]size=18]ونظر البعض من الباحثين الى اتفاقية الجلاء على انها حققت أمنية مصر التي كانت تصبو اليها منذ زمن طويل، بيد ان فئات كبيرة من الجماهير اعتبرت الاتفاقية اقل من طموحها وأكثر تراجعاً من إرادتها، في حين عد جمال عبد الناصر انجازها بمثابة: "وضع الهدف الأكبر من أهداف الثورة منذ هذه اللحظة (لحظة توقيعها) موضع التنفيذ الفعلي".
وبين توقيع الاتفاقية بالحروف الأولى وتوقيعها النهائي في 19 أكتوبر/ تشرين الأول 1954، تبلورت المعارضة للاتفاقية عموماً ولجمال عبد الناصر بصفة خاصة، وظهرت بوادر ذلك في صورة عنف، تجلى بنسف كوبري أبو سلطان بمنطقة القنال في 2 أغسطس/ آب 1954، وركب الاخوان المسلمون موجة الرفض الشعبي للاتفاقية، وبدأت صفحة مواجهة جديدة بينهم وبين عبد الناصر، ولم يكد يمض أسبوع واحد على توقيع الاتفاقية حتى تعرض جمال عبد الناصر لمحاولة اغتيال بإطلاق الرصاص عليه أثناء خطابه في ميدان المنشية بالإسكندرية. واستمر الجلاء عن المعسكرات البريطانية واحداً بعد الأخر حتى تم جلاء البريطانيين عن أخر معقل كانوا يحتلونه في بور سعيد وهو مبنى البحرية الذي تسلمه الجيش المصري يوم 13 يوليو 1956. وفي 18 يوليو/ تموز بمناسبة الذكرى الثالثة لإعلان الجمهورية في مصر، رفع عبد الناصر العلم المصري على مبنى البحرية في بور سعيد، واعتبر هذا التاريخ (عيد الجلاء) منذ ذلك الوقت. وبذلك تحررت مصر والسودان من الوجود الاستعماري قبل ان تمضي أربع سنوات على قيام ثورة 23 يوليو، وخرج الاحتلال البريطاني بعد ان مكث في مصر (74) عاماً. ومن الجدير بالذكر ان حكومة الثورة اغتنمت فرصة العدوان الثلاثي 1956 فأعلنت في أول يناير/ كانون الثاني عام 1957 إلغاء تلك الاتفاقية.
الحياة الدستورية والأحزاب السياسية في عهد الثورة
أبقت الثورة على دستور سنة 1923 في أيامها الأولى، ومفتتح قراراتها أنها استبدلت بملك بالغ فاسد ملكاً طفلاً بريئاً تحت الوصاية، إذ اجبر الملك فاروق على التنازل عن العرش لولي عهده الأمير احمد فؤاد، وكانت موافقته أخر وثيقة رسمية يوقعها، وهي الأمر الملكي رقم 65 لسنة 1952 المصادر في 26 يوليو/ تموز.
إن ثوار يوليو لم ينكروا قط انهم ينتهجون التجربة والخطأ وصولاً الى الصواب من خلال العمل والممارسة، وان ثورة يوليو قامت ونجحت في الاستيلاء على السلطة، ومن ثم استمرت عشر سنوات على الأقل لا تعرف – على وجه التحديد العلمي- كيف تحقق مبادئها، فجربت أساليب مختلفة: تختار فتمارس فتخطئ فتصحح فتصيب، أو تخطيء مرة أخرى فتصحح ... وهكذا.
ولا مراء من أن الإجراءات في مطلع عهد الثورة أدت الى إنهاء طبيعة النظام القديم، وعملت منذ اللحظات الأولى على تولية الجيش أو (مجلس قيادة الثورة) شؤون السلطة، ولا يستقيم القول بأن النية كانت مبيتة منذ اللحظة الأولى على إقامة الدكتاتورية العسكرية، فأن نقص التخطيط والظروف المواتية هي التي مهدت الطريق الى ذلك، كما انه لا يصح القول أيضاً بأن حركة الجيش كانت حريصة على الديمقراطية، فانه رغم وجود بعض الأصوات التي دافعت عنها داخل المجلس وفي صفوف الجيش، إلا ان إغراء السلطة وضعف المقاومة كان حرياً بأن تنتهي الى هذه النتيجة.
أسقطت حركة الجيش دستور سنة 1923 في10 ديسمبر/ كانون الأول 1952، فيما أعلنت بعد ستة أشهر تقريباً في 18 يوليو /تموز 1953، سقوط الملكية وقيام الجمهورية، وأصدرت إعلاناً في 26 يناير/ كانون الثاني 1953، يقضي بحل كافة الأحزاب السياسية، وترتب على ذلك الإعلان صدور قانون رقم 37 لسنة 1953 يحظر النشاط الحزبي وتكوين أحزاب سياسية جديدة.
لقد كان واضحاً ان دستور سنة 1923 لم يعد يتناسب مع الطبقة المتوسطة التي وثبت الى السلطة، ولكن رغم ما فيه من صلاحيات للملك تعطل أثره إلا انه كان ضمانة وركيزة لحرية الجماهير السياسية.
وتابعت الثورة إجراءاتها في شؤون تنظيم الحياة السياسية، وهي في واقع الأمر كانت تستبطن تدعيم سلطتها وموقفها في صراع القوى السياسية المصرية، فأصدرت مرسوماً بتشكيل لجنة من خمسين عضواً لكي تقوم بإعداد مشروع دستور يتفق مع أهدافها في 13 يناير/ كانون الثاني 1953 مثلما أصدرت إعلاناً في 16 من الشهر نفسه حددت الفترة الانتقالية بمدة ثلاث سنوات، وقامت في 10 فبراير/ شباط 1953 بإصدار إعلان دستوري يبين نظام الحكم خلال الفترة الانتقالية، وقد عهد الى مجلس قيادة الثورة القيام بأعمال السيادة العليا، وعهد بالسلطة التشريعية الى مجلس الوزراء، وعهد بالسلطة التنفيذية الى مجلس الوزراء والوزراء كل فيما يخصه، وعهد بالمراقبة والمتابعة الى مؤتمر يتألف من مجلس الوزراء ومجلس قيادة الثورة مجتمعين.
إن حركة الجيش منذ لحظتها الأولى في ليلة 23 يوليو لم تكن تتحرك بخطة واحدة معلومة، وإستراتيجية متكاملة، وإنما كانت تتصرف تبعاً للمواقف الطارئة والظروف المحيطة، بطريقة تكتيكية ماهرة، يصعب منها التنبؤ –في لحظتها- عن الاتجاه الاستراتيجي لها، وليس أدل على ذلك من القرار الذي صدر في 5 مارس/ آذار 1954 بخصوص اتخاذ إجراءات عقد جمعية تأسيسية يتم انتخابها عن طريق الاقتراع العام المباشر على ان تجتمع خلال شهر يوليو/ تموز 1954، ولكن في 29 مارس/ آذار 1954، صدر قرار بأرجاء تنفيذه حتى نهاية الفترة الانتقالية، وقضى هذا القرار أيضا بتشكيل مجلس وطني استشاري يراعى في تمثيله الطوائف والهيئات والمناطق المختلفة، وعد مثل هذا القرار في نظر المختصين: كأنه مستخرج من عصور ما قبل الديمقراطية، يوم ان كان الملوك يختارون ممثلين الطوائف والمناطق في مجالس استشارية تكون مهمتها مقصورة على إبداء الرأي والنصيحة بدون التزام أو إلزام.
قامت لجنة الخمسين التي تشكلت بمرسوم 13 يناير/ كانون الثاني 1953 كما أوضحنا ذلك سابقاً، بإعداد مشروع الدستور، وقدمته فعلاً الى مجلس الوزراء يوم 17 يناير/ كانون الثاني 1955، ولكن قيادة الثورة لم تقبله بحجة ان نظام الحكم فيه نيابي أكثر مما يجب، ووضعت بدلاً منه دستوراً أعلنته في 16 يناير 1956، وهو أخر يوم في الفترة الانتقالية –التاريخ الذي كان محدداً لجلاء قوات الاحتلال البريطاني، ولم يكن دستور سنة 1956 أخر المواقف، فهو ذاته قد ألغي قبل مرور عامين عليه في 5 مارس /آذار 1958 بمناسبة الوحدة بين مصر وسورية، ثم عاد ذاته بعد أربعة أعوام تقريباً في 27 سبتمبر/ أيلول 1962 بسبب الانفصال، ثم ألغي مرة أخرى بعد عامين اثر صدور دستور جديد مؤقت في 23 مارس/آذار 1964.
الحزب الواحد في حياة مصر السياسية
اعتقد مجلس قيادة الثورة انه قادر على ملء الفراغ السياسي الناتج عن حل الأحزاب ووقف نشاطها بتكوين ما عرف بـ(هيئة التحرير) وذلك بعد مرور ستة أشهر على الحركة، وافتتح مقراً لها في ثكنات الحرس الملكي (سابقاً) بميدان عابدين، لكنها لم تستطع ان تضم الى صفوفها أحداً من الذين مارسوا العمل السياسي من قبل عدا قلة محدودة، كما ان قبضة الجيش فيها واضحة، وأشار جمال عبد الناصر في حديثه الى صحيفة الأهرام في 17 يونيو/ حزيران 1953 الى ان هيئة التحرير ليست حزبا سياسياً، ولم تنشأ لتكوين حزب سياسي يجر المغانم على الأعضاء أو يستهدف شهرة الحكم والسلطان، منوهاً الى ان السبب الرئيس في تأسيسها يرجع الى الرغبة في إيجاد أداة لتنظيم قوى الشعب. وتجدر الإشارة هنا الى ان برنامج هيئة التحرير كان بلا كلمة واحدة عن القومية العربية أو الاشتراكية. ويبدو أنها لم تحقق مرامي قادة الثورة، فأعلن عن تشكيل الاتحاد القومي كتنظيم جديد في 28 مايو/ أيار 1957 على أساس أنه ليس حزباً مثل ما كانت هيئة التحرير، وجاء في أهدافه ان الاتحاد القومي ليس حكومة، ولكنه تنظيماً يضم الحاكمين والشعب ويتيح الفرصة الحقيقية لتعاونهم على معالجة المشاكل المحلية والقضايا العامة في ظل المجتمع الاشتراكي الديمقراطي التعاوني وهو السبيل الى الديمقراطية السليمة التي تشعر الشعب انه يحكم نفسه بنفسه.
وتبعاً لمواد الدستور الجديد وقانون الانتخاب الذي صدر في 3 مارس/ آذار 1956، جرى تأليف مجلس الأمة من 350 عضواً، فأضفى ذلك شرعية ديمقراطية على نظام الحكم، ولكنه ظل في مضمونه عسكرياً يقبض العسكريون فيه على زمام السلطة التي أصبحت تتركز في يد جمال عبد الناصر، رئيس الجمهورية الذي حصل في انتخابات 25 يونيو/ حزيران 1956على نسبة 99.9%. فقد كسبت الثورة تأييد الجماهير بلا ضغط يوماً بعد يوم من خطواتها الوطنية، حتى ارتبطت مع الشعب تماماً في مواجهة العدوان الثلاثي سنة 1956، وبذلك أصبحت على حد قول المؤرخ احمد حمروش تستحق ان يطلق عليها اسم (الثورة) لأنها تحولت الى قيادة حقيقة مناضلة عن أهدافهم.
ومن ثم ولد لاحقاً الاتحاد الاشتراكي من رحم الاتحاد القومي، وذلك في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي عقدت جلسته الأولى في 21 مايو/ أيار 1962، وتمخض ذلك عن مناقشات (ميثاق العمل الوطني) الذي قدمه جمال عبد الناصر الى المؤتمر. وأصبح الاتحاد الاشتراكي العربي بديل الاتحاد القومي تنظيماً سياسياً، وفتحت الأبواب لدخول التنظيم في أول يناير/ كانون الثاني 1963، وقد بلغ عدد الذين قيدوا أنفسهم خلال 20 يوماً نحو 4.885.932 شخصاً. فجاء تكوين التنظيم من مركز السلطة ودفع الجماهير الى الانضمام اليه بالملايين دون تفرقة بين المقتنعين بالتغير الاجتماعي وأصحاب المصلحة الحقيقية فيه، وبين المنضمين اليه تملقاً وتقرباً من مراكز النفوذ، وكما كان الاتحاد القومي خاضعاً لنفوذ العسكريين كان الاتحاد الاشتراكي كذلك أيضاً، مثل ما هو واضح في تشكيل الأمانة (9 ضباط، 3 مدنيين)، ولكن الفارق مع ذلك كان موجوداً بين الاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي من حيث التنظيم الهرمي والصلات التنظيمية الثابتة، فقد خلق الاتحاد الاشتراكي حداً من الانضباط التنظيمي وصورة هيكل محدود لبناء تنظيمي، وأضاف ميثاق العمل الوطني للتنظيم لكونه مرجع يرجع اليه المسئولون ويلتزم به أعضاء القيادات المختلفة، وعدت هذه المحاولة الجادة لوضع وثيقة فكرية وتكوين تنظيم جماهيري، خطوة ايجابية هامة، جوهرها الرئيس استناد عبد الناصر في الوثيقة هو تحديد القوى الاجتماعية التي يضمها تحالف واحد في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية. [/size]
وبين توقيع الاتفاقية بالحروف الأولى وتوقيعها النهائي في 19 أكتوبر/ تشرين الأول 1954، تبلورت المعارضة للاتفاقية عموماً ولجمال عبد الناصر بصفة خاصة، وظهرت بوادر ذلك في صورة عنف، تجلى بنسف كوبري أبو سلطان بمنطقة القنال في 2 أغسطس/ آب 1954، وركب الاخوان المسلمون موجة الرفض الشعبي للاتفاقية، وبدأت صفحة مواجهة جديدة بينهم وبين عبد الناصر، ولم يكد يمض أسبوع واحد على توقيع الاتفاقية حتى تعرض جمال عبد الناصر لمحاولة اغتيال بإطلاق الرصاص عليه أثناء خطابه في ميدان المنشية بالإسكندرية. واستمر الجلاء عن المعسكرات البريطانية واحداً بعد الأخر حتى تم جلاء البريطانيين عن أخر معقل كانوا يحتلونه في بور سعيد وهو مبنى البحرية الذي تسلمه الجيش المصري يوم 13 يوليو 1956. وفي 18 يوليو/ تموز بمناسبة الذكرى الثالثة لإعلان الجمهورية في مصر، رفع عبد الناصر العلم المصري على مبنى البحرية في بور سعيد، واعتبر هذا التاريخ (عيد الجلاء) منذ ذلك الوقت. وبذلك تحررت مصر والسودان من الوجود الاستعماري قبل ان تمضي أربع سنوات على قيام ثورة 23 يوليو، وخرج الاحتلال البريطاني بعد ان مكث في مصر (74) عاماً. ومن الجدير بالذكر ان حكومة الثورة اغتنمت فرصة العدوان الثلاثي 1956 فأعلنت في أول يناير/ كانون الثاني عام 1957 إلغاء تلك الاتفاقية.
الحياة الدستورية والأحزاب السياسية في عهد الثورة
أبقت الثورة على دستور سنة 1923 في أيامها الأولى، ومفتتح قراراتها أنها استبدلت بملك بالغ فاسد ملكاً طفلاً بريئاً تحت الوصاية، إذ اجبر الملك فاروق على التنازل عن العرش لولي عهده الأمير احمد فؤاد، وكانت موافقته أخر وثيقة رسمية يوقعها، وهي الأمر الملكي رقم 65 لسنة 1952 المصادر في 26 يوليو/ تموز.
إن ثوار يوليو لم ينكروا قط انهم ينتهجون التجربة والخطأ وصولاً الى الصواب من خلال العمل والممارسة، وان ثورة يوليو قامت ونجحت في الاستيلاء على السلطة، ومن ثم استمرت عشر سنوات على الأقل لا تعرف – على وجه التحديد العلمي- كيف تحقق مبادئها، فجربت أساليب مختلفة: تختار فتمارس فتخطئ فتصحح فتصيب، أو تخطيء مرة أخرى فتصحح ... وهكذا.
ولا مراء من أن الإجراءات في مطلع عهد الثورة أدت الى إنهاء طبيعة النظام القديم، وعملت منذ اللحظات الأولى على تولية الجيش أو (مجلس قيادة الثورة) شؤون السلطة، ولا يستقيم القول بأن النية كانت مبيتة منذ اللحظة الأولى على إقامة الدكتاتورية العسكرية، فأن نقص التخطيط والظروف المواتية هي التي مهدت الطريق الى ذلك، كما انه لا يصح القول أيضاً بأن حركة الجيش كانت حريصة على الديمقراطية، فانه رغم وجود بعض الأصوات التي دافعت عنها داخل المجلس وفي صفوف الجيش، إلا ان إغراء السلطة وضعف المقاومة كان حرياً بأن تنتهي الى هذه النتيجة.
أسقطت حركة الجيش دستور سنة 1923 في10 ديسمبر/ كانون الأول 1952، فيما أعلنت بعد ستة أشهر تقريباً في 18 يوليو /تموز 1953، سقوط الملكية وقيام الجمهورية، وأصدرت إعلاناً في 26 يناير/ كانون الثاني 1953، يقضي بحل كافة الأحزاب السياسية، وترتب على ذلك الإعلان صدور قانون رقم 37 لسنة 1953 يحظر النشاط الحزبي وتكوين أحزاب سياسية جديدة.
لقد كان واضحاً ان دستور سنة 1923 لم يعد يتناسب مع الطبقة المتوسطة التي وثبت الى السلطة، ولكن رغم ما فيه من صلاحيات للملك تعطل أثره إلا انه كان ضمانة وركيزة لحرية الجماهير السياسية.
وتابعت الثورة إجراءاتها في شؤون تنظيم الحياة السياسية، وهي في واقع الأمر كانت تستبطن تدعيم سلطتها وموقفها في صراع القوى السياسية المصرية، فأصدرت مرسوماً بتشكيل لجنة من خمسين عضواً لكي تقوم بإعداد مشروع دستور يتفق مع أهدافها في 13 يناير/ كانون الثاني 1953 مثلما أصدرت إعلاناً في 16 من الشهر نفسه حددت الفترة الانتقالية بمدة ثلاث سنوات، وقامت في 10 فبراير/ شباط 1953 بإصدار إعلان دستوري يبين نظام الحكم خلال الفترة الانتقالية، وقد عهد الى مجلس قيادة الثورة القيام بأعمال السيادة العليا، وعهد بالسلطة التشريعية الى مجلس الوزراء، وعهد بالسلطة التنفيذية الى مجلس الوزراء والوزراء كل فيما يخصه، وعهد بالمراقبة والمتابعة الى مؤتمر يتألف من مجلس الوزراء ومجلس قيادة الثورة مجتمعين.
إن حركة الجيش منذ لحظتها الأولى في ليلة 23 يوليو لم تكن تتحرك بخطة واحدة معلومة، وإستراتيجية متكاملة، وإنما كانت تتصرف تبعاً للمواقف الطارئة والظروف المحيطة، بطريقة تكتيكية ماهرة، يصعب منها التنبؤ –في لحظتها- عن الاتجاه الاستراتيجي لها، وليس أدل على ذلك من القرار الذي صدر في 5 مارس/ آذار 1954 بخصوص اتخاذ إجراءات عقد جمعية تأسيسية يتم انتخابها عن طريق الاقتراع العام المباشر على ان تجتمع خلال شهر يوليو/ تموز 1954، ولكن في 29 مارس/ آذار 1954، صدر قرار بأرجاء تنفيذه حتى نهاية الفترة الانتقالية، وقضى هذا القرار أيضا بتشكيل مجلس وطني استشاري يراعى في تمثيله الطوائف والهيئات والمناطق المختلفة، وعد مثل هذا القرار في نظر المختصين: كأنه مستخرج من عصور ما قبل الديمقراطية، يوم ان كان الملوك يختارون ممثلين الطوائف والمناطق في مجالس استشارية تكون مهمتها مقصورة على إبداء الرأي والنصيحة بدون التزام أو إلزام.
قامت لجنة الخمسين التي تشكلت بمرسوم 13 يناير/ كانون الثاني 1953 كما أوضحنا ذلك سابقاً، بإعداد مشروع الدستور، وقدمته فعلاً الى مجلس الوزراء يوم 17 يناير/ كانون الثاني 1955، ولكن قيادة الثورة لم تقبله بحجة ان نظام الحكم فيه نيابي أكثر مما يجب، ووضعت بدلاً منه دستوراً أعلنته في 16 يناير 1956، وهو أخر يوم في الفترة الانتقالية –التاريخ الذي كان محدداً لجلاء قوات الاحتلال البريطاني، ولم يكن دستور سنة 1956 أخر المواقف، فهو ذاته قد ألغي قبل مرور عامين عليه في 5 مارس /آذار 1958 بمناسبة الوحدة بين مصر وسورية، ثم عاد ذاته بعد أربعة أعوام تقريباً في 27 سبتمبر/ أيلول 1962 بسبب الانفصال، ثم ألغي مرة أخرى بعد عامين اثر صدور دستور جديد مؤقت في 23 مارس/آذار 1964.
الحزب الواحد في حياة مصر السياسية
اعتقد مجلس قيادة الثورة انه قادر على ملء الفراغ السياسي الناتج عن حل الأحزاب ووقف نشاطها بتكوين ما عرف بـ(هيئة التحرير) وذلك بعد مرور ستة أشهر على الحركة، وافتتح مقراً لها في ثكنات الحرس الملكي (سابقاً) بميدان عابدين، لكنها لم تستطع ان تضم الى صفوفها أحداً من الذين مارسوا العمل السياسي من قبل عدا قلة محدودة، كما ان قبضة الجيش فيها واضحة، وأشار جمال عبد الناصر في حديثه الى صحيفة الأهرام في 17 يونيو/ حزيران 1953 الى ان هيئة التحرير ليست حزبا سياسياً، ولم تنشأ لتكوين حزب سياسي يجر المغانم على الأعضاء أو يستهدف شهرة الحكم والسلطان، منوهاً الى ان السبب الرئيس في تأسيسها يرجع الى الرغبة في إيجاد أداة لتنظيم قوى الشعب. وتجدر الإشارة هنا الى ان برنامج هيئة التحرير كان بلا كلمة واحدة عن القومية العربية أو الاشتراكية. ويبدو أنها لم تحقق مرامي قادة الثورة، فأعلن عن تشكيل الاتحاد القومي كتنظيم جديد في 28 مايو/ أيار 1957 على أساس أنه ليس حزباً مثل ما كانت هيئة التحرير، وجاء في أهدافه ان الاتحاد القومي ليس حكومة، ولكنه تنظيماً يضم الحاكمين والشعب ويتيح الفرصة الحقيقية لتعاونهم على معالجة المشاكل المحلية والقضايا العامة في ظل المجتمع الاشتراكي الديمقراطي التعاوني وهو السبيل الى الديمقراطية السليمة التي تشعر الشعب انه يحكم نفسه بنفسه.
وتبعاً لمواد الدستور الجديد وقانون الانتخاب الذي صدر في 3 مارس/ آذار 1956، جرى تأليف مجلس الأمة من 350 عضواً، فأضفى ذلك شرعية ديمقراطية على نظام الحكم، ولكنه ظل في مضمونه عسكرياً يقبض العسكريون فيه على زمام السلطة التي أصبحت تتركز في يد جمال عبد الناصر، رئيس الجمهورية الذي حصل في انتخابات 25 يونيو/ حزيران 1956على نسبة 99.9%. فقد كسبت الثورة تأييد الجماهير بلا ضغط يوماً بعد يوم من خطواتها الوطنية، حتى ارتبطت مع الشعب تماماً في مواجهة العدوان الثلاثي سنة 1956، وبذلك أصبحت على حد قول المؤرخ احمد حمروش تستحق ان يطلق عليها اسم (الثورة) لأنها تحولت الى قيادة حقيقة مناضلة عن أهدافهم.
ومن ثم ولد لاحقاً الاتحاد الاشتراكي من رحم الاتحاد القومي، وذلك في المؤتمر الوطني للقوى الشعبية الذي عقدت جلسته الأولى في 21 مايو/ أيار 1962، وتمخض ذلك عن مناقشات (ميثاق العمل الوطني) الذي قدمه جمال عبد الناصر الى المؤتمر. وأصبح الاتحاد الاشتراكي العربي بديل الاتحاد القومي تنظيماً سياسياً، وفتحت الأبواب لدخول التنظيم في أول يناير/ كانون الثاني 1963، وقد بلغ عدد الذين قيدوا أنفسهم خلال 20 يوماً نحو 4.885.932 شخصاً. فجاء تكوين التنظيم من مركز السلطة ودفع الجماهير الى الانضمام اليه بالملايين دون تفرقة بين المقتنعين بالتغير الاجتماعي وأصحاب المصلحة الحقيقية فيه، وبين المنضمين اليه تملقاً وتقرباً من مراكز النفوذ، وكما كان الاتحاد القومي خاضعاً لنفوذ العسكريين كان الاتحاد الاشتراكي كذلك أيضاً، مثل ما هو واضح في تشكيل الأمانة (9 ضباط، 3 مدنيين)، ولكن الفارق مع ذلك كان موجوداً بين الاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي من حيث التنظيم الهرمي والصلات التنظيمية الثابتة، فقد خلق الاتحاد الاشتراكي حداً من الانضباط التنظيمي وصورة هيكل محدود لبناء تنظيمي، وأضاف ميثاق العمل الوطني للتنظيم لكونه مرجع يرجع اليه المسئولون ويلتزم به أعضاء القيادات المختلفة، وعدت هذه المحاولة الجادة لوضع وثيقة فكرية وتكوين تنظيم جماهيري، خطوة ايجابية هامة، جوهرها الرئيس استناد عبد الناصر في الوثيقة هو تحديد القوى الاجتماعية التي يضمها تحالف واحد في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية. [/size]