ترمي الشريعة الإلهية إلى حفظ كليات خمس، أولها هذا الدين القيم، ولذلك جعلت كل عدوان على الدين جريمة محظورة، يعاقب فاعلها بحد أو تعزير، على قدر جريمته الظاهرة، فإن أخفاها فالله - تعالى - يتولى السرائر، وحساب صاحبها على الله - تعالى - الذي يعلم السر وأخفى.
وأول ذلك جريمة الردة عن الدين بعد الدخول فيه، ولا خلاف على تحريمها وتجريمها، لقوله - تعالى-: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 217]، فالآية الكريمة حكمت على المرتد بالكفر، وبحبوط الأعمال في الدنيا والآخرة، وبالخلود في النار، وهذا كله دليل على فظاعة الجريمة وشناعتها، وليس على تحريمها فقط.
حد الردة في الإسلام وأدلته:
والردة قد تكون كلية؛ كالانتقال من دين الإسلام إلى دين آخر، أو البراءة منه كلية بلا انتقال إلى غيره كالزنادقة والملحدين؛ وقد تكون جزئية كإنكار بعض ما عُلِم من الدين بالضرورة، أو الاستكبار عن حكم جاء به الدين، أو استحلال الحرام، أو الاستهزاء بشيء من الشرائع الثابتة، ونحو ذلك.
والردة بنوعيها في الحكم سواء، وهو الكفر المخرج عن ملة الإسلام، وعقوبة هذه الجريمة المقدرة شرعًا هي القتل حدًا بشروطه الشرعية: كالاستتابة، وإزالة العذر الحامل على الردة من رفع ظلم لحق بالمرتد، أو كشف شبهة عرضت له في دينه...إلخ.
ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) [رواه البخاري، (3017)]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) [رواه البخاري، (6878)، ومسلم، (4468)]، وفي الحديث المتواتر تواترًا معنويًّا والذي رواه الجماعة عن أبي هريرة: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله) [رواه البخاري، (25)، ومسلم، (135)].
ووجه الاستدلال أن عصمة الأموال والدماء علقت على أداء حق الإسلام، وأعظم حقوقه بل أوَّلها هو ألا يكفر به، ولذلك رجع الصحابة ـ وعمر على رأسهم ـ إلى قول أبي بكر في قتال المرتدين من العرب والذين منعوا الزكاة، مستدلًا بأن الزكاة من حقه، وقال: (لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) [رواه البخاري، (1400)]، ومعنى هذا ثبوت حد الردة بالإجماع عليه، ثم بقتل الصحابة فعلًا للمرتدين من مانعي الزكاة، أو متبعي مسيلمة الكذاب وأمثاله من أدعياء النبوة، وقد نقل إلينا هذا بالتواتر، وليس بمجرد خبر الآحاد كما ظن بعض الكاتبين، وبذلك تسقط دعاوى منكري حد الردة بحجة أنه لم يثبت بنص القرآن تارة، أو أن الحدود لا تثبت بخبر الآحاد أخرى.
ومنشأ الخلط في هذه المسألة الاشتباه بأن في هذا إكراهًا يخالف قول الله - تعالى -: ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة: 256]، وقد وقع في هذا حتى بعض الذين حاولوا الدفاع عن الإسلام، وردَّ تشنيع أعدائه عليه فيما زعموه تناقضًا في أحكامه، فلجأ هؤلاء المدافعون إلى التأويل والاعتساف فيه حتى أبطلوا هم أيضًا هذا الحد الثابت، وأثاروا حوله الشبهات العقيمة، والحق أنه لا تناقض، وأن هذا الدين كله حق يصدق بعضه بعضًا.
لا إكراه في الدين، ولا تلاعب به أيضًا:
فالإسلام لا يكره أحدًا على الدخول في الدين ابتداء، وقد عاش في ظل الدولة الإسلامية اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، ولم يكرهوا على تغيير أديانهم، مع بطلانها عندنا بداهة، ولكن الحكم الشرعي في الردة يتعلق بمن دخل في ديننا ثم تركه على ما هو نص الأحاديث المذكورة الصريح، ومن ثم فهو لا يعاقب على الكفر بذاته وإلا لعوقب اليهود والمجوس، وإنما يعاقب على التلاعب بالدين، وتهوين عقدته وعهده في أوساط المسلمين.
ويؤيد ذلك أن الشارع الحكيم وضع أسماء مميزة لكل نوع من المخالفين، فسمى غير المسلم "كافرًا أو مشركًا"، وسمي الراجع عن الإسلام "مرتدًّا"، وهو تفريق دقيق يشير إلى سبب قتله دون الأول، أي أنه لا يقتل على ذات الكفر، وإنما يقتل لاقتران الكفر بالردة.
فيتقرر من هذا أن قتل المرتد ليس من باب الإكراه في الدين، وإنما هو من باب المحافظة على ما يسمى حديثًا: "النظام العام للدولة"، أو "النظام الاجتماعي للأمة"، ونحو ذلك.
حد الردة حق من حقوق الدولة الإسلامية:
وإذا كان كل قانون يتولى تحديد الجرائم، وتكييفها، وتنويعها حسب وجهته وطبيعته، فإن هذه الشريعة تجعل من المحافظة على الدين أسمى المصالح التي تتولى الدولة حمايتها، وتضعها على رأس النظام العام في أمتها، ولذلك كانت عقوبة الردة في أصلها حقًا من حقوق الدولة يتولاه الإمام، ولا يستوفيه الأفراد.
ولا توجد أمة ذات قانون إلا وهي تعاقب على ما يقابل هذا مما يسمونه بجرائم الخيانة العظمى ونحوها، كالإخلال الخطير بمصلحة الأمة، وإفشاء الأسرار لأعدائها، ونحوه مما يعاقب عليه بعقوبات تصل في كثير من الأحيان إلى الإعدام حتى في أرقى المجتمعات المعاصرة، وأكثرها كفالة للحريات، ولم يقل أحد إن في ذلك حجرًا على حرية الأفراد، أو تناقضًا مع أحكام الدساتير والقوانين؛ لأنها باعتراف الدساتير نفسها جرائم عدوان على النظام الأساسي للدولة والأمة.
والفارق: أن الإسلام جرَّم الفعل الذي يخل بأعظم ما يتعلق بالإنسان المخلوق المكلف، والذي يحبط سعادته في الدنيا والآخرة، وهو العدوان على الدين بعد الدخول فيه اختيارًا.
وقوانين البشر جرَّمت المساس بمصالح عاجلة لا تقاس مهما عظمت بدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده، وصدق الله: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا) [الإسراء: 84].
بيان لابد منه:
وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حد الردة يوم فتح مكة، حين أمر الجيش الإسلامي بتنفيذه في المرتدين الذين سماهم لهم، وكان عدد الجيش نحو عشرة آلاف، وهو عدد يجاوز حد التواتر في الطبقة الأولى، فكيف بمن بعدهم؟! وبذلك ثبت حد الردة ثبوتًا شائعًا ذائعًا بالبلاغ العام الشامل لهذا العدد الوفير ـ حيث أن الشرائع كانت تبلغ للناس بلاغًا عامًا بالقول والفعل المتكرر ـ وبالتنفيذ الفعلي بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم وبأمره.
فلماذا يقع الخلاف والإنكار لهذا الحد أكثر من غيره؟
في تقديري أن سبب ذلك عدم تكرر هذا الحد مثل غيره من الحدود لسببين:
الأول ـ قلة من ارتد من المسلمين في العهد النبوي، بل ندرة ذلك ندرة بالغة.
الثاني ـ عدم تمكن الحكومة الإسلامية من إقامة الحد في حينه؛ لفرار المرتدين دائمًا إلى أماكن لا تملك سلطانًا عليها خاصة مكة قبل الفتح، حيث كانت قريش تنصب العداوة للإسلام وأهله، وتؤوي في أرضها كل خارج عليه أو محارب له، لذلك ما كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح مكة، ويصبح له السلطان عليها حتى أمر بتنفيذ الحد فيمن ارتدوا وهربوا إلى مكة ولو تعلقوا بأستار الكعبة.
وقد نفذ الصحابة أمر النبي صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن خطل، ومقبس بن صبابة، وهرب عبد الله بن سعد بن أبي السرح، حتى جاء عثمان رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنه مرارًا، ليقوم أحد المسلمين بتنفيذ حد الردة في ابن أبي السرح، فلما تبأطأ المسلمون عن قتله لوجوده بين مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، قَبِل شفاعة عثمان فيه، وأعلن ابن أبي السرح إسلامه من جديد.
ومن أجل هذه الندرة في وجود موجب حد الردة؛ وبالتالي في تطبيقه وقع الخلاف بين الصحابة أنفسهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ليس لجهلهم به، وإنما لأنهم فوجئوا بردة جمهور العرب، ووجدوا أنهم أمام قضية خطيرة تستوجب تطبيق الحد على قبائل وجماعات بأسرها، ثم إنهم في جملتهم لم يرتدوا عن كلمة التوحيد، وإنما وقعت الردة في مسائل تخالف الدين، ولذلك كان لابد من الخلاف والمراجعة والمشاورة والمناقشة عقب المفاجأة، ثم اتفقت كلمتهم على قتال المرتدين.
وأول ذلك جريمة الردة عن الدين بعد الدخول فيه، ولا خلاف على تحريمها وتجريمها، لقوله - تعالى-: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 217]، فالآية الكريمة حكمت على المرتد بالكفر، وبحبوط الأعمال في الدنيا والآخرة، وبالخلود في النار، وهذا كله دليل على فظاعة الجريمة وشناعتها، وليس على تحريمها فقط.
حد الردة في الإسلام وأدلته:
والردة قد تكون كلية؛ كالانتقال من دين الإسلام إلى دين آخر، أو البراءة منه كلية بلا انتقال إلى غيره كالزنادقة والملحدين؛ وقد تكون جزئية كإنكار بعض ما عُلِم من الدين بالضرورة، أو الاستكبار عن حكم جاء به الدين، أو استحلال الحرام، أو الاستهزاء بشيء من الشرائع الثابتة، ونحو ذلك.
والردة بنوعيها في الحكم سواء، وهو الكفر المخرج عن ملة الإسلام، وعقوبة هذه الجريمة المقدرة شرعًا هي القتل حدًا بشروطه الشرعية: كالاستتابة، وإزالة العذر الحامل على الردة من رفع ظلم لحق بالمرتد، أو كشف شبهة عرضت له في دينه...إلخ.
ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه) [رواه البخاري، (3017)]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) [رواه البخاري، (6878)، ومسلم، (4468)]، وفي الحديث المتواتر تواترًا معنويًّا والذي رواه الجماعة عن أبي هريرة: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله) [رواه البخاري، (25)، ومسلم، (135)].
ووجه الاستدلال أن عصمة الأموال والدماء علقت على أداء حق الإسلام، وأعظم حقوقه بل أوَّلها هو ألا يكفر به، ولذلك رجع الصحابة ـ وعمر على رأسهم ـ إلى قول أبي بكر في قتال المرتدين من العرب والذين منعوا الزكاة، مستدلًا بأن الزكاة من حقه، وقال: (لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) [رواه البخاري، (1400)]، ومعنى هذا ثبوت حد الردة بالإجماع عليه، ثم بقتل الصحابة فعلًا للمرتدين من مانعي الزكاة، أو متبعي مسيلمة الكذاب وأمثاله من أدعياء النبوة، وقد نقل إلينا هذا بالتواتر، وليس بمجرد خبر الآحاد كما ظن بعض الكاتبين، وبذلك تسقط دعاوى منكري حد الردة بحجة أنه لم يثبت بنص القرآن تارة، أو أن الحدود لا تثبت بخبر الآحاد أخرى.
ومنشأ الخلط في هذه المسألة الاشتباه بأن في هذا إكراهًا يخالف قول الله - تعالى -: ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة: 256]، وقد وقع في هذا حتى بعض الذين حاولوا الدفاع عن الإسلام، وردَّ تشنيع أعدائه عليه فيما زعموه تناقضًا في أحكامه، فلجأ هؤلاء المدافعون إلى التأويل والاعتساف فيه حتى أبطلوا هم أيضًا هذا الحد الثابت، وأثاروا حوله الشبهات العقيمة، والحق أنه لا تناقض، وأن هذا الدين كله حق يصدق بعضه بعضًا.
لا إكراه في الدين، ولا تلاعب به أيضًا:
فالإسلام لا يكره أحدًا على الدخول في الدين ابتداء، وقد عاش في ظل الدولة الإسلامية اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، ولم يكرهوا على تغيير أديانهم، مع بطلانها عندنا بداهة، ولكن الحكم الشرعي في الردة يتعلق بمن دخل في ديننا ثم تركه على ما هو نص الأحاديث المذكورة الصريح، ومن ثم فهو لا يعاقب على الكفر بذاته وإلا لعوقب اليهود والمجوس، وإنما يعاقب على التلاعب بالدين، وتهوين عقدته وعهده في أوساط المسلمين.
ويؤيد ذلك أن الشارع الحكيم وضع أسماء مميزة لكل نوع من المخالفين، فسمى غير المسلم "كافرًا أو مشركًا"، وسمي الراجع عن الإسلام "مرتدًّا"، وهو تفريق دقيق يشير إلى سبب قتله دون الأول، أي أنه لا يقتل على ذات الكفر، وإنما يقتل لاقتران الكفر بالردة.
فيتقرر من هذا أن قتل المرتد ليس من باب الإكراه في الدين، وإنما هو من باب المحافظة على ما يسمى حديثًا: "النظام العام للدولة"، أو "النظام الاجتماعي للأمة"، ونحو ذلك.
حد الردة حق من حقوق الدولة الإسلامية:
وإذا كان كل قانون يتولى تحديد الجرائم، وتكييفها، وتنويعها حسب وجهته وطبيعته، فإن هذه الشريعة تجعل من المحافظة على الدين أسمى المصالح التي تتولى الدولة حمايتها، وتضعها على رأس النظام العام في أمتها، ولذلك كانت عقوبة الردة في أصلها حقًا من حقوق الدولة يتولاه الإمام، ولا يستوفيه الأفراد.
ولا توجد أمة ذات قانون إلا وهي تعاقب على ما يقابل هذا مما يسمونه بجرائم الخيانة العظمى ونحوها، كالإخلال الخطير بمصلحة الأمة، وإفشاء الأسرار لأعدائها، ونحوه مما يعاقب عليه بعقوبات تصل في كثير من الأحيان إلى الإعدام حتى في أرقى المجتمعات المعاصرة، وأكثرها كفالة للحريات، ولم يقل أحد إن في ذلك حجرًا على حرية الأفراد، أو تناقضًا مع أحكام الدساتير والقوانين؛ لأنها باعتراف الدساتير نفسها جرائم عدوان على النظام الأساسي للدولة والأمة.
والفارق: أن الإسلام جرَّم الفعل الذي يخل بأعظم ما يتعلق بالإنسان المخلوق المكلف، والذي يحبط سعادته في الدنيا والآخرة، وهو العدوان على الدين بعد الدخول فيه اختيارًا.
وقوانين البشر جرَّمت المساس بمصالح عاجلة لا تقاس مهما عظمت بدين الحق الذي ارتضاه الله لعباده، وصدق الله: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا) [الإسراء: 84].
بيان لابد منه:
وقد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حد الردة يوم فتح مكة، حين أمر الجيش الإسلامي بتنفيذه في المرتدين الذين سماهم لهم، وكان عدد الجيش نحو عشرة آلاف، وهو عدد يجاوز حد التواتر في الطبقة الأولى، فكيف بمن بعدهم؟! وبذلك ثبت حد الردة ثبوتًا شائعًا ذائعًا بالبلاغ العام الشامل لهذا العدد الوفير ـ حيث أن الشرائع كانت تبلغ للناس بلاغًا عامًا بالقول والفعل المتكرر ـ وبالتنفيذ الفعلي بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم وبأمره.
فلماذا يقع الخلاف والإنكار لهذا الحد أكثر من غيره؟
في تقديري أن سبب ذلك عدم تكرر هذا الحد مثل غيره من الحدود لسببين:
الأول ـ قلة من ارتد من المسلمين في العهد النبوي، بل ندرة ذلك ندرة بالغة.
الثاني ـ عدم تمكن الحكومة الإسلامية من إقامة الحد في حينه؛ لفرار المرتدين دائمًا إلى أماكن لا تملك سلطانًا عليها خاصة مكة قبل الفتح، حيث كانت قريش تنصب العداوة للإسلام وأهله، وتؤوي في أرضها كل خارج عليه أو محارب له، لذلك ما كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح مكة، ويصبح له السلطان عليها حتى أمر بتنفيذ الحد فيمن ارتدوا وهربوا إلى مكة ولو تعلقوا بأستار الكعبة.
وقد نفذ الصحابة أمر النبي صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن خطل، ومقبس بن صبابة، وهرب عبد الله بن سعد بن أبي السرح، حتى جاء عثمان رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعرض عنه مرارًا، ليقوم أحد المسلمين بتنفيذ حد الردة في ابن أبي السرح، فلما تبأطأ المسلمون عن قتله لوجوده بين مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، قَبِل شفاعة عثمان فيه، وأعلن ابن أبي السرح إسلامه من جديد.
ومن أجل هذه الندرة في وجود موجب حد الردة؛ وبالتالي في تطبيقه وقع الخلاف بين الصحابة أنفسهم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، ليس لجهلهم به، وإنما لأنهم فوجئوا بردة جمهور العرب، ووجدوا أنهم أمام قضية خطيرة تستوجب تطبيق الحد على قبائل وجماعات بأسرها، ثم إنهم في جملتهم لم يرتدوا عن كلمة التوحيد، وإنما وقعت الردة في مسائل تخالف الدين، ولذلك كان لابد من الخلاف والمراجعة والمشاورة والمناقشة عقب المفاجأة، ثم اتفقت كلمتهم على قتال المرتدين.