مما لاشك فيه اننا بعد ثورة يناير والنمو الحادث على مسرح الاحداث ارى فيه تقاربا شديدا بين مرحلة ماضية شهدت مخاض ثورى بين حركة 23 يوليو والاخوان المسلمين وبين المجلس العسكرى الان والاخوان المسلمين وكلا من الطرفين يحاول معالجة عيوبه فى الماضى ليعود ويحول خسائر الماضى الى مكاسب والطرفان المتنافسان لن يدخرا جهدا فى سبيل النصر من وجهة نظره وحتى لو اقتضى الامر بالاستعانة باطراف خارجيه
فمثلا نجد الخط الخليجى يدعم الاخوان بكل قواه وامريكا ودول الاتحاد الاوربى تدعم مخطط العسكرى وفى المنتصف تقف التيارات السياسيه الاخرى تبنى تحركها على رد فعل الطرفين
ولكن تعالوا معى لنعود الى الخلف ونعود الى مرحلة الخلاف الحقيقى بين الاخوان وعبد الناصر وكيف كانت استراتجية كل طرف من الاطراف لنرى هل تغير الفكر وطرق التعامل مع الازمة
ظلت العلاقة بين عبدالناصر والإخوان المسلمين تمثل واحداً من أكثر الألغاز إثارة فى تاريخ مصر المعاصر.. ولقد طغت الخصومة - بل العداء - بين الفريقين، حتى أصبحت هى الأغلب على وصف العلاقة بينهما.. رغم ما يُجمع عليه المؤرخون من وجود علاقة ارتباط لعبدالناصر بجماعة الإخوان فى مرحلة مبكرة من تاريخه السياسى.. ولكن أحداً منهم لم يقف طويلاً عند تلك المرحلة فى تاريخ العلاقة بين الطرفين ليكشف لنا أسرارها ويحل ألغازها ليساعدنا على الإجابة عن العديد من الأسئلة المهمة والخطيرة، مما ينعكس بآثاره على المرحلة الحالية فى تاريخنا السياسى.
من هنا كانت محاولتى بحثاً عمن يستطيع الكشف عن أسرار تلك العلاقة بين عبدالناصر والإخوان، حتى عثرت عليه.. إنه المستشار الدمرداش العقالى، الذى كان أحد أبرز أعضاء الجهاز السرى فى تنظيم الإخوان المسلمين.. وزعيم الطلبة الإخوان بالجامعة، فى الوقت الذى كان قد تبلور فيه نشاط الإخوان كحركة سياسية حتى كاد أن ينحصر فى مجال الشباب والطلبة، حتى أصبحت -أو كادت أن تصبح- حركة الإخوان المسلمين «حركة طلابية».. وهو - العقالى - فوق ذلك، يمت بصلة القرابة للزعيم الإخوانى الأشهر - سيد قطب - صاحب أكبر تأثير فكرى وتنظيمى فى جماعة الإخوان، ربما أكبر من مؤسسها حسن البنا نفسه. وقد كان سيد قطب خال زوجة العقالى، كما كانا - العقالى وقطب - كانا صديقين فى مرحلة الطفولة والشباب وذلك لانتمائهما إلى بلدة واحدة هى أسيوط.. هذا فضلاً عن أن العقالى كان قد انخرط فى صفوف الإخوان قبل أن ينضم إليها سيد قطب نفسه.
لهذا كله كان المستشار العقالى فى الموقع الذى يسمح له ليس فقط برؤية الأحداث عن قرب، بل المشاركة فيها بفاعلية وتأثير.
ولعل اعترافاته التى أدلى بها لى فى هذا التحقيق تلقى ببعض الضوء الذى نحتاجه للتأريخ لتلك الفترة الحساسة من حياتنا السياسية. وأرى أنه ينبغى علينا أن نأخذ ما يقوله الرجل فى هذه الاعترافات بما هو جدير به من اهتمام وتفكير، خاصة أنه يفجر الكثير من المفاجآت التى تقلب - بل ربما تعدل - الكثير من الأمور التى ظللنا نتعامل معها كمسلّمات تاريخية.
الهضيبى يستعد
ويقول الدمرداش العقالى: إنه فى اللحظة التى بات كل من الهضيبى وعبدالناصر يشعر فيها بقوته.. كان الصدام واقعاً بينهما لا محالة.
وقد بدأ الهضيبى فى إعداد العدة، استعداداً للحظة الاشتباك، فأصدر أوامره بفصل جميع أعضاء الجهاز السرى من التنظيم الخاص، الذى كان بزعامة خصمه اللدود عبدالرحمن السندى، ثم راح يشكل جهازه السرى الخاص الذى عهد به إلى يوسف طلعت.. وهو الذى راح ينتقى العناصر الموالية للزعيم حسن الهضيبى، بصرف النظر عن كون تلك العناصر تتمتع بالسرية المطلوبة من قبل تلك التنظيمات، مما أعطى الانطباع بأن الهضيبى يسعى لتكوين ميليشيا خاصة لتدافع عنه، ويهاجم بها ولتحقيق بعض المآرب السياسية الخاصة وليس الغرض من تشكيلها خدمة الدعوة كما كان الأمر فى السابق حين فكر حسن البنا فى إنشاء ذلك الجهاز.
كان التنظيم السرى الجديد الذى عمل الهضيبى على تشكيله أداة لـ«الصدام» وليس أداة لـ«الدعوة»، وقد فرضت الظروف المحيطة فى ذلك الوقت هذا الهدف على زعيم الإخوان فرضاً، فقد كانت ظروفاً صدامية تمتلئ بالصراعات والمشاكل.. سواء كانت بين الإخوان والإخوان، أو بين الإخوان وعبدالناصر.
والغريب هنا أن يلجأ الهضيبى إلى تشكيل الجهاز السرى، وهو الذى كان فى حربه ضد عبدالرحمن السندى لا يجد ما يبرر به طلبه لحل هذا الجهاز غير شعار «لا سرية فى الإسلام».. ولكن مع توالى الأحداث وتشابكها كان يستحيل على «الهضيبى» أن يضمن سرية التشكيل لهذا الجهاز الجديد، فهى ظروف متسارعة لا يمكن معها العناية بالتربية الفردية للأعضاء، كما كان يحدث فى أيام الأستاذ حسن البنا.. إنما العناية فقط فى التحقق من الولاء للأستاذ الهضيبى.. وبالتالى فإن الولاء فى التنظيم الجديد كان للهضيبى شخصياً، وليس للدعوة كما كان الحال أيام البنا.
وقد ساعدت تلك الظروف على تسرب عدد غير قليل من أعضاء الجهاز القديم إلى تشكيلات الجهاز الجديد، بما فى ذلك يوسف طلعت نفسه، رئيس الجهاز، الذى كان عضواً بارزاً فى الجهاز القديم برئاسة عبدالرحمن السندى.. وقد شرع يوسف طلعت - مستفيداً من خبرته السابقة - فى تشكيل الخلايا بالقرى والمدن والمحافظات، ومنها خلية إمبابة برئاسة المحامى هنداوى سيد أحمد دوير، وهى الخلية التى قدر لها أن تلعب الدور الأكبر فى الصراع بين عبدالناصر والإخوان حينما وصل الصدام بينهما إلى قمته الدراماتيكية.
الصدام مبكراً
وحينما علم عبدالناصر بمحاولة الهضيبى إعادة بناء الجهاز السرى ليكون أداته فى الصراع بين الثورة والإخوان، حاول من جانبه وأد تلك المحاولة بأن بدأ الاشتباك مبكراً قبل أن ينجح الهضيبى فى استكمال بناء جهازه السرى، ليقضى على تلك المحاولة فى مهدها.
انتظر عبدالناصر الفرصة المناسبة لبدء الهجوم حتى جاءته يوم 12 يناير 1954، وهو اليوم الذى كان مقرراً لإقامة احتفال بجامعة القاهرة بذكرى الشهداء من طلاب الجامعة.. وفى هذا الاحتفال بدأ الطلاب المنتمون للجهاز السرى للإخوان فى الاشتباك مع الطلاب المنتمين لهيئة التحرير، وهو أول التنظيمات السياسية التى أقامتها الثورة، وقام الطلبة الإخوان بحرق سيارة جيب عسكرية فى حرم الجامعة.
أدرك عبدالناصر أن الهضيبى بدأ يستعرض قوته الجديدة، متعجلاً الاشتباك مع الثورة لإرهابها.. حتى لا تفكر فى التعرض للجهاز الجديد قبل أن ينجح فى بنائه كاملاً.. ولكن عبدالناصر الذى لم تكن ترهبه مثل تلك المحاولات قبل التحدى مقرراً حل جماعة الإخوان المسلمين.
وفى أعقاب ذلك أراد عبدالناصر - الذى تفتقت عبقريته السياسية مبكراً - أن يشعر القيادات القديمة للإخوان المسلمين، والشارع السياسى المصرى بأنه فى صراع فقط مع قيادة الهضيبى، وليس مع الإسلام.. أى أن صراعه مع الإخوان صراع سياسى، وليس صراعاً دينياً، فتوجه بعد أيام من إصداره قرار حل جماعة الإخوان المسلمين إلى قبر حسن البنا، وبرفقته عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وفى مشهد تاريخى وقف عبدالناصر أمام القبر ليخطب مناشداً قواعد الإخوان، أنه لم يكن أبداً نقيضاً للإسلام، وليس لديه ما يدعو إليه غيره، وأنه جندى مخلص من كتائب الدعوة الإسلامية، والنهوض بأوطانه.
وقد كان عبدالقادر عودة، القطب الإخوانى البارز، وعبدالرحمن البنا، شقيق حسن البنا فى استقبال عبدالناصر عند وصوله إلى القبر، وبعد أن ألقى عبدالناصر كلمته، رد عليه عبدالرحمن البنا قائلاً: إن مجيئك هنا يؤكد زعامتك لهذه الأمة وانتماءك الصحيح لدينها الحنيف، وإخلاصك غير المنقوص للدعوة إليه، وطلب عبدالرحمن البنا من جمال عبدالناصر أن يفرج عن الإخوان المعتقلين الذين كانت قد مضت أيام على اعتقالهم فى أحداث جامعة القاهرة.
وقد نجح عبدالناصر بحنكته السياسية التى دفعته لاتخاذ تلك الخطوة فى سحب البساط من تحت أقدام خصمه حسن الهضيبى، فقد لاقت كلمته المؤثرة التى ألقاها على قبر البنا استحسان الكثيرين من قواعد الإخوان وقياداتهم، وخففت فى نفوسهم الأثر السيئ الذى أحدث قراره بحل الجماعة.
الإخوان مطلوبون
وفى أواخر فبراير من نفس العام 1954 اشتدت وطأة الصراع بين عبدالناصر ومحمد نجيب داخل مجلس قيادة الثورة للأسباب التى يعلمها الجميع.. وقد حاول كل منهما أن يستقطب الإخوان إلى جانبه، فقام عبدالناصر باتخاذ قرار مفاجئ للجميع، بأن أفرج عن جميع الإخوان المعتقلين بمن فيهم حسن الهضيبى خصمه اللدود، وزاد المفاجأة وقعاً بأن توجه فى مساء نفس يوم الإفراج إلى منزل الهضيبى ليزوره ويطيب خاطره، ولكن الهضيبى قابل هذه المبادرة باستعلاء وعجرفة تجلت واضحة فى لحظة مغادرة عبدالناصر لبيت الهضيبى الذى لم يكلف نفسه مصاحبة عبدالناصر حتى باب الخروج من المنزل.
وجاءت أحداث 25 مارس التى عرفت فى التاريخ باسم «أزمة مارس» والتى اشتد فيها الصراع بين عبدالناصر ومحمد نجيب والتى لعب فيها الإخوان دوراً مؤثراً، وهنا يجب التوقف قليلاً عند علاقة عبدالناصر بالمرحوم عبدالقادر عودة الذى تسبب إعدامه مع آخرين فى تعقيد الموقف بين عبدالناصر والإخوان.
لقد كانت العلاقة بين عبدالقادر عودة وعبدالناصر حسنة جداً، حتى إنها لم تتأثر باشتداد الخصومة والصراع بين عبدالناصر والهضيبى، وحينما أصدر عبدالناصر قراره باعتقال قيادات الإخوان كان عبدالقادر عودة هو الوحيد من بينهم جميعاً الذى استثنى من قرار الاعتقال، بل سمح له بزيارة السجن الحربى حيث كان الإخوان يمضون فترة الاعتقال.
وكان عودة يحاول جاهداً خلال زيارته تلك التقريب بين قيادات الإخوان وعبدالناصر سعياً لعقد المصالحة بين الجانبين.. وكان يقول - ويكرر - إنه لا يوجد مبرر للصدام مع عبدالناصر أو الثورة، قد يوجد مبرر للخلاف ولكنه لا يرقى إلى مستوى الصدام، خاصة أن كل القرارات التى اتخذها عبدالناصر حتى الآن لها ما يسندها فى الشريعة الإسلامية.
هذا هو رأى عبدالقادر عودة الذى كان يجاهر به فى وجوه الإخوان فى ذلك الوقت، فما الذى حدث إذن حتى ما كاد ينتهى عام 1954 حتى كان عبدالقادر عودة معلقاً على أعواد المشانق بأمر عبدالناصر.
مؤامرة شيوعية
كان الشيوعيون فى ذلك الوقت يحاولون الإيقاع بين عبدالناصر والإخوان، وفى الصراع المحتدم بين الطرفين - عبدالناصر والإخوان - أخذ الشيوعيون جانب الإخوان ضد عبدالناصر.
نجح الشيوعيون فى تنظيم مظاهرة طلابية كبيرة خرجت من جامعة القاهرة متجهة إلى قصر عابدين، وقد أطلق الشيوعيون - بخبث - بعض الشعارات الإسلامية لاستقطاب قواعد الإخوان فى هذه المظاهرة، وكانت تلك الشعارات تطرح بالتدريج إلى أن وصلوا إلى ميدان التحرير كانت الشعارات «إسلامية - قرآنية».. وحين وصلوا إلى ميدان عابدين بدأت الهتافات فى الهجوم على عبدالناصر.
لقد خرجت تلك المظاهرة الحاشدة بعد أيام فقط من قرار عبدالناصر بالإفراج عن الإخوان المسلمين، الذى كان عبدالناصر يتصور أنه بمجرد صدوره فسوف تتم المصالحة بينه وبين الإخوان المسلمين، ثم إنه توجه - فى إشارة واضحة - إلى بيت الهضيبى لتطييب خاطره، وإن كان اللقاء الذى تم بينهما قد جاء فاتراً، إلا أنه لم يكن يستوجب مثل هذا التصعيد وهذه الدرجة من تسخين الأجواء وتسميمها.
وقد زاد الأمر تداعياً أن أحد الإخوان البلهاء السذج - وفى الإخوان كثيرون من هذا الطراز - توجه إلى عبدالقادر عودة بمكتبه بميدان الأوبرا وكان معه إبراهيم الطيب، وقد حاول ذلك الإخوانى استغلال خصومة كانت واضحة بين عودة والهضيبى حين عزله الهضيبى من منصب وكيل الجماعة وجاء مكانه برجل آخر هو محمد خميس حميدة، مما ترك أثراً سيئاً فى نفس عبدالقادر عودة تجاه المرشد العام حسن الهضيبى.
كانت الخصومة بين عودة والهضيبى أمراً معروفاً لكل إخوانى، فجاء هذا الأخ إلى عبدالقادر عودة ليقول له: من الذى أمر بتحريك هذه المظاهرة الضخمة أمام قصر عابدين؟ وكان عبدالقادر عودة لا يعلم شيئاً من أمر هذه المظاهرة، فكان طبيعياً أن يسأل محدثه: أى مظاهرة تقصد؟
قال الرجل بخبث: أليس لك علم بها؟! كيف وأنت القيادى الإخوانى البارز؟ أيقن أن خصمه الهضيبى هو الذى قام بتحريك تلك المظاهرة فأراد أن يفسد عليه الطبخة، وفى نفس الوقت لم يكن عودة يريد - مخلصاً - تفاقم الخصومة بين الإخوان وعبدالناصر، فقرر التوجه فوراً إلى ميدان عابدين القريب من مكتبه ليقود المظاهرة بنفسه ويوجهها بعيداً عن الهجوم على الثورة وعبدالناصر.
وما إن وصل عودة إلى مكان المظاهرة حتى رآه بعض الشيوعيين الخبثاء، فرفعوه على الأعناق عنوة، وقد كان عودة رجلاً عاطفياً جياشاً وتعالت الهتافات الشيوعية الخبيثة «الله أكبر ولله الحمد» ثم وضعوا فى أيديه وهو على أعناقهم قميصاً ملوثاً بدم أحد القتيلين، اللذين كانا قد سقطا برصاص الجيش أثناء تصديه للمظاهرة عند كوبرى قصر النيل، وهى فى طريقها إلى قصر عابدين.. وقالوا لعودة إن عشرات القتلى قد سقطوا على كوبرى قصر النيل، فاهتزت عاطفته أمام منظر الدم وعدد القتلى الذين سقطوا كما جاء على ألسنتهم كذباً.
وفى هذه الأثناء ظهر فى شرفة القصر عبدالناصر ومعه عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة، فرأوا عبدالقادر عودة وهو يلوح بالقميص الملوث بالدم وهو يهتف «هذا عمل المفسدين.. هذا عمل المجرمين».
ظن عبدالناصر أن عبدالقادر قد تحول عن تأييده له، وأنه هو الذى دبر هذه المظاهرة، ومع ذلك أراد أن يتحقق بنفسه من حقيقة الموقف، وحينما وصل «عودة» اقترب منه عبدالناصر مصافحاً فأبى أن يصافح عبدالناصر معتقداً أن المظاهرة للإخوان المسلمين، وأن القتلى الذين سقطوا كانوا منهم، وأنهم قُتلوا بأمر من جمال عبدالناصر، وفى نفس الوقت رأى عبدالقادر عودة أنه أصبح الآن فى الموقف الذى يسمح له بكسب تأييد الإخوان وثقتهم على حساب خصمه اللدود حسن الهضيبى، وأنه برفضه السلام على عبدالناصر أمام هذه الحشود الكبيرة التى كان يعتقد أنها من الإخوان المسلمين، سوف تعطيه ورقة يلعب بها مع الهضيبى على زعامة الإخوان وقيادتهم، فوقف فى شرفة قصر عابدين على مقربة من عبدالناصر ليخطب فى المتظاهرين، خطبة حماسية انتهت بأن طلب منهم الانصراف.. فانصرفوا طائعين! وحينما رأى عبدالناصر المتظاهرين وهم ينصرفون صاغرين بمجرد أن طلب منهم عبدالقادر عودة ذلك، ازداد اعتقاده بأنه هو الذى دبر تلك المظاهرة ووجهها للهتاف ضده وضد الثورة، فأسرّها فى نفسه.
حسابات الأضداد
وبمجرد أن تخلص جمال عبدالناصر من محمد نجيب استدار بوجهه ليصفى حساباته مع الإخوان الذين ساندوا نجيب وتحالفوا معه، والحقيقة أن محمد نجيب، وقبل أن يشتد صراعه حدة مع عبدالناصر، أرسل رسله للاتصال بالإخوان طلباً للتأييد والعون ولكن الإخوان رفضوا الوقوف مع نجيب ليس حباً فى عبدالناصر - بطبيعة الحال - أو خوفاً منه فقد كانت تقديراتهم للموقف تقول إنهم لو تركوا عبدالناصر ونجيب يتصارعان بقواهما الذاتية دون معاونة منهم لأى من الطرفين، فإنهما سوف ينتهيان بالفناء معاً بما يفتح الطريق لهم لكى يتقدموا فيه دون مزاحمة، أما إذا قدموا مساعدتهم لأى من الطرفين فسوف يقوى موقفه بهم فيخرج منتصراً ليستدير عليهم فى نهاية الأمر.. ولهذا أصدر الهضيبى تعليماته للإخوان بأنه لا شأن لنا بالصراع الدائر بين (العسكر).
أما عبدالناصر فقد دخل الصراع مع نجيب وعينه لا تزال على الإخوان المسلمين، مقدراً أنه إذا لم يتمكن من استمالتهم إلى جانبه، فلا أقل من أن يحيّدهم، أو يحيّد بعضهم على الأقل، فتوجه بالحوار مع قطب إخوانى كبير كان لا يزال يثق به، وهو الشيخ محمد فرغلى، وهو واحد من مؤسسى جماعة الإخوان فى مدينة الإسماعيلية، كما حارب فى فلسطين، وهناك تعرف على عبدالناصر.
ميثاق البندين
التقى عبدالناصر والشيخ فرغلى ونجح فى إقناعه بأنه لا مبرر للصراع بين الإخوان والثورة، وإن المصلحة الوطنية والدينية تقتضيان أن تتم مراجعة للعلاقة بينهما وأن يتجاوز كل منهما عن أى تجاوز حدث من أحدهما فى حق الآخر، ويعقدا ميثاقاً من بندين.. أولهما أن يقر الإخوان بشرعية الثورة فى أن تحكم مصر لمدة خمس سنوات لا تسأل فيها قيادة الثورة عما تقوم به خلال هذه السنوات الخمس، كما لو كانت تفويضاً شعبياً مدته خمس سنوات، وفى مقابل ذلك أن تطلق الثورة يد الإخوان فى تربية الشباب على الإسلام دون أن يتطرقوا إلى السياسة فى نفس المدة التى اتفقوا عليها، على أن يجرى الحساب بين الطرفين فى نهاية المدة المتفق عليها.. فاقتنع محمد فرغلى ببنود هذا الاتفاق ووقّع مع جمال عبدالناصر على وثيقة مكتوبة تتضمن ما تم الاتفاق عليه تفصيلياً.. وطلب عبدالناصر من الشيخ فرغلى أن يحصل على توقيع بقية أعضاء مكتب الإرشاد ومعهم الهضيبى على وثيقة الاتفاق، فوعده فرغلى بذلك.
وفكر عبدالناصر - بحنكته السياسية المعروفة - أن أعضاء مكتب الإرشاد سوف يرفضون التوقيع على الوثيقة فيكون الشيخ فرغلى شاهداً عليهم، وربما حدث انقسام نتيجة لذلك فى صفوف القيادة الإخوانية، أما إذا وافق الجميع على التوقيع على الوثيقة فسيكون عبدالناصر قد ضمن - على الأقل - حياد الإخوان أو فترة من الهدنة معهم تسمح له بالتفرغ لصراعاته الأخرى.. وهى كثيرة.
بقى عبدالناصر منتظراً الشيخ فرغلى ليأتيه بالتوقيع على وثيقة الاتفاق، ولكنه فوجئ باختفاء قيادات الإخوان وعلى رأسهم المستشار الهضيبى، فلم يكن أى منهم فى بيته، كما لم يظهر فى أى مكان آخر مما اعتاد الظهور فيه.
وحينما علم عبدالناصر بأمر اختفائهم جميعاً، ارتاب فى الأمر، ولم يجد ما يفعله غير الانتظار.. متربصاً.
ولما جاء أكتوبر من عام 1954، اكتشف عبدالناصر أن هناك بعض الفلول فى صفوف الجيش، والتى لا يزال ولاؤها لمحمد نجيب، كانت تدبر للقيام بحركة عسكرية بالتعاون مع الإخوان المسلمين بزعامة حسن الهضيبى.. ولولا اختفاء الهضيبى فجأة لما تمكنت أجهزة عبدالناصر من اكتشاف أمر تلك المحاولة، فقد أيقن عبدالناصر أن اختفاء الهضيبى وجماعته فجأة ما كان إلا لتدبير أمر له، فجد فى البحث عن ذلك الأمر مستنفراً كل أجهزته حتى تمكن من اكتشاف تلك المحاولة الانقلابية.
كان الهضيبى قد أصدر أوامره لجميع الأعضاء بجماعته بأنهم لا شأن لهم بما يحدث من صراعات بين العسكريين، خاصة بين محمد نجيب وجمال عبدالناصر، وحين وصلت تلك التعليمات إلى هنداوى دوير، رئيس الجهاز السرى بإمبابة، بدأ فى حسبة فردية يجريها لحسابه الخاص، وكانت تلك الحسبة تتلخص فيما حدث فى ميدان المنشية بالإسكندرية وهو ما عرف باسم «حادث المنشية» الذى تعرض فيه جمال عبدالناصر للاغتيال على يد محمود عبداللطيف، أحد أعضاء الجهاز السرى لتنظيم الإخوان المسلمين.
تقول الحكومة إن عملية الاغتيال كانت بتدبير مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان، خاصة عبدالقادر عودة وحسن الهضيبى.. وهذا ليس صحيحاً.. بينما يقول الإخوان إنها مجرد تمثيلية أخرجتها الحكومة لتكون مبرراً للقضاء على الإخوان المسلمين.. وهذا أيضاً ليس صحيحاً.. فقد كان حادث المنشية حادثاً فعلياً واقعياً وحقيقياً تعرض فيه جمال عبدالناصر لمحاولة الاغتيال الفعلى على يد أحد أعضاء الجهاز السرى للإخوان، ولكن دون علم قيادات الإخوان التى تحملت مسؤولية ما حدث، والحقيقة أن المسؤولية فى ذلك كانت تقع على هنداوى دوير، رئيس الجهاز السرى للإخوان فى إمبابة.
إعترافات : المستشار الدمدرداش العقالى
فمثلا نجد الخط الخليجى يدعم الاخوان بكل قواه وامريكا ودول الاتحاد الاوربى تدعم مخطط العسكرى وفى المنتصف تقف التيارات السياسيه الاخرى تبنى تحركها على رد فعل الطرفين
ولكن تعالوا معى لنعود الى الخلف ونعود الى مرحلة الخلاف الحقيقى بين الاخوان وعبد الناصر وكيف كانت استراتجية كل طرف من الاطراف لنرى هل تغير الفكر وطرق التعامل مع الازمة
ظلت العلاقة بين عبدالناصر والإخوان المسلمين تمثل واحداً من أكثر الألغاز إثارة فى تاريخ مصر المعاصر.. ولقد طغت الخصومة - بل العداء - بين الفريقين، حتى أصبحت هى الأغلب على وصف العلاقة بينهما.. رغم ما يُجمع عليه المؤرخون من وجود علاقة ارتباط لعبدالناصر بجماعة الإخوان فى مرحلة مبكرة من تاريخه السياسى.. ولكن أحداً منهم لم يقف طويلاً عند تلك المرحلة فى تاريخ العلاقة بين الطرفين ليكشف لنا أسرارها ويحل ألغازها ليساعدنا على الإجابة عن العديد من الأسئلة المهمة والخطيرة، مما ينعكس بآثاره على المرحلة الحالية فى تاريخنا السياسى.
من هنا كانت محاولتى بحثاً عمن يستطيع الكشف عن أسرار تلك العلاقة بين عبدالناصر والإخوان، حتى عثرت عليه.. إنه المستشار الدمرداش العقالى، الذى كان أحد أبرز أعضاء الجهاز السرى فى تنظيم الإخوان المسلمين.. وزعيم الطلبة الإخوان بالجامعة، فى الوقت الذى كان قد تبلور فيه نشاط الإخوان كحركة سياسية حتى كاد أن ينحصر فى مجال الشباب والطلبة، حتى أصبحت -أو كادت أن تصبح- حركة الإخوان المسلمين «حركة طلابية».. وهو - العقالى - فوق ذلك، يمت بصلة القرابة للزعيم الإخوانى الأشهر - سيد قطب - صاحب أكبر تأثير فكرى وتنظيمى فى جماعة الإخوان، ربما أكبر من مؤسسها حسن البنا نفسه. وقد كان سيد قطب خال زوجة العقالى، كما كانا - العقالى وقطب - كانا صديقين فى مرحلة الطفولة والشباب وذلك لانتمائهما إلى بلدة واحدة هى أسيوط.. هذا فضلاً عن أن العقالى كان قد انخرط فى صفوف الإخوان قبل أن ينضم إليها سيد قطب نفسه.
لهذا كله كان المستشار العقالى فى الموقع الذى يسمح له ليس فقط برؤية الأحداث عن قرب، بل المشاركة فيها بفاعلية وتأثير.
ولعل اعترافاته التى أدلى بها لى فى هذا التحقيق تلقى ببعض الضوء الذى نحتاجه للتأريخ لتلك الفترة الحساسة من حياتنا السياسية. وأرى أنه ينبغى علينا أن نأخذ ما يقوله الرجل فى هذه الاعترافات بما هو جدير به من اهتمام وتفكير، خاصة أنه يفجر الكثير من المفاجآت التى تقلب - بل ربما تعدل - الكثير من الأمور التى ظللنا نتعامل معها كمسلّمات تاريخية.
الهضيبى يستعد
ويقول الدمرداش العقالى: إنه فى اللحظة التى بات كل من الهضيبى وعبدالناصر يشعر فيها بقوته.. كان الصدام واقعاً بينهما لا محالة.
وقد بدأ الهضيبى فى إعداد العدة، استعداداً للحظة الاشتباك، فأصدر أوامره بفصل جميع أعضاء الجهاز السرى من التنظيم الخاص، الذى كان بزعامة خصمه اللدود عبدالرحمن السندى، ثم راح يشكل جهازه السرى الخاص الذى عهد به إلى يوسف طلعت.. وهو الذى راح ينتقى العناصر الموالية للزعيم حسن الهضيبى، بصرف النظر عن كون تلك العناصر تتمتع بالسرية المطلوبة من قبل تلك التنظيمات، مما أعطى الانطباع بأن الهضيبى يسعى لتكوين ميليشيا خاصة لتدافع عنه، ويهاجم بها ولتحقيق بعض المآرب السياسية الخاصة وليس الغرض من تشكيلها خدمة الدعوة كما كان الأمر فى السابق حين فكر حسن البنا فى إنشاء ذلك الجهاز.
كان التنظيم السرى الجديد الذى عمل الهضيبى على تشكيله أداة لـ«الصدام» وليس أداة لـ«الدعوة»، وقد فرضت الظروف المحيطة فى ذلك الوقت هذا الهدف على زعيم الإخوان فرضاً، فقد كانت ظروفاً صدامية تمتلئ بالصراعات والمشاكل.. سواء كانت بين الإخوان والإخوان، أو بين الإخوان وعبدالناصر.
والغريب هنا أن يلجأ الهضيبى إلى تشكيل الجهاز السرى، وهو الذى كان فى حربه ضد عبدالرحمن السندى لا يجد ما يبرر به طلبه لحل هذا الجهاز غير شعار «لا سرية فى الإسلام».. ولكن مع توالى الأحداث وتشابكها كان يستحيل على «الهضيبى» أن يضمن سرية التشكيل لهذا الجهاز الجديد، فهى ظروف متسارعة لا يمكن معها العناية بالتربية الفردية للأعضاء، كما كان يحدث فى أيام الأستاذ حسن البنا.. إنما العناية فقط فى التحقق من الولاء للأستاذ الهضيبى.. وبالتالى فإن الولاء فى التنظيم الجديد كان للهضيبى شخصياً، وليس للدعوة كما كان الحال أيام البنا.
وقد ساعدت تلك الظروف على تسرب عدد غير قليل من أعضاء الجهاز القديم إلى تشكيلات الجهاز الجديد، بما فى ذلك يوسف طلعت نفسه، رئيس الجهاز، الذى كان عضواً بارزاً فى الجهاز القديم برئاسة عبدالرحمن السندى.. وقد شرع يوسف طلعت - مستفيداً من خبرته السابقة - فى تشكيل الخلايا بالقرى والمدن والمحافظات، ومنها خلية إمبابة برئاسة المحامى هنداوى سيد أحمد دوير، وهى الخلية التى قدر لها أن تلعب الدور الأكبر فى الصراع بين عبدالناصر والإخوان حينما وصل الصدام بينهما إلى قمته الدراماتيكية.
الصدام مبكراً
وحينما علم عبدالناصر بمحاولة الهضيبى إعادة بناء الجهاز السرى ليكون أداته فى الصراع بين الثورة والإخوان، حاول من جانبه وأد تلك المحاولة بأن بدأ الاشتباك مبكراً قبل أن ينجح الهضيبى فى استكمال بناء جهازه السرى، ليقضى على تلك المحاولة فى مهدها.
انتظر عبدالناصر الفرصة المناسبة لبدء الهجوم حتى جاءته يوم 12 يناير 1954، وهو اليوم الذى كان مقرراً لإقامة احتفال بجامعة القاهرة بذكرى الشهداء من طلاب الجامعة.. وفى هذا الاحتفال بدأ الطلاب المنتمون للجهاز السرى للإخوان فى الاشتباك مع الطلاب المنتمين لهيئة التحرير، وهو أول التنظيمات السياسية التى أقامتها الثورة، وقام الطلبة الإخوان بحرق سيارة جيب عسكرية فى حرم الجامعة.
أدرك عبدالناصر أن الهضيبى بدأ يستعرض قوته الجديدة، متعجلاً الاشتباك مع الثورة لإرهابها.. حتى لا تفكر فى التعرض للجهاز الجديد قبل أن ينجح فى بنائه كاملاً.. ولكن عبدالناصر الذى لم تكن ترهبه مثل تلك المحاولات قبل التحدى مقرراً حل جماعة الإخوان المسلمين.
وفى أعقاب ذلك أراد عبدالناصر - الذى تفتقت عبقريته السياسية مبكراً - أن يشعر القيادات القديمة للإخوان المسلمين، والشارع السياسى المصرى بأنه فى صراع فقط مع قيادة الهضيبى، وليس مع الإسلام.. أى أن صراعه مع الإخوان صراع سياسى، وليس صراعاً دينياً، فتوجه بعد أيام من إصداره قرار حل جماعة الإخوان المسلمين إلى قبر حسن البنا، وبرفقته عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وفى مشهد تاريخى وقف عبدالناصر أمام القبر ليخطب مناشداً قواعد الإخوان، أنه لم يكن أبداً نقيضاً للإسلام، وليس لديه ما يدعو إليه غيره، وأنه جندى مخلص من كتائب الدعوة الإسلامية، والنهوض بأوطانه.
وقد كان عبدالقادر عودة، القطب الإخوانى البارز، وعبدالرحمن البنا، شقيق حسن البنا فى استقبال عبدالناصر عند وصوله إلى القبر، وبعد أن ألقى عبدالناصر كلمته، رد عليه عبدالرحمن البنا قائلاً: إن مجيئك هنا يؤكد زعامتك لهذه الأمة وانتماءك الصحيح لدينها الحنيف، وإخلاصك غير المنقوص للدعوة إليه، وطلب عبدالرحمن البنا من جمال عبدالناصر أن يفرج عن الإخوان المعتقلين الذين كانت قد مضت أيام على اعتقالهم فى أحداث جامعة القاهرة.
وقد نجح عبدالناصر بحنكته السياسية التى دفعته لاتخاذ تلك الخطوة فى سحب البساط من تحت أقدام خصمه حسن الهضيبى، فقد لاقت كلمته المؤثرة التى ألقاها على قبر البنا استحسان الكثيرين من قواعد الإخوان وقياداتهم، وخففت فى نفوسهم الأثر السيئ الذى أحدث قراره بحل الجماعة.
الإخوان مطلوبون
وفى أواخر فبراير من نفس العام 1954 اشتدت وطأة الصراع بين عبدالناصر ومحمد نجيب داخل مجلس قيادة الثورة للأسباب التى يعلمها الجميع.. وقد حاول كل منهما أن يستقطب الإخوان إلى جانبه، فقام عبدالناصر باتخاذ قرار مفاجئ للجميع، بأن أفرج عن جميع الإخوان المعتقلين بمن فيهم حسن الهضيبى خصمه اللدود، وزاد المفاجأة وقعاً بأن توجه فى مساء نفس يوم الإفراج إلى منزل الهضيبى ليزوره ويطيب خاطره، ولكن الهضيبى قابل هذه المبادرة باستعلاء وعجرفة تجلت واضحة فى لحظة مغادرة عبدالناصر لبيت الهضيبى الذى لم يكلف نفسه مصاحبة عبدالناصر حتى باب الخروج من المنزل.
وجاءت أحداث 25 مارس التى عرفت فى التاريخ باسم «أزمة مارس» والتى اشتد فيها الصراع بين عبدالناصر ومحمد نجيب والتى لعب فيها الإخوان دوراً مؤثراً، وهنا يجب التوقف قليلاً عند علاقة عبدالناصر بالمرحوم عبدالقادر عودة الذى تسبب إعدامه مع آخرين فى تعقيد الموقف بين عبدالناصر والإخوان.
لقد كانت العلاقة بين عبدالقادر عودة وعبدالناصر حسنة جداً، حتى إنها لم تتأثر باشتداد الخصومة والصراع بين عبدالناصر والهضيبى، وحينما أصدر عبدالناصر قراره باعتقال قيادات الإخوان كان عبدالقادر عودة هو الوحيد من بينهم جميعاً الذى استثنى من قرار الاعتقال، بل سمح له بزيارة السجن الحربى حيث كان الإخوان يمضون فترة الاعتقال.
وكان عودة يحاول جاهداً خلال زيارته تلك التقريب بين قيادات الإخوان وعبدالناصر سعياً لعقد المصالحة بين الجانبين.. وكان يقول - ويكرر - إنه لا يوجد مبرر للصدام مع عبدالناصر أو الثورة، قد يوجد مبرر للخلاف ولكنه لا يرقى إلى مستوى الصدام، خاصة أن كل القرارات التى اتخذها عبدالناصر حتى الآن لها ما يسندها فى الشريعة الإسلامية.
هذا هو رأى عبدالقادر عودة الذى كان يجاهر به فى وجوه الإخوان فى ذلك الوقت، فما الذى حدث إذن حتى ما كاد ينتهى عام 1954 حتى كان عبدالقادر عودة معلقاً على أعواد المشانق بأمر عبدالناصر.
مؤامرة شيوعية
كان الشيوعيون فى ذلك الوقت يحاولون الإيقاع بين عبدالناصر والإخوان، وفى الصراع المحتدم بين الطرفين - عبدالناصر والإخوان - أخذ الشيوعيون جانب الإخوان ضد عبدالناصر.
نجح الشيوعيون فى تنظيم مظاهرة طلابية كبيرة خرجت من جامعة القاهرة متجهة إلى قصر عابدين، وقد أطلق الشيوعيون - بخبث - بعض الشعارات الإسلامية لاستقطاب قواعد الإخوان فى هذه المظاهرة، وكانت تلك الشعارات تطرح بالتدريج إلى أن وصلوا إلى ميدان التحرير كانت الشعارات «إسلامية - قرآنية».. وحين وصلوا إلى ميدان عابدين بدأت الهتافات فى الهجوم على عبدالناصر.
لقد خرجت تلك المظاهرة الحاشدة بعد أيام فقط من قرار عبدالناصر بالإفراج عن الإخوان المسلمين، الذى كان عبدالناصر يتصور أنه بمجرد صدوره فسوف تتم المصالحة بينه وبين الإخوان المسلمين، ثم إنه توجه - فى إشارة واضحة - إلى بيت الهضيبى لتطييب خاطره، وإن كان اللقاء الذى تم بينهما قد جاء فاتراً، إلا أنه لم يكن يستوجب مثل هذا التصعيد وهذه الدرجة من تسخين الأجواء وتسميمها.
وقد زاد الأمر تداعياً أن أحد الإخوان البلهاء السذج - وفى الإخوان كثيرون من هذا الطراز - توجه إلى عبدالقادر عودة بمكتبه بميدان الأوبرا وكان معه إبراهيم الطيب، وقد حاول ذلك الإخوانى استغلال خصومة كانت واضحة بين عودة والهضيبى حين عزله الهضيبى من منصب وكيل الجماعة وجاء مكانه برجل آخر هو محمد خميس حميدة، مما ترك أثراً سيئاً فى نفس عبدالقادر عودة تجاه المرشد العام حسن الهضيبى.
كانت الخصومة بين عودة والهضيبى أمراً معروفاً لكل إخوانى، فجاء هذا الأخ إلى عبدالقادر عودة ليقول له: من الذى أمر بتحريك هذه المظاهرة الضخمة أمام قصر عابدين؟ وكان عبدالقادر عودة لا يعلم شيئاً من أمر هذه المظاهرة، فكان طبيعياً أن يسأل محدثه: أى مظاهرة تقصد؟
قال الرجل بخبث: أليس لك علم بها؟! كيف وأنت القيادى الإخوانى البارز؟ أيقن أن خصمه الهضيبى هو الذى قام بتحريك تلك المظاهرة فأراد أن يفسد عليه الطبخة، وفى نفس الوقت لم يكن عودة يريد - مخلصاً - تفاقم الخصومة بين الإخوان وعبدالناصر، فقرر التوجه فوراً إلى ميدان عابدين القريب من مكتبه ليقود المظاهرة بنفسه ويوجهها بعيداً عن الهجوم على الثورة وعبدالناصر.
وما إن وصل عودة إلى مكان المظاهرة حتى رآه بعض الشيوعيين الخبثاء، فرفعوه على الأعناق عنوة، وقد كان عودة رجلاً عاطفياً جياشاً وتعالت الهتافات الشيوعية الخبيثة «الله أكبر ولله الحمد» ثم وضعوا فى أيديه وهو على أعناقهم قميصاً ملوثاً بدم أحد القتيلين، اللذين كانا قد سقطا برصاص الجيش أثناء تصديه للمظاهرة عند كوبرى قصر النيل، وهى فى طريقها إلى قصر عابدين.. وقالوا لعودة إن عشرات القتلى قد سقطوا على كوبرى قصر النيل، فاهتزت عاطفته أمام منظر الدم وعدد القتلى الذين سقطوا كما جاء على ألسنتهم كذباً.
وفى هذه الأثناء ظهر فى شرفة القصر عبدالناصر ومعه عدد من أعضاء مجلس قيادة الثورة، فرأوا عبدالقادر عودة وهو يلوح بالقميص الملوث بالدم وهو يهتف «هذا عمل المفسدين.. هذا عمل المجرمين».
ظن عبدالناصر أن عبدالقادر قد تحول عن تأييده له، وأنه هو الذى دبر هذه المظاهرة، ومع ذلك أراد أن يتحقق بنفسه من حقيقة الموقف، وحينما وصل «عودة» اقترب منه عبدالناصر مصافحاً فأبى أن يصافح عبدالناصر معتقداً أن المظاهرة للإخوان المسلمين، وأن القتلى الذين سقطوا كانوا منهم، وأنهم قُتلوا بأمر من جمال عبدالناصر، وفى نفس الوقت رأى عبدالقادر عودة أنه أصبح الآن فى الموقف الذى يسمح له بكسب تأييد الإخوان وثقتهم على حساب خصمه اللدود حسن الهضيبى، وأنه برفضه السلام على عبدالناصر أمام هذه الحشود الكبيرة التى كان يعتقد أنها من الإخوان المسلمين، سوف تعطيه ورقة يلعب بها مع الهضيبى على زعامة الإخوان وقيادتهم، فوقف فى شرفة قصر عابدين على مقربة من عبدالناصر ليخطب فى المتظاهرين، خطبة حماسية انتهت بأن طلب منهم الانصراف.. فانصرفوا طائعين! وحينما رأى عبدالناصر المتظاهرين وهم ينصرفون صاغرين بمجرد أن طلب منهم عبدالقادر عودة ذلك، ازداد اعتقاده بأنه هو الذى دبر تلك المظاهرة ووجهها للهتاف ضده وضد الثورة، فأسرّها فى نفسه.
حسابات الأضداد
وبمجرد أن تخلص جمال عبدالناصر من محمد نجيب استدار بوجهه ليصفى حساباته مع الإخوان الذين ساندوا نجيب وتحالفوا معه، والحقيقة أن محمد نجيب، وقبل أن يشتد صراعه حدة مع عبدالناصر، أرسل رسله للاتصال بالإخوان طلباً للتأييد والعون ولكن الإخوان رفضوا الوقوف مع نجيب ليس حباً فى عبدالناصر - بطبيعة الحال - أو خوفاً منه فقد كانت تقديراتهم للموقف تقول إنهم لو تركوا عبدالناصر ونجيب يتصارعان بقواهما الذاتية دون معاونة منهم لأى من الطرفين، فإنهما سوف ينتهيان بالفناء معاً بما يفتح الطريق لهم لكى يتقدموا فيه دون مزاحمة، أما إذا قدموا مساعدتهم لأى من الطرفين فسوف يقوى موقفه بهم فيخرج منتصراً ليستدير عليهم فى نهاية الأمر.. ولهذا أصدر الهضيبى تعليماته للإخوان بأنه لا شأن لنا بالصراع الدائر بين (العسكر).
أما عبدالناصر فقد دخل الصراع مع نجيب وعينه لا تزال على الإخوان المسلمين، مقدراً أنه إذا لم يتمكن من استمالتهم إلى جانبه، فلا أقل من أن يحيّدهم، أو يحيّد بعضهم على الأقل، فتوجه بالحوار مع قطب إخوانى كبير كان لا يزال يثق به، وهو الشيخ محمد فرغلى، وهو واحد من مؤسسى جماعة الإخوان فى مدينة الإسماعيلية، كما حارب فى فلسطين، وهناك تعرف على عبدالناصر.
ميثاق البندين
التقى عبدالناصر والشيخ فرغلى ونجح فى إقناعه بأنه لا مبرر للصراع بين الإخوان والثورة، وإن المصلحة الوطنية والدينية تقتضيان أن تتم مراجعة للعلاقة بينهما وأن يتجاوز كل منهما عن أى تجاوز حدث من أحدهما فى حق الآخر، ويعقدا ميثاقاً من بندين.. أولهما أن يقر الإخوان بشرعية الثورة فى أن تحكم مصر لمدة خمس سنوات لا تسأل فيها قيادة الثورة عما تقوم به خلال هذه السنوات الخمس، كما لو كانت تفويضاً شعبياً مدته خمس سنوات، وفى مقابل ذلك أن تطلق الثورة يد الإخوان فى تربية الشباب على الإسلام دون أن يتطرقوا إلى السياسة فى نفس المدة التى اتفقوا عليها، على أن يجرى الحساب بين الطرفين فى نهاية المدة المتفق عليها.. فاقتنع محمد فرغلى ببنود هذا الاتفاق ووقّع مع جمال عبدالناصر على وثيقة مكتوبة تتضمن ما تم الاتفاق عليه تفصيلياً.. وطلب عبدالناصر من الشيخ فرغلى أن يحصل على توقيع بقية أعضاء مكتب الإرشاد ومعهم الهضيبى على وثيقة الاتفاق، فوعده فرغلى بذلك.
وفكر عبدالناصر - بحنكته السياسية المعروفة - أن أعضاء مكتب الإرشاد سوف يرفضون التوقيع على الوثيقة فيكون الشيخ فرغلى شاهداً عليهم، وربما حدث انقسام نتيجة لذلك فى صفوف القيادة الإخوانية، أما إذا وافق الجميع على التوقيع على الوثيقة فسيكون عبدالناصر قد ضمن - على الأقل - حياد الإخوان أو فترة من الهدنة معهم تسمح له بالتفرغ لصراعاته الأخرى.. وهى كثيرة.
بقى عبدالناصر منتظراً الشيخ فرغلى ليأتيه بالتوقيع على وثيقة الاتفاق، ولكنه فوجئ باختفاء قيادات الإخوان وعلى رأسهم المستشار الهضيبى، فلم يكن أى منهم فى بيته، كما لم يظهر فى أى مكان آخر مما اعتاد الظهور فيه.
وحينما علم عبدالناصر بأمر اختفائهم جميعاً، ارتاب فى الأمر، ولم يجد ما يفعله غير الانتظار.. متربصاً.
ولما جاء أكتوبر من عام 1954، اكتشف عبدالناصر أن هناك بعض الفلول فى صفوف الجيش، والتى لا يزال ولاؤها لمحمد نجيب، كانت تدبر للقيام بحركة عسكرية بالتعاون مع الإخوان المسلمين بزعامة حسن الهضيبى.. ولولا اختفاء الهضيبى فجأة لما تمكنت أجهزة عبدالناصر من اكتشاف أمر تلك المحاولة، فقد أيقن عبدالناصر أن اختفاء الهضيبى وجماعته فجأة ما كان إلا لتدبير أمر له، فجد فى البحث عن ذلك الأمر مستنفراً كل أجهزته حتى تمكن من اكتشاف تلك المحاولة الانقلابية.
كان الهضيبى قد أصدر أوامره لجميع الأعضاء بجماعته بأنهم لا شأن لهم بما يحدث من صراعات بين العسكريين، خاصة بين محمد نجيب وجمال عبدالناصر، وحين وصلت تلك التعليمات إلى هنداوى دوير، رئيس الجهاز السرى بإمبابة، بدأ فى حسبة فردية يجريها لحسابه الخاص، وكانت تلك الحسبة تتلخص فيما حدث فى ميدان المنشية بالإسكندرية وهو ما عرف باسم «حادث المنشية» الذى تعرض فيه جمال عبدالناصر للاغتيال على يد محمود عبداللطيف، أحد أعضاء الجهاز السرى لتنظيم الإخوان المسلمين.
تقول الحكومة إن عملية الاغتيال كانت بتدبير مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان، خاصة عبدالقادر عودة وحسن الهضيبى.. وهذا ليس صحيحاً.. بينما يقول الإخوان إنها مجرد تمثيلية أخرجتها الحكومة لتكون مبرراً للقضاء على الإخوان المسلمين.. وهذا أيضاً ليس صحيحاً.. فقد كان حادث المنشية حادثاً فعلياً واقعياً وحقيقياً تعرض فيه جمال عبدالناصر لمحاولة الاغتيال الفعلى على يد أحد أعضاء الجهاز السرى للإخوان، ولكن دون علم قيادات الإخوان التى تحملت مسؤولية ما حدث، والحقيقة أن المسؤولية فى ذلك كانت تقع على هنداوى دوير، رئيس الجهاز السرى للإخوان فى إمبابة.
إعترافات : المستشار الدمدرداش العقالى