حينما قام النزاع بين أهل الرأي وأهل الحديث؛ وذلك بسبب اختلافهم في كثير من الآراء والمعتقدات، فقد أطلق أهل الرأي من المعتزلة وغيرهم ألسنتهم على أهل الحديث ورموهم بالنقائص والكذب، ولكن ظل أهل الحديث والأثر سائرين في طريقهم المنشود يدافعون عن الحق، متخذين منهج التثبت والحيطة شعاراً ودثاراً لهم، شعارهم في ذلك قول الله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (6) سورة الحجرات)، قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: " يأمر الله تعالى- بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له، لئلا يحكم بقوله، فيكون في نفس الأمر كذابا أو مخطئا، فيكون الحاكم بقوله قد اقتفى وراءه، وقد نهي الله - عز وجل - عن اتباع سبيل المفسـدين، ومن هنا امتنع طوائف من العلـماء عن قبول رواية مجهول الحال لاحتمال فسقه"(ابن كثير: تفسير القرآن العظيم ج4 ص 210).
وقال " الخطيب " تعليقا على هذه الآية: " أمر الله بالتثبت في خبر الفاسق، وبين ذلك لئلا يصاب قوم بجهالة، فيصبح من قضى بخبر الفاسق نادما، وفي ذلك دلالة واضحة على امضاء خبر العدل والفرق بينه وبين خبر الفاسق فلو كانا سببين في التثبت لبينه الله - عز وجل -" (الخطيب البغدادي: الفقيه والمتفقه ج1ص97).
ودثارهم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ".. من كذب علىَّ فليتبوأ مقعده من النار" (أخرجه البخاري 1/178، ومسلم برقم 322.وأبو داود برقم 3651).
لذا فقد قاموا بنقد الرواة والوقوف على أحوالهم، وتمييز الصحيح من المكذوب، والمجرح من المعدل.
أنشد: عبدة ين زياد:
ديـــن النبي مـحمــد أخبار *** نـعم المطية للفتى الآثار
لا تـخــدعن عـن الحديث وأهله *** فالرأي ليل والحديث نهــار
ولربـمـا غـلط الفتى سبل الهدى *** والشمس بـازغـة لهـا أنـوار
قال القاضي عياض في (الإلماع ص 38): " لو أن صاحب الرأي المذموم شغل نفسه بما ينفعه من العلوم، وطلب سنن رسول رب العالمين واقتفى آثار الفقهاء، والمحدثين؛ لوجد في ذلك ما يغنيه عما سواه، واكتفى بالأثر عن رأيه الذي رآه؛ لأن الحديث يشتمل على معرفة أصول التوحيد، وبيان ما جاء من وجوه الوعد والوعيد، وصفات رب العالمين - تعالى - عن مقالات الملحدين، والأخبار عن صفات الجنة والنار، وما أعد الله - تعالى - فيها للمتقين والفجار، وما خلق الله في الأرضيين والسماوات في صنوف العجائب وعظيم الآيات وذكر الملائكة المقربين، ونعت الصافيين والمسبحين، وفى الحديث قصص الأنبياء وأخبار الزهاد والأولياء، ومواعظ البلغاء، وكلام الفقهاء - وسير ملوك العرب والعجم، وأقاصيص المتقدمين من الأمم، وشرح مغازي الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسراياه، وجمل أحكامه وقضاياه، وخطبه وعظاته، وأعلامه ومعجزاته، وعدة أزواجه وأولاده، وأصهاره وأصحابه، وذكر فضائلهم ومآثرهم، وشرح أخبارهم ومناقبهم، ومبلغ أعمارهم، وبيان أنسابهم، وفيه تفسير القرآن العظيم، وما فيه من النبأ والذكر الحكيم، وأقاويل الصحابة في الأحكام المحفوظة عنهم، وتسمية من ذهب إلى قول كل واحد منهم من الأئمة الخالصين، والفقهاء المجتهدين.
ولقد كان على رأس هؤلاء المدافعين عن الحديث وأهله، إمام أهل الســنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - (164 241 هـ) والذي وقف بشجاعة نادرة يدافع عن الدين ضد انتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، فكان - رحمه الله - يكره الجدل في الدين ويرفض تقديم الرأي على الأثر، وهو الذي قال: " (إنه لا يفلح صاحب كلام أبداً ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل) (ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله (245).
قال عبيد الله بن حنبل: "حدثني أبي قال: سمعت أبا عبد الله يقول: عليكم بالسنة والحديث وينفعكم الله به، وإياكم والخوض والجدال والمراء فإنه لا يُفلح من أحب الكلام، وكل من أحدث كلاما لم يكن آخر أمره إلا إلى بدعة، لأن الكلام لا يدعو إلا خير، ولا أحب الكلام ولا الخوض ولا الجدال، وعليكم بالسنن والآثار والفقه الذي تنتفعون به، ودعوا الجدال والكلام وأهل الزيغ والمراء، أدركنا الناس ولا يعرفون هذا، ويجانبون أهل الكلام، وعاقبة الكلام لا تؤول إلى خير، أعاذنا الله وإياكم من الفتن وسلمنا وإياكم من كل هلكة" (اعتقاد الأئمة الأربعة أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، للدكتور محمد بن عبد الرحمن الخميس، ص 37).
ومع تحوطه وموقفه المعارض من علم الكلام والجدل إلا أنه تعلم علم المناظرة وأتقن فنونه وأصوله حتى يقيم الحجة على المتكلمين ويرد الشبه عن الدين، ويجعل ذلك وسيلة إلى الدفاع عن تعاليم الإسلام.
قال أحمد في رواية حنبل: قد كنا نأمر بالسكوت فلما دُعينا إلى أمرٍ، ما كان بدٌ لنا أن ندفع ذلك ونبيِّن من أمره ما ينفي عنه ما قالوه. ثم استدل لذلك بقوله - تعالى -: "وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ " (ابن مفلح: الآداب الشرعية: 1/207).
ولقد أخذ الإمام أحمد أصول المناظرة من شيخه الشافعي - رحمه الله -، والذي كان دائما ما يقول: " ما ناظرت أحدا قط إلا أحببت أن يوفق، ويسدد، ويعان، ويكون عليه رعاية من الله وحفظ، وما ناظرت أحدا إلا ولم أبال بيّن الله الحق على لساني أو لسانه.
وكان يقول أيضا: " ما ناظرت أحدا قط إلا على النصيحة" (الحلية لأبي نعيم 9/118).
فصار أحمد على هذا النهج فكان يذعن للحق، ويتخلق بأخلاق العلماء العاملين، قال محمد بن عتاب بن المربع قال سمعت العباس بن عبد العظيم العنبري قال كنت عند أحمد بن حنبل وجاءه علي بن المديني راكبا على دابة قال فتناظرا في الشهادة وارتفعت أصواتهما حتى خفت أن يقع بينهما جفاء وكان أحمد يرى الشهادة وعلي يأبى ويدفع فلما أراد علي الانصراف قام أحمد فأخذ بركابه وسمعت أحمد في ذلك المجلس يقول لا ننظر بين أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فيما شجر بينهم ونكل أمرهم إلى الله (ابن عبد البر: جامع بيان العلم وفضله 2/107).
ومناظراته مع ابن أبي دؤاد في قضية خلق القرآن شاهد على التزامه بآداب الإسلام في المناظرة والجدل، فحينما تولى المعتصم الخلافة بعد المأمون، وكان المأمون قد أوصاه بتقريب ابن أبي دؤاد، والاستمرار بالقول بخلق القرآن، وأخذ الناس بذلك، وكان الإمام أحمد في السجن، فاستحضره المعتصم من السجن، وعقد له مجلساً مع ابن أبي دؤاد وغيره من علماء السوء، وجلسوا يناقشونه في خلق القرآن، والإمام أحمد يستدل عليهم بالنصوص الواردة، ويقول لهم: أعطوني دليلاً من كتاب الله أو سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وانفض المجلس ذلك اليوم دون شيء، وأمر المعتصم برده إلى السجن، وفي اليوم التالي أحضر من السجن وعقد المجلس، وكان موقفه رائعاً جليلاً كموقفه في الأمس، ورغم المحاولات والمناقشات، صمم الإمام أحمد على كلامه، وفشل القوم كفشلهم بالأمس، وانفض الاجتماع ورُد الإمام أحمد إلى السجن، وفي اليوم الثالث أعيد انعقاد المجلس، وأُحضر الإمام أحمد من السجن، وأعيدت المناقشة، وكان المعتصم عند عقد مجلس المناظرة، قد بسط بمجلسه بساطاً، ونصب كرسياً جلس عليه، وازدحم الناس إذ ذاك، كازدحامهم أيام الأعياد، وكان مما دار بينهم، أن قال للإمام أحمد، ما تقول في القرآن، فقال كلام الله غير مخلوق، قال الله - تعالى -: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) قال هل عندك حجة غير هذا؟، قال: نعم، قول الله - تعالى -: (الرحمن * علم القرآن) ولم يقل: خلق القرآن، وقال - تعالى -: (يس * والقرآن الحكيم) ولم يقل: والقرآن المخلوق.
فقال المعتصم: أعيدوه للحبس وتفرقوا، فلما كان من الغد، جلس المعتصم مجلسه ذلك وقال: هاتوا أحمد بن حنبل، فاجتمع الناس، وسمعت لهم ضجة ببغداد، فلما جيء به وقف بين يديه، والسيوف قد جردت، والرماح قد ركزت، والأتراس قد نصبت، والسياط قد طرحت، فسأله المعتصم، عما تقول بالقرآن، قال أقول غير مخلوق، واستدل بقوله - تعالى -: (ولكن حق القول مني) قال فإن يكن القول من الله - تعالى -، فإن القرآن كلام الله، وأحضر المعتصم له الفقهاء والقضاة، فناظروه بحضرته ثلاثة أيام، وهو يناظرهم ويظهر عليهم بالحجج القاطعة، ويقول أعطوني دليلاً من كتاب الله أو كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال المعتصم: قهرنا أحمد، وتحدث الوشاة عنده من علماء السوء، أنه قد غلب خليفتين، فأخذته العزة بالإثم، فشتمه وهدده بالقتل، فقال الإمام أحمد: يا أمير المؤمنين: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا يحل دمُ امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث)) فبم تستحل دمي وأنا لم آت شيئاً من هذا، يا أمير المؤمنين، تذكر وقوفك بين يدي الله - عز وجل -، كوقوفي بين يديك، فلما رأى المعتصم ثبوت الإمام أحمد وتصميمه، لان، فخشى ابن أبي دؤاد من رأفته عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن تركته قِيل: إنك تركت مذهب المأمون، أو أن يقال، غلب خليفتين، فهاجه ذلك، ثم أعيد إلى السجن مرة أخرى، وأخرج في رمضان وهو صائم وجعلوا والعياذ بالله يضربونه، وأتى المعتصم بجلادين كلما ضرب أحدهم الإمام أحمد سوطين، تأخر وتقدم الآخر، والمعتصم يحرضهم على التشديد في الضرب، وهو يقول شدوا عليه قطع الله أيديكم، ثم نزل المعتصم من كرسيه وجاء للإمام أحمد، وهو يقول له: قل بما قلت لك بأن القرآن مخلوق، فيقول الإمام أحمد: أعطوني دليلاً من كتاب الله أو سنة رسوله حتى أقول به (راجع: تاريخ الطبري 7/332).
وهذه الآداب سار عليها الإمام أحمد حتى وهو يناظر المعتزلة في قضية " خلق القرآن "حتى قال علي بن المديني: " إن الله أعز هذا الدين برجلين ليس لهما ثالث: أبو بكر الصديق يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة " (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي (4 / 418).
فما أحوجنا الآن إلا أن نتخلق بهذه الأخلاق ونتأدب بتلك الآداب.
المصدر http://multaqa.forum.st/montada-f2/topic-t379.htm#380