السؤال: جاء أحد المشايخ ودحض فكرة عدم جواز الأخذ من اللحية ، حيث استدل بأن قول النبي صلى الله عليه وسلم ( وفّروا اللحى ... ) لا يقصد به هنا عدم الأخذ مطلقاً ؛ لأن الشخص قد يكون له مال مُدخر في البنك ، وقد يكثر هذا المال أو يقل ، وفي كلتا الحالتين يُعتبر موفراً ، ويستطيع أن يقول إنه وفّر ماله في البنك حتى لو لم يكن المبلغ الموفّر إلا ريالاً واحداً ، فما قولكم في هذا ؟ .
الجواب :
أولاً:
سبب الإشكال الذي وقع في كلام الشيخ المتكلم في هذه المسألة ، أو من وافقه على ذلك البحث المذكور في السؤال هو أنه حمل الاستعمال اللغوي في كلام الشرع على معنى عامي ، أو استعمال عرفي حادث ، دون النظر لكلام أهل اللغة في " اشتقاق" الكلمة ، واستعمال النصوص الشرعية لها .
وهنا كلام لأحد المختصين باللغة العربية في بيان معنى كلمة " التوفير " لغة ، وعرفاً ، ووجه الخطأ في الاستعمال وصوابه :
قال الأستاذ الدكتور مكّي الحسَني الجزائري – وفقه الله - :
جاء في معاجم اللغة وكتبها :
أ. وَفَرَ الشيءُ يَفِرُ وَفْراً و وُفُوراً : كَثُر واتسع فهو وافر ( واسم التفضيل أوفر ؛ يقال : فلانٌ أوفرُ من فلانٍ حظّاً في النجاح ) .
فالوَفْر : مصدرٌ بمعنى الكثرة والاتساع ، كالوفرة ، ويوصف به فيقال : مالٌ وَفْرٌ ، ومتاعٌ وَفْرٌ : أي كثير واسع ، كالوافر ( ومن المولَّد : الوفير بمعنى الوافر ) .
والوَفْر: الغنى [ تستعمل العامة ( الوفر ) بمعنى ما اقتُصد ، ما أمكن استبقاؤه وعدم إنفاقِه / استهلاكه ، ونرى أنْ لا أثَرَ لهذا المعنى في اللغة ] .
قال الجاحظ ( البخلاء / 264 ) : " ... ومَن كان سبباً لذهاب وَفْرِه : لم تعدَمْه الحَسْرةُ من نفسه ، واللائمة من غيره ، وقلّة الرحمة وكثرة الشماتة " . [ وَفْرِه = سَعَتِه ] .
أما الموفور ( = الوافر ) فهو التام من كل شيء ، يقال : أتمنى لكم موفور الصحة .
ب. وَفَّرَ الشيءَ توفيراً : كَثَّره .
وَفَّر لفلانٍ طعامه : كَمَّلَه ولم يَنْقُصْه وجَعَلَه وافراً .
وفّر له الشيءَ توفيراً : إذا أَتَمَّه ولم يَنْقُصه .
جاء في ( محيط المحيط ) : " والعامة تستعمل ( التوفير ) في النفقة بمعنى التقتير ، وضد الإسراف " .
أقول : بل الشائع لدى العامة الآن هو استعمال ( التوفير ) بمعنى الاقتصاد في النفقة واختصارها ( لا التقتير ) .
ويمكن توجيه هذا الاستعمال ، باعتبار أن الاقتصاد في النفقة يُوفِّر ( يُكثِّر ) الباقي في حوزة المنفِق ... .
ج - تَوَفَّر الشيءُ ( مطاوع وَفَّر ) : إذا تَحَصَّل دون نقص .
ومن المجاز : توفّر على كذا : صرف هِمَّته إليه . تَوَفَّر على صاحبه : رَعَى حُرُماتِه وبَرَّه . ( " وأرجو مخلصاً أن يتوفر المؤتمر على حلّ هذه المشكلة " ، الكلام موجَّه إلى مؤتمر مجمع القاهرة ) .
حكى صاحب الأغاني قَوْلَ بشّار : " إن عدم النظر يُقوِّي ذكاء القلب ، ويقطعُ عنه الشغل بما ينظر إليه من أشياء ، فيَتَوفَّر حِسُّه " .
وقال المرتضى في أماليه : " فيتَوفَّرُ اللبنُ على الحَلْب " .
وقال أبو علي المرزوقي في شرح الحماسة : " وإن العناية متوفّرة من جهتهم " .
وقال أبو حيّان التوحيدي في مُقابساته : " ولهذا لا تتوفَّر القُوَّتان للإنسان الواحد " .
وبهذا يستبين أن : ( تَوَفَّر الشيءُ ) يعني : وَفَرَ وتَجَمَّع ... .
د. تَوافَرَ الشيءُ : تَوَافُراً : كَثُر واتسع فهو وافر .
جاء في معجم ( متن اللغة ) : " وهُم متوافرون : هُم كثير ، أو فيهم كَثْرة ، متكاثرون " .
انتهى باختصار من مقال بعنوان : " نحو إتقان الكتابة باللغة العربية " ( مقالة رقم 4 ) .
وقد ذكر الكاتب في آخر مقاله استعمالات للكلمة جانبها التوفيق ، وذكر الصواب في استعمالها ، ومنها :
= قولهم : " كان همّه أن يوفر أكبر قدْرٍ من دخله " .
والصواب :
كان همه أن يدّخر / يستبقي / يستفضل / أكبر قدر من دخله .
= وقولهم : " استطاع أن يوفر هذا المبلغ الضخم في سنة واحدة .
والصواب :
استطاع أن يقتصد / يدّخر هذا المبلغ الضخم في سنة واحدة .
انتهى .
وكما لاحظنا فإن استعمالات كلمة " وفَّر " ومشتقاتها لم تخرج عن الاتساع والكثرة وعدم الإنقاص .
وقد جاءت هذه الكلمة ببعض مشتقاتها بما يدل على معناها في كتاب الله تعالى :
قال تعالى : ( قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا ) الإسراء/ 63 .
قال الطبري – رحمه الله - :
( جزاءً موْفُوراً ) : يقول : ثواباً مكثوراً مكملاً .
" تفسير الطبري " ( 17 / 490 ) .
وقال ابن كثير – رحمه الله - :
قال مجاهد : وافراً ، وقال قتادة : مُوَفّرا عليكم ، لا ينقص لكم منه .
" تفسير ابن كثير " ( 5 / 93 ) .
فمن الواضح أن استعمال الكلمة في هذه النصوص الشرعية ، هو موافق لما قرره أهل اللغة في معناها ، دون ما ذكر من العرف الحادث .
ثانيا :
كلام أهل العلم وشراح الحديث على معنى الكلمة الواردة في حديث اللحية ، لا يخرج عما قرره أهل اللغة ، ولا شك أن هذا هو الواجب : حمل كلام الشرع على متقضى لغة العرب ، لا على الاصطلاح الحادث ، أو العرف المتأخر .
قال بدر الدين العيني – رحمه الله - :
وقوله ( وفِّروا ) بتشديد الفاء : أمرٌ من التوفير ، وهو الإبقاء ، أي : اتركوها موفرة .
" عمدة القاري شرح صحيح البخاري " ( 22 / 46 ) .
وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
أما قوله وفروا فهو بتشديد الفاء ، من التوفير ، وهو الإبقاء ؛ أي اتركوها وافرة .
" فتح الباري شرح صحيح البخاري " ( 10 / 350 ) .
ثالثا :
ورد الأمر بتوفير اللحية في السنة ، بألفاظ أخرى مرادفة لكلمة " التوفير" ، تؤكد ما سبق بيانه من معناها ، مثل : ( أعفوا ) و ( أرخوا ) و ( أرجوا ) و ( أوفوا ) ؛ وكلها ألفاظ نبوية جاءت في أحاديث صحيحة تحمل المعنى نفسه وهو ترك اللحية وعدم التعرض لها بحلق أو قص ؟! .
قال ابن منظور - رحمه الله - :
وعَفا القومُ : كَثُرُوا ، وفي التنزيل ( حتى عَفَوْا ) أَي : كَثُرُوا ، وعَفا النَّبتُ والشَّعَرُ وغيرُه يَعْفُو فهو عافٍ : كثُرَ وطالَ ، وفي الحديث " أَنه صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بإعْفاء اللِّحَى " هو أَن يُوفَّر شَعَرُها ويُكَثَّر ولا يُقَصَر كالشَّوارِبِ ، من عَفا الشيءُ : إذا كَثُرَ .
" لسان العرب " ( 15 / 72 ) .
وقال النووي - رحمه الله - :
وأما ( أوفوا ) فهو بمعنى ( أعفوا ) أي : اتركوها وافية كاملة ، لا تقصوها ... .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : ( وأرخوا ) معناه : أخروها ، واتركوها ، وجاء في رواية البخاري - ( 5553 ) - : ( وفِّروا اللحى ) ، فحصل خمس روايات : ( أعفوا ، وأوفوا ، وأرخوا ، وأرجوا ، ووفروا ) ومعناها كلها : تركها على حالها ، هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه ، وهو الذي قاله جماعة من أصحابنا ، وغيرهم من العلماء .
" شرح مسلم " ( 3 / 142 و 143 ) .
وبما سبق يتبين خطأ ذلك التكلف في توجيه معنى " التوفير " في الحديث ، وأنه أقرب إلى تحريفه ، أو تحميله معاني حادثة ، أو استعمالات عرفية لا يجوز حمل كلام الشرع عليها .
المصدر الشيخ محمد المنجد
أخوكم حسانين دحروج