من طرف احمد ماهر مؤنس 31/5/2011, 6:24 pm
الإسـلام والحــرب
الجزء 2
أ ـ الحرب ضرورة اجتماعية :
القاعدة الأساسية التي وضعها الإسلام للحياة هي ولا شك الطمأنينة والسلام والاستقرار ، ولكن الإسلام مع هذا دين يواجه الواقع ولا يفر منه ، وما دامت في الدنيا نفوس لها أهواء ونوازع ومطامع ، وما دام هناك هذا الناموس الذي يطبق على الأفراد والجماعات على السواء ، ناموس تنازع البقاء ، فلابد إذن من الاشتباك والحرب ، وحين تكون الحرب لردع المعتدي وكف الظالم ونصرة الحق والانتصاف للمظلوم تكون فضيلة من الفضائل وتنتج الخير والبركة والسمو للناس ، وحين تكون تحيزا وفسادا في الأرض واعتداء على الضعفاء تكون رذيلة اجتماعية وتنتج السوء والشر والفساد في الناس . ومن هنا جاء الإسلام يقرر هذا الواقع ويصوره ، فيقول القرآن الكريم: (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة:251) , كما يقول في آية أخرى: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ , الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج:40-41).
وبذلك كانت أولى نظرات الإسلام إلى الحرب أنها ضرورة اجتماعية أو شر لا بد منه إلا لما يرجى من ورائه من خير على حد قول الشاعر العربي:
والشر إن تلقه بالخيـر ضقت بـه ذرعا وإن تلقه بالشر ينحسـم
والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم
ب ـ أغراض الحرب في الإسلام :
وفى الوقت الذي يقرر الإسلام فيه هذا الواقع يحرم الحرب ويسمو بها ولا يدعو إليها أو يشجع عليها إلا لهذه الأغراض الأساسية السامية العالية الحقة:
1 - رد العدوان والدفاع عن النفس والأهل والمال والوطن والدين , وفي ذلك يقول القرآن الكريم: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة:190) , وكانت أول آية من آيات القتال نزلت وفيها الإذن به قول الله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج:39) ، وفى الآية الثالثة: (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ ..) (النساء:75) , وروى مسلم والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (جاء رجل إلى النبي r فقال: يا رسول الله أرأيت إن عدي على مالي؟ قال: "فانشد بالله" ، قال: فإن أبوا علي؟ قال: "فانشد بالله" ، قال: فإن أبوا علي؟ قال: "فانشد بالله" ، قال فإن أبوا علي؟ قال : "فقاتل ، فإن قُتِلت ففي الجنة ، وإن قَتَلتَ ففي النار").
وروي أبو داود و الترمذي والنسائي وابن ماجة عن سعد بن يزيد رضي الله عنه قال سمعت رسول الله r يقول: (ن قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون دمه فهو شهيد ومن قتل دون دينه فهو شهيد ومن قتل دون أهله فهو شهيد).
وروى البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله r يقول: (من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل فهو شهيد).
2 - تأمين حرية الدين والاعتقاد للمؤمنين الذين يحاول الكافرون أن يفتنوهم عن دينهم وفى ذلك يقول القرآن الكريم (يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) (البقرة:217) , ويقول في آية أخرى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة:193).
3- حماية الدعوة حتى تبلغ إلى الناس جميعا ويتحدد موقفهم منها تحديدا واضحا , وذلك أن الإسلام رسالة اجتماعية إصلاحية شاملة تنطوي على أفضل مبادئ الحق والخير والعدل وتوجه إلى الناس جميع كما قال الله تبارك وتعالى لنبي الإسلام محمد r : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً) (سـبأ:28) , فلا بد أن تزول من طريقها كل عقبة تمنع من إبلاغها ولا بد أن يعرف موقف كل فرد وكل أمة بعد هذا البلاغ ، وعلى ضوء هذا التحديد تكون معاملة الإسلام وأهله للناس: فالمؤمنون إخوانهم , والمعاهدون لهم عهدهم , وأهل الذمة يوفى لهم بذمتهم , والأعداء المحاربون ومن تخشى خيانتهم ينبذ إليهم فإن عدلوا عن خصومتهم فيها وإلا حوربوا جزاء اعتدائهم حتى لا يكونوا عقبة في طريق دعوة الحق أو مصدر تهديد وخيانة لأهلها لا إكراها لهم على قبول الدعوة ولا محاولة لكسب إيمانهم بالقوة (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة:256) ، والآيات والأحاديث ناطقة بذلك مفضلة إياه في مثل قول الله تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ) (لأنفال:58) , (فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) (النساء:74) , وقوله تعالى (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) (التوبة:29) ،وقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) (النساء:76).
وروى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله).
4 - تأديب ناكثي العهد من المعاهدين أو الفئة الباغية على جماعة المؤمنين التي تتمرد على أمر الله وتأبى حكم العدل والإصلاح وفى ذلك يقول القرآن الكريم: (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ , أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (التوبة:13) , ويقول: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات:9).
5 - إغاثة المظلومين من المؤمنين أينما كانوا والانتصار لهم من الظالمين , وفى ذلك يقول القرآن الكريم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (لأنفال:72).
ج ـ تحريم الحرب لغير ذلك من الأغراض:
فكل ما سوى هذه الأغراض الإنسانية الإصلاحية الحقة من المقاصد المادية أو النفعية فإن الإسلام لا يجيز الحرب من أجلها بحال من الأحوال وذلك واضح كل الوضوح في إضافة الإسلام القتال أو الجهاد دائما إلى سبيل الله فلا تزد واحدة من هاتين الكلمتين في بحث من البحوث الإسلامية إلا مقرونة بهذا السبيل , على أن القرآن الكريم قد صرح بتحريم كل قتال لغير هذه الأغراض المشروعة وأكدت هذا التحريم أحاديث النبي محمد r وسجل التاريخ ذلك لأصحابه الذين لم يريدوا بقتالهم شيئا أبدا إلا وجه الله وتحقيق المقاصد المتقدمة كلها أو بعضها وفي ذلك يقول القرآن الكريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) (النساء:94) , ويقول: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ , لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (لأنفال:67-68).
وأخرج الخمسة عن أبى موسى رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله r عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء أي ذلك في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله").
وأخرج أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رجلا قال: يا رسول الله رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغى عرضا من الدنيا فقال: "لا أجر له" ، فأعاد عليه ثلاثا كل ذلك يقول: "لا أجر له").
ولقد تأثر أصحاب النبي حتى الأعراب منهم بهذا السمو في الغرض من القتال حتى روى النسائي عن شداد بن الهادي رضي الله عنه (أن رجلا من الأعراب جاء فآمن بالنبي ثم قال: أهاجر معك , فأوصى النبي r به بعض أصحابه فكانت غزاة غنم النبي فيها شيئا فقسم وقسم له فقال: ما هذا. فقال "قسمته لك" قال: ما على هذا اتبعتك ولكنى اتبعتك على أن أرمى إلى ههنا - وأشار بيده إلى حلقه بسهم - فأموت فأدخل الجنة فقال: "إن تصدق الله يصدقك" فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو فأتى به النبي محمولا قد أصابه سهم حيث أشار فقال النبي: "أهو هو؟" قالوا: نعم قال: "صدق الله فصدقه" ثم كفن في جبة النبي ثم قدمه فصلى عليه فكان مما ظهر من صلاته: "اللهم إن هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك فقتل شهيدا وأنا شهيد على ذلك").
وصحف التاريخ فياضة بمثل هذه الزهادة منهم في عرض الحياة الدنيا وغنائم الفتح وأن غرضهم من الجهاد لم يكن شيئا إلا إعلاء كلمة الله وحماية دعوته في الناس.
د ـ إيثار السلم كلما أمكن ذلك والتشجيع عليها:
فالمسلم لا يحارب إلا مكرها على القتال بعد استنفاد وسائل المسالمة جميعا , وحين تلوح بارقة أمل في السلم يوجب عليه الإسلام أن ينتهزها وألا يدع الفرصة تفلت من يده وعليه أن يعمل على إطفاء نار الحرب ما استطاع إلى ذلك سبيلا , وفى ذلك يقول القرآن الكريم: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (لأنفال:61) ، وروى أبو داود عن الحارث بن مسلم عن أبيه قال: (بعثنا رسول الله r في سرية فلما بلغنا المغار "أي مكان المغارة" استحثثت فرسي فسبقت أصحابي فتلقاني أهل الحي بالرنين فقلت لهم: "قولوا لا إله إلا الله تحرزوا" فقالوها فلامني أصحابي وقالوا: حرمتنا الغنيمة فلما قدمنا على رسول الله r أخبروه بالذي صنعت فدعاني فحسّن لي ما صنعت ثم قال لي "أما إن الله قد كتب لك لكل إنسان منهم كذا وكذا من الأجر" وقال: "أما إني سأكتب لك بالوصاة بعدي" ففعل وختم عليه ودفعه إلي").
هـ ـ الرحمة في الحرب ومراعاة أعلى آدابها الإنسانية:
فإذا كانت الحرب ولا بد فإن المسلم يضرب فيها أروع المثل على الرحمة والتفضل ومراعاة أعلى آدابها الإنسانية فإذا رجحت كفة المسلمين على أعدائهم وظهرت الغلبة لهم فإن عليهم بحق القرآن أن يكفوا عن القتل ويكتفوا بالأسر ليمنوا على الأسير بعد ذلك بحريته أو يفتدوا به مثله من أساراهم فيحسنوا إلى إنسانين من عباد الله وفى ذلك يقول القرآن الكريم: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) (محمد:4) , وأما الرقّ فسيأتي تفصيل الكلام عنه في بحث آخر ، وحسبنا الآن أن نقول إنه معنى من معاني الرحمة التي شرعها الإسلام في الحرب فأبدل حكم الإعدام وهو القتل بحكم السجن المؤبد وهو الرق بعد الأسر ثم جعل لهذا السجن بعد ذلك عدة منافذ يستطيع الأسير فيها أن يسترد حريته بكل سهولة لا يبيح الإسلام الرق بحال من الأحوال إلا في هذا الموقف والذي تتجسم فيه معاني الرحمة والإحسان.
والمسلم فئ قتاله ، لا يغدر ولا يفجر ولا يفسد ولا يتلف ولا ينهب مالا ولا يقتل امرأة ولا طفلا
ولا شيخا كبيرا ولايتبع مدبرا ولا يجهز على جرحى ولا يمثل بقتيل ولا يسيء إلى أسير ولا يتعرض لمسالم أو رجل دين ولا يقصد أن يضرب وجها أو يقتل صبي.
أخرج أبو داود عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله r : (أعف الناس قِتلة أهل الإيمان). وأخرج البخاري عن عبد الله بن يزيد الأنصاري قال: (نهى رسول الله r عن النهبى والمثلة).
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: (إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه).
وأخرج أبو داود عن أبى يعلى قال: (غزونا مع عبد الرحمن بن خالد بن الوليد فأتى بأربعة أعلاج من العدو فأمر بهم فقتلوا صبرا بالنبل فبلغ ذلك أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال: "سمعت رسول الله r ينهى عن قتل الصبر فوالذي نفسي بيده لو كانت دجاجة ما صبرتها" فبلغ ذلك عبد الرحمن فأعتق أربع رقاب).
وأخرج الستة ، إلا النسائي ، عن ابن عمر قال: (وجدت امرأة مقتولة في بعض مغازي رسول الله r فنهى رسول الله r عن قتل النساء والصبيان).
وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي عن بريدة رضى الله عنه قال : (كان رسول الله r إذا أمّر الأمير على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيرا ثم قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا").
وكانت هذه الوصية شعار الخلفاء والأمراء ، يوصون بها دائما قواد الجيوش حين يبعثون بهم إلى القتال , أوصى أبو بكر أسامة رضي الله عنه فقال: (لا تخونوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة , ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه , ولا تقطعوا شجرة مثمرة , ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا للأكل ، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له ، وسوف تقدمون على قوم فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل
العصائب فاخفقوهم بالسيف خفقا) , ثم قال: (اندفعوا باسم الله).
فهل رأت الساحات والميادين أرق من هذه الأفئدة وألين من هذه القلوب؟
و ـ الوفاء بالعهود والمواثيق والشروط:
فإذا كانت هدنة وموثق وعهد وصلح وشرط فالإسلام يشدد في ملاحظة ذلك والمحافظة على صورته ومعناه أدق المحافظة ويتوعد الخالفين من أبنائه إن غدروا ولم يفوا بأشد الوعيد , والآيات والأحاديث في ذلك واضحة محكمة لا تدع مجالا لإباحة نقض العهد بالخيانة فيه وقت القوة وعده قصاصة ورق عند إمكان الخروج عليه بالحيلة ، وفى ذلك يقول القرآن الكريم: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ , وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (النحل:91-92) , (إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:4) , (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الإسراء:34).
وأخرج أبو داود عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء الصحابة عن آبائهم رضي الله عنهم أن رسول الله r قال: (من ظلم معاهَدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة).
(قال أهل سمرقند لعاملهم سليمان بن أبي السري : إن قتيبة غدر بنا وظلمنا وأخذ بلادنا , وقد أظهر الله العدل والإنصاف فأذن لنا فليفد منا وفد إلى أمير المؤمنين ـ وهو يومئذ عمر بن عبد العزيز ـ يشكون ظلامتنا فإن كان لنا حق أعطيناه , فإن بنا إلى ذلك حاجة ، فأذن لهم فوجهوا منهم قوما إلى عمر ، فلما علم عمر ظلامتهم كتب إلى سليمان يقول له: "إن أهل سمرقند قد شكوا إلي ظلما أصابهم ، وتحاملا من قتيبة عليهم حتى أخرجهم من أرضهم ، فإذا أتاك كتابي هذا فأجلس لهم القاضي فلينظر في أمرهم ، فإن قضى لهم فأخرجهم إلى لمعسكرهم كما كانوا وكنتم قبل أن يظهر عليهم قتيبة" , فاجلس لهم سليمان "جميع بن حاضر" القاضي ، فقضى أن يخرج عرب سمرقند إلى معسكرهم وينابذوهم على سواء فيكون صلحا جديدا أو ظفرا عنوة . فقال أهل السند: بل نرضى بما كان ولا نجدد حربا ، لأن أهل الرأي منهم قالوا: قد خالطنا هؤلاء القوم وأقمنا معهم وأمنونا وأمناهم فإن عدنا إلى الحرب لا ندرى لمن يكون الظفر ، وإن لم يكن لنا نكون قد اجتنبنا عداوة في المنازعة ، فتركوا الأمر على ما كان عليه ورضوا ولم ينازعوا) .. وهذا منتهى المبالغة في تقصى العدل والوفاء بالعهد.
ز ـ الجزية:
ولسنا نحب أن تمر هذه الكلمات عن موقف الإسلام من الحرب قبل أن نتناول أمر الجزية بكلمة توضح معناها والمقصود منها وتكشف عن حكمتها وكيف أنها أبلغ معاني الإنصاف والمرحمة التي جاء بها الإسلام فنقول:
الجزية ضريبة كالخراج تجبى على الأشخاص لا على الأرض والكلمة عربية مشتقة من الجزاء لأنها تدفع نظير شيء هو الحماية والمنعة ، أو الإعفاء من ضريبة الدم والجندية ، وذهب بعض العلماء إلى أنها فارسية معربة وأصلها "كزيت" ومعناها الخراج الذي يستعان به على الحرب . وقال إن كسرى هو أول من وضع الجزية وعلى هذا فهي نظام في الضريبة نقله الإسلام عن الفارسية ولم يبتكره.
ولقد قرر الإسلام ضريبة الجزية على غير المسلمين في البلاد التي يفتحها نظير قيام الجند الإسلامي بحمايتهم وحراسة أوطانهم والدفاع عنها في الوقت الذي قرر فيه إعفاءهم من الجندية , فهي "بدل نقدي" لضريبة الدم ، وإنما سلك الإسلام هذه السبيل ولجأ إليها مع غير المسلمين من باب التخفيف عليهم والرحمة بهم وعدم الإحراج لهم حتى لا يلزمهم أن يقاتلوا في صفوف المسلمين فيتهم بأنه إنما يريد لهم الموت والاستئصال والفناء والتعريض لمخاطر الحرب والقتال ، فهي في الحقيقة "امتياز في صورة ضريبة" وفى الوقت نفسه احتياط لتنقية صفوف المجاهدين من غير ذوى العقيدة الصحيحة والحماسة المؤمنة البصيرة ومقتضى هذا أن غير المسلمين من أبناء البلاد التي تدخل تحت حكم الإسلام إذا دخلوا في الجند أو تكفلوا أمر الدفاع أسقط الإمام عنهم الجزية , وقد جرى العمل على هذا فعلا في كثير من البلاد التي فتحها خلفاء الإسلام ، وسجل ذلك قواد الجيوش الإسلامية في كتب ومعاهدات لا زالت مقروءة في كتب التاريخ الإسلامي ومنها:
1 - كتاب خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا حين دخل الفرات وأوغل فيه وهذا نصه: (هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه , إني عاهدتكم على الجزية والمنعة فلك الذمة والمنعة وما منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا) كتب سنة اثنتي عشرة في صفر.
2 - وفى حمص رد الأمراء بأمر أبي عبيدة ما كانوا أخذوه من الجزية من أهلها وما إليها حين جلوا عنها ليتجمعوا لقتال الروم وقالوا لأهل البلاد إنما: (رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع وإنكم قد اشترطتم أن نمنعكم وإنا لا نقدر على ذلك الآن وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط وما كان بيننا وبينكم إن نصرنا الله عليهم) ، فكان جواب أهل هذه البلاد: (ردكم الله علينا ونصركم عليهم فلوا كانوا هم لم يردوا علينا شيئا وأخذوا كل شيء ، لولايتكم وعدلكم أحب إلينا مما كنا فيه من الظلم والغشم) ، وكذلك فعل أبو عبيدة نفسه مع دمشق حين كان يتجهز لليرموك.
3 - كتاب العهد الذي كتبه سويد بن مقرن أحد قواد عمر رضي الله عنهما لرزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان ونصه: (هذا كتاب سويد بن مقرن لرزبان صول بن رزبان وأهل دهستان وسائر أهل جرجان أن لكم الذمة وعلينا المنعة على أن عليكم من الجزاء في كل سنة على قدر طاقتكم على كل حال ومن استعنا به منكم فله جزاؤه "أي جزيته" في معونته عوضا عن جزائه ، ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم ولا يغير شيء من ذلك) شهد سواد بن قطبة وهند بن عمر وسماك بن مخرمة وعتيبة بن النهاس وكتب في سنة 18هـ - الطبري.
4 - كتاب عتبة بن فرقد أحد عمال عمر بن الخطاب وهذا نصه: (هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل أذربيجان سهلها وجبلها وحواشيها وشعارها وأهل مللها كلهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم على أن يؤدوا جزية على قدر طاقتهم ، ومن حشر منهم في سنة "أي جند منهم في سنة" وضع عنه جزاء تلك السنة ومن أقام فله مثل من أقام من ذلك) ـ الطبري.
5 - العهد الذي كان بين سراقة عامل عمر وبين شهر براز وقد كتب به سراقة إلى عمر فأجازه واستحسنه وهذا نصه: (هذا ما أعطى سراقة بن عمرو عامل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب شهر براز وسكان أرمينية والأرمن من الأمان , أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم وملتهم ألا يضاروا ولا ينقضوا ، وعلى أرمينية والأبواب الطراء منهم "أي الغرباء" والقناء "أى المقيمون" ومن حولهم فدخل معهم أن ينفروا لكل غارة وينفذوا لكل أمر ناب أو لم ينب رآه الوالي صلاحا على أن يوضع الجزاء "أي الجزية" عمن أجاب إلى ذلك ، ومن استغنى عنه منهم وقعد فعليه مثل ما على أهل أذربيجان من الجزاء فإن حشروا "أى جندوا" وضع ذلك عنهم) شهد عبد الرحمن بن ربيعة وسلمان بن ربيعة وبكير بن عبد الله وكتب مرضي بن مقرن وشهد ـ الطبري.
6 - أخيرا أمر الجراجمة فيما ذكره البلاذري فقال: (حدثني مشايخ من أهل إنطاكية أن الجراجمة من مدينة على جبل لكام عند معدن الزاج فيما بين بياس وبوقا يقال لها الجرجومة ، وأن أمرهم كان في استيلاء الروم على الشام وإنطاكية إلى بطريرك إنطاكية وواليها ، فلما قدم أبو عبيدة إلى إنطاكية وفتحها لزموا مدينتهم كم وهموا باللحاق بالروم إذ خافوا علي أنفسهم فلم يتنبه المسلمون لهم ولم ينبهوا عليهم ، ثم إن أهل إنطاكية نقضوا وغدروا فوجه إليهم أبو عبيدة من فتحها ثانية وولاها بعد فتحها حبيب بن مسلمة الفهري فغزى الجرجومة فلم يقاتله أهلها ولكنهم بدروا بطلب الأمان والصلح فصالحوه على أن يكونوا أعوانا للمسلمين وعيونا ومسالح في جبل لكام وألا يؤخذوا بالجزية , ودخل من كان في مدينتهم من تاجر وأجير وتابع من الأنباط وغيرهم وأهل القرى في هذا الصلح... ولم يؤخذ الجراجمة بالجزية قط حتى أن بعض العمال في عهد الواثق العباس ألزمهم جزية رؤوسهم فرفعوا ذلك إليه فأمر بإسقاطها عنهم).
وبهذا البيان يندفع كل ما يوجه إلى "ضريبة الجزية" من نقد أو اتهام ,وتظهر حكمة الإسلام ورحمة الله بعباده في تشريعاته واضحة لا غموض فيها ولا إبهام.
ح ـ الحث على دوام الاستعداد وكمال الشجاعة إذا تحتم الجهاد:
فإذا كان ولا بد من الحرب لغرض من الأغراض الإنسانية المشروعة التي سبقت الإشارة إليها ، فإن الإسلام يصرح بأن الجهاد والقتال فريضة على كل مسلم (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة:216).
وهو حينئذ أفضل القربات إلى الله تبارك وتعالى والموت في ساحاته "شهادة" توجب الإكبار في الدنيا والجنة في الآخرة ولا يعفى منه إلا العاجزون عنه وعليهم أن يجهزوا غيرهم إن كانوا قادرين على ذلك وأن يخلفوهم في أهليهم بخير (إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (التوبة:111).
وأحاديث النبي محمد r في ذلك أكثر من أن تحصر وقد باشر هو بنفسه في أكثر من خمس وعشرين معركة كان فيها مثال الشجاعة والنجدة والبأس حتى قال فارس أصحابه علي كرم الله وجهه: (كنا إذا اشتد البأس وحمي الوطيس واحمرت الحدق اتقينا برسول الله r فيكون أدنانا إلى العدو) وكذلك كان أصحابه رضوان الله عليهم يفعلون , ولا يستطيع أحد أن يرى في هذه الأحكام والأخلاق لمثل ما شرعت له من مقاصد وأغراض إلا أكرم معاني الفضيلة الإنسانية , والجود بالنفس أقصى غاية الجود , وأجمل ما يكون الحق إذا استعان بالقوة , وأفضل ما تكون القوة إذا استُخدمت للحق بالحق.
هل انتشرت دعوة الإسلام بالسيف؟
أولع خصوم الإسلام في كل عصر وبخاصة في هذا العصر بتوجيه هذه التهمة إلى الإسلام ، والإسلام منها براء , فهو لم يكره الناس على الإيمان بالسيف ولم يضعه على رقابهم ليشهدوا بشهادته أو يدينوا بعقيدته فهذه التهمة باطلة من وجوه عدة:
1 - باطلة بشهادة التاريخ: الذي يحدثنا بأن النبي محمداً r مكث بمكة المكرمة ثلاث عشرة سنة يدعو إلى دينه كان فيها مضطهدا أشد الاضطهاد حتى من أهله وعشيرته وأقرب الناس إليه ومع ذلك فقد احتمل وصبر وصابر وكان يمر على النفر من أصحابه والأسرة من المؤمنين به يعذبون أشد العذاب فلا يزيد على أن يقول لهم: (صبرا آل ياسر إن موعدكم الجنة) , ومع هذا فقد آمن بالإسلام السابقون الأولون الثابتون من أبنائه وأبرهم به في عهد النبي r وبعد وفاته أعمق الإيمان وآمن الأنصار وهم أهل المدينة بالنبي r بمجرد أن تحدث معهم في الموسم وتوافدوا إليه يبايعونه في كل عام حتى كانت بيعة العقبة وعلى أثرها كانت الهجرة وكل ذلك ورسول الله r لا يقابل أهل العدوان بسيف ولا عصا ولكن يصبر ويحتسب ويقول: (اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون) وما جاء الإذن بالقتال إلا في السنة الثانية من الهجرة بعد أن كثر خصوم الإسلام من المشركين واليهود وتألبوا عليه وأخذوا يتحرشون به ويكيدون له فأنزل الله هذه الآيات المحكمة وفيها أروع صور الإذن بالقتال لأنبل المقاصد والأغراض (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ , الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج:39-40).
والتاريخ يحدثنا عن أصحاب رسول الله r أنهم فتحوا البلاد بأخلاقهم وحسن معاملتهم قبل أن يفتحوها بسيوفهم وعدتهم وعددهم ، فلا يتصور أن عددا قليلا من هؤلاء العرب يدك عرش كسرى ويدك ملك قيصر ويرث هذه الإمبراطوريات الضخمة في هذا العدد من السنين بمجرد القوة ، ولا يعقل أن ثمانية آلاف جندي يفتحون إقليما شاسعا كمصر وينشرون فيها دينهم ولغتهم و آدابهم وثقافتهم وعقيدتهم بالإكراه والجبروت ، ولكن بحسن الأحدوثة وجميل العمل ، وها نحن قد رأينا فيما تقدم كيف أن كثيرا من أهل هذه البلاد كانوا يتمنون عودة العرب إليهم بعد جلائهم فكيف يقال بعد هذا إن الإسلام قام على السيف وانتشر بالسيف.
2 - وباطلة بآيات القرآن الكريم: التي تقرر حرية العقيدة وتقول في وضوح وصراحة: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) (البقرة:256) , كما تقول: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) (الكهف:29) كما تقول: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) (التوبة:6) , فهو يلزم المؤمنين إن استجار بهم أحد المشركين أن يبلغوه الدعوة ويوضحوا له مقاصد الإسلام ثم يحرسوه حتى يصل إلى مأمنه ويتركوه ليسلم عن رغبة واقتناع لا عن خوف ورهبة وإكراه..
3 - وباطلة لأن قواعد الإسلام وما جرى عليه العمل به منها تأباها كل الإباء: فأساس الإيمان في الإسلام الفكر والنظر والاطمئنان القلبي (قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات:14) ، وأساس المؤاخذة في الإسلام بلوغ -الدعوة على وجه يدعو إلى النظر ، والتقليد في الإيمان ليس أساسا صحيحا له فضلا عن الإكراه عليه حتى قال بعض العلماء المتأخرين في منظومة فنية:
إذ كل من قلد في التوحيد إيمانه لم يخل من ترديد
وقول المكره في الإسلام مردود عليه ولا يؤاخذ على عمله ، فالدين الذي يعتبر العقل والحرية أساسا للاعتقاد والمسئولية لا يمكن أن يقال فيه إنه يقوم على السيف وينتشر به ، وإن كان قد شرع الحرب والقتال لما تقدم من الأغراض التي لا يعترض عليها إلا واهم أو مكابر , وعلامة الإيمان الحق الاطمئنان إليه ، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ , الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (الرعد:28-29).
هل الإسلام وحده هو الذي أوصى بالسيف لحماية الحق؟
وليس الإسلام وحده هو الذي أشار إلى القتال والحرب والجهاد كوسيلة لحماية الحق ، بل إن الشرائع
السابقة واللاحقة كلها جاءت بذلك..
فأسفار التوراة التي يتداولها اليهود اليوم طافحة بأنباء القتال والجهاد والحرب والتخريب والتدمير والهلاك والسبي ، وهى تقرر شريعة القتال والحرب ولكن في أبشع صورها فقد جاء في سفر التثنية في الإصحاح العشرين منه عدد 10 وما بعده ما يأتي بنصه: (حين تقرب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح ، فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك فكل الشعب الموجود فيها يكون لك بالتسخير ويستعبد لك ، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربا فحاصرها ، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف ، وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة فتغنمها لنفسك ، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك ، هكذا تفعل بجميع المدن البعيدة منك جدا والتي ليست من مدن هؤلاء الأمم هنا ، وأما مدن هؤلاء الشعوب التي يعطيك الرب إلهك نصيبا فلا تبقي منها نسمة ما , بل تحرمها تحريما ـ الحيثيين والأموريين والكنعانيين والفيرزيين والحويين واليوسيين كما أمرك الرب إلهك).
وفى إنجيل متى المتداول بأيدي المسيحيين في الإصحاح العاشر عدد25 وما بعده يقول: (لا تظنوا أني جئت لألقى سلاما على الأرض بل سيفا , فإنني جئت لأفرق الإنسان ضد ابنه والابن ضد أبيه والكنة ضد حماتها .. وأعداء الإنسان أهل بيته ، من أحب أبا أو أما اكثر مني فلا يستحقني ، ومن أحب ابنا أو ابنة اكثر مني فلا يستحقني ، ومن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني ، من وجد حياته يضيعها ، ومن أضاع حياته من أجلى يجدها).
والقانون الدولي العصري قد اعترف بالظروف والأحوال التي تشرع فيها الحرب ووضع لها قواعدها ونظمها.
وما جاء به الإسلام في هذا الباب أفضل وأدق وأرحم وأبر بالسلام من كل هذا ، فلماذا تتوجه إليه الشبهات وليس غيره سبيلا إلى السلام؟ (اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ , يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (المائدة:16).
خطوات الإسلام وما وضع من ضمانات لإقرار السلام
وفى وسعنا بعد هذه النظرات أن نقول: إن الإسلام كان أول وأكمل تشريع خطا في سبل إقرار السلام العالمي أوسع الخطوات ، ورسم لاستقراره أوفى الضمانات التي لو أخذت الأمم بها ، وسلك الحكام والزعماء والساسة نهج سبيلها لأراحوا واستراحوا ومن ذلك:
1 - تقديس معنى الإخاء بين الناس والقضاء على روح التعصب وقد تقدم موقف الإسلام من ذلك في الفصل السابق.
2 - الإشارة بفضل السلام وطبع النفوس بروح التسامح الكريم وقد تقدم في أول هذا الفصل موقف الإسلام في ذلك مع افتراض الوفاء وتحريم الغدر ونقض العهود والمواثيق.
3 - حصر فكرة الحروب في أضيق الحدود ، وتحريم العدوان بكل صوره وإشاعة العدل والرحمة واحترام النظام والقانون حتى في الحرب نفسها ، وللإسلام في ذلك القدح المعلى ويقول القرآن الكريم تأكيدا لهذا المعنى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (المائدة:8).
4 - التأمين المسلح وقد سبق الإسلام كل الخطوات العصرية إليه في قول القرآن الكريم (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات:9) ، ولقد ذكر رسول الله r ما كان في الجاهلية من هذا المعنى وهو حلف الفضول بكل خير وقال r عنه: (لقد شهدت في بيت عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم) ثم قال: (ولو سئلت به في الإسلام لأجبت).
أين خطوات زعماء هذا العصر من هذه الخطوات؟
وبعد : فأين خطوات زعماء هذا العصر وساسته وعلمائه ومشرعيه وفلاسفته من هذه النظرات وماذا صنعوا لإقرار السلام على الأرض وقد شهدت الدنيا في ربع قرن حربين عالميتين طاحنتين أكلتا الأخضر واليابس وقامت بعد الحرب الأولى "عصبة الأمم" لإقرار السلام فكتب لها أن تموت قبل أن تولد ، ووأدها الذين شهدوا مولدها ، بالأهواء السياسية والأطماع الاستعمارية فلم تستطع أن تعالج قضية واحدة من قضايا الخلاف بين الأمم التي اشتركت فيها ووقعت ميثاقها ، ولم تلبث إلا ريثما تهيأت الأم والشعوب للحرب من جديد ، وقيل إن سبب فشلها خلو ميثاقها من النص على العقوبة العسكرية للمخالفين.
وعقب الحرب العالمية الثانية قامت هيئة الأمم المتحدة وأنشئ مجلس الأمن واستكمل النقص التشريعي في بناء عصبة الأمم الموءودة ومضى على ذلك وقت طويل ، ولا زال الخلاف يشتد أثره ويقوى مظهره , ولم تنجح الهيئة ولا المجلس إلى الآن في علاج قضية أو تسوية خلاف , وليس وراء ذلك إلا الحرب الثالثة.
وليس معنى الحرب الثالثة شيئا إلا فناء الأرض ومن عليها فنحن في عصر القنبلة الذرية.
فهل تفيء الإنسانية الحيرى إلى الله؟ ..وتتلقى دروس السلام قلبيا ونظريا وعمليا عن الإسلام؟.. دين المرحمة ودين السلام...
قُلِ الْحَمْدُ للهِ .... وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى
ءآللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ؟؟
حسـن البنـّـا