كيف
صار دين التوحيد - الذي وحد العرب وحررهم من كل أشكال العبودية لغير الله،
وأخرجهم من الظلمات والجور إلى العدل والنور - دينا يقر الافتراق، ويبرر
الاستبداد، ويدعو إلى الاستسلام للاستعمار، ويغض الطرف عن كل أنواع
انتهاكات "حقوق الإنسان"؟!
وكيف صار العرب - الذين حملوا هذا الدين للعالمين ينشرون العدل والحرية والمساواة بين أمم الأرض حتى قال الله فيهم: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}،
وقال فيهم المؤرخ الفرنسي "جوستاف لوبون" في كتابه "حضارة العرب": (إن
العالم لم يعرف فاتحين أعدل ولا أرحم من العرب) - أسوء أهل الأرض مآلا،
وأضعفهم حالا، لتخلفهم وتشرذمهم وتظالمهم، يرسفون اليوم في أغلال العبودية
ويفتقدون أدنى معاني الحرية، تتصرف بأوطانهم وثرواتهم يد الاستبداد، ومن
ورائها أيدي الاستعمار، ويباعون في أسواق النخاسة الدولية كقطعان الغنم
السائمة والإبل الهائمة، فلا يبدون حراكا ولا يحاولون عراكا... ليقف
المصلحون من علمائها وأبنائها حائرين في معرفة علتها وأسباب عثرتها، فهي
من أكثر شعوب الأرض قابلية للخضوع للاستبداد الداخلي والاحتلال الأجنبي،
هذا حالها منذ احتلالها، وهو حالها بعد استقلالها؟!
إن وراء ذلك بلا شك أسبابا اجتماعية وسننا إلهية لا تتخلف نتائجها عن مقدماتها، كما قال تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}، وكما قال سبحانه: {فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا}، وهي تحتاج إلى تدبر ونظر.
وأول ما يجب البحث فيه وكشف خوافيه؛ ما طرأ على دينها من تحريف وتبديل، وقد أخبر النبي عن ذلك بقوله: (إذا تبايعتم بالعينة وتركتم الجهاد ورضيتم بالزرع سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى تعودوا إلى دينكم).
مما يؤكد أن دين المسلمين اليوم ليس هو الدين الحق الذي جاء به النبي
وكان سببا لظهورهم على الأمم، بل هو دين اختلط فيه الحق بالباطل، بل طمست
فيه معالم الخطاب القرآني بتأويلات الخطاب السلطاني، الذي قام علماء السوء
باختراعه، من أجل إضفاء الشرعية على كل انحراف تقوم به السلطة، حتى نجح
الاستعمار نفسه في توظيف هذا الخطاب السلطاني في خدمة مخططاته الاستعمارية
في أرض الإسلام باسم الإسلام.
فإذا الأمة
تتقرب إلى الله بالاستسلام لعدوها، وترى ذلك من طاعة الله ورسوله، وهو ما
لم يخطر على بال أعداء الأمة؛ أن يجدوا الطريق أمامهم مفتوحا باسم الدين
والإسلام والقرآن؟!
لقد تولى كبر هذه الجريمة الأحبار والرهبان وعلماء السلطان الذين قال فيهم الإمام عبدالله بن المبارك:
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها؟!
لقد ظهر البون شاسعا والفرق واضحا، بين الخطاب القرآني، والخطاب السلطاني، في مضامينهما وغاية كل منهما وثمرتهما...
فقد جاء الخطاب القرآني؛ ليحرر الخلق كافة من كل أشكال العبودية لغير الله تحت شعار "لا إله إلا الله" وليخرجهم من الظلمات إلى النور، كما في قوله تعالى: {كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد}.
وجاء الخطاب السلطاني؛
اليوم ليعيد المسلمين إلى حظيرة العبودية بكل أشكالها، لخدمة الآلهة
البشرية - الملوك والرؤساء - في الخضوع لهم وعدم الاعتراض عليهم، والتذلل
بين يديهم، لكون طاعتهم من طاعة الله ورسوله، مهما حاربوا الله ورسوله أو
صادروا أحكام القرآن و "حقوق الإنسان"؟! وبلغ تأله الأصنام البشرية أن
نازعوا الله في أخص خصائص الربوبية، كما في قوله تعالى: {لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون}، {وله الحكم وإليه ترجعون}، كما تنازعه الآلهة الحجرية - القبور والأضرحة - بأخص خصائص ألوهيته {وإياي فاعبدون}!
* * *
جاء الخطاب القرآني؛
بالتوحيد الخالص، فلا إله إلا الله، ولا ملك إلا الله، ولا مالك إلا الله،
ولا خالق إلا الله، ولا حاكم إلا الله، ولا رب إلا الله، كما قال تعالى: {وله كل شيء}، {له ملك السماوات والأرض}،{ألا له الخلق والأمر}، {إن الحكم إلا لله}، فهو سبحانه {رب الناس ملك الناس إله الناس}.
وجاء الخطاب السلطاني؛ ليجعل مع الله آلهة أخرى من الأصنام البشرية - الرؤساء
والعلماء - يخضع الجميع لحكمهم ويسلموا لقولهم، مهما بدا بطلانه واضحا
وتناقضه فاضحا، فتحالف الفريقان - السلطان والرهبان - ليعطلوا هدايات
القرآن من أجل أهواء السلطان، فإذا هم أرباب من دون الله، كما في قوله
تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}، يحلون الحرام ويحرمون الحلال ويشايعون أهواء الملوك، فإن شاءوا صار القتال جهادا، وإن شاءوا صار إرهابا، فطاعتهم من طاعة الله!
* * *
جاء الخطاب القرآني؛ بالعدل والقسط، {قل أمر ربي بالقسط}، وجعل الغاية من أحكامه وتشريعاته أن يقوم الناس بالقسط، {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط}،
فالجميع تحت حكم الله سواء، لا فضل فيه لعربي على أعجمي، ولا لأبيض على
أسود، إلا بالتقوى، وجعل سبب سقوط الأمم الظلم، كما في الحديث: (إنما أهلك من كان قبلكم؛ أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد).
فجاء الخطاب السلطاني؛
ليرسخ أسوء أنواع الطبقية والتظالم، فالأمراء طبقات، والعلماء طبقات،
والناس طبقات، ولكل طبقة حقوقها ومخصصاتها ومميزاتها وامتيازاتها، طبقات
وظلمات بعضها فوق بعض!
* * *
جاء الخطاب القرآني؛ ليقرر {إنما المؤمنون إخوة}،
وكلكم من آدم، وآدم من تراب، فعبر عن المساواة بأوضح معانيها وصورها
باستعمال لفظ الأخوة التي تدل على المساواة المطلقة بين المؤمنين.
وجاء الخطاب السلطاني؛
ليرسخ مبادئ الجاهلية، فإذا في كل مجتمع إسلامي مسلمون بلا هوية، ومواطنون
بلا جنسية، يمارس المجتمع ضدهم أبشع أنواع الظلم والاضطهاد، ثم لا يجد
أحبار السوء غضاضة من تبرير ذلك باسم "المصلحة الوطنية"!
* * *
جاء الخطاب القرآني؛ ليقرر حرية إبداء الرأي وحق نقد السلطة، كما قال تعالى في وصف المؤمنين: {يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم}، وكما في حديث البيعة الصحيح: (وأن نقول أو نقوم بالحق حيثما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم)، وحديث: (دعوه فإن لصاحب الحق مقالا)، وحديث: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).
وجاء الخطاب السلطاني؛ ليقرر مبدأ تحريم نقد السلطة، تحت شعار "أول الخروج الكلمة"!
* * *
جاء الخطاب القرآني؛ بمبدأ {وأمرهم شورى بينهم}، وأكد مبدأ "الإمارة شورى بين المسلمين"، وحرم اغتصاب السلطة كما قال عمر: (من بايع رجلا دون شورى المسلمين، فلا يحل لكم إلا أن تقتلوه)، فلا توارث فيها ولا استبداد ولا إكراه، بل شورى وحرية ورضا واختيار.
وجاء الخطاب السلطاني؛
ليقرر مبدأ استلاب حق الأمة في اختيار السلطة، وليرسخ سنن كسرى وقيصر،
وليضفي الشرعية على مبدأ توارثها، "فمن غلبنا بالسيف فنحن معه"!
* * *
جاء الخطاب القرآني؛ بمبدأ {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}، وأوجب نصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم، كما في الحديث: (ولتأطرنه على الحق أطرا)، و (من قاتل دون ماله فهو شهيد، ومن قاتل دون دينه فهو شهيد، ومن قاتل دون عرضه فهو شهيد)، و (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر).
وجاء الخطاب السلطاني؛ ليقرر مبدأ "اسمع وأطع، وإن أخذ مالك وضرب ظهرك"، وإن كان السلطان ظالما جائرا في الأخذ والضرب!
* * *
جاء الخطاب القرآني؛ بالقتال في سبيل الله، {وقاتلوا حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}، وأوجب قتال من اعتدى على المسلمين فقال: {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم}، وأوجب الجهاد دفاعا عن المستضعفين، {وما لكم لا تجاهدون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان}.
وجاء الخطاب السلطاني؛
ليصادر على الأمة حتى حقها في الدفاع عن نفسها، فلا قتال إلا بإذن الإمام،
وبما أنه لا يوجد إمام فلا قتال، وإن احتل العدو الكافر الأرض وانتهك
العرض، فإذا الخطاب السلطاني صورة للخطاب القادياني؟!
* * *
جاء الخطاب القرآني؛ بوجوب جهاد الكفار والمنافقين، {جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم}، {لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى}، وجعل شعاره {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا}.
وجاء الخطاب السلطاني؛ ليوجب على المسلمين الخضوع للمنافقين والملحدين، وجعل طاعتهم من طاعة الله رب العالمين!
* * *
جاء الخطاب القرآني؛ بالوحدة، وأوجب على المسلمين الاجتماع، وحرم عليهم الافتراق، {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}، وحرم السمع والطاعة لخليفتين، (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الثاني).
وجاء الخطاب السلطاني؛ بترسيخ الفرقة، وتجويز تقسيم دار الإسلام إلى خمسين دويلة، كما أراده أعداء الأمة، ولكل حاكم فيها بيعة وطاعة!
* * *
وجاء الخطاب القرآني؛ ليحفظ على الأمة ثروتها، فحرم الاستئثار بأموالها، ومنع من العبث بها، {ولا تأتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما}، {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن}، {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا}، وأمر بتقسيمها تقسيما عادلا وفق مبدأ {كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم}.
وجاء الخطاب السلطاني؛
بتفويض السفهاء في ثروات الأمة، فإذا ميزانيات دولها وأموال شعوبها التي
تموت جوعا وتعيش فقرا تحت تصرف سفهائها وبيد أعدائها، فلا يجد علماء السوء
من أحكام الله ورسوله في شأن الأموال إلا جواز الأخذ من هدايا السلطان
وأعطياته، (فما جاءك من هذا المال بلا استشراف فخذه)، فإذا هم شركاء للسفهاء في استباحة أموال الأمة، ليصدق فيهم قوله تعالى: {إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل}، وقول رسوله : (أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون)، وقوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)!
* * *
لقد كانت ثمرة
الخطاب القرآني؛ ظهور هذه الأمة - التي كانت من أضعف الأمم حالا - على أهل
الأرض قاطبة لتنشر العدل والحرية والرحمة، وتقيم حضارة علمية وإنسانية،
استظلت البشرية تحت ظلها ألف عام.
وكانت ثمرة
الخطاب السلطاني - الذي يحمل في طياته بذور فناء الحضارة -؛ ما نراه اليوم
من تخلف تلك الأمة وانحطاطها على نحو خطير - كما تؤكده التقارير والدراسات
الدولية - مما يوجب على المصلحين المخلصين من أبنائها وعلمائها إحياء
الخطاب القرآني وإعادته من جديد، والتصدي للخطاب السلطاني الذي وظف
الإسلام في خدمته عقودا طويلة، حتى ضعف حالها، وازداد اضمحلالها.
وصدق الله؛ {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم