للكلام في ديننا الحنيف أهميّة عظيمة فهو صلة الوصل بين الناس ووسيلة التعبير الأساسية عندهم، لذلك حفّه الإسلام بهالة عظيمة من النصوص المتنوّعة والمتعدّدة ومن أبرز تلك النصوص قوله - تعالى -: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق18]
وكذلك ما رواه الترمذي عن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ قَالَ:"كُنتُ مَعَ النبيِّ في سَفَرٍ فَأَصبَحتُ يَوماً قَرِيباً منهُ وَنَحنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله أَخبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُني الجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عنِ النَّارِ، قَالَ: ((لقَدْ سأَلْتَنِي عَن عَظِيمٍ وإِنَّهُ لَيَسِيرٌ علَى من يسَّرَهُ الله عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللهَ وَلاَ تُشْرِكْ بِهِ شَيْئَاً، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِىءُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِىءُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِن جَوفِ الَّليْلِ، قَالَ: ثُمَّ تَلاَ (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) حَتَّى بَلَغَ (يَعْمَلُونَ) ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإسْلاَمُ، وَعُمودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ. ثمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ، قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أمّك يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَو عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)) (الترمذي كتاب الإيمان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والزيارات قائمة على تبادل الأحاديث والعبارات وكلّما كانت هذه الأحاديث محمّلة بعبارات الودّ واللهفة والحنان زادت الألفة والمحبّة، وكلّما كانت هذه الأحاديث محمّلة بعبارات التهكم والسخرية و الغمز واللمز والفظاظة والغلاظة زاد الخصام وتوتّرت الأعصاب ودُمّر النسيج الاجتماعي لهذه الزيارات، وبذلك جاء التوجيه النبويّ فعَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن كَانَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤذِ جَارَهُ وَمَن كَانَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيفَهُ وَمَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَو لِيَصمُتْ)) (متفق عليه).
قال في الفتح:" قوله: ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) بضم الميم ويجوز كسرها، وهذا من جوامع الكلم لأنّ القول كلّه إمّا خير وإمّا شرّ وإمّا آيل إلى أحدهما، فدخل في الخير كلّ مطلوب من الأقوال فرضُها وندبُها، فأذن فيه على اختلاف أنواعه، ودخل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شرّ أو يؤول إلى الشرّ فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت. وقد أخرج الطبرانيّ والبيهقيّ في "الزهد" من حديث أبي أمامة نحو حديث الباب بلفظ "فليقل خيراً ليغنم، أو ليسكت عن شرٍّ ليسلم". (فتح الباري شرح البخاري). وقال ابن مسعود: "ما شيء أحق بطول السَّجن من اللسان"، وهذا محمول على من إذا تكلّم سبب مشكلة وأوقع مصيبة، أمّا من يتكلم بخير فالواجب أن ينبري ليسدّ كل مسالك المفسدة.
لذلك وضع الإسلام آدابا عامّة للأحاديث المتبادلة ربّما لا ينتبه بعض المسلمين لها ومن ذلك:
1- (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن):
من الأمور المهمّة التي يجب أن ينتبه إليها المسلم ضرورة استخدامه للعبارات الجميلة والأنيقة واللطيفة مع إخوانه والابتعاد عن كلّ ما يوتر هذه العلاقة ويشوّش عليها لذلك أمر الإسلام أن يبادل كل واحد حواره مع الآخر بأحسن من حواره له، ولو أنّ كلّ إنسان حاول أن يجعل كلامه أفضل من كلام أخيه فإننا سنصل عند ذلك إلى حوار راق فيه الفائدة والمحبّة والودّ والدعاء قال - تعالى -وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً) [الإسراء53] ينْزغ: يفسد.
"وقل يا محمد لعبادي يقل بعضهم لبعض التي هي أحسن من المحاورة والمخاطبة، كما قال الحسن: التي هي أحسن، لا يقول له مثل قوله يقول له: يرحمك الله يغفر الله لك.". (تفسير الطبري الإسراء 53).
كما أنّ الشيطان يتحين الفرصة تلو الفرصة ليوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين، فإن حمل الحديث بين الإخوة في طياته شيئاً ليس حسناً فإنّ الشيطان يظهره ويزيّنه ويضخّمه إلى درجة كبيرة لتوصل الأمر إلى الفساد في علاقات المسلمين بين بعضهم، "وقوله: إنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ يقول: إن الشيطان يسوؤه محاورة بعضهم بعضاً، ينْزغ بينهم: يفسد بينهم ويهيج بينهم الشرّ. (تفسير الطبري الإسراء 53).
قال القرطبيّ: " أمر الله - تعالى -في هذه الآية المؤمنين فيما بينهم خاصّةً بحسن الأدب وإلانةِ القول، وخفض الجناح واطّراح نزغات الشيطان؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم -(وكونوا عبادَ الله إخواناً)). (تفسير القرطبي الإسراء 53).
وقال عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: من لانت كلمته وجبت محبّته (الكامل في الأدب والتاريخ للمبرد 39/1).
النّبرة المزعجة:
مما يدخل تحت إلانة القول وجماليته استخدام النبرة الصوتية المناسبة والحركة الجسدية المطابقة إذ "من أهم ما يساعد على حوار المودة عدم استخدام نبرة صوتية أو حركة جسدية يغتاظ منها أحد الطرفين فقد دلت الدراسات على أنّ الكلمات هي العنصر الأضعف في إيصال المعلومات إذ لا تحمل سوى (7 %) على حين أن النّبرة الصوتيّة تحمل (38 %)وتحمل تعبيرات الجسم (55 %). (الحلول النبوية للمشاكل الزوجية للمؤلف ص 78).
2-عدم استخدام عبارات الاستهزاء والسخرية:
والسخرية والتهكّم تدخل تحت الفقرة السابقة ولكنّ القرآن الكريم نوه على ذلك بشكل منفرد لخطورته وقبحه قال - تعالى -يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ) [الحجرات11]
قال الطبريّ:"إنّ الله عمّ بنهيه المؤمنين من أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية، فلا يحلّ لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك". (الطبري الحجرات 11).
" وبالجملة فينبغي ألا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رآه رَثّ الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لَبِيق في محادثته؛ فلعله أخلص ضميراً وأنقى قلباً ممن هو على ضدّ صفته؛ فيظلم نفسه بتحقير من وقَّره الله، والاستهزاء بمن عظّمه الله. ولقد بلغ بالسّلف إفراط توقّيهم وتصوّنهم من ذلك أن قال عمرو بن شَرَحْبِيل: لو رأيتُ رجلاً يرضع عنْزاً فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع. وعن عبد الله بن مسعود: البلاء مُوَكّل بالقول؛ لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوَّل ****اً. (القرطبي الحجرات 11).
وقد بالغ الأقدمون في عدم التحقير حتى أنهم كانوا لا يحقرون الحيوانات فقد ذكر تاج الدين السُبكيّ عن والده تقي الدين السُبكيّ فقال: مرّ كلب أمام بيتنا وأنا جالس مع والدي فقلت له: اخسأ، كلبٌ ابن كلب، فزجرني والدي! فقلت له: أليس هو كلبٌ بن **** فقال: شرط الجواز عدم التحقير. (صفحات مضيئة من حياة السابقين ص92/1).
واستخدام هذا الأسلوب يورث البغضاء ويشوه العلاقات ويوقع العداوات وربما أدى ذلك إلى أكل الحقوق وإزهاق الأموال والأرواح.
3- الفسوق المتكرر:
من عيوب بعض المسلمين أنّهم يستخدمون بعض الألقاب السيّئة عند مناداتهم لإخوانهم وهذا الأمر هو عين الفسق فإنّ كرره فهو فسق متكرّر وكما قال العلماء: اللقب عادة يتكرّر فلذلك يتكرر الفسق بتكرر اللقب. قال - تعالى -وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات11).
(ولا تنابزوا بالألقاب) لا يدع بعضكم بعضاً بلقب يكرهه (بئس الاسم) المذكور من السخرية واللمز والتنابز (الفسوق بعد الإيمان) بدل من الاسم لافادته أنّه فسق لتكرّره عادة. (تفسير الجلالين).
عَن أَبِي جَبِيرَةَ بنِ الضَّحَّاكِ قَالَ:" كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا يَكُونَ لَهُ الِاسْمَانِ وَالثَّلَاثَةُ فَيُدْعَى بِبَعْضِهَا فَعَسَى أَنْ يَكْرَهَ قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ "وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ". (الترمذي3191).
وتكمن خطورة التنابز بالألقاب أن اللقب يلتصق بالإنسان التصاقاً كبيراً بحيث يطغى على الاسم الحقيقيّ ولا يستطيع أن يتخلص منه الإنسان حتى عندما يكبر وهذا مما يسيء إلى المسلم ويحزنه وربما ورثه حقداً على من أطلقه عليه وناداه به.
استثناء:
ويستثنى من التنابز بالألقاب تغيّير الاسم بنقص أحد حروفه أو ما يسمى بـ (الدلع) إن رضيه صاحبه، فعَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ لِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: يَا أَبَا هِرٍّ. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: ((يا عائش)) وقال لأنجشة: ((يا أنجش)) (فتح الباري كتاب الأدب باب من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفاً)؟
إضاءة:
إنّ كثيراً من الأسماء التي نسمي بها أولادنا جميلةٌ وأنيقةٌ وذات معانٍ سامية لكنّ البعض يشوّهها بتحريفها والتلاعب فيها، فيطمسُ جمالها ويحرّف معناها ويجعلها سُبّة بدلاً من أن تكون مكرمة ومن ذلك اسم زكريا فينادون صاحبه بـ(زكور) واسم مصطفى فينادونه (صطيف) ونصر الله فينادونه (نصرو) وعبد الله فيدعونه (عبدو) وخديجة فيدعونها (خدوج) وغير ذلك مما يجعل الإنسان يكره اسمه الذي صاحبه طيلة عمره وقد كان هديّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينادى الإنسان بأحبّ أسمائه إليه.
4-مناداة الإنسان بأحب الأسماء إليه:
وهذا من الهدي النبويّ العظيم والذي يحقق فيه تآلفا ومحبّة وودّاً بين الإخوة فعن حنظلة بن حذيم قال: كانَ النّبي - صلى الله عليه وسلم - يُعجبه أن يُدعى الرجلُُ بأحبّ أسمائه وأحبِّ كناه. (الأدب المفرد 86) كناه أي: تكنيته بأبي فلان.
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال:" ثلاث يثبتن لك الودّ في صدر أخيك: أن تبدأه بالسلام، وتوسّع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه". (الكامل في الأدب والتاريخ 39/1).
5-تعميم الحديث:
من آداب الحديث أن لا يخصّ المتحدث رجلاً دون آخر أو مجموعة دون أخرى، لأنّ ذلك يوحي بعدم الاهتمام ببقية أفراد الجلسة وعدم الاكتراث بهم، مما يزعجهم يؤثّر في نفوسهم، وبذلك جاء التوجيه الإسلامي الرفيع فعن حبيب بن أبي ثابت قال:" كانوا يحبّون إذا حدّث الرجل ألا يقبل على الرجل الواحد ولكن ليعمّهم". (الأدب المفرد 544).
6- عدم التصفير عند التعجب:
من صفات بعض المسلمين أنّه إذا سمع حديثاً من أحد لم يسمعه من قبل، وأثار تعجبه أطلق صفيراً من فمه يكني به عن تعجبه فأزعج به الآخرين وجمع به الشياطين، وخالف فيه السنّة، فالإسلام وجّه الإنسان إذا تعجّب أن يذكر الله ويسبحه وقد أفرد البخاري باباً أسماه باب التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ التَّعَجُّب قوله: (باب التكبير والتسبيح عند التعجب) قال ابن بطّال: التسبيح والتكبير معناه تعظيم الله وتنزيهه من السوء، واستعمال ذلك عند التعجب واستعظام الأمر حسن، وفيه تمرين اللسان على ذكر الله - تعالى -، وهذا توجيه جيّد، كأن البخاري رمز إلى الردّ على من منع من ذلك. (فتح الباري كتاب الأدب باب التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ التَّعَجُّب).
إضاءة:
عن عديِّ بن حاتم قال: «ذكر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النار فتعوَّذَ منها وأشاحَ بوجههِ، ثم ذكر النارَ فتعوَّذ منها وأشاحَ بوجههِ ثم قال(اتقوا النارَ ولو بشِقِّ تمرة، فإن لم يكن فبكلمةٍ طيِّبة)). (البخاري كتاب الأدب باب طيب الكلام).
ـــــــــــــ
وكذلك ما رواه الترمذي عن مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ قَالَ:"كُنتُ مَعَ النبيِّ في سَفَرٍ فَأَصبَحتُ يَوماً قَرِيباً منهُ وَنَحنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ الله أَخبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُني الجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عنِ النَّارِ، قَالَ: ((لقَدْ سأَلْتَنِي عَن عَظِيمٍ وإِنَّهُ لَيَسِيرٌ علَى من يسَّرَهُ الله عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللهَ وَلاَ تُشْرِكْ بِهِ شَيْئَاً، وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ، ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِىءُ الخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِىءُ المَاءُ النَّارَ، وَصَلاَةُ الرَّجُلِ مِن جَوفِ الَّليْلِ، قَالَ: ثُمَّ تَلاَ (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) حَتَّى بَلَغَ (يَعْمَلُونَ) ثُمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله قَالَ: رَأْسُ الأَمْرِ الإسْلاَمُ، وَعُمودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الجِهَادُ. ثمَّ قَالَ: أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ، قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ الله، قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا. فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أمّك يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَو عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلاَ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ)) (الترمذي كتاب الإيمان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
والزيارات قائمة على تبادل الأحاديث والعبارات وكلّما كانت هذه الأحاديث محمّلة بعبارات الودّ واللهفة والحنان زادت الألفة والمحبّة، وكلّما كانت هذه الأحاديث محمّلة بعبارات التهكم والسخرية و الغمز واللمز والفظاظة والغلاظة زاد الخصام وتوتّرت الأعصاب ودُمّر النسيج الاجتماعي لهذه الزيارات، وبذلك جاء التوجيه النبويّ فعَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن كَانَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلَا يُؤذِ جَارَهُ وَمَن كَانَ يُؤمِنُ بِاللَّهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيفَهُ وَمَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَو لِيَصمُتْ)) (متفق عليه).
قال في الفتح:" قوله: ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) بضم الميم ويجوز كسرها، وهذا من جوامع الكلم لأنّ القول كلّه إمّا خير وإمّا شرّ وإمّا آيل إلى أحدهما، فدخل في الخير كلّ مطلوب من الأقوال فرضُها وندبُها، فأذن فيه على اختلاف أنواعه، ودخل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شرّ أو يؤول إلى الشرّ فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت. وقد أخرج الطبرانيّ والبيهقيّ في "الزهد" من حديث أبي أمامة نحو حديث الباب بلفظ "فليقل خيراً ليغنم، أو ليسكت عن شرٍّ ليسلم". (فتح الباري شرح البخاري). وقال ابن مسعود: "ما شيء أحق بطول السَّجن من اللسان"، وهذا محمول على من إذا تكلّم سبب مشكلة وأوقع مصيبة، أمّا من يتكلم بخير فالواجب أن ينبري ليسدّ كل مسالك المفسدة.
لذلك وضع الإسلام آدابا عامّة للأحاديث المتبادلة ربّما لا ينتبه بعض المسلمين لها ومن ذلك:
1- (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن):
من الأمور المهمّة التي يجب أن ينتبه إليها المسلم ضرورة استخدامه للعبارات الجميلة والأنيقة واللطيفة مع إخوانه والابتعاد عن كلّ ما يوتر هذه العلاقة ويشوّش عليها لذلك أمر الإسلام أن يبادل كل واحد حواره مع الآخر بأحسن من حواره له، ولو أنّ كلّ إنسان حاول أن يجعل كلامه أفضل من كلام أخيه فإننا سنصل عند ذلك إلى حوار راق فيه الفائدة والمحبّة والودّ والدعاء قال - تعالى -وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً) [الإسراء53] ينْزغ: يفسد.
"وقل يا محمد لعبادي يقل بعضهم لبعض التي هي أحسن من المحاورة والمخاطبة، كما قال الحسن: التي هي أحسن، لا يقول له مثل قوله يقول له: يرحمك الله يغفر الله لك.". (تفسير الطبري الإسراء 53).
كما أنّ الشيطان يتحين الفرصة تلو الفرصة ليوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين، فإن حمل الحديث بين الإخوة في طياته شيئاً ليس حسناً فإنّ الشيطان يظهره ويزيّنه ويضخّمه إلى درجة كبيرة لتوصل الأمر إلى الفساد في علاقات المسلمين بين بعضهم، "وقوله: إنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ يقول: إن الشيطان يسوؤه محاورة بعضهم بعضاً، ينْزغ بينهم: يفسد بينهم ويهيج بينهم الشرّ. (تفسير الطبري الإسراء 53).
قال القرطبيّ: " أمر الله - تعالى -في هذه الآية المؤمنين فيما بينهم خاصّةً بحسن الأدب وإلانةِ القول، وخفض الجناح واطّراح نزغات الشيطان؛ وقد قال - صلى الله عليه وسلم -(وكونوا عبادَ الله إخواناً)). (تفسير القرطبي الإسراء 53).
وقال عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: من لانت كلمته وجبت محبّته (الكامل في الأدب والتاريخ للمبرد 39/1).
النّبرة المزعجة:
مما يدخل تحت إلانة القول وجماليته استخدام النبرة الصوتية المناسبة والحركة الجسدية المطابقة إذ "من أهم ما يساعد على حوار المودة عدم استخدام نبرة صوتية أو حركة جسدية يغتاظ منها أحد الطرفين فقد دلت الدراسات على أنّ الكلمات هي العنصر الأضعف في إيصال المعلومات إذ لا تحمل سوى (7 %) على حين أن النّبرة الصوتيّة تحمل (38 %)وتحمل تعبيرات الجسم (55 %). (الحلول النبوية للمشاكل الزوجية للمؤلف ص 78).
2-عدم استخدام عبارات الاستهزاء والسخرية:
والسخرية والتهكّم تدخل تحت الفقرة السابقة ولكنّ القرآن الكريم نوه على ذلك بشكل منفرد لخطورته وقبحه قال - تعالى -يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ) [الحجرات11]
قال الطبريّ:"إنّ الله عمّ بنهيه المؤمنين من أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية، فلا يحلّ لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك". (الطبري الحجرات 11).
" وبالجملة فينبغي ألا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن يقتحمه بعينه إذا رآه رَثّ الحال أو ذا عاهة في بدنه أو غير لَبِيق في محادثته؛ فلعله أخلص ضميراً وأنقى قلباً ممن هو على ضدّ صفته؛ فيظلم نفسه بتحقير من وقَّره الله، والاستهزاء بمن عظّمه الله. ولقد بلغ بالسّلف إفراط توقّيهم وتصوّنهم من ذلك أن قال عمرو بن شَرَحْبِيل: لو رأيتُ رجلاً يرضع عنْزاً فضحكت منه لخشيت أن أصنع مثل الذي صنع. وعن عبد الله بن مسعود: البلاء مُوَكّل بالقول؛ لو سخرت من كلب لخشيت أن أحوَّل ****اً. (القرطبي الحجرات 11).
وقد بالغ الأقدمون في عدم التحقير حتى أنهم كانوا لا يحقرون الحيوانات فقد ذكر تاج الدين السُبكيّ عن والده تقي الدين السُبكيّ فقال: مرّ كلب أمام بيتنا وأنا جالس مع والدي فقلت له: اخسأ، كلبٌ ابن كلب، فزجرني والدي! فقلت له: أليس هو كلبٌ بن **** فقال: شرط الجواز عدم التحقير. (صفحات مضيئة من حياة السابقين ص92/1).
واستخدام هذا الأسلوب يورث البغضاء ويشوه العلاقات ويوقع العداوات وربما أدى ذلك إلى أكل الحقوق وإزهاق الأموال والأرواح.
3- الفسوق المتكرر:
من عيوب بعض المسلمين أنّهم يستخدمون بعض الألقاب السيّئة عند مناداتهم لإخوانهم وهذا الأمر هو عين الفسق فإنّ كرره فهو فسق متكرّر وكما قال العلماء: اللقب عادة يتكرّر فلذلك يتكرر الفسق بتكرر اللقب. قال - تعالى -وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات11).
(ولا تنابزوا بالألقاب) لا يدع بعضكم بعضاً بلقب يكرهه (بئس الاسم) المذكور من السخرية واللمز والتنابز (الفسوق بعد الإيمان) بدل من الاسم لافادته أنّه فسق لتكرّره عادة. (تفسير الجلالين).
عَن أَبِي جَبِيرَةَ بنِ الضَّحَّاكِ قَالَ:" كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا يَكُونَ لَهُ الِاسْمَانِ وَالثَّلَاثَةُ فَيُدْعَى بِبَعْضِهَا فَعَسَى أَنْ يَكْرَهَ قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةَ "وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ". (الترمذي3191).
وتكمن خطورة التنابز بالألقاب أن اللقب يلتصق بالإنسان التصاقاً كبيراً بحيث يطغى على الاسم الحقيقيّ ولا يستطيع أن يتخلص منه الإنسان حتى عندما يكبر وهذا مما يسيء إلى المسلم ويحزنه وربما ورثه حقداً على من أطلقه عليه وناداه به.
استثناء:
ويستثنى من التنابز بالألقاب تغيّير الاسم بنقص أحد حروفه أو ما يسمى بـ (الدلع) إن رضيه صاحبه، فعَن أَبِي هُرَيرَةَ قَالَ لِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: يَا أَبَا هِرٍّ. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: ((يا عائش)) وقال لأنجشة: ((يا أنجش)) (فتح الباري كتاب الأدب باب من دعا صاحبه فنقص من اسمه حرفاً)؟
إضاءة:
إنّ كثيراً من الأسماء التي نسمي بها أولادنا جميلةٌ وأنيقةٌ وذات معانٍ سامية لكنّ البعض يشوّهها بتحريفها والتلاعب فيها، فيطمسُ جمالها ويحرّف معناها ويجعلها سُبّة بدلاً من أن تكون مكرمة ومن ذلك اسم زكريا فينادون صاحبه بـ(زكور) واسم مصطفى فينادونه (صطيف) ونصر الله فينادونه (نصرو) وعبد الله فيدعونه (عبدو) وخديجة فيدعونها (خدوج) وغير ذلك مما يجعل الإنسان يكره اسمه الذي صاحبه طيلة عمره وقد كان هديّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينادى الإنسان بأحبّ أسمائه إليه.
4-مناداة الإنسان بأحب الأسماء إليه:
وهذا من الهدي النبويّ العظيم والذي يحقق فيه تآلفا ومحبّة وودّاً بين الإخوة فعن حنظلة بن حذيم قال: كانَ النّبي - صلى الله عليه وسلم - يُعجبه أن يُدعى الرجلُُ بأحبّ أسمائه وأحبِّ كناه. (الأدب المفرد 86) كناه أي: تكنيته بأبي فلان.
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال:" ثلاث يثبتن لك الودّ في صدر أخيك: أن تبدأه بالسلام، وتوسّع له في المجلس، وتدعوه بأحب الأسماء إليه". (الكامل في الأدب والتاريخ 39/1).
5-تعميم الحديث:
من آداب الحديث أن لا يخصّ المتحدث رجلاً دون آخر أو مجموعة دون أخرى، لأنّ ذلك يوحي بعدم الاهتمام ببقية أفراد الجلسة وعدم الاكتراث بهم، مما يزعجهم يؤثّر في نفوسهم، وبذلك جاء التوجيه الإسلامي الرفيع فعن حبيب بن أبي ثابت قال:" كانوا يحبّون إذا حدّث الرجل ألا يقبل على الرجل الواحد ولكن ليعمّهم". (الأدب المفرد 544).
6- عدم التصفير عند التعجب:
من صفات بعض المسلمين أنّه إذا سمع حديثاً من أحد لم يسمعه من قبل، وأثار تعجبه أطلق صفيراً من فمه يكني به عن تعجبه فأزعج به الآخرين وجمع به الشياطين، وخالف فيه السنّة، فالإسلام وجّه الإنسان إذا تعجّب أن يذكر الله ويسبحه وقد أفرد البخاري باباً أسماه باب التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ التَّعَجُّب قوله: (باب التكبير والتسبيح عند التعجب) قال ابن بطّال: التسبيح والتكبير معناه تعظيم الله وتنزيهه من السوء، واستعمال ذلك عند التعجب واستعظام الأمر حسن، وفيه تمرين اللسان على ذكر الله - تعالى -، وهذا توجيه جيّد، كأن البخاري رمز إلى الردّ على من منع من ذلك. (فتح الباري كتاب الأدب باب التَّكْبِيرِ وَالتَّسْبِيحِ عِنْدَ التَّعَجُّب).
إضاءة:
عن عديِّ بن حاتم قال: «ذكر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - النار فتعوَّذَ منها وأشاحَ بوجههِ، ثم ذكر النارَ فتعوَّذ منها وأشاحَ بوجههِ ثم قال(اتقوا النارَ ولو بشِقِّ تمرة، فإن لم يكن فبكلمةٍ طيِّبة)). (البخاري كتاب الأدب باب طيب الكلام).
ـــــــــــــ