اتهام الشريعة بالقسوة في تطبيق الحدود .. جهل وضلال
من التهم التي يوجهها خصوم الإسلام إلى الشريعة أن الحدود فيها تمتاز بالقسوة والهمجية في قطعها ليد السارق أو جلدها للزاني، أو قتلها لقاتل النفس بلا حق.
والسائد الآن في الدول الغربية ووسائل إعلامها، وعلى ألسنة كتابها ومثقفيها ورجال دينها، وللأسف على ألسنة العلمانيين المقيمين في بلاد المسلمين، والذين يقولون إنهم مسلمون، أن الشريعة وأحكامها انتهاك لحقوق الإنسان وآدميته.
والعجيب أن هؤلاء الكذابين يكذبون ولا يستحون وكأنهم يخاطبون مجموعة من الحمقى والمغفلين، فهؤلاء القوم هم الذين يرتكبون كل ألوان الجرائم ضد الشعوب الأخرى، فيحتلونها وينهبون ثرواتها ويقتلون الملايين من أبنائها، ثم بعد ذلك يتباكون على حقوق الإنسان.
فالولايات المتحدة قامت على أنقاض شعب الهنود الحمر، الذي ارتكبوا في حقه أسوأ أنواع جرائم القتل والتصفية والإبادة، ثم التفتوا إلى إفريقيا فاستولوا على الملايين من الناس وساقوهم عبيدًا وخدمًا، وها هم يحتلون العراق ظلمًا وعدوانًا وينهبون ثروته ويقتلون مليونًا من أبنائه، أليس هذا هو أبشع أنواع انتهاك حقوق الإنسان وآدميته؟! أليس هذا أقسى أنواع التعذيب بدون ارتكاب جريمة من الأساس؟!
وما فعلته الولايات المتحدة فعلته وتفعله كل الدول الغربية بلا استثناء، ثم يتشدقون عن حقوق الإنسان وعن قسوة الشريعة! إن هؤلاء أقاموا مجتمعاتهم على الهوى والحرية المفتوحة الفاشلة الأنانية الفاجرة، التي تجعل المرأة جسدًا لمتعة الرجال كل الرجال، بينما صانتها الشريعة وحافظت على آدميتها.
وهؤلاء أقاموا مجتمعاتهم على اقتصاد السوق الحر والاحتكارات؛ فظهرت طبقة المليونيرات التي تستعبد العمال الفقراء، أليس هذا امتهان للإنسان وعدم احترام لآدميته ولحقوقه؟ أليست هذه أشد أنواع القسوة والهمجية ضد الإنسان الذي حمته الشريعة وجعلت له حقًا معلوم في أموال الأغنياء، وفرضت الزكاة لتُأخذ من الأغنياء وتُعطى للفقراء احترامًا منها لهم، ورفقًا بهم وحنوًّا عليهم!
إن الشريعة حينما فرضت الحدود وضعت الضوابط الكثيرة في تطبيق هذه الحدود؛ ولذلك رأينا عبر التاريخ الإسلامي كيف كان استخدام هذه الحدود على أضيق نطاق، لأنها تحقق الردع المطلوب وتخوِّف الفاسدين والمنفلتين، عكس القانون الذي يشجع الناس على اختراقه والتحايل عليه.
إن الذين أعمى الله بصرهم وبصائرهم هم الذين لا يرون إلا منظر تقطيع اليد، أو الجلد أو الرجم، لمن أتى حدًّا من حدود الله، ويتناسون تمامًا الأضرار التي نجمت عن ارتكابهم الحدود، من أموال الناس التي انتُهبت، والتي ربما تسببت في فقر أصحابها، أو هتك الأعراض واختلاط الأنساب وفساد المجتمع.
أليس من الأنفع للمجتمع أن تُقطع يد كل عام؛ ويشيع الأمن بين الناس، ويطمئن الناس على أموالهم وأعراضهم، بدلًا من إشاعة الخوف في نفوسهم وقلوبهم من أولئك الذين يرتكبون جرمًا في حق أنفسهم قبل أن يرتكبوا جرمًا أعظم في حق الناس.
الحدود الشرعية في الإسلام ساعدت على توفير أمن حقيقي للمجتمع والعائلة، بينما أدت قوانين العقوبات الغربية إلى ازدياد وتائر السرقات وحالات الاغتصاب والاعتداء على الأبرياء والآمنين، وهؤلاء الذين يعيبون على الشريعة والحدود أولى بهم أن يفكروا في ما يتعرض له الناس من قسوة ووحشية المجرمين الذين يتلاعبون بحياة الناس وأرواحهم، وأمنهم وأعراضهم وأموالهم.
ولهؤلاء الذين أعمى الله بصائرهم أن يعلموا أن هذه الحدود ثابتة في الشريعة الإسلامية لحكم عظيمة، قد تظهر لقوم وتخفى على آخرين, فلا يضرنا نحن المسلمين أن عرفنا الحكمة أو جهلناها, فلله الحكمة البالغة في كل تشريع.
إن كل عقاب لابد فيه من شدة وقسوة, حتى لو ضرب الرجل ولده مؤدبًا له لكان في ذلك نوع من القسوة, والزعم بوجود عقاب من دون شيء من القسوة مكابرة وتحامل واضح على الشريعة، وإذا لم تشتمل العقوبات على شيء من القسوة والشدة فكيف ستكون رادعة وزاجرة للمجرمين وضعاف النفوس؟!
إننا لو تركنا إقامة الحدود الشرعية لما تزعمونه من القسوة؛ لأوقعنا أنفسنا والمجتمع في قسوة أشد منها, فمن الرحمة بالمجتمع وبالمحدود أن نقيم الحد عليه, فالطبيب الذي يجري عملية جراحية فيستأصل بمشرطه بضعة من جسم المريض ليعالجه؛ فإنه في فعله هذا مظهر من مظاهر القسوة، ولكنها قسوة في الجزء المستأصل, رحمة وشفقة في باقي أجزاء الإنسان؛ وهكذا فإن الحدود تهدف إلى سلامة جسم المجتمع من الفساد والمرض، ولذلك كان من الحزم والعقل القسوة على الجزء الفاسد منه, ليسلم باقي أعضاء المجتمع.
وهؤلاء الناقمون على الشريعة والحدود نسوا وتناسوا أن الإسلام قبل أن يحكم بالحد قدم من وسائل الوقاية ما كان يكفي لإبعاد المحدود عن الجريمة التي اقترفها لو كان له قلب حي وضمير, لكنه لما أغلق قلبه وألغى عقله ونزع من ضميره الرحمة؛ استحق أن يُعاقب من جنس صنيعه.
والإسلام حين وضع الحدود لم يكن يهدف من ورائها إشباع شهوة تعذيب الناس، بل يطبق الحدود في حدود ضيقة، فيدرأ الحد بأدنى شبهة، ولا يُقام إلا إذا وصل إلى الحاكم المسلم، فإن لم يصل؛ فللذي ارتكب الحد أن يتوب إلى الله تعالى.
والناظر إلى تطبيق الحدود يعلم أن هذا التطبيق يمنع ارتكابه وتكرره مرة أخرى، وإن إقامة الحدود في عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وعهد الخلفاء الراشدين لم يتعد حدود أصابع اليدين، ثم إن اللِّين لا يجدي في كل موقف من المواقف، بل القسوة والشدة لهما أثرهما في الإصلاح أحيانًا كثيرة.
والعقلاء الذين أكرمهم الله بنور البصيرة يعلمون أنه إذا لم تُطبق الحدود الشرعية تحولت إلى عقوبات كونية، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: 124]، فالله تعالى أمرنا نحن المسلمين أن نقيم الحدود على أصحاب المعاصي، فإذا تخلينا عن إقامة الحدود؛ فإن هذه العقوبة الشرعية التي كان من المفروض أن نقوم بها نحن، تتحول بإذن الله تعالى إلى عقوبة كونية عامة.
وإذا كان الحد الشرعي إنما يتناول العاصي فقط، فإن العقوبة الكونية العامة قد تشمل المباشر للجريمة وغير المباشر؛ ولهذا جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كُلِّم في المخزومية التي كانت تسرق، فقالوا: (من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أسامة بن زيد، حبَّه وابن حِبِّه)، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتشفع في حد من حدود الله؟!)، ثم قال: (إنما أهلك الذين قبلكم؛ أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت؛ لقطعت يدها) [متفق عليه، رواه البخاري، (3475)، ومسلم، (4505)].