المدينة الفاضلة كما تم التعارف عليها هي أحد أحلام الفيلسوف المشهور " أفلاطون " وهي مدينة تمنى أن يحكمها الفلاسفة .. وذلك ظناً منه أنهم لحكمتهم سوف يجعلون كل شئ في هذه المدينة معيارياً ، وبناءاً عليه ستكون فاضلة.
ولكنها عندنا نحن المسلمون كل بلد يحكمها شرع الله عز وجل .. لأن الله هو الحكيم الخبير .. ولو حكمنا شرعه لسادت قيم العدل والرحمة .. وسادت جميع الأخلاق الفاضلة .. فسوف تكون فاضلة بحق لأنها تحيا في ظل شريعة الرحمن.
وأصدقكم القول في ميدان التحرير تحققت سمات وصفات هذه المدينة الفاضلة , ففي ميدان التحرير، كلنا مصريون، الغني والفقير، المسلم والمسيحي، اليميني واليساري، الجندي والمدني... الكل يتبارى ليقدم أفضل ما عنده، فهو يتفنن في كتابة الشعارات المبتكرة، فهذا يحمل على كتفه صندوقاً ثقيلاً من زجاجات المياه يدور به على الناس ليسقي العطشى طواعية، وآخر الأكياس والأوراق من الأرض, وثالث يربت على كتف زميله مشاركا ومواسياً , الكل يجمعهم مكان واحد كما جمعهم هدف واحد , تجد جميع أطياف الناس ؛ المتعلم وغيره , الطبيب والعالم والمهندس والمدرس والقاضي والحرفي , والطلاب من جميع الجامعات العامة والخاصة , وكذا النساء ؛ المنقبة والمحجبة وحتى المتبرجة , الكل مشغول بشعار الحرية والعدالة , والعجيب أنك تجد المسلم حينما يصلي تجد المسيحي يقف ليحرسه , والمسيحي حينما يقيم قداسه يقف المسلم ليحرسه , فروح الود والتآلف تسيطر على الجميع , فلا إكراه لأحد على فكر أو رأي , ولا إكراه لأحد على دين أو عقيدة , كما قال سبحانه : " لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . سورة البقرة: 256.
وقال: " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) سورة يونس .
وقال " وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ .. (29) سورة الكهف .
فلقد أوهموا الناس أن هناك فتنة طائفية تريد أن تجتاح مصر , وأن الإسلام لا يقبل التعايش مع الآخرين وأنه يتربص بهم للإجهاز عليهم , ولم يدركوا أن الإسلام دين يحترم الآخر ويرعى له ذمته وحقه في العيش الأمن الكريم , ولقد استمر النبي صلى الله عليه وسلم حتى وفاته يطبق هذا السلوك الحضاري القويم , فعَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسٍ ، قَالَ: كَانَ غُلاَمٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ، فَمَرِضَ ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ ، فَقَالَ لَهُ : أَسْلِمْ ، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ ، وَهُْوَ عِنْدَهُ ، فَقَالَ لَهُ : أَطِعْ أَبَا القاسِم صلى الله عليه وسلم ، فَأَسْلَمَ ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُْوَ يَقُولُ : الْحَمْدُ ِللهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ. أخرجه أحمد 3/175(12823) و"البُخَاريّ" 1356 و"أبو داود" 3095.
فهذه الحكاية تذكر في معرض حرص النبي صلى الله عليه وسلم على هداية الناس إلى دين الحق والخير , وقد لا يلتف كثير منا إلى شيء مهم وهو سماح النبي عليه الصلاة والسلام لغلام يهودي بأن يكون في خدمته يدخل بيته ويتطلع على أسرار لا يطلع عليه الناس .
وحكاية أخرى ذكرتها كتب السنة عن المرأة اليهودية التي لبى النبي صلى الله عليه وسلم دعوتها وذهب إلى بيتها يشاركها طعامها , عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ ، عَنْ أَنَسٍ ؛ أَنَّ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ ، فَأَكَلَ مِنْهَا ، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَتْ : أَرَدْتُ لأَقْتُلَكَ ، قَالَ : مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَاكَِ - قَالَ : أَوْ قَالَ : عَلَيَّ - قَالَ : قَالُوا : أَلاَ نَقْتُلُهَا ؟ قَالَ : لاَ ، قَالَ : فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.أخرجه أحمد 3/218(13318) و"البُخَارِي" 2617 ، وفي (الأدب المفرد) 243 و"مسلم" 5756.
وأيضاً ما ذكر في كتب السنة عن موت النبي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي , فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا . قَالَتْ:اشْتَرَى رَسًولُ الله صلى الله عليه وسلم طَعَاما مِنْ يَهُودِيٍّ بِنَسِيئَةٍ ، وَرَهَنَهً دِرْعا لَهُ مِنْ حَدِيدٍ. أخرجه أحمد 6/42 و"البُخَارِي" 3/73 و151.
وعَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ ، عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أبنَاءِ أصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، عَنْ آبَائِهِمْ دِنْيَةً ، عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالََ : ألاَ مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا ، أو انْتَقَصَهُ ، أوْ كَلَّفهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ ، أوْ أخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَة. أخرجه أبو داود (3052) الألباني في "السلسلة الصحيحة" 1 / 729.
فاحترام النفس الإنسانية مبدأ إسلامي أصيل لا يختلف عليه اثنان , عن بن أبي ليلى , أن قيس بن سعد وسهل بن حنيف كانا بالقادسية , فمرت بهما جنازة , فقاما , فقيل لهما : إنها من أهل الأرض , فقالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة فقام. فقيل : إنه يهودي. فقال : أليست نفسا؟. أخرجه أحمد 6/6(24343) و"البُخَارِي" 2/107(1312).
ولقد طبق المسلمون هذه المبادئ السامية في حياتهم , فأنصفوا الآخرين من أنفسهم أيما إنصاف .قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : " إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) سورة النساء .
قال أهل التفسير : أي ولا تكن لمن خان مسلمًا أو معاهدًا في نفسه أو ماله"خصيما" تخاصم عنه، وتدفع عنه من طالبه بحقِّه الذي خانه فيه , وسبب نزول هذه الآية , قال ابن عباس نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له طعمة بن إبيرق من بني ظفر بن الحارث سرق درعاً من جار له يقال له قتادة بن النعمان وكانت الدرع في جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى داره ثم خبأها عند رجل من اليهود يقال له زيد بن السمين فالتمست الدرع عند طعمة فحلف بالله ما له بها من علم فقال أصحاب الدرع : لقد رأينا اثر الدقيق حتى دخل داره فلما حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي فأخذوه فقال اليهودي : دفعها إلي طعمة بن أبيرق زاد في الكشاف وشهد له جماعة من اليهود . قال البغوي : وجاء بنو ظفر قوم طعمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يجادل عن صاحبهم طعمة فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعاقب اليهودي وأن يقطع يده فأنزل الله هذه الآية وقيل إن زيد بن السمين أودع الدرع عند طعمة فجحده طعمة الله فأنزل هذه الآية : { إنا أنزلنا إليك } يعني يا محمد الكتاب يعني القرآن بالحق يعني بالصدق وبالأمر والنهي والفصل { لتحكم بين الناس بما أراك الله } يعني بما علمك الله وأوحى إليكم وإنما سمي العلم اليقيني رؤية لأنه جرى مجرى الرؤية في قوة الظهور روي عن عمر أنه قال لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه صلى الله عليه وسلم ولكن ليجهد رأيه لأن الرأي من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مصيباً ، لأن الله تعالى كان يريه إياه وإن رأي أحدنا يكون ظناً ولا يكون علماً قال المحققون دلت هذه الآية على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يحكم إلا بالوحي الإلهي والنص المنزل عليه { ولا تكن } يعني يا محمد { للخائنين خصيماً } يعني ولا تكن لأجل الخائنين وهم قوم طعمة تخاصم عنهم وتجادل عن طعمة مدافعاً عنه ومعيناً له { واستغفر الله } , يعني مما هممت به من معاقبة اليهودي وقيل من جدالك عن طعمة { إن الله كان غفوراً } يعني لذنوب عباده يسترها عليهم ويغفرها لهم { رحيماً } يعني بعباده المؤمنين .الطبري 9/182 , ابن كثير 2/405 .
وفي ميدان التحرير وجدنا روح التآلف والتكافل بين جميع الناس , كما وجدنا التعاون على البر والخير الذي أمر به الإسلام ,وكذا الشباب الذين كنا نظن أنهم ( الطاقات المعطلة ) وجدنا أنهم هم من قاموا بثورة وتحملوا تبعاتها , وتحملوا في سبيلها حملات التشكيك والتخوين والتهوين .
إن ما حدث في ميدان التحرير سوف يظل ملحمة يرويها جيل بعد جيل , ليدللوا بها على أن دولة الظلم ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة , وكما قال الله في كتابه الكريم : " فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17) سورة الرعد .
قال الشاعر :
ضع في يدي ّ القيد ألهب أضلعي * * * بالسوط ضع عنقي على السكّين
لن تستطيع حصار فكري ساعةً * * * أو نزع إيماني .. ونور يقيني
فالنور في قلبي وقلبي في يديْ * * * ربّي .. وربّي ناصري ومعيني
سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي * * * وأموت مبتسماً ليحيا ديني