـ أي بعد الاحتلال البريطاني بعام واحد ـ لمحام مصري موالٍ لكرومر والنفوذ الأجنبي يدعى "مرقص فهمي" تحت عنوان "المرأة في الشرق" صوَّر فيها خطة الاستعمار في المطالبة بتحقيق خمسة أغراض:
أولًا ـ القضاء على الحجاب الإسلامي.
ثانيًا ـ إباحة الاختلاط للمرأة المسلمة بالأجانب عنها.
ثالثًا ـ تقييد الطلاق ووجوب وقوعه أمام القاضي.
رابعًا ـ منع الزواج بأكثر من واحدة.
خامسًا ـ إباحة الزواج بين المسلمات وغير المسلمين) [رجال اختلف فيهم الرأي، أنور الجندي، ص(18-19)].
هدى شعراوي بين قاسم أمين والغرب:
ثم ظور كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة"، والذي كان بمثابة بداية الطريق بالنسبة لها، فكما تقول الدكتورة ليلي عامر: (قابلت هدى أفكار قاسم أمين بكثير من الفرح، ورأت فيه صاحب رسالة يعجز أعداؤه عن هزيمته، وتعجبت هدى من السيدات اللواتى استنكرن تصريحات قاسم أمين ومبادئه رغم أنها كانت فى صالحهن؛ لأنها كانت تظهرن فى الثوب الحقيقى من عدم الكفاءة وكان ذلك يجرح كبريائهن، فقد رأتهن صورة مشابهة للجوارى اللائي عندما تعطى لهن ورقة العتق من الرق، يبكين على حياة العبودية والأسر) [قمم مصرية .. هدى شعراوي، د.ليلى عامر، ص(8)] .
وأما أول صلاتها بالغرب، فقد كانت زيارة امرأة تدعى "كليمان" إلى القاهرة، والتي اقترحت هدى شعراوي عليها أن تلقي محاضرة للفتيات عن المرأة بين الشرق والغرب، وتحقق لها ذلك في يوم الجمعة 15 يناير 1909م، وبعد أيام من المحاضرة وصلتها دعوة للتعارف مع الليدي كرومر وهي زوجة المندوب السامي البريطاني المحتل "اللورد كرومر".
هدى شعراوي وخلع الحجاب:
ثم توالت حلقات الانحدار، فكانت مظاهرت النساء المشهورة سنة 1919م، في ميدان الإسماعيلية الذي سمي فيما بعد بميدان التحرير، حيث كانت على رأسهن صفية زغلول زوجة سعد زغلول، وهدى شعراوي، وتجمع النسوة أمام ثكنات الجيش الإنجليزي، وهتفن ضد الاحتلال.
ثم بتدبير سابق، ودون مقدمات ظاهرة، خلعن الحجاب، وألقين به في الأرض، وسكبن عليه البترول، وأشعلن فيه النار، وتحررت المرأة على زعمهم، وكأن خلع الحجاب سيخرج الاستعمار، وينهي وجود الإنجليز بمصر.
كما كانت أول من خلعت النقاب، وأسفرت عن وجهها في سنة (1340هـ = 1921م)، أثناء استقبال المصريين الحاشد لسعد زغلول بعد عودته من المنفى.
ولم تتوقف هدى شعراوي عند ذلك الحد، بل راحت تمعن في محاولة امتهان الحجاب وازدرائه، وفي ذلك تقول الدكتورة صافيناز كاظم: (هدى شعراوي وسيكرتيرتها "سيزا نبراوي" ألقتا حجابهما وداستاه بأقدامهما فور وصولهما من مؤتمر النساء الدولي الذي عقد بروما صيف 1923م) [إبراز الحق والصواب في مسألة السفور والحجاب، د.صافيناز كاظم، ص(9)].
ودعت إلى رفع السن الأولى للزواج إلى 16 عامًا للفتاة و18 عامًا للفتى، وطالبت بوضع قيود أمام الرجل للحيلولة دون الطلاق، وحاربت تعدد الزوجات، ورأت فيه إهانة ومذلة للمرأة.
وفي إطار سعيها المتواصل إلى نشر تلك الخرافات والانحرافات، جعلت هدى شعراوي بيتها صالونًا يتقابل فيه الرجال والنساء، وتقابل فيه الرجال وهي سافرة.
واستمرت هذه السلسلة من الانحرافات التي توجتها في خطبتها، التي ألقَتْها بمناسبة الاحتفال بالعيد العشرين للاتحاد النسائي حين قالت: (ومنذ ذلك اليوم قطعنا على أنفسنا عهدًا أن نحذو حذو أخواتنا الغربيات في النهوض بجنسنا مهما كلفنا ذلك) [المرأة وكيد الأعداء، عبد الله الشيخ، ص(20)]، حتى وإن كلفها الانسلاخ من أوامر الشريعة ونواهيها.
مخططها لتدمير الأسرة المسلمة:
ومن تلك القاعدة المنحرفة، انطلقت صواريخ هدى شعراوي؛ لتصيب الأسرة المسلمة كأول هدف لها، وسعت في ذلك بكل قوتها، وجيشت في سبيل ذلك كل إمكانياتها، فكما يقول أنور الجندي: (لقد كانت سيدة سافرة لها صالون، ويتحلق حولها عدد من الرجال المجندين لكتابة الخطب والكلمات التى كانت تلقيها في الاحتفالات، وكانت تنفق على ذلك أموال محمد سلطان باشا ـ والدها ـ التى دَفعت ثمنها الثورةُ العرابية، وكان في مقدمة هؤلاء إبراهيم الهلباوي باشا محامي دنشواى والشيخ محمد الأسمر الشاعر.
وقد استطاعات أن تجند بعض الشباب، وأن ترسل بهم في بعثات تعليمية خاصة على حسابها إلى أوربا، ومنهم من عمل في الصحافة من بعد، وحمل لواء الدعوة إلى تقديس هدى شعراوي، ودعا إلى تلك الأفكار التى تحرض المرأة على التحرر من القيود الاجتماعية) [رجال اختلف فيهم الرأي، أنور الجندي، ص(27-28)].
المؤتمر النسوي العربي:
وفي عام 1944م، وفي المؤتمر النسوي العربي انبرت هدى شعراوي، لتكمل المسيرة المنحرفة، حيث شاركت في ذلك المؤتمر، وصادقت ـ هي وقريناتها ـ على القرارات المعتادة:
( المطالبة بالمساواة في الحقوق السياسية مع الرجل وعلى الأخص الانتخاب، تقييد حق الطلاق، الحد من سلطة الولي أيًّا كان وجعلها مماثلة لسلطة الوصي، تقييد تعدد الزوجات إلا بإذن من القضاء في حالة العقم أو المرض غير القابل للشفاء، الجمع بين الجنسين في مرحلتي الطفولة والتعليم الابتدائي، ثم في نهاية القرارات تقديم طلب بواسطة رئيسة المؤتمر إلى المجمع اللغوي في القاهرة والمجامع العلمية العربية بأن تحذف نون النسوة من اللغة العربية) [عودة الحجاب، د.محمد إسماعيل، ص(102)].
هدى شعراوي تتغزل في التجربة الأتاتوركية:
وحتى تكمل العقد غير الفريد لانحرافاتها، ها هي تتباهى وتتغزل في التجربة الأتاتوركية، وتبدي إعجابها الشديد بشخص ذلك الرجل مصطفى كمال أتاتورك الذي أنهى الخلافة الإسلامية، فتقول في مذكراتها، وهي تحكي عن اشتراكها في المؤتمر النسائي الدولي الثاني عشر باستانبول عام 1935م:
(وبعد انتهاء مؤتمر استانبول وصلتنا دعوة لحضور الاحتفال الذي أقامه مصطفى كمال أتاتورك محرر تركيا الحديثة ... وفي الصالون المجاور لمكتبه وقفت المندوبات المدعوات على شكل نصف دائرة، وبعد لحظات قليلة فتح الباب ودخل "أتاتورك" تحيطه هالة من الجلال والعظمة، وسادنا شعور بالهيبة والإجلال.
وعندما جاء دوري تحدثت إليه مباشرة من غير ترجمان وكان المنظر فريدًا أن تقف سيدة شرقية مسلمة وكيلة عن الهيئة النسائية الدولية، وتلقي كلمة باللغة التركية تعبر فيها عن إعجاب وشكر سيدات مصر بحركة التحرير التي قادها في تركيا) [عودة الحجاب، د.محمد إسماعيل، ص(102)].
فلو أنها تتحدث عن خليفة المسلمين أو أمير المؤمنين، ما تكلمت بهذه الطريقة، ولا انتقت أعاظم الكلمات كما فعلت مع ذلك الخائن، وليس هناك من سبب يجعلها تتغزل في أتاتورك سوى وحدة الهدف والمقصد، فكلاهما معول هدم حاول أن يأتي على الشريعة من أُسسها، وأنَّى لهم أو لأمثالهم ذلك.
ولقد انبرت أقلام شجاعة، لترد على تلك الإطراءات على أتاتورك، وتكشف زيف هؤلاء النسوة، ومن بين هؤلاء كان الأستاذ محمد أمين هلال في مقال له في مجلة "الإسلام" الغراء بتاريخ الجمعة 16 أغسطس 1935 م بقوله:
(... ولعل السبب في دفاعه عن الكماليين إنه رأى وليات نعمته من بعض النسوة الأرستقراطيات المدعيات كذبًا تمثيل نساء مصر، ولم يجتمعن في الغالب إلا للغناء والرقص وامتاع النظارة بضروب من المغريات، ولم يحاولن أن يلمسن جوانب الإصلاح الحق الذي يستدعي هجر الراحة والتضحية فليس لهن سبيل إلى المعرفة بها، وإن عرفنها فلا يصبرن عليها.
قد ذهب وفدهن إلى إسلام بول مدعيًّا بهتانًا وزورًا أن نساء مصر راضيات بما اختطه الكماليون للمرأة التركية وبكل ما فعله الكماليون، مع أن كل المسلمين ومعظم الشرقيين لا يرضون مذاهب الكماليين ومذهبهم حيال الدين والمرأة ويستعيذون بالله من الشيطان ويلعنون الطغيان) [عودة الحجاب، محمد إسماعيل، ص(105)].
وفاتها:
وفي يوم 13 من ديسمبر عام 1947م توفيت نور الهدى محمد سلطان، أو هدى شعراوي عن 68 عامًا، لتنتهي مسيرة من التغريب، ومحاولة العبث والتخريب في الشريعة الإسلامية الغراء.
أهم المراجع:
1. رجال اختلف فيهم الرأي، أنور الجندي.
2. الأستاذ الإمام محمد عبده، محمد رشيد رضا.
3. قمم مصرية .. هدى شعراوي، د.ليلى عامر.
4. إبراز الحق والصواب في مسألة السفور والحجاب، د.صافيناز كاظم.
5. المرأة وكيد الأعداء، عبد الله الشيخ.
6. عودة الحجاب، د.محمد إسماعيل.