الحمد للَّه
أولا :
يعد العلماء في طرق ثبوت الزنا أربعة طرق :
1- الشهادة . 2- والإقرار . 3- وحمل من لا زوج لها ولا سيد . 4- وإذا تم لعان الزوج ولم تدافعه الزوجة .
ويشترط في الشهود على الزنا أن يكونوا أربعة ممن تجوز شهادتهم ، يصفون الزنا بصريح لفظه – وهو أنهم رأوا ذكر الرجل في فرج المرأة - ، فإن اكتفى بعضهم بالشهادة برؤيتهما متجردين من اللباس ، أو وصفوا هيئة وحركة معينة ، فلا يكفي ذلك لثبوت الزنا .
يقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع" (6/157) :
" يصفون الزنا بلفظ صريح بأن يقولوا : رأينا ذكره في فرجها . لا بد من هذا ، فلو قالوا رأيناه عليها متجردين ، فإن ذلك لا يقبل ، حتى لو قالوا نشهد بأنه كان منها كما يكون الرجل من امرأته ، فإنها لا تكفي الشهادة ، لا بد أن يقولوا نشهد أن ذكره في فرجها ، وهذا صعب جدا ، مثلما قال الرجل الذي شهد عليه في عهد عمر ، لو كنت بين الأفخاذ لن تشهد هذه الشهادة . ولهذا ذكر شيخ الإسلام في عهده أنه لم يثبت الزنا عن طريق الشهادة من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد شيخ الإسلام ابن تيمية ، وإذا لم يثبت من هذا الوقت إلى ذلك الوقت ، فكذلك لا نعلم أنه ثبت بطريق الشهادة إلى يومنا هذا ؛ لأنه صعب جدا " انتهى .
وليس هذا التشديد في أمر الشهادة على الزنا إلا لتحقيق مقصد أراده الشارع ، وهو الستر على العباد ، وعدم إشاعة الفاحشة ، وتجنيب المجتمعات الاتهام في الأعراض والطعن في الأنساب .
يقول القرطبي رحمه الله في "الجامع لأحكام القرآن" (5/83) :
" جعل الله الشهادة على الزنا خاصةً أربعةً : تغليظاً على المدَّعِي ، وسترا على العباد " انتهى
ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في "تفسيره" (1/563) :
" ( لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ ) أي : هلا جاء الرامون على ما رموا به ، ( بأربعة شهداء ) أي : عدول مرضيين . ( فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) وإن كانوا في أنفسهم قد تيقنوا ذلك ، فإنهم كاذبون في حكم الله ، لأن الله حرم عليهم التكلم بذلك من دون أربعة شهود ، ولهذا قال : ( فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ) ولم يقل ( فأولئك هم الكاذبون ) وهذا كله من تعظيم حرمة عرض المسلم ، بحيث لا يجوز الإقدام على رميه من دون نصاب الشهادة بالصدق " انتهى .
وانظر جواب السؤال رقم (839) ، (6926)
ثانيا :
أما تحصين شبابنا ومجتمعاتنا من هذه الفاحشة المهلكة ، فلا بد له من عمل عام تقوم عليه الدول والمجتمعات ، وتتضافر له جهود الجهات المختلفة ، فهي مسؤولية جماعية وليست فردية ، ولا يمكن تحقيق سلامة المجتمعات إلا بتكامل الأخذ بالأسباب التي تحفظ من الزنا والولوغ فيه ، ومن تلك الأسباب :
1- نشر التوعية العامة بعظم إثم الزنا ، وأنه من الكبائر التي اتفق العقل والشرع على قبحه وشناعته وتحريمه ، وبيان أنه سبب لهلاك الأمم وحلول المصائب والكوارث في الدنيا ، وأن جزاءه النار يوم القيامة .
قال الإمام أحمد : ليس بعد قتل النفس أعظم من الزنا . "غذاء الألباب" (2/435)
يقول الله تعالى : ( وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ) الإسراء/32
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في "تفسيره" (1/457) :
" ووصف الله الزنى وقبحه بأنه ( كَانَ فَاحِشَةً ) أي : إثما يستفحش في الشرع والعقل والفِطَر ؛ لتضمنه التجري على الحرمة في حق الله وحق المرأة وحق أهلها أو زوجها وإفساد الفراش واختلاط الأنساب وغير ذلك من المفاسد . وقوله: ( وَسَاءَ سَبِيلا ) أي : بئس السبيل سبيل من تجرأ على هذا الذنب العظيم " انتهى .
2- توعية الشباب بالآثار السيئة المترتبة على انتشار هذه الفاحشة ، والتي يتهدد استقرار الأسر والمجتمعات ، كانتشار الأمراض القاتلة ، وظهور أولاد الحرام ، وانهيار التكوين الأسري ، وتشرد الأبناء ، وتلقيهم السلوكات السيئة ، وارتفاع معدلات الطلاق ، وانتشار الجريمة ، وغير ذلك ، وهي آثار تعيشها المجتمعات التي تنتشر فيها الإباحية في أسوأ صورها ، مما ينذر بانحلال مجتمعاتهم ، وسقوط حضارتهم .
3- العمل على تيسير الطريق الشرعي للعلاقات الجنسية ، بالزواج الحلال الطيب ، وذلك بالترغيب فيه وبيان ندب الشريعة إليه ، وأنه من سنن المرسلين ، وأن من تزوج فقد استكمل نصف الدين ، وأن له أجرا في إعفافه نفسه وزوجه .
4- ومن مسؤولية المجتمع في هذا السبيل إزالة العوائق التي تؤخر الزواج ، فتعالج الفقر الذي قد يكون مانعا من الزواج ، وتوفر الدعم المادي للشباب الذي لا يملك ما يعف به نفسه ، حتى قال القرطبي في تفسير قوله تعالى : ( وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) النور/32
" زوجوا من لا زوج له منكم ، فإنه طريق التعفف " انتهى . (12/239) .
وفي كتاب "الأموال" لأبي عبيد القاسم بن سلام (251) أن عمربن عبد العزيز كتب إلى واليه بالعراق : أن انظر كل بكر وليس له مال فشاء أن تزوجه فزوجه وأصدق عنه .
ويقول ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (7/587) :
" يلزم الرجل إعفاف ابنه إذا احتاج إلى النكاح ، وهذا ظاهر مذهب الشافعي " انتهى .
5- وأدنى ما يمكن أن يتحمله المجتمع والآباء تجاه هذه المسألة المهمة ترك المغالاة في المهور ، أو التفاخر والمباهاة بتكاليف الزواج ، أو السعي إلى التكسب منها .
خطب عمر بن الخطاب على المنبر فقال :
( أَلَا لَا تُغَالُوا بِصُدُقِ النِّسَاءِ – أي مهورهن - فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَكْرُمَةً فِي الدُّنْيَا أَوْ تَقْوَى عِنْدَ اللَّهِ لَكَانَ أَوْلَاكُمْ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَصْدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ وَلَا أُصْدِقَتْ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِهِ أَكْثَرَ مِنْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً ) رواه أبو داود (2106) وصححه الألباني في صحيح أبي داود .
ولا يختلف المصلحون في أن استغلال الآباء مهور البنات كان واحدا من أسباب انتشار الفساد والرذيلة في المجتمعات .
يقول وول ديورانت وهو يحكي أسباب انتشار الرذيلة في بعض المجتمعات الغربية في فترة من التاريخ في كتاب "مباهج الفلسفة" (127-128) :
" ولا نزاع في أن ذلك يرجع إلى حد ما إلى ما كان يقتضيه الآباء المغرمون ببناتهم من مهر غال ثمنا لعفتهن ، وقت أن كان الزواج يشترى صراحة " انتهى .
6- ومن أهم ما يقي المجتمعات رذيلة الزنا إشاعة جو المحبة والمودة بين الأزواج ، والحرص على سعادة الأسرة بالحب والاحترام والصدق والوفاء وأداء الحقوق والواجبات ، فإن الأسرة السعيدة والزوجين المتفاهمين المتآلفين وقاءٌ للمجتمع من الانحراف والسقوط في الفواحش بحثا عن سعادة موهومة .
7- وأخيرا لا بد من العمل على تهيئة المناخ المحافظ الملتزم المتعلق بالله سبحانه وتعالى ، والذي تختفي فيه مظاهر التبرج والسفور ، وتستر فيه العورات ، وتمنع فيه الخمور والمعازف التي هي رقية الزنا ، فإن هذه الأمور هي الوقود التي تشعل نار الفاحشة ، فإذا تخلص المجتمع منها فقد أمِن من النار .
اخواني الكرام
بالنسبة لحكم قيادة المرآة للشيخ بن باز رحمه الله
الشيخ يفتي في السعودية على المرأة السعودية في هذا الشأن لأن المجتمع السعودي ليس كالمجتمع المصري فالمرأة تقود السيارة في مصر منذ سنوات تزيد على خمسين سنة أما في السعودية لايوجد امرأة واحدة رأيتها وأنا في السعودية تقود السيارة ولو فرضاً قادت امرأة السيارة لجرى ورائها الشباب وانقلبت السيارة ولذلك العلماء في السعودية حرموا القيادة
أما في مصر فأنا لا أعرف محتاجين فتوى في هذا الأمر من علمائنا الأجلاء وً
المزمار الذهبي |
كتبه/ عصام حسنين ، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ ففي صباح أحد الأيام دخل عليَّ زميلي صائحًا: "الحق يا شيخ.. بيلحنوا القرآن"! وأخبرني أن قناة "الفجر" الفضائية تجري مسابقة بعنوان: "المزمار الذهبي"، حيث يُطلب من المتسابق أن يقرأ جزءًا من القرآن بأحد المقامات الموسيقية! وعندما عُدت إلى بيتي ووجدت فراغًا من وقت بحثت على شبكة الإنترنت عن هذه المسابقة فوجدت ما هالني -"وحقـًا ليس الخبر كالمعاينة"-! فإني أسمع عن القراءة بالمقامات؛ ولم أدرِ أن الأمر بهذه الفظاعة، ولو رآهم الإمام الشافعي -رحمه الله- وهو من قال في رواية: "لا أكره القراءة بالألحان" -إذا لم يختل شيء من الحرف عن مخرجه-؛ تحسينـًا لصوته، وإثارة للخشية، وإقبالاً للنفوس؛ لقال: حُكمي فيهم أن يضربوا بالجريد والنعال؛ صيانة للقرآن! رأيتُ أناسًا يغنون القرآن غناءً بألحان الموسيقى، وممتحن يقول لمتسابق: "ترنيمة في غير موضعها! قل لنا مقطعًا من القرآن يطابق ما أقول لك"! "قل من هنا: جواب الجواب". "صوتك جميل، لكن متعني كما يقول أهل الفن: وشوشني واطربني"!! ولما شرع المتسابق في القراءة، جعل يشير إليه بأصابعه ويديه، أي: في الطلوع والنزول! وقال ممتحن آخر: "لقد أتى بالصبا، ولم يأتِ بالعجم"، ثم يقرأه بصوته ويطلب من المتسابق أن يُحاكيه. - وبهذه المقامات خرج المتسابق في بعض الأحيان عن قواعد التجويد، وزاد أو أنقص في الحروف، ويدل على ذلك توقيف الشيخ المسئول عن تقدير التجويد، يقول لأحد المتسابقين: "أنت لم تأتِ بالقلقلة في الموضع الفلاني". ومتسابق آخر وقف يُضحك الحضور، ويحكي أنه كان يؤم الناس وقرأ الفاتحة بـ"نهاوند" فإذا بمصلٍّ وراءه يحاكي القراءة بالنغمة الموسيقية، فنقلتُ إلى مقام آخر، فإذا به يلحنه أيضًا -وإنا لله وإنا إليه راجعون-!! - ثم صُدمتُ وحزنت كثيرًا عندما وجدت بين المتسابقين ابن شيخ مشهور له مكانته ومكانه وسط أبناء الصحوة؛ فقلت: لعل... ولعل... وضعت الأعذار، لكن سرعان ما طاشت هذه الأعذار برؤيتي لحلقة مسجلة لقناة الفجر عن ابن الشيخ المشهور الفائز في المسابقة. يقول الابن: "أبي هو الذي حببني في تقليد الأصوات والقراءة بالمقامات"! ويقول الشيخ: "أود أن أحيي قناة الفجر تحية خاصة على اهتمامها البالغ بالقرآن، وقراء القرآن بهذه الصورة الملفتة الجميلة! ولطالما تابعت هذه المسابقة، وسعدتُ سعادة غامرة بهذه الأصوات التي كنا نجهلها"! إذن هو تشجيع للابن على ذلك، ومتابعة للمسابقة، وسعادة غامرة، وتحية خاصة -فالله المستعان-!! ويقول -محتجًا على ذلك بأدلة في غير موضعها-: "التغني بالقرآن سنة، ولا حرج على أولادنا أن يزينوا القرآن بأصواتهم"، وذكر أحاديث التغني بالقرآن، وتزيين القرآن بأصواتنا كما سنذكرها -إن شاء الله تعالى-. وهنا نقول: هذه زلة من الشيخ -حفظه الله- ينبغي أن يتقيها، وأن يرجع عنها(1)، ونقول لإخواننا ما قاله الصحابي الجليل معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "وأحذركم زيغة الحكيم -أي: انحرافه عن الحق- أي: لا تتبعوه عليه- فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلالة على لسان الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق... اجتنب من كلام الحكيم المشتهرات -أي: بالبطلان- التي يقال لها: ما هذه؟ ولا يشينك ذلك عنه؛ فإنه لعله أن يراجع، وتلَق الحق إذا سمعته؛ فإن على الحق نورًا" انظر عون المعبود 6/237. ثم رأيتُ ما أثلج صدري، وهو تبرؤ الشيخ "المعصراوي" -حفظه الله- من هذه المسابقة، وذكر -جزاه الله خيرًا- أنه لم يعلم أن المسابقة بهذه الصورة، وأنه حضر ربع ساعة ثم انسحب عندما رأى هذه الإساءة لكتاب الله -تعالى-. وبإنكار الشيخ -أيده الله- هذه المسابقة خرجت قناة الرحمة بعد أن أذاعت احتفالاً بهؤلاء المتسابقين تعتذر باعتذارات تحتاج إلى اعتذارات (إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (البقرة:160). وخوفـًا من انصراف الشباب إلى تعلم هذه المقامات الموسيقية كما أخبر أحد علماء المغرب -في اتصال- ببرنامج شهد تبرؤ الشيخ المعصراوي من هذه المسابقة: إن فئة من الشباب عندهم انصرفوا إلى تعلم هذه المقامات الموسيقية بعد أن كان الشباب مقبلاً على حفظ القرآن والقراءات، بعد هذه المسابقة!! ونظرًا إلى التقصير الشديد من الدعاة -الآن- في غرس أصل الاتباع في نفوس الناس -خاصة الشباب-، وصارت الحجة -عند الأكثر- أقوال وأفعال العلماء والدعاة؛ أحببت أن أبين نقاطًا مهمة تتعلق بمسألة القراءة بالألحان "المقامات الموسيقية" نصحًا لكتاب الله -تعالى- ولإخواننا؛ امتثالاً لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (الدِّينُ النَّصِيحَةُ) (رواه مسلم). أولاً: أنزل الله -تعالى- كتابه الكريم؛ ليكون منهج حياة لعباده المؤمنين، قال الله -تعالى-: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ) (البقرة:2)، وقال -سبحانه وتعالى-: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا) (الإسراء:82)، وقال -عز وجل-: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس:58). ثانيًا: أمرنا الله -تعالى- عند تلاوته بالخشوع والتدبر والخضوع، وهو المقصود الذي تنشرح به الصدور، وتستنير به القلوب، قال الله -تعالى-: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ) (ص:29)، وقال -سبحانه-: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) (الزمر:23). قال الإمام محمد بن الحسين الآجرِّي -رحمه الله-: "ألا ترون -رحمكم الله- إلى مولاكم الكريم كيف يحثّ خلقه على أن يتدبروا كلامه، ومن تدبر كلامه عرف الرب -عز وجل-، وعرف عظيم سلطانه وقدرته، وعرف عظيم تفضله على المؤمنين، وعرف ما عليه من فرض عبادته فألزم نفسه الواجب؛ فحذر مما حذره مولاه الكريم، ورغب فيما رغبه فيه، ومن كانت هذه صفته عند تلاوته للقرآن وعند استماعه من غيره كان القرآن له شفاء؛ فاستغنى بلا مال، وعز بلا عشيرة، وأنِس بما يستوحش منه غيره، وكان همه عند التلاوة للسورة إذا افتتحها متى أتعظ بما أتلو؟ ولم يكن مراده متى أختم السورة؟ وإنما مراده متى أعقل عن الله الخطاب؟ متى أزدجر؟ متى أعتبر؟ لأن تلاوته للقرآن عبادة، والعبادة لا تكون بغفلة! قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "لا تنثروه نثر الدَّقـَل، ولا تَهذُّوه هذَّ الشعر -أي السرعة في قراءته-، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن همُّ أحدكم آخر السورة"، وعن عطاء -رحمه الله- قال: "إنما القرآن عبر" اهـ بتصرف من "أخلاق حملة القرآن" ص25-26. ثالثـًا: يستحب عند تلاوة القرآن البكاء، والتباكي لمن لا يقدر على البكاء؛ فإن البكاء عند القراءة صفة العارفين، وشعار عباد الله الصالحين؛ قال الله -تعالى-: (وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا) (الإسراء:109)، وقال -تعالى- عن الذين آمنوا من نصارى الحبشة: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (المائدة:83)، تأمل: يبكون ويزيدهم خشوعًا.. لا طربًا وهزًا للرأس! وطريقة تحصيل البكاء: أن يتأمل ما يقرؤه من التهديد والوعيد، والوثائق بالعهود، ثم يفكر في تقصيره فيها، فإن لم يحضره حزن وبكاء فليبكِ على فقد ذلك فإنه من المصائب" بتصرف من مختصر التبيان للنووي -رحمه الله- ص53. ويستحب أن يرتل قراءته؛ فقد اتفق العلماء على استحباب ذلك؛ لقول الله -تعالى-: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا) (المزمل:4)، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "بيِّنه بيانـًا". وثبَتَ في الأحاديث الصحيحة أن قراءته -صلى الله عليه وسلم- كانت مرتلة مفسرة، وكذا كانت قراءة السلف. قال العلماء: والترتيل مستحب للتدبر، ولكونه أقرب على الإجلال والتوقير، وأشد تأثيرًا في القلب، ولهذا يُستحب الترتيل للأعجمي الذي لا يفهم؛ قال الله -تعالى-: (وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ) (الإسراء:106)، قال مجاهد: "على تؤدة" اهـ بتصرف من مختصر التبيان ص53، وأخلاق حملة القرآن ص54. ويستحب تحسين الصوت بالقراءة بالاتفاق؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (زَيِّنُوا الْقُرْآنَ بِأَصْوَاتِكُمْ) (رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وصححه الألباني)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ) (رواه البخاري). وقال -صلى الله عليه وسلم-: (مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ) (متفق عليه)، قال وكيع وابن عيينة: "يستغني به". وقال الشافعي: "يتحزن ويترنم به"، وعن شعبة قال: "نهاني أيوب أن أحدث بهذا الحديث"، قال أبو عبيد: "وإنما كره أيوب -فيما نرى- أن يتأول الناس بهذا الحديث الرخصة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الألحان المبتدعة؛ فلهذا نهاه أن يحدث به" اهـ(2) من فضائل القرآن له نقله عنه ابن كثير. قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "والمراد من تحسين الصوت بالقرآن: تطريبه وتحزينه، والتخشع به كما في حديث أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لَو رَأَيْتَنِي وَأَنَا أَسْتَمِعُ لِقِرَاءَتِكَ الْبَارِحَةَ)؟ قلت: "لو علمتُ أنك تستمع لحبرته لك تحبيرًا"، رواه بقي بن مخلد، وزاد مسلم: (لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ)(3)، والغرض أن أبا موسى -رضي الله عنه- قال: "لو علمتُ أنك تستمع لحبرته لك تحبيرًا"؛ فدل على جواز تعاطي ذلك وتكلفه" اهـ من فضائل القرآن ص90. وقد بيَّن لنا -صلى الله عليه وسلم- مَنْ أحسَنَ الناس صوتًا بالقرآن؛ فقال: (إِنَّ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ صَوْتًا بِالْقُرْآنِ الَّذِي إِذَا سَمِعْتُمُوهُ يَقْرَأُ حَسِبْتُمُوهُ يَخْشَى اللَّهَ) (رواه ابن ماجه، وصححه الألباني). وقال طاوس: "أحسن الناس صوتـًا بالقرآن أخشاهم لله" فضائل القرآن ص90. وقال ابن القيم -رحمه الله-: "التطريب والتغني على وجهين: أحدهما: ما اقتضته الطبيعة وسمحت به من غير تكلف ولا تمرين ولا تعليم، بل إذا خُلي وطبعه واسترسلت طبيعته جاءت بذلك التطريب والتلحين؛ فذلك جائز وإن أعان طبيعته بفضل تزيين وتحسين كما قال أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيرًا"، والحزين ومن هاجه الطرب والحب والشوق لا يملك من نفسه دفع التحزين والتطريب في القراءة، ولكن النفوس تقبله وتستحليه لموافقته الطبع وعدم التكلف والتصنع فيه؛ فهو مطبوع لا متطبع، وكلف لا متكلف، فهذا هو الذي كان السلف يفعلونه ويستمعونه، وهو التغني الممدوح المحمود، وهو الذي يتأثر به التالي والسامع، وعلى هذا الوجه تحمل أدلة أرباب هذا القول كلها. الوجه الثاني: ما كان من ذلك صناعة من الصنائع وليس في الطبع السماحة به، بل لا يحصل إلا بتكلف وتصنع وتمرن كما يتعلم أصوات الغناء بأنواع الألحان البسيطة والمركبة على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة لا تحصل إلا بالتعلم والتكلف؛ فهذه هي التي كرهها السلف وعابوها وذموها، ومنعوا القراءة بها وأنكروا على من قرأ بها، وأدلة أرباب هذا القول إنما تتناول هذا الوجه، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه، ويتبين الصواب من غيره... " من زاد المعاد 1/137. يا صاحب الصوت الحسن -يقول لك الآجري -رحمه الله-: "ينبغي لمن رزقه الله حسن الصوت بالقرآن أن يعلم أن الله قد خصه بخير عظيم؛ فليعرف قدر ما خصه الله به، وليقرأ لله لا للمخلوقين، وليحذر من الميل إلى أن يُستمع منه؛ ليحظى به عند السامعين رغبة في الدنيا، والميل إلى حسن الثناء والجاه عند أبناء الدنيا، والصلاة بالملوك دون الصلاة بعوام الناس. فمن مالت نفسه إلى ما نهيته عنه خِفت عليه أن يكون حسن صوته فتنة عليه، وإنما ينفعه حسن صوته إذا خشي الله -عز وجل- في السر والعلانية، وكان مراده أن يُستمع منه القرآن؛ لينتبه أهل الغفلة عن غفلتهم، فيرغبوا فيما رغبهم الله -عز وجل- وينتهوا عما نهاهم، فمن كانت هذه صفته انتفع بحسن صوته، وانتفع به الناس" اهـ من أخلاق حملة القرآن ص94-95. وينبغي لك أن تعلم قدر نعمة الله عليك، وما جعله الله عندك، وأن تكون من الشاكرين لها، العاملين بها، فلقد أعطاك الله القرآن، فصِرت من أهل الله وخاصته؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هُمْ؟ قَالَ: (هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ) (رواه النسائي وابن ماجه، وصححه الألباني). وهذا الشرف يكون بالعمل بكتاب الله -تعالى-؛ فقد جاء رجل إلى أبي الدرداء -رضي الله عنه- فقال: "إن ابني جمع القرآن"، فقال: "اللهم غفرًا، إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع". وقال عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-: "من جمع القرآن فقد حمل أمرًا عظيمًا، لقد أُدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه، فلا ينبغي لحامل القرآن أن يَحِد -يغضب- مع من يَحِد، ولا يجهل مع من يجهل؛ لأن القرآن في جوفه". وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "حامل القرآن حامل راية الإسلام لا ينبغي له أن يلغو مع من يلغو، ولا يسهو مع من يسهو، ولا يلهو مع مَنْ يلهو" أخلاق حملة القرآن ص59. رابعًا: وينبغي لك ألا تلتفت إلى المقامات الموسيقية، وأن تحذرها، وتـُحذِّر منها، لتحذير العلماء منها، وقبل بيان ذلك أذكر لك تأريخًا للقراءة بالألحان ذكره "الرافعي" -رحمه الله- في كتابه "إعجاز القرآن ص 57 تحت عنوان: "قراءة التلحين": "ومما ابتدع في القراءة والأداء هذا التلحين الذي بقي إلى اليوم يتناقله المفتونة قلوبهم وقلوب من يعجبهم شأنهم، ويقرأون به على ما يُشبه الإقناع -وهو الغناء التقي-... ومن أنواعه عندهم في أقسام النغم "الترعيد" وهو أن يُرعد القارئ صوته، قالوا: كأنه يرعد من البرد أو الألم... "والترقيص" وهو أن يروم السكوت.. ثم ينقر مع الحركة كأنه في عَدْو أو هرولة؛ و"التطريب" وهو: أن يترنم بالقرآن ويتنغم به، فيمد في غير مواضع المدّ، ويزيد في المد إن أصاب موضعه، "والتحزين" وهو أن يأتي بالقراءة على وجه حزين يكاد يبكي مع خشوع وخضوع، ثم "الترديد" وهو ردّ الجماعة على القارئ في ختام قراءته بلحن واحد على وجه من تلك الوجوه. وإنما كانت القراءة تحقيقـًا أو حدرًا أو تدبرًا(4)، فلما كانت المائة الثانية كان أول من قرأ بالتلحين والتطنين "عبيد الله بن بكرة"، وكانت قراءته حزنـًا، ليست على شيء من ألحان الغناء والحداء، فورث ذلك عنه حفيده عبد الله بن عبيد الله، فهو الذي يقال له: "قرارة بن عمر"، وأخذها عنه الإباضي، ثم أخذ سعيد بن العلاف وأخوه عن الإباضي، وصار سعيد رأس هذه القراءة في زمنه، وعرفت به؛ لأنه اتصل بالرشيد فأعجب بقراءته وكان يحظيه، ويعطيه حتى عرف بين الناس بقارئ أمير المؤمنين(5). وكان القراء بعده: كالهيثم وأبان وابن أعين، وغيرهم ممن يقرأون في المجالس أو المساجد يدخلون في القراءة من ألحان الغناء والحداء والرهبانية، فمنهم من كان يدس الشيء من ذلك دسًا خفيفـًا، ومنهم من يجهر به حتى يسلخه. حتى كان "الترمذي محمد بن سعيد" في المائة الثالثة، وكان الخلفاء والأمراء يومئذ قد أولعوا بالغناء، وافتنـُّوا فيه فقرأ محمد هذا على الأغاني المولدة والمحدثة، سلخها في القراءة بأعيانها... ولم يكن يُعرف من مثل هذا شيء لعهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا لعهد أصحابه وتابعيهم إلا ما رواه الترمذي في "الشمائل" واختلفوا في تفسيره فقد روى بإسناده عن عبد الله بن مغفل قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- على ناقة يوم الفتح وهو يقرأ: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ) (الفتح:1-2)، قال: فقرأ ورجَّع، وفسره ابن معقل بقوله: آآآ بهمزة مفتوحة بعدها ألف ساكنة ثلاث مرات. ولا خلاف بينهم في أن هذا الترجيع لم يكن ترجيع غناء(6)، وكان في الصحابة والتابعين -رضي الله عنهم- من يُحكم القراءة على أحسن وجوهها، ويؤديها بأفصح مخرج وأسراه، فكأنما يُسمع منه القرآن غضًا طريًا؛ لفصاحته وعذوبة منطقه وانتظام نبراته، وهو لحن اللغة نفسها في طبيعتها لا لحن القراءة في الصناعة... "اهـ المقصود بتصرف. قال ابن القيم -رحمه الله-: "كان له -صلى الله عليه وسلم- حزب يقرؤه ولا يخل به، وكانت قراءته ترتيلاً لا هذَّا ولا عجلة، بل قراءة مفسرة حرفـًا حرفًا. وكان يقطع قراءته آية آية، وكان يمد عند حروف المد؛ فيمد الرحمن، ويمد الرحيم... وكان يحب أن يسمع القرآن من غيره، وأمر عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- فقرأ عليه وهو يسمع. وخشع -صلى الله عليه وسلم- لسماع القرآن منه حتى ذرفت عيناه. وكان يقرأ القرآن قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا ومتوضئًا ومحدثـًا... "، إلى أن قال: "وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعًا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرءوا بها ويسوغوها، ويعلم قطعًا أنهم كانوا يقرءون بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقرآن، ويقرءونه بشجى تارة وبطرب تارة، وبشوق تارة، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ)، وفيه وجهان أحدهما: أنه إخبار بالواقع الذي كلنا نفعله، والثاني: أنه نفي لهدي من لم يفعله عن هديه وطريقته -صلى الله عليه وسلم-" اهـ من زاد المعاد 1/134 وما بعدها. ولما حدثت هذه الألحان أنكرها الصحابة -رضي الله عنهم- قال الدارمي -رحمه الله- في سننه: "باب كراهية الألحان في القرآن"، وذكر بسنده عن أيوب قال: حدثني آل سالم بن عبد الله قال: "قدم سلمة البيذق المدينة فقام يصلي بهم، فقيل لسالم: لو جئت فسمعت قراءته؟ فلما كان بباب المسجد سمع قراءته رجع، فقال: "غناءٌ.. غناء" رقم: 3495، وذكر بسنده عن الأعمش قال: "قرأ رجل عند أنس بلحن من هذه الألحان فكره ذلك أنس" رقم: 3502. وختم سننه بأثر عن ابن سيرين قال: "كانوا يرون هذه الألحان في القرآن محدثة" رقم: 3503، وقال محقق السنن: صحيح موقوف. وإنما فعلوا ذلك؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- حذرهم منها. قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "والغرض أن المطلوب شرعًا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه والخشوع والانقياد للطاعة فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية والقانون الموسيقائي، فالقرآن يُنزه عن هذا ويجل، ويعظم أن يسلك في أدائه هذا المذهب! وقد جاءت السنة بالزجر عن ذلك كما قال الإمام العلم أبو عبيد القاسم بن سلام -رحمه الله-، وذكر بسنده عن حذيفة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين، وسيجيء قوم من بعدي يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح، لا يجاوز حناجرهم مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم" قال ابن الجوزي: "لا يصح". وعن عابس الغفاري -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر أمورًا تخوفها على أمته، منها: (وَنَشْئاً يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ يُقَدِّمُونَهُ يُغَنِّيهِمْ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُمْ فِقْهاً) (رواه أحمد والطبراني، وصححه الألباني)(7). وهذا يدل على أنه محذور كبير، وهي قراءة القرآن بالألحان التي يُسلك بها مذاهب الغناء، وقد نص الأئمة -رحمهم الله- على النهي عنه، فأما إن خرج به إلى التمطيط الفاحش الذي يزيد بسببه حرفـًا أو ينقص حرفـًا، فقد اتفق العلماء على تحريمه، والله أعلم" اهـ باختصار من فضائل القرآن. ونقل هذا الإجماع أيضًا النووي -رحمه الله-، وقال الماوردي والآجري: "يأثم القارئ والمستمع"؛ قال النووي: "ومن هذا النوع ما يقرؤه بعض الجهلة على الجنائز وفي محافل الوعاظ وغيرها، وهي بدعة محرمة ظاهرة نسأل الله الكريم تعجيل زوالها بخير" اهـ من مختصر التبيان ص64. وأما إذا خلا عن هذا المحذور فقد اختلف الأئمة: فالجمهور على الكراهة؛ لخروجها عما جاء القرآن له من الخشوع والتفهم. وقال مالك وأحمد: بدعة، ونقل ابن حجر عن الإمام مالك: التحريم. وأباحها أبو حنيفة وجماعة من السلف؛ لأنها سبب للرقة وإثارة الخشية، وإقبال النفوس على استماعه. وعن الشافعي قولان: قول بالكراهة، حملها أصحابه على الخروج إلى حد التمطيط، وقول بالإباحة إذا لم يكن فيها ذلك انظر شرح مسلم للنووي 6/80، وفتح الباري 8/690. والراجح -إن شاء الله-: المنع؛ لما ذكرنا من الأدلة والآثار عن السلف، وأنه محدث، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَ****نَا ، فَهْوَ رَدٌّ) (رواه مسلم)، أي: مردود على صاحبه. فيجب أن يُرد. وبذلك أفتى العلماء المعاصرون الذين يُعتبر قولهم؛ لقدمهم الراسخة في العمل والعلم؛ فقد سئل الشيخ ابن باز -رحمه الله- عن: قارئ يقرأ القرآن بواسطة مقامات هي أشبه بالمقامات الغنائية، بل هي مأخوذة منها؟ فقال: "لا يجوز للمؤمن أن يقرأ القرآن بألحان الغناء وطريقة المغنيين، بل يجب أن يقرأه كما قرأه سلفنا الصالح من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وأتباعهم بإحسان فيقرأه مرتلاً متحزنـًا متخشعًا؛ حتى يؤثر في القلوب التي تسمعه وحتى يتأثر هو بذلك، أما أن يقرأه على صفة المغنيين، وعلى طريقتهم فهذا لا يجوز" اهـ. وقال الشيخ بكر أبو زيد -رحمه الله-: "التلحين في القراءة تلحين الغناء والشعر، مسقط للعدالة، ومن أسباب رد الشهادة قضاءً، وكان أول حدوث هذه البدعة في القرن الرابع الهجري على أيدي الموالي" اهـ من بدع القراء. وسئل شيخنا الدكتور ياسر برهامي -حفظه الله- سؤالاً عن تعلم المقامات بدون استخدام موسيقى إنما عن طريق تدريب الأصوات؟ فقال: "لا ينبغي أن يتشبه قارئ القرآن بألحان الأعاجم وطريقتهم في الأداء، ويكفي أنه يصرف ذهن القارئ إلى مثل هذا الأمر ليضبط صوته به؛ فتضيع هيبة التلاوة وغاية التدبر" اهـ راجع موقع صوت السلف. هذا والله -تعالى- أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. و رب العالمين. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (1) ثم تبرَّأ الشيخ بعد ذلك من القراءة بالمقامات، وقال أن أقوال أهل العلم دائرة بين التحريم والكراهة، وكذا أخبر أنه اتصل بمدير قناة الفجر وناصحه في ذلك، فجزاه الله خيرًا. (2) قلتُ: هذا هو الفقه ووظيفة الفقيه والداعي أن يقرِّب الناس من ربهم -تعالى-، وأن يحذرهم معصية الله، ولا يذكر حديثًا كمثل هذه الأحاديث عند قوم كهؤلاء الذين ذكرنا حالهم في هذه المسابقة يترخصون به على ما يفعلون من هذا الغناء، والذي هو قطعًا غير مراد من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- كما بينا وسنبين -إن شاء الله-؛ فما أفقه أيوب -رحمه الله-. قال ابن حجر -رحمه الله- في ضابط كراهة التحديث ببعض الحديث دون بعض: "وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة، وظاهره في الأصل غير مراد، فالإمساك عنه عند من يُخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب" الفتح 1/298. (3) قال النووي -رحمه الله-: "قال العلماء: المراد بالمزمار هنا: الصوت الحسن، وأصل الزمر: الغناء"، وآل داود: هو داود نفسه، وكان -عليه السلام- حسن الصوت جدًا" اهـ شرح مسلم. (4) التحقيق: إعطاء كل حرف حقه على مقتضى ما قرره العلماء مع ترتيل وتؤدة، والحدر: إدراج القراءة وسرعتها مع مراعاة شروط الأداء الصحيحة، والتدبر: التوسط بين التحقيق والحدر (الرافعي). (5) نرجح أن هذا كان أول تأريخ اتخاذ الأمراء وأهل السعة للقراء في بيوتهم كما هي سنتهم إلى اليوم (الرافعي). قلت: ذكر الشيخ بكر أبو زيد أنه ظهر في القرن الرابع على يد الموالي. (6) الترجيع هو: ترديد الصوت، وفسِّر بأنه كان بسبب حركة الدابة التي كانت تحته -صلى الله عليه وسلم-، ومثل هذا يغتفر فيه الترجيع، قاله ابن كثير في فضائل القرآن ص112، ومنهم من فسره بأنه فعله -صلى الله عليه وسلم- اختيارًا كابن القيم -رحمه الله-، وهو تغنٍّ بالقرآن بفضل تحسين بصوته -صلى الله عليه وسلم-. زاد المعاد 1/137. (7) قلتُ: كما يفعل بعض إخواننا؛ يقدمون الأحسن صوتـًا مع وجود الأفضل من قراءة وتقوى وهجرة وعلمًا مخالفين قوله -صلى الله عليه وسلم-: (يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ وَأَقْدَمُهُمْ قِرَاءَةً فَإِنْ كَانَتْ قِرَاءَتُهُمْ سَوَاءً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَكْبَرُهُمْ سِنًّ) (رواه مسلم). |
هل يصلي في البيت ليصلي أولاده معه
السؤال : هناك مسجد بجوار منزلنا يمكننا أن نؤدي فيه الصلوات اليومية لكنى أذهب لأقرب مسجد لأداء صلاة الجمعة وبعض الصلوات في عطلة نهاية الأسبوع، ولدى ابن يبلغ من العمر 16 عام لا يهتم كثيرا بأداء الصلاة فهو لا يصلى إلا بعد ملاحقته مرات عديدة وأحيانا يتجاهلها كما يعيش معنا أخ زوجتي الذي يدرس بالجامعة وعندما أكون بالمنزل أحاول أن أؤم الصلاة حتى يقوم ابني وأخ زوجتي بأداء الصلاة في وقتها هما وزوجتي وابنتاي الصغيرتين. وسؤالي هو: 1-ماهو حكم أداء الصلاة بالمنزل عند عدم وجود مسجد مصلى مجاور كثيرا للمنزل. 2- ماهو حكم أداء الصلاة بالمنزل في جماعة عوضا عن الذهاب للمصلى للتأكد من أداء أفراد الأسرة للصلاة. 3- أعلم أن الوالدين يتحملان مسئولية التأكد من تعلم الأطفال العلم الديني والتأكد من التزامهم بأحكام الله (سبحانه وتعالى) وأتساءل ما إذا كان هناك عمر محدد يصبح بعده الوالدين غير ملتزمين بتحمل هذه المسئولية. هدانا الله (سبحانه وتعالى) جميعا سواء السبيل آمين وجزاكم الله خيرا
الجواب :
أولا :
صلاة الجماعة واجبة على كل رجل بالغ مستطيع يسمع النداء .
والمقصود بسماع النداء : أن يسمع الإنسان الأذان بالصوت المعتاد من غير مكبرٍ للصوت ، مع رفع المؤذن صوته ، وسكون الرياح والضوضاء ونحو ذلك مما يؤثر على السماع.
هذا بالنسبة للصلوات الخمس مع الجماعة ، وأما الجمعة فإنها تجب على كل من كان في المدينة أو القرية التي تقام فيها الجمعة ، سواء سمع النداء أم لم يسمع ، مهما ترامت أطراف البلد وعليه فإذا كان المسجد بعيدا عنك بحيث لا تسمع النداء ، لم يجب عليك الذهاب لجماعة المسجد ، وتصلي حينئذ مع أهلك .
وأما إن كنت تسمع النداء فتلزمك الجماعة ، ولا يجوز تركها للتأكد من أداء أفراد الأسرة للصلاة ؛ لما في ذلك من ترك الواجب لأمر يتعلق بالغير ويمكن تحقيقه بوسيلة أخرى ، كمتابعتهم وسؤالهم بعد الرجوع من المسجد .
ثالثا :
إذا بلغ الصبي صار مكلفا مسئولا ، لكن ذلك لا يسقط واجب الوالدين في النصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا سيما إذا كان الولد يعيش معهما . قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) التحريم/6 .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ : الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا ) رواه البخاري ( 853 ) ومسلم ( 1829 )
وقال صلى الله عليه وسلم : ( ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ) رواه البخاري (6731) ومسلم (142).
ومن هذه المسئولية : أن لا يدخل الأب شيئا من المنكرات إلى بيته ، وألا يسمح بوجودها إذا أدخلها الابن ، كما لو أراد إدخال قناة فضائية ماجنة - مثلا - فإنه يتعين على الأب رفض ذلك ومقاومته ؛ لأن ذلك يجري في بيته الذي هو مسئول عنه ، فإن انتقل الابن إلى بيت يخصه وفعل ذلك كان واجب الأب هو النصح والتذكير والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة .
نسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق السداد .
والله أعلم .