رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين.
أما بعد: فيقول الله- تبارك وتعالى -: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [المجادلة: 7-10]. قال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله - سبحانه -: (ألم تر إلى الذين نهو عن النجوى) قال: اليهود، وكذا قال مقاتل بن حيان، وزاد: كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين اليهود موادعة، وكانوا إذا مر بهم رجلٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - جلسوا يتناجون بينهم، حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره، فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم فترك طريقه عليهم، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النجوى، فلم ينتهوا، وعادوا إلى النجوى، فأنزل الله - عز وجل -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) [المجادلة: 8]، وهذه روايات نذكرها من باب جمع ما قيل في الآية وإن لم نقف على من صححها، ومن ذلك ما روى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "كنا نتناوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنبيت عنده تكون له الحاجة، أو يطرقه أمر من الليل فيبعثنا والمحتسبون وأهل النوب؛ فكنا نتحدث، فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقال: ((ما هذه النجوى؟ ألم تُنهوا عن النجوى))؟ قلنا: تبنا إلى الله يا رسول الله! إنا كنا في ذكر المسيح -يعني: المسيح الدجال - قال: فرقاً منه؟ فقال: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه))، قلنا: بلى يا رسول الله! قال: ((الشرك الخفي: أن يقوم الرجل يعمل لمكان الرجل))"، قال ابن كثير: هذا إسناد ضعيف؛ فيه بعض الضعفاء.
على أي الأحوال الآية في حق قومٍ نهوا عن النجوى ثم لم يمتثلوا هذا النهي، وإنما عادوا لما نهوا عنه؛ فهذا يكفينا إذا لم يصح في سبب النزول حديث، وقوله - سبحانه -: (وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي: يتحدثون فيما يختص بأحوالهم، ويكون فيه إثم ومعصية، أما العدوان فهو إثم يتعلق بغيرهم، ومنه معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومخالفته، حيث كانوا يصرون عليها ويتواصون بها.
حكم تحية الرسول بغير ما حياه الله:
قوله - تعالى -: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) [المجادلة: 8]، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهود فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم! فقالت عائشة: وعليكم السام، قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عائشة! إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش))، قلت: ألا تسمعهم يقولون: السام عليك -يعني: الموت- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أوما سمعت أني قلت: وعليكم))، فأنزل الله: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ)[المجادلة: 8]"، وفي رواية في الصحيح: "أنها - رضي الله عنها - لما قالوا: السام عليك يا محمد! قالت: عليكم السام والذام واللعنة، فنهاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((إنه يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا))"، ونستفيد من هذا أن الجواب يكون هكذا في رد تحية أهل الكتاب؛ لأنهم يلحنون في القول، وربما ذكروا مثل هذه الأشياء، كقولهم: السام عليكم، أو السام عليك، وهم يقصدون بذلك الدعاء على المؤمنين بالموت والهلكة، فعلمنا النبي - عليه الصلاة والسلام - أن نجيبهم فقال: ((وعليكم)) يعني: نفس الشيء الذي تدعون به علينا فنحن ندعو به عليكم، فإن كان قال: السام، فعليه السام -أي: الموت- أيضاً، ويحتمل أنه أراد أنها من الدعاء على حسب نية القائل، ويحتمل أنه أراد أن يذكرهم بأن هذا أمر مقدور عليه وعليهم لا يستوجب الشماتة أو الدعاء؛ لأن الموت من سنن الله تبارك وتعالى، فكل الناس صائر إلى الموت، فكأنه قال: وعليكم، أي: أن الموت مكتوب عليكم كما هو مكتوب علينا، لكن إن كان قصدهم الدعاء ثم أجاب بقوله: وعليكم، فإنه بين أنه يستجاب لنا فيهم إذا دعونا عليهم، أما إذا دعوا هم على المؤمنين فلا يجيب الله- تبارك وتعالى -لهم في المؤمنين، وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس مع أصحابه إذا أتى عليهم يهوديٌ فسلم عليهم، فردوا عليه، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تدرون ما قال))؟ قالوا: سلم يا رسول الله! قال: ((بل قال: سأم عليكم، أي: تسأمون دينكم))، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ردوه))، فردوه عليه، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أقلت: سأم عليكم))؟ قال: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سلم عليكم أحدٌ من أهل الكتاب فقولوا: عليك))" يعني: عليك ما قلت، وهذا مخرج في الصحيح.
معاملة اليهود والمنافقين للنبي - صلى الله عليه وسلم -:
قال - عز وجل -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) [المجادلة: 8]، جاء في بعض الأحاديث أنهم كانوا يحيونه بما لم يحيه به الله، فكانوا يقولون: السام عليكم، وهو يقول: السلام عليكم، كما حياه الله بذلك، (وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) [المجادلة: 8]، فهذا يدل على أنهم في الباطن مكذبون بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإما أن يكونوا منافقين، وإما أن يكونوا من اليهود، كما جاء في تفسير هذه الآية، فإنهم حينما يفعلون ذلك يستبطئون نزول عذاب الله، ويقولون: لو كان هذا نبياً حقاً لنزل العذاب، وقوله - تعالى -: (وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) [المجادلة: 8] أي: أنهم يحرفون الكلام وفيه إيهام السلام وليس بسلام، وإنما هو شتمٌ في الباطن، وهذه عادتهم، كما كانوا يقولون للنبي - عليه الصلاة والسلام - راعينا، وإنما يقصدون بذلك وصفه بالرعونة، ولذلك نهينا عن أمثال هذه العبارات، وإنما أمرهم الله أن يقولوا: انظرنا، ولا يقولوا: راعنا. والملاحدة يعرفون في لحن القول الذي يلحنونه ليؤذوا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فهم يشتمونه في الباطن، ويقولون في أنفسهم: لو كان هذا نبياً لعذبنا الله بما نقول له في الباطن؛ لأنهم يخفون هذه النوايا الخبيثة، والله يعلم ما يسرون، ويقولون: لو كان هذا نبياً حقاً لأوشك أن يعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا، فقال الله- تبارك وتعالى -: (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) [المجادلة: 8]، وأما الدنيا فيحصل فيها الاستدراج والإمهال، فليس التفسير الوحيد لعدم نزول العذاب أنه ليس نبياً؛ لأن عدم نزول العذاب قد يكون لأسباب كثيرة، وقد يكون رحمةً بهم أنفسهم، لعلهم يتوبون، أو لوجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فلا يحول ذلك دون نزول العذاب، أو لغير ذلك من الأسباب، لكنهم يعلقون على عدم نزول العذاب الدنيوي هذا الأمر فقط، فقال - عز وجل -: (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) [المجادلة: 8] أي: يكفيهم جهنم، وهل بعد ذلك عذاب؟ حيث يخلدون في عذاب الله أبد الآبدين، فهي تكفيهم؛ لأنهم في الدار الآخرة يصلونها فبئس المصير.
روى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: "أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سامٌ عليك، ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول: فنزلت هذه الآية: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[المجادلة: 8]"، قال ابن كثير: إسناده حسن، وقال العوفي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) [المجادلة: 8] قال: كان المنافقون يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حيوه: سام عليك، قال الله: (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [المجادلة: 8].
النهي عن التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول:
قال الله - عز وجل - مأدباً عباده المؤمنين ألا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) [المجادلة: 9] يعني: كما يتناجى الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين، فلا تتناجوا مثلهم على الإثم والعدوان ومعصية الرسول، ولا تفعلوا فعلهم، وإنما: (وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [المجادلة: 9] أي: حين يحشركم يخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي قد أحصاها عليكم، وسيجزيكم بها.
النجوى يوم القيامة، وبيان ستر الله على عباده المؤمنين:
روى الإمام أحمد بسنده عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر - رضي الله عنهما - إذ عرض له رجلٌ فقال: كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، فيقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟))، فالأمر كما قال - عز وجل -: (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) [المجادلة: 6]، فالإنسان تمر السنوات الطويلة فينسى المعاصي، لكنها محصية عند الله بمنتهى الدقة، كما جاء في بعض الروايات: "حتى فثاثة التين بأصبعه" أي: إذا كان الإنسان جالساً وفت التين بإصبعه فسوف يسأل عنها، ويذكر بها، فكيف بالآثام؟ وكيف بالكبائر العظام؟! فيقرره الله بجميع ذنوبه، حتى الابتسامة والضحكة تحفظ عليه في كتابه فيقول له ربه: ((أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: (هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود: 18]))، وهذا الحديث أخرجه الشيخان في الصحيحين، ففي هذا الحديث تفصيل لمعنى الحساب اليسير المذكور في قوله - تعالى -: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا) [الانشقاق: 7-9]، فالحساب اليسير كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو العرض، وقد صح قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نوقش الحساب عذب))، والحساب اليسير فسره - صلى الله عليه وسلم - بما يجب المصير إليه، فحينئذٍ لا ينظر في خلافه؛ فإذا صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير فلا يجوز النظر فيما يخالفه؛ فإنه أعلم الناس بكلام الله تبارك وتعالى، فقد فسر الحساب اليسير بأنه مجرد عرض الأعمال، كما جاء في الحديث السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله يضع كنفه على المؤمن ويستره من الناس، ثم يقرره بذنوبه، فيذكره بجميع ذنوبه))، وتأمل يوماً مقداره خمسون ألف سنة مما تعدون، وهو يقرره بذنوبه: أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ وهو يقول: بلى يا رب! بلى يا رب! ويقر على نفسه بجميع المعاصي، حتى إذا وصل إلى آخرها، وظن أنه هالك لا محالة، حينئذٍ يقول الله- تبارك وتعالى -له: ((فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم))، وهذا من كرم الله تبارك وتعالى؛ لأنه ستير يحب الستر، ومن رحمته- تبارك وتعالى -على عباده أنه - عز وجل - يوجب عليهم أن يستروا أنفسهم، وينهاهم أن يفضحوا أنفسهم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((كل أمتي معافىً إلا المجاهرين))، قيل: ومن المجاهرون يا رسول الله؟! قال - عليه الصلاة والسلام -: ((هو العبد الذي يبيت في الليل، فيعمل المعاصي، ثم يصبح في الناس فيقول: قد فعلت، وقد فعلت))، فهذا يعاقب؛ لأنه لم يستر نفسه، فمن ابتلي بشيء من القاذورات -المعاصي- وسترها الله عليه، فيجب أن يستر نفسه، حتى لو كانت المعصية تستوجب حداً، فيستر نفسه، ولا يفضحها، ولا يكشف ستر الله عليه، فإذا منَّ الله عليه بالستر في الدنيا فيرجى أن يستر عليه في الآخرة، كما في هذا الحديث، أما أن يجاهر بالمعاصي فهذا من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وقد ورد الوعيد الشديد في ذلك، كما في قوله - عز وجل -: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) [النور: 19]، فمما حرمه الله إشاعة الفاحشة بأي صورة من صور الإشاعة، كأن يجهر الإنسان بالمعاصي التي سترها الله عليه، فعلى المسلم أن يستر نفسه، ويستر إخوانه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة))، ويجب ألا يتداول الإنسان في كلامه وفي مجالسه ما يفضح نفسه من الحوادث والأشياء البشعة، فلا يجوز للإنسان أن يحكيها، وبعض الناس يتساهلون في هذا، ويظنون أنهم لا يرتكبون شيئاً محظوراً!.
نشر الحوادث والجرائم في الجرائد والتلفزيون من إشاعة الفاحشة بين المسلمين:
ما ينشر في الجرائد من حوادث القتل والانتحار والفواحش، وأن هذا فعل كذا وفعل كذا؛ هذا كله مما يخدم مقاصد الشيطان في إفساد المسلمين؛ لأن الأشياء إذا اعتادت الأذن على سماعها هانت على القلوب، وخف استعظامها في القلوب، فبالتالي تعين على ارتكاب المعاصي، وربما فتحت حكاية هذه الشرور أبواباً من الحيل للوصول إلى الحرام لم تكن تخطر ببال الناس، بل كان الناس منها في عافية، فإذا علم الإنسان -مثلاً- أن هذا الشخص كان في ضائقة، وحصلت له محن شديدة، فانتحر بالطريقة الفلانية، ويأتون بالتفاصيل، فربما يخلو الشيطان بالإنسان، فيهلكه بهذه الحيلة المحرمة! وإذا أراد أن يسرق يقول: فلان عمل كذا، فيفعل مثله، ولذلك تجد الأولاد الصغار يفسدون بسبب هذه الأشياء، وهذا من بلاء التلفزيون الذي هو دجال هذا الزمان، الذي اخترق على المسلمين بيوتهم، وصار يعيث فيها فساداً.
حكي لي أن صبيين صغيرين دخل عليهما أبوهما فوجدهما ماسكين كوبين من الماء، ويتخبطان ببعض، ويقول أحدهما للآخر: الكلام ذا يقال في صحتك! فهما يقلدان السكارى، ولا يلوم الأب إلا نفسه؛ لأنه هو الذي أدخل التلفزيون إلى بيته، فهذا أقل شيء يمكن أن يقع من الفساد، ولولا أني لا أحب أن أشيع الفاحشة لحكيت أشد من ذلك مما يقع في البيوت من جراء وجود هذا الجهاز الخبيث في بيوت المسلمين. فالرجل يظهر أنه غيور، وأنه رجل شهم، وإذا دخل الرجال إلى بيته يحجزهم عن نسائه، ثم يأتي بأفسق الفساق في العالم كله ويدخلهم بيته؛ لتتعلم بناته الرقص! وكيف تعمل المرأة مع معشوقها! وكيف يتكلمون! وفي أثناء ذلك يحصل نوع من تعويد قلوب المسلمين على استمراء هذه المنكرات، وإظهار المرأة الناشز الفاسقة التي تتمرد على زوجها وتفسق عن أمر ربها بأنها مظلومة؛ لأن الشخص الذي يعمل التمثيلية أو يضع هذه القصة هو الذي يتحكم، والناس لا ينتبهون إلى هذا، فهو يريد أن يصل إلى القلوب بطريقة شيطانية ملتوية؛ حتى يغير وينشئ فكرة معينة، فتجد -مثلاً- أنهم في القضايا التي تتعلق بالأمور الشرعية يحاولون أن يظهروا المجرم على أنه مظلوم، حتى المجرم الذي تعدى حق الله تبارك وتعالى! فيقولون: إن المرأة مظلومة ومقهورة، وربما يأتون بالزوج حتى يتمكنون من الطعن في الحكم شرعي، والطعن في أحكام الطلاق، والطعن في تعدد الزوجات، والطعن في أي شيء من الأمور الشرعية، فمن أجل ذلك لا ينبغي أبداً للمسلم بأي حال من الأحوال أن يوجد مثل هذا الجهاز في بيته. وأنا لا أدري كيف يفعل الأخ حينما ينظر هذه المناظر القذرة أمام بناته ونسائه وأبنائه في هذا الدجال الجديد! هل يغلق التلفزيون أم أنه يظل جالساً مع بناته ينظر إلى هذه الفواحش؟! نسأل الله العافية.
الحكمة في الأمر بالستر والنهي عن إشاعة الفاحشة:
الإنسان منهي عن إشاعة الفاحشة بأن يحكي ما ستره الله عليه؛ فالإنسان إذا ستر على نفسه في الدنيا يجازى أن يستره الله في الآخرة، أما إذا هتك ستر نفسه فليبشر بالفضيحة في الدنيا وفي الآخرة. والحكمة من ذلك: أن المجاهرة بالمعاصي تهون استعظامها في القلوب، وتجرئ الناس عليها؛ بحيث تجعل المعصية شيئاً طبيعياً جداً، فالمرأة -مثلاً- تقتل زوجها وتضعه في أكياس! والأولى أن الناس تستفظعه، لكن تكراره يجعل القلوب تألفه، وتتعود عليه، وربما تتفتق هذه الفكرة في ذهن امرأة أخرى ما كانت تخطر ببالها هذه الحيلة! فهذا كله من إشاعة الفاحشة في المؤمنين، فمن أجل ذلك حرم الله- تبارك وتعالى -كشف الستر عن المسلم، فمن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة.
تحريم الخوض في أعراض المسلمين:
بعض الناس يظنون أن الخوض في أعراض الناس بطولة، وأن المتكلم في ذلك إنسان متابع لأخبار الناس، ويعرف ما لا يعرفه الآخرون، فيخوضون في أعراض الناس بأدنى أدنى شبهة، أو بأضعف أضعف قرينة، ويظنون أنهم يسلمون من العاقبة الوخيمة في الآخرة! ينبغي للإنسان ألا يخوض في عرض أحد من المسلمين؛ فإن الربا من أعظم الجرائم ومن أعظم الكبائر، بل إن أقل وأهون درجة من الربا مثل أن ينكح الرجل أمه والعياذ بالله! ذكر ذلك - عليه الصلاة والسلام -، ثم في نفس الحديث قال: ((وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه))، أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -، فأهون الربا وأقل درجة من الربا ذنبها يساوي أن ينكح الرجل أمه، لكن أعلى درجة من الربا -وهي أقبح وأغلظ في العقوبة- هي استطالة الرجل في عرض أخيه! فينبغي أن يفطن المسلمون لذلك، فالإنسان لا يصغي سمعه ولا يرهف سمعه لمن يخوض في عرض أي رجل من المسلمين، وكلمة العرض أعم من المعنى الضيق الذي يتبادر إلى أذهان الناس في هذا الزمان، فالعرض ليس متعلقاً فقط بمسألة الإحصان والفروج، وإنما العرض: كل موضع في الإنسان قابل للمدح أو القدح، سواء ملابسه.. شكله.. هيئته.. مشيته.. كلامه.. أموره الخاصة.. أولاده، فلا يجوز للإنسان أن يتكلم في عرض أخيه؛ فعرض أخيه: كل موضع فيه يقبل المدح أو القدح، فهذا هو العرض، وليس هو المعنى الضيق الذي يتبادر إلى أذهان الناس.
تقرير الله - عز وجل - لعبده على ذنوبه يوم القيامة:
يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه، فيستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: فإني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون: (وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود: 18]))، وفي الحديث الآخر: ((من نوقش الحساب عذب))، أما مجرد العرض: أتذكر كذا؟ أتذكر كذا؟ فهذا هو الحساب اليسير، أما الحساب العسير فهو المناقشة، فمن نوقش حسابه فلابد أن يعذب، وفي بعض الأحاديث أن العبد ينكر هذه الذنوب، فيقول: ((ما فعلت، ويحلف على ذلك، فالله- تبارك وتعالى -يقول: إنني لن أقبل لك شهيداً دون نفسك، فيختم على فيه، وتنطق جوارحه، فيقول: ويلٌ لكنَّ إنما عنكنَّ كنت أناضل، فتنطق جوارحه بما فعل من المعاصي، كما قال- تبارك وتعالى -: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس: 65]، وقال- تبارك وتعالى -: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
تعريف النجوى وحكم التناجي:
قال- تبارك وتعالى -: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [المجادلة: 10] النجوى هي: المسارة، بأن يسر الإنسان في أذن صاحبه كلاماً، ويخفضان الصوت، هذه هي المسارة، وقد يتوهم الناظر إليهما أنهما يريدان به ومصدر هذه النجوى هو الشيطان، يعني: يصدر هذا الفعل من المتناجيين عن تسويل الشيطان وتزيينه، فهو الذي يزين لهم ذلك. وقوله: (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [المجادلة: 10] أي: ليسوءهم، ولكن: (وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) [المجادلة: 10]، ومن أحس من ذلك شيئاً فليستعذ بالله، وليتوكل على الله؛ فإنه لا يضره شيء بإذن الله، وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي، إذا كان في ذلك إيذاء للمؤمن، قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: حدثنا وكيع حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجين اثنان دون صاحبهما؛ فإن ذلك يحزنه))، وأخرجه الشيخان وغيرهما. ورواه الإمام مسلم بلفظ آخر: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الثالث إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه)).
حكم القيام للقادم:
قال - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة: 11]، في هذا الموضع من كتب التفسير يذكر العلماء أموراً مهمة من الآداب الشرعية، فعامة العلماء المفسرين حينما يصلون إلى هذا الموضع في سورة المجادلة يذكرون الأمور الشرعية المتعلقة بآداب المجلس. قوله- تبارك وتعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة: 11]، وهنا مسألة من أحكام القرآن، وهي: حكم القيام للقادم، فهل يشرع إذا دخل عليك إنسان -لاسيما إذا كان كبير السن أو من أهل العلم والمنزلة والفضل- أن تقوم له على سبيل الإكرام والتعظيم؟ اختلف العلماء في ذلك خلافاًَ كبيراً، ومن أشهر من ألف في هذه المسألة شيخ الإسلام الإمام محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف الدين النووي، والأفضل ألا نقول: محيي الدين؛ لأنه كان يكره ذلك، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية كان يكره أن يلقب بـتقي الدين، لكن جرت عادة اللسان بذلك، فـالنووي قال: لا أجعل في حل من لقبني محيي الدين، واسم كتابه "الترخيص في القيام لذوي المزية والفضل من أهل الإسلام"، وهذا الكتاب للإمام النووي، ونعرض الأدلة التي اعتمد عليها في هذه المسألة باختصار إن شاء الله.
فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في حكم القيام للقادم:
نختم الكلام بفتيا لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في القضية؛ فإنه - رحمه الله تعالى -سئل عن النهوض والقيام الذي يعتاده الناس من الإكرام عند قدوم شخص معين معتبر هل يجوز أم لا؟ وإذا كان يغلب على ظن المتقاعد عن ذلك أن القادم يخجل أو يتأذى باطناً، وربما أدى ذلك إلى بغضٍ وعداوة ومقت، وأيضاً المصادفات في المحافل وغيرها، وتحريك الرقاب إلى جهة الأرض والانخفاض، هل يجوز ذلك أم يحرم... إلى آخر السؤال؟ يقول - رحمه الله -: رب العالمين، لم تكن عادة السلف على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كلما يرونه - عليه السلام -، كما يفعله كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "لم يكن شخص أحب إليهم من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك"، لكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقياً له، أي: إذا قدم مسافر -مثلاً- فيمكن أن تقوم لتحييه أو تلتزمه وتسلم عليه، كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قام لـعكرمة، وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ: ((قوموا إلى سيدكم))، وكان قد قدم ليحكم في بني قريظة؛ لأنهم نزلوا على حكمه. يقول شيخ الإسلام: والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلا يعدل أحدٌ عن هدي خير الورى وهدي خير القرون إلى ما هو دونه، وينبغي للمطاع ألا يقر ذلك مع أصحابه؛ بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد، وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقياً له فحسن، وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لاعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد خفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة؛ فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك أصلح لذات البين، وإزالة للتباغض والشحناء، وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة فليس في ترك ذلك إيذاء له، يعني: من كان يعلم أن هؤلاء الناس إذا دخل عليهم قادم لا يقومون؛ لأنهم سنيون سلفيون، ولأنهم يعلمون الحديث، ويقصدون بذلك معنىً شرعياً، وهو: الاقتداء بالسلف وبالصحابة بفعلهم، وهو يعلم أنهم يفعلون ذلك تديناً؛ فلا يجوز له أن يكره ذلك منهم، ولكن كلام شيخ الإسلام فيمن إذا دخل ولم تقم له، وهو لا يعلم هذا الحكم، ولا يعلم هذه الأحاديث، ولا يعلم أنهم يتدينون بذلك، بل يرى هذا تنقص، وأنهم لا يحترمونه؛ فأجاز شيخ الإسلام حينئذ القيام إذا كان في تركه فسادٌ لذات البين، يقول شيخ الإسلام: وليس هذا القيام المذكور في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار))؛ فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد، هذا تأويل شيخ الإسلام لهذا الحديث، يعني: أن يكون جالساً وهم يقفون على رأسه، وليس المراد أن يقوموا لمجيئه إذا جاء، ولهذا فرقوا بين أن يقال: قمت إليه، وقمت له، فالقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد، وقد ثبت في صحيح مسلم: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى بهم قاعداً في مرضه صلوا قياماً فأمرهم بالقعود، وقال: ((لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضاً))"، فنهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد، وإن كان هذا الحكم نسخ فيما بعد، وقال: ((لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضاً))؛ لأنه كان جالساً وهم كانوا قائمين، فنهاهم عن ذلك، وقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد لئلا يتشبهوا بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود، يقول شيخ الإسلام: وجماع ذلك كله الذي يصلح: اتباع عادات السلف وأخلاقهم، والاجتهاد عليها بحسب الإمكان؛ فمن لم يعتقد ذلك ولم يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاد من الناس من الاحترام مفسدة راجحة؛ فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما. وسبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
قول الألباني في حكم القيام للقادم:
هناك مذهب آخر في هذه المسألة، ونحن نذكر هذه الأدلة من باب أن الإنسان يكون على معرفة بمذهب من يخالفه، وأنه يعتمد على أدلة لا على هوى؛ حتى يفرق بين الإنكار في المسائل المتفق عليها والمسائل المختلف فيها، ويرتفع أفق الإنسان بمعرفة مآخذ المذهب المخالف، فمن العلماء من يمنعون القيام للقادم مطلقاً، وممن ينتصر لهذا القول العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله-، واستدل بحديث أبي مجلز قال: دخل معاوية بيتاً فيه عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عامر، فقام ابن عامر وثبت ابن الزبير، وكان أدربهما -وفي بعض النسخ: أرزنهما، لكن الأصح أدربهما- فقال معاوية: "اجلس يا ابن عامر!" فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أحب أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار))، قال الألباني: صحيح، رجال إسناده ثقات، رجال الشيخين، قال: وللحديث شاهد مرسل في قصة طريفة، أخرجه الخطيب من طريق عبد الرزاق بن سليمان بن علي بن الجعد، قال: سمعت أبي يقول: لما أحضر المأمون أصحاب الجواهر فناظرهم على متاعٍ كان معهم، ثم نهض المأمون لبعض حاجته، فقام كل من كان في المسجد إلا ابن الجعد فإنه لم يقم، قال: فنظر إليه المأمون كهيئة المغضب، ثم استخلاه -أي: خلا به- فقال له: يا شيخ! ما منعك أن تقوم لي كما قام أصحابك، قال: أجللت أمير المؤمنين للحديث الذي نأثره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: وما هو؟ قال: علي بن الجعد: سمعت المبارك بن فضالة يقول: سمعت الحسن يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار))، قال: فأطرق المأمون متفكراً في الحديث، ثم رفع رأسه فقال: لا يشترى إلا من هذا الشيخ، قال: فاشترى منه في ذلك اليوم بقيمة ثلاثين ألف دينار، يقول الألباني: فصدق في علي بن الجعد -وهو ثقة ثبت- قول الله - عز وجل -: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2-3]؛ لأنه إذا خالف التجار الآخرين خشي ذهاب البيع عليه، ولكنه خشي أن يخالف نهي النبي - عليه الصلاة والسلام -، وعومل الآخرون بنقيض قصدهم، وفاتتهم البيعة! ونحو هذه القصة ما أخرجه الدينوري في المنتقى من المجالسة قال: حدثنا أحمد بن علي البصري قال: وجه المتوكل إلى أحمد بن العدل وغيره من العلماء، فجمعهم في داره، ثم خرج عليهم، فقام الناس كلهم إلا أحمد بن العدل، فقال المتوكل لـعبيد الله: إن هذا الرجل لا يرى بيعتنا -يعني: أنه لم يقم لي لأنه لا يعتبرني، ولا يعتد بإمامتي- فقال له: بلى يا أمير المؤمنين! ولكن في بصره سوء، يعني: نظره ضعيف فلم يرك، فقال أحمد بن العدل: يا أمير المؤمنين! ما في بصري من سوء، ولكنني نزهتك من عذاب الله تعالى؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار))، فجاء المتوكل وجلس إلى جنبه! وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق بسنده عن الأوزاعي قال: حدثني بعض حرس عمر بن عبد العزيز قال: خرج علينا عمر بن عبد العزيز ونحن ننتظره يوم الجمعة، فلما رأيناه قمنا، فقال: إذا رأيتموني فلا تقوموا، ولكن توسعوا، يقول الألباني - رحمه الله - في فقه الحديث: دلنا هذا الحديث -يشير إلى حديث: ((من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار))- على أمرين:
الأول: تحريم حب الداخل على الناس القيام منهم له، وهو صريح الدلالة؛ بحيث إنه لا يحتاج إلى بيان، يعني: أن الوعيد الذي فيه ((فليتبوأ مقعده من النار))، وعيد شديد جداً، كما في قوله: ((من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار))، فهذا من الكبائر القلبية الغليظة، ولا خلاف في هذا.
الثاني: كراهة القيام من الجالسين للداخل ولو كان لا يحب القيام، وذلك من باب التعاون على الخير، وعدم فتح باب الشر، وهذا معنىً دقيق دلنا عليه راوي الحديث معاوية - رضي الله عنه -، وذلك بإنكاره على عبد الله بن عامر قيامه له، واحتج عليه بالحديث، وذلك من فقهه في الدين، وعلمه بقواعد الشريعة التي منها سد الذرائع، ومعرفته بطبائع البشر، وتأثرهم بأسباب الخير والشر، يعني: أنه يعتمد على قاعدة سد الذرائع؛ ولذلك قال بالكراهة ولم يقل بالتحريم، يقول: فإنك إذا تصورت مجتمعاً صالحاً كمجتمع السلف الأول لم يعتاد القيام لبعض فمن النادر أن تجد فيهم من يحب هذا القيام الذي يرديه في النار، وذلك لعدم وجود لما يذكره به، وهو القيام نفسه، وعلى العكس من ذلك: إذا نظرت إلى مجتمع كمجتمعنا اليوم قد اعتادوا القيام المذكور، فإن هذه العادة -لا سيما مع الاستمرار عليها- تذكره به، ثم إن النفس تتوق إليه، وتشتهيه؛ حتى تحبه، فإذا أحبه هلك، فكان من باب التعاون على البر والتقوى أن يترك هذا القيام، حتى لمن نظن أنه لا يحبه؛ خشية أن يجره قيامنا له إلى أن يحبه، فنكون قد ساعدنا على إهلاك نفسه، وهذا لا يجوز، ومن الأدلة الشاهدة على ذلك: أنك ترى بعض أهل العلم -الذين يظن فيهم حسن الخلق- تتغير نفوسهم إذا ما وقع نظرهم على فردٍ لم يقم لهم! هذا إذا لم يغضبوا عليه، ولم ينسبوه إلى قلة الأدب، ويبشروه بالحرمان من بركة العلم؛ بسبب عدم احترامه لأهله بزعمهم، بل إن فيهم من يدعوهم إلى القيام، ويخدعهم بمثل قوله: أنتم لا تقومون لي كجسم من عظم ولحم، وإنما تقومون للعلم الذي في صدري! وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عنده لم يكن لديه علم؛ لأن الصحابة كانوا لا يقومون له، أو أن الصحابة لا يعظمون النبي - عليه الصلاة والسلام - التعظيم اللائق به، فهل يقول بهذا أو ذاك مسلم؟! ثم يقول الشيخ - رحمه الله -: ومن أجل هذا الحديث وغيره ذهب جماعة من أهل العلم إلى المنع من القيام للغير، كما في فتح الباري. ثم قال: ومحصل المنقول عن مالك إنكار القيام ما دام الذي يقام لأجله لم يجلس، ولو كان في شغل نفسه؛ فإنه سئل عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها؛ فتتلقاه وتنزع ثيابه، وتقف حتى يجلس؟ أي: أن الإمام مالك سئل عن امرأة حينما يدخل عليها زوجها تبالغ في إكرامه؛ فأول شيء أنها تتلقاه وتقابله، ثم تنزع ثيابه، ثم تقف حتى يجلس؛ إكراماً لزوجها، فقال: أما التلقي فلا بأس به، وأما القيام حتى يجلس فلا؛ فإن هذا من فعل الجبابرة، وقد أنكره عمر بن عبد العزيز، يقول الألباني: قلت: وليس في الباب ما يعارض دلالة هذا الحديث أصلاً، والذين خالفوا فذهبوا إلى جواز هذا القيام بل استحبابه استدلوا بأحاديث بعضها صحيح وبعضها ضعيف، والكل عند التأمل في طرقها ومتونها لا ينهض للاستدلال على ذلك، ومن أمثلة القسم الأول: حديث: ((قوموا إلى سيدكم))، ففيه زيادة في الحديث: ((فأنزلوه))؛ لأنه كان مجروحاً، ومن أمثلة القسم الآخر الضعيف: حديث قيامه - صلى الله عليه وسلم - حين أقبل عليه أخوه من الرضاعة، فأجلسه بين يديه، فهو حديث ضعيف معضل الإسناد، ولو صح فلا دليل فيه أيضاًَ، ثم ذكر في موضع آخر حديث أنس - رضي الله عنه - قال: "ما كان في الدنيا شخص أحب إليهم رؤيةً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما كانوا يعلموا من كراهيته لذلك"، قال: إسناده صحيح على شرط مسلم، ثم قال الألباني - رحمه الله -: وهذا الحديث مما يقوي ما دل عليه الحديث السابق من المنع من القيام للإكرام؛ لأن القيام لو كان إكراماً شرعاً لم يجز له - صلى الله عليه وسلم - أن يكرهه من أصحابه، وهو أحق الناس بالإكرام، وهم أعرف الناس بحقه - صلى الله عليه وسلم -، وأيضاً فقد كره الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا القيام له من أصحابه، فعلى المسلم -خاصة إذا كان من أهل العلم وذوي القدوة- أن يكره ذلك لنفسه؛ اقتداءً به - صلى الله عليه وسلم -، وأن يكرهه لغيره من المسلمين؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير))، فلا يقوم له أحد، ولا هو يقوم لأحد، بل كراهتهم لهذا القيام أولى بهم من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك لأنهم إن لم يكرهوه اعتادوا القيام بعضهم لبعض، وذلك يؤدي بهم إلى حبهم له، وهو سبب يستحقون عليه النار، كما في الحديث السابق، وليس كذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه معصوم من أن يحب مثل هذه المعصية، فإذا كان مع ذلك قد كره القيام له؛ كان واضحاً أن المسلم أولى بكراهته له.
إكرام الناس على حسب مراتبهم وإنزالهم منازلهم:
ثم ذكر الإمام النووي - رحمه الله تعالى - أطرافاً مما جاء في تنزيل الناس منازلهم، وإكرامهم على حسب مراتبهم، وما جاء في احترام وإكرام فضلاء المسلمين، وتوقير أولي السن والورع والعلم والدين، والرفق بطلبة العلم وأولي الفضل والفهم؛ تعظيماً لحرمات المؤمنين المسلمين، ومسارعةً إلى رضا رب العالمين، قال: وهو دليل لما قدمته، وعاضد لما أسلفته: قال الله - عز وجل -: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج: 30]، وقال - تعالى -: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32]، ثم روى حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يأتيكم رجال من قبل المشرق يتعلمون، فإذا جاءوكم فاستوصوا بهم خيراً))، وعن عامر بن إبراهيم قال: كان أبو الدرداء - رضي الله عنه - إذا رأى طلبة العلم قال: "مرحباً بطلبة العلم"، وكان يقول: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى بكم"، وذكر حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن من إجلال الله - تعالى -إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)) أي: الحاكم العادل، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا))، وهناك حديث ضعيف ذكره عن ميمون بن أبي شبيب أن عائشة - رضي الله عنها - مر بها سائل فأعطته كسرة، ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة فأقعدته فأكل، فقيل لها في ذلك، فقالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنزلوا الناس منازلهم))، ولكن ميموناً لم يدرك عائشة، وذكر أيضاً عن عائشة أنها قالت: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننزل الناس منازلهم"، وهذا رواه مسلم في مقدمة الصحيح، وعن إسحاق الشهيدي قال: كنت أرى يحيى القطان - رحمه الله تعالى -يصلي العصر، ثم يستند إلى أصل منارة مسجده، فيقف بين يديه علي بن المديني والشاذكوني وعمرو ابن علي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم، يسألونه عن الحديث وهم قيام على أرجلهم، إلى أن تحين صلاة المغرب، لا يقول لواحدٍ منهم: اجلس، ولا يجلسون هيبةً وإعظاماً، وذكر أيضاً عن الإمام البغوي أنه قال: وكذلك تجوز إقامة الإمام والوالي الرجل على رأسه في موضع الحرب، ومقام الخوف، يعني: أن بعض الأئمة يحملون حديث: ((من أحب أن يتمثل الناس أو الرجال له قياماً فليتبوأ مقعده من النار))، على أن يكون الإنسان جالساً والناس قيام على رأسه، كالجنود والحراس ونحوهم، ويستثنون حالة الحرب والخوف؛ حتى يدخل الرعب في قلوب الأعداء، كما حصل في صلح الحديبية حينما كان يقف المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قائماً على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه السيف، وعليه المغفر، يقول النووي: هذا الذي قاله البغوي - رحمه الله تعالى -متفق عليه، يعني: استثناء هذه الحالة، وهو أن يقف على رأس السلطان بالهيبة والسلاح إرهاباً للأعداء في حالة الخوف والحرب، والحديث مشهور في الصحيح.
أدلة المانعين من القيام للقادم:
ثم ذكر الإمام النووي - رحمه الله تعالى -الباب الثاني في الأحاديث التي يستدل بها على النهي عن القيام وما أجاب به عنها أهل المعرفة والحذق والأفهام، ثم روى حديث أنس - رضي الله عنه - قال: "لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لما يعلمون من كراهته لذلك"، وهذا الحديث صحيح.
الحديث الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)).
الحديث الثالث: عن أبي أمامة قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوكئاً على عصا، فقمنا إليه، فقال: ((لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً))"، وهو حديث ضعيف، ثم أجاب الإمام النووي - رحمه الله - عن هذه الأحاديث فقال: أما الجواب عن الحديث الأول -وهو أقرب ما يحتج به- فمن وجهين: أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاف عليهم وعلى من بعدهم الفتنة بإفراطهم في تعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما جاء في حديث الآخر: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله))، فقوله هذا من نفس هذا الباب؛ لسد الافتتان به والغلو في تعظيمه - صلى الله عليه وآله وسلم -، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيامهم له لهذا المعنى، ولم يكره قيام بعضهم لبعض، بل قام - صلى الله عليه وسلم - لبعضهم، وقاموا لغيره بحضرته، ولم ينكر ذلك، بل أقره، وأمر به في حديث القيام لـسعد، يقول: وقد قدمنا في الباب الأول بيان هذا كله، وهذا جواب واضح لا يرتاب فيه إلا جاهلٌ أو معاند، الوجه الثاني في الجواب عن هذا الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بينه وبين أصحابه - رضي الله عنهم - من الأنس وكمال الود والصفا ما لا تحتمل زيادته بالإكرام بالقيام، فلم يكن في القيام مقصود، بخلاف غيره، فإن فرض صاحبٌ للإنسان قريبٌ من هذه الحالة فلا حاجة إلى القيام، أما الحديث الثاني -وهو قوله: ((من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار))، يعني: فليجلس على مقعده من النار- فقد أولع أكثر الناس بالاحتجاج به، والجواب عنه من أوجه، والأصح والأولى والأحسن، بل الذي لا حاجة إلى ما سواه: أنه ليس فيه دلالة؛ وذلك أن معناه الصريح الظاهر منه: الزجر الأكيد والوعيد الشديد للإنسان أن يحب تمثل الناس قياماً له، وليس فيه تعرض للقائم بنهي ولا غيره، وهذا متفق عليه، يعني: يحرم على الإنسان أن يحب قيام الناس له، فالإمام النووي يقول: هذا ليس فيه دلالة على المسألة التي نتكلم فيها؛ فالكلام ليس على حب القادم أن يتمثل الناس له قياماً، فهذا حرام، لكن الكلام في القائم نفسه، فهل في هذا الحديث وعيد له أم لا؟ فمذهب الإمام النووي أنه ليس هناك تعرضٌ لحال الذي يقوم، وإنما فيه تعرض لتحريم محبة القادم أن يتمثل الناس له قياماً، فالمنهي عنه هو محبته للقيام. يقول: وليس فيه تعرضٌ للقائم بنهي ولا غيره، وهذا متفق عليه، وهو أنه لا يحل للآتي أن يحب قيام الناس له، والمنهي عنه هو محبته القيام، ولا يشترط كراهيته لذلك، وخطور ذلك بباله، حتى إذا لم يخطر ذلك بباله فقاموا له أو لم يقوموا فلا ذم عليه، وإذا كان معنى الحديث ما ذكرناه فمحبته أن يقام له محرم، فإذا أحب ذلك فقد ارتكب التحريم، سواءً قيم له أو لم يقم له، يعني: لو أن رجلاً يحب أن يقوم الناس له -وهذا عمل قلبي-، وهم لم يقوموا له؛ فهو يأثم، حتى لو لم يقوموا له، قال: فمدار التحريم على المحبة، ولا تأثير لقيام القائم، ولا نهي في حقه بحال، فلا يصح الاحتجاج بهذا الحديث. فإن قال من لا تحقيق عنده: إن قيام القائم سببٌ لوقوع هذا في المنهي عنه، قلنا: هذا سؤال فاسدٌ لا يستحق سائله جواباً؛ فإن تبرع عليه قيل ما قدمناه: إن الوقوع في المنهي عنه يتعلق بالمحبة فحسب. الجواب الثاني: أنه حديث مضطرب، والاضطراب يوجب ضعف الحديث، وهذا الجواب فيه نظر كما قال الإمام النووي - رحمه الله -، ثم ذكر عن بعض الأئمة أنهم قالوا: إنما كره القيام على طريق الكبر، فأما على طريق المودة فلا، فكل من أحب أن تقوم له فلا تقم له، أي: إذا علمت أنه يحب أن تقوم له فلا تقم له، وأظن أن من هذا -والله أعلم- ما يحصل في المدارس؛ حيث إن المدرس يحب أن يقوم التلاميذ له، قال: من يغلظ على من لا يقوم، مخالف لسمت السلف، وهذا دليل على أنه يحب القيام له، حيث يغضب على من لا يقوم له، فالخوف عليه أكثر؛ لأنه وقع في الوعيد بما لا يحتمل التأويل؛ لأنه أحب أن يتمثل الناس له قياماً، فهذه من الكبائر القلبية، وبعض العلماء قالوا: إن هذا الوعيد فيمن يأمرهم بذلك ويلزمهم إياه على طريق النخوة والكبر، وأما أبو موسى فقال: معنى الحديث: أن يقوم الرجال على رأسه، كما يقام بين يدي الملوك، أما الحديث الثالث -وهو: ((لا تقوموا كما يقوم الأعا
أما بعد: فيقول الله- تبارك وتعالى -: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [المجادلة: 7-10]. قال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله - سبحانه -: (ألم تر إلى الذين نهو عن النجوى) قال: اليهود، وكذا قال مقاتل بن حيان، وزاد: كان بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين اليهود موادعة، وكانوا إذا مر بهم رجلٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - جلسوا يتناجون بينهم، حتى يظن المؤمن أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره، فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم فترك طريقه عليهم، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن النجوى، فلم ينتهوا، وعادوا إلى النجوى، فأنزل الله - عز وجل -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ) [المجادلة: 8]، وهذه روايات نذكرها من باب جمع ما قيل في الآية وإن لم نقف على من صححها، ومن ذلك ما روى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: "كنا نتناوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنبيت عنده تكون له الحاجة، أو يطرقه أمر من الليل فيبعثنا والمحتسبون وأهل النوب؛ فكنا نتحدث، فخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فقال: ((ما هذه النجوى؟ ألم تُنهوا عن النجوى))؟ قلنا: تبنا إلى الله يا رسول الله! إنا كنا في ذكر المسيح -يعني: المسيح الدجال - قال: فرقاً منه؟ فقال: ((ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي منه))، قلنا: بلى يا رسول الله! قال: ((الشرك الخفي: أن يقوم الرجل يعمل لمكان الرجل))"، قال ابن كثير: هذا إسناد ضعيف؛ فيه بعض الضعفاء.
على أي الأحوال الآية في حق قومٍ نهوا عن النجوى ثم لم يمتثلوا هذا النهي، وإنما عادوا لما نهوا عنه؛ فهذا يكفينا إذا لم يصح في سبب النزول حديث، وقوله - سبحانه -: (وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) أي: يتحدثون فيما يختص بأحوالهم، ويكون فيه إثم ومعصية، أما العدوان فهو إثم يتعلق بغيرهم، ومنه معصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومخالفته، حيث كانوا يصرون عليها ويتواصون بها.
حكم تحية الرسول بغير ما حياه الله:
قوله - تعالى -: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) [المجادلة: 8]، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: "دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهود فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم! فقالت عائشة: وعليكم السام، قالت: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((يا عائشة! إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش))، قلت: ألا تسمعهم يقولون: السام عليك -يعني: الموت- فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أوما سمعت أني قلت: وعليكم))، فأنزل الله: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ)[المجادلة: 8]"، وفي رواية في الصحيح: "أنها - رضي الله عنها - لما قالوا: السام عليك يا محمد! قالت: عليكم السام والذام واللعنة، فنهاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((إنه يستجاب لنا فيهم، ولا يستجاب لهم فينا))"، ونستفيد من هذا أن الجواب يكون هكذا في رد تحية أهل الكتاب؛ لأنهم يلحنون في القول، وربما ذكروا مثل هذه الأشياء، كقولهم: السام عليكم، أو السام عليك، وهم يقصدون بذلك الدعاء على المؤمنين بالموت والهلكة، فعلمنا النبي - عليه الصلاة والسلام - أن نجيبهم فقال: ((وعليكم)) يعني: نفس الشيء الذي تدعون به علينا فنحن ندعو به عليكم، فإن كان قال: السام، فعليه السام -أي: الموت- أيضاً، ويحتمل أنه أراد أنها من الدعاء على حسب نية القائل، ويحتمل أنه أراد أن يذكرهم بأن هذا أمر مقدور عليه وعليهم لا يستوجب الشماتة أو الدعاء؛ لأن الموت من سنن الله تبارك وتعالى، فكل الناس صائر إلى الموت، فكأنه قال: وعليكم، أي: أن الموت مكتوب عليكم كما هو مكتوب علينا، لكن إن كان قصدهم الدعاء ثم أجاب بقوله: وعليكم، فإنه بين أنه يستجاب لنا فيهم إذا دعونا عليهم، أما إذا دعوا هم على المؤمنين فلا يجيب الله- تبارك وتعالى -لهم في المؤمنين، وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينما هو جالس مع أصحابه إذا أتى عليهم يهوديٌ فسلم عليهم، فردوا عليه، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: ((هل تدرون ما قال))؟ قالوا: سلم يا رسول الله! قال: ((بل قال: سأم عليكم، أي: تسأمون دينكم))، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ردوه))، فردوه عليه، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أقلت: سأم عليكم))؟ قال: نعم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا سلم عليكم أحدٌ من أهل الكتاب فقولوا: عليك))" يعني: عليك ما قلت، وهذا مخرج في الصحيح.
معاملة اليهود والمنافقين للنبي - صلى الله عليه وسلم -:
قال - عز وجل -: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) [المجادلة: 8]، جاء في بعض الأحاديث أنهم كانوا يحيونه بما لم يحيه به الله، فكانوا يقولون: السام عليكم، وهو يقول: السلام عليكم، كما حياه الله بذلك، (وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) [المجادلة: 8]، فهذا يدل على أنهم في الباطن مكذبون بالرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإما أن يكونوا منافقين، وإما أن يكونوا من اليهود، كما جاء في تفسير هذه الآية، فإنهم حينما يفعلون ذلك يستبطئون نزول عذاب الله، ويقولون: لو كان هذا نبياً حقاً لنزل العذاب، وقوله - تعالى -: (وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ) [المجادلة: 8] أي: أنهم يحرفون الكلام وفيه إيهام السلام وليس بسلام، وإنما هو شتمٌ في الباطن، وهذه عادتهم، كما كانوا يقولون للنبي - عليه الصلاة والسلام - راعينا، وإنما يقصدون بذلك وصفه بالرعونة، ولذلك نهينا عن أمثال هذه العبارات، وإنما أمرهم الله أن يقولوا: انظرنا، ولا يقولوا: راعنا. والملاحدة يعرفون في لحن القول الذي يلحنونه ليؤذوا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؛ فهم يشتمونه في الباطن، ويقولون في أنفسهم: لو كان هذا نبياً لعذبنا الله بما نقول له في الباطن؛ لأنهم يخفون هذه النوايا الخبيثة، والله يعلم ما يسرون، ويقولون: لو كان هذا نبياً حقاً لأوشك أن يعاجلنا الله بالعقوبة في الدنيا، فقال الله- تبارك وتعالى -: (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) [المجادلة: 8]، وأما الدنيا فيحصل فيها الاستدراج والإمهال، فليس التفسير الوحيد لعدم نزول العذاب أنه ليس نبياً؛ لأن عدم نزول العذاب قد يكون لأسباب كثيرة، وقد يكون رحمةً بهم أنفسهم، لعلهم يتوبون، أو لوجود الرسول - صلى الله عليه وسلم - بينهم، فلا يحول ذلك دون نزول العذاب، أو لغير ذلك من الأسباب، لكنهم يعلقون على عدم نزول العذاب الدنيوي هذا الأمر فقط، فقال - عز وجل -: (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) [المجادلة: 8] أي: يكفيهم جهنم، وهل بعد ذلك عذاب؟ حيث يخلدون في عذاب الله أبد الآبدين، فهي تكفيهم؛ لأنهم في الدار الآخرة يصلونها فبئس المصير.
روى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: "أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سامٌ عليك، ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول: فنزلت هذه الآية: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)[المجادلة: 8]"، قال ابن كثير: إسناده حسن، وقال العوفي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: (وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ) [المجادلة: 8] قال: كان المنافقون يقولون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حيوه: سام عليك، قال الله: (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [المجادلة: 8].
النهي عن التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول:
قال الله - عز وجل - مأدباً عباده المؤمنين ألا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) [المجادلة: 9] يعني: كما يتناجى الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين، فلا تتناجوا مثلهم على الإثم والعدوان ومعصية الرسول، ولا تفعلوا فعلهم، وإنما: (وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [المجادلة: 9] أي: حين يحشركم يخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي قد أحصاها عليكم، وسيجزيكم بها.
النجوى يوم القيامة، وبيان ستر الله على عباده المؤمنين:
روى الإمام أحمد بسنده عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذاً بيد ابن عمر - رضي الله عنهما - إذ عرض له رجلٌ فقال: كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه، ويستره من الناس، ويقرره بذنوبه، فيقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟))، فالأمر كما قال - عز وجل -: (أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ) [المجادلة: 6]، فالإنسان تمر السنوات الطويلة فينسى المعاصي، لكنها محصية عند الله بمنتهى الدقة، كما جاء في بعض الروايات: "حتى فثاثة التين بأصبعه" أي: إذا كان الإنسان جالساً وفت التين بإصبعه فسوف يسأل عنها، ويذكر بها، فكيف بالآثام؟ وكيف بالكبائر العظام؟! فيقرره الله بجميع ذنوبه، حتى الابتسامة والضحكة تحفظ عليه في كتابه فيقول له ربه: ((أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد: (هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود: 18]))، وهذا الحديث أخرجه الشيخان في الصحيحين، ففي هذا الحديث تفصيل لمعنى الحساب اليسير المذكور في قوله - تعالى -: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا) [الانشقاق: 7-9]، فالحساب اليسير كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو العرض، وقد صح قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من نوقش الحساب عذب))، والحساب اليسير فسره - صلى الله عليه وسلم - بما يجب المصير إليه، فحينئذٍ لا ينظر في خلافه؛ فإذا صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تفسير فلا يجوز النظر فيما يخالفه؛ فإنه أعلم الناس بكلام الله تبارك وتعالى، فقد فسر الحساب اليسير بأنه مجرد عرض الأعمال، كما جاء في الحديث السابق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن الله يضع كنفه على المؤمن ويستره من الناس، ثم يقرره بذنوبه، فيذكره بجميع ذنوبه))، وتأمل يوماً مقداره خمسون ألف سنة مما تعدون، وهو يقرره بذنوبه: أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ وهو يقول: بلى يا رب! بلى يا رب! ويقر على نفسه بجميع المعاصي، حتى إذا وصل إلى آخرها، وظن أنه هالك لا محالة، حينئذٍ يقول الله- تبارك وتعالى -له: ((فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم))، وهذا من كرم الله تبارك وتعالى؛ لأنه ستير يحب الستر، ومن رحمته- تبارك وتعالى -على عباده أنه - عز وجل - يوجب عليهم أن يستروا أنفسهم، وينهاهم أن يفضحوا أنفسهم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((كل أمتي معافىً إلا المجاهرين))، قيل: ومن المجاهرون يا رسول الله؟! قال - عليه الصلاة والسلام -: ((هو العبد الذي يبيت في الليل، فيعمل المعاصي، ثم يصبح في الناس فيقول: قد فعلت، وقد فعلت))، فهذا يعاقب؛ لأنه لم يستر نفسه، فمن ابتلي بشيء من القاذورات -المعاصي- وسترها الله عليه، فيجب أن يستر نفسه، حتى لو كانت المعصية تستوجب حداً، فيستر نفسه، ولا يفضحها، ولا يكشف ستر الله عليه، فإذا منَّ الله عليه بالستر في الدنيا فيرجى أن يستر عليه في الآخرة، كما في هذا الحديث، أما أن يجاهر بالمعاصي فهذا من إشاعة الفاحشة بين المؤمنين، وقد ورد الوعيد الشديد في ذلك، كما في قوله - عز وجل -: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ) [النور: 19]، فمما حرمه الله إشاعة الفاحشة بأي صورة من صور الإشاعة، كأن يجهر الإنسان بالمعاصي التي سترها الله عليه، فعلى المسلم أن يستر نفسه، ويستر إخوانه، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة))، ويجب ألا يتداول الإنسان في كلامه وفي مجالسه ما يفضح نفسه من الحوادث والأشياء البشعة، فلا يجوز للإنسان أن يحكيها، وبعض الناس يتساهلون في هذا، ويظنون أنهم لا يرتكبون شيئاً محظوراً!.
نشر الحوادث والجرائم في الجرائد والتلفزيون من إشاعة الفاحشة بين المسلمين:
ما ينشر في الجرائد من حوادث القتل والانتحار والفواحش، وأن هذا فعل كذا وفعل كذا؛ هذا كله مما يخدم مقاصد الشيطان في إفساد المسلمين؛ لأن الأشياء إذا اعتادت الأذن على سماعها هانت على القلوب، وخف استعظامها في القلوب، فبالتالي تعين على ارتكاب المعاصي، وربما فتحت حكاية هذه الشرور أبواباً من الحيل للوصول إلى الحرام لم تكن تخطر ببال الناس، بل كان الناس منها في عافية، فإذا علم الإنسان -مثلاً- أن هذا الشخص كان في ضائقة، وحصلت له محن شديدة، فانتحر بالطريقة الفلانية، ويأتون بالتفاصيل، فربما يخلو الشيطان بالإنسان، فيهلكه بهذه الحيلة المحرمة! وإذا أراد أن يسرق يقول: فلان عمل كذا، فيفعل مثله، ولذلك تجد الأولاد الصغار يفسدون بسبب هذه الأشياء، وهذا من بلاء التلفزيون الذي هو دجال هذا الزمان، الذي اخترق على المسلمين بيوتهم، وصار يعيث فيها فساداً.
حكي لي أن صبيين صغيرين دخل عليهما أبوهما فوجدهما ماسكين كوبين من الماء، ويتخبطان ببعض، ويقول أحدهما للآخر: الكلام ذا يقال في صحتك! فهما يقلدان السكارى، ولا يلوم الأب إلا نفسه؛ لأنه هو الذي أدخل التلفزيون إلى بيته، فهذا أقل شيء يمكن أن يقع من الفساد، ولولا أني لا أحب أن أشيع الفاحشة لحكيت أشد من ذلك مما يقع في البيوت من جراء وجود هذا الجهاز الخبيث في بيوت المسلمين. فالرجل يظهر أنه غيور، وأنه رجل شهم، وإذا دخل الرجال إلى بيته يحجزهم عن نسائه، ثم يأتي بأفسق الفساق في العالم كله ويدخلهم بيته؛ لتتعلم بناته الرقص! وكيف تعمل المرأة مع معشوقها! وكيف يتكلمون! وفي أثناء ذلك يحصل نوع من تعويد قلوب المسلمين على استمراء هذه المنكرات، وإظهار المرأة الناشز الفاسقة التي تتمرد على زوجها وتفسق عن أمر ربها بأنها مظلومة؛ لأن الشخص الذي يعمل التمثيلية أو يضع هذه القصة هو الذي يتحكم، والناس لا ينتبهون إلى هذا، فهو يريد أن يصل إلى القلوب بطريقة شيطانية ملتوية؛ حتى يغير وينشئ فكرة معينة، فتجد -مثلاً- أنهم في القضايا التي تتعلق بالأمور الشرعية يحاولون أن يظهروا المجرم على أنه مظلوم، حتى المجرم الذي تعدى حق الله تبارك وتعالى! فيقولون: إن المرأة مظلومة ومقهورة، وربما يأتون بالزوج حتى يتمكنون من الطعن في الحكم شرعي، والطعن في أحكام الطلاق، والطعن في تعدد الزوجات، والطعن في أي شيء من الأمور الشرعية، فمن أجل ذلك لا ينبغي أبداً للمسلم بأي حال من الأحوال أن يوجد مثل هذا الجهاز في بيته. وأنا لا أدري كيف يفعل الأخ حينما ينظر هذه المناظر القذرة أمام بناته ونسائه وأبنائه في هذا الدجال الجديد! هل يغلق التلفزيون أم أنه يظل جالساً مع بناته ينظر إلى هذه الفواحش؟! نسأل الله العافية.
الحكمة في الأمر بالستر والنهي عن إشاعة الفاحشة:
الإنسان منهي عن إشاعة الفاحشة بأن يحكي ما ستره الله عليه؛ فالإنسان إذا ستر على نفسه في الدنيا يجازى أن يستره الله في الآخرة، أما إذا هتك ستر نفسه فليبشر بالفضيحة في الدنيا وفي الآخرة. والحكمة من ذلك: أن المجاهرة بالمعاصي تهون استعظامها في القلوب، وتجرئ الناس عليها؛ بحيث تجعل المعصية شيئاً طبيعياً جداً، فالمرأة -مثلاً- تقتل زوجها وتضعه في أكياس! والأولى أن الناس تستفظعه، لكن تكراره يجعل القلوب تألفه، وتتعود عليه، وربما تتفتق هذه الفكرة في ذهن امرأة أخرى ما كانت تخطر ببالها هذه الحيلة! فهذا كله من إشاعة الفاحشة في المؤمنين، فمن أجل ذلك حرم الله- تبارك وتعالى -كشف الستر عن المسلم، فمن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة.
تحريم الخوض في أعراض المسلمين:
بعض الناس يظنون أن الخوض في أعراض الناس بطولة، وأن المتكلم في ذلك إنسان متابع لأخبار الناس، ويعرف ما لا يعرفه الآخرون، فيخوضون في أعراض الناس بأدنى أدنى شبهة، أو بأضعف أضعف قرينة، ويظنون أنهم يسلمون من العاقبة الوخيمة في الآخرة! ينبغي للإنسان ألا يخوض في عرض أحد من المسلمين؛ فإن الربا من أعظم الجرائم ومن أعظم الكبائر، بل إن أقل وأهون درجة من الربا مثل أن ينكح الرجل أمه والعياذ بالله! ذكر ذلك - عليه الصلاة والسلام -، ثم في نفس الحديث قال: ((وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه))، أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -، فأهون الربا وأقل درجة من الربا ذنبها يساوي أن ينكح الرجل أمه، لكن أعلى درجة من الربا -وهي أقبح وأغلظ في العقوبة- هي استطالة الرجل في عرض أخيه! فينبغي أن يفطن المسلمون لذلك، فالإنسان لا يصغي سمعه ولا يرهف سمعه لمن يخوض في عرض أي رجل من المسلمين، وكلمة العرض أعم من المعنى الضيق الذي يتبادر إلى أذهان الناس في هذا الزمان، فالعرض ليس متعلقاً فقط بمسألة الإحصان والفروج، وإنما العرض: كل موضع في الإنسان قابل للمدح أو القدح، سواء ملابسه.. شكله.. هيئته.. مشيته.. كلامه.. أموره الخاصة.. أولاده، فلا يجوز للإنسان أن يتكلم في عرض أخيه؛ فعرض أخيه: كل موضع فيه يقبل المدح أو القدح، فهذا هو العرض، وليس هو المعنى الضيق الذي يتبادر إلى أذهان الناس.
تقرير الله - عز وجل - لعبده على ذنوبه يوم القيامة:
يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه، فيستره من الناس، ويقرره بذنوبه، ويقول له: أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: فإني سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون: (وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود: 18]))، وفي الحديث الآخر: ((من نوقش الحساب عذب))، أما مجرد العرض: أتذكر كذا؟ أتذكر كذا؟ فهذا هو الحساب اليسير، أما الحساب العسير فهو المناقشة، فمن نوقش حسابه فلابد أن يعذب، وفي بعض الأحاديث أن العبد ينكر هذه الذنوب، فيقول: ((ما فعلت، ويحلف على ذلك، فالله- تبارك وتعالى -يقول: إنني لن أقبل لك شهيداً دون نفسك، فيختم على فيه، وتنطق جوارحه، فيقول: ويلٌ لكنَّ إنما عنكنَّ كنت أناضل، فتنطق جوارحه بما فعل من المعاصي، كما قال- تبارك وتعالى -: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس: 65]، وقال- تبارك وتعالى -: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
تعريف النجوى وحكم التناجي:
قال- تبارك وتعالى -: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [المجادلة: 10] النجوى هي: المسارة، بأن يسر الإنسان في أذن صاحبه كلاماً، ويخفضان الصوت، هذه هي المسارة، وقد يتوهم الناظر إليهما أنهما يريدان به ومصدر هذه النجوى هو الشيطان، يعني: يصدر هذا الفعل من المتناجيين عن تسويل الشيطان وتزيينه، فهو الذي يزين لهم ذلك. وقوله: (لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [المجادلة: 10] أي: ليسوءهم، ولكن: (وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) [المجادلة: 10]، ومن أحس من ذلك شيئاً فليستعذ بالله، وليتوكل على الله؛ فإنه لا يضره شيء بإذن الله، وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي، إذا كان في ذلك إيذاء للمؤمن، قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: حدثنا وكيع حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجين اثنان دون صاحبهما؛ فإن ذلك يحزنه))، وأخرجه الشيخان وغيرهما. ورواه الإمام مسلم بلفظ آخر: ((إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الثالث إلا بإذنه؛ فإن ذلك يحزنه)).
حكم القيام للقادم:
قال - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة: 11]، في هذا الموضع من كتب التفسير يذكر العلماء أموراً مهمة من الآداب الشرعية، فعامة العلماء المفسرين حينما يصلون إلى هذا الموضع في سورة المجادلة يذكرون الأمور الشرعية المتعلقة بآداب المجلس. قوله- تبارك وتعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [المجادلة: 11]، وهنا مسألة من أحكام القرآن، وهي: حكم القيام للقادم، فهل يشرع إذا دخل عليك إنسان -لاسيما إذا كان كبير السن أو من أهل العلم والمنزلة والفضل- أن تقوم له على سبيل الإكرام والتعظيم؟ اختلف العلماء في ذلك خلافاًَ كبيراً، ومن أشهر من ألف في هذه المسألة شيخ الإسلام الإمام محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف الدين النووي، والأفضل ألا نقول: محيي الدين؛ لأنه كان يكره ذلك، وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية كان يكره أن يلقب بـتقي الدين، لكن جرت عادة اللسان بذلك، فـالنووي قال: لا أجعل في حل من لقبني محيي الدين، واسم كتابه "الترخيص في القيام لذوي المزية والفضل من أهل الإسلام"، وهذا الكتاب للإمام النووي، ونعرض الأدلة التي اعتمد عليها في هذه المسألة باختصار إن شاء الله.
فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية في حكم القيام للقادم:
نختم الكلام بفتيا لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في القضية؛ فإنه - رحمه الله تعالى -سئل عن النهوض والقيام الذي يعتاده الناس من الإكرام عند قدوم شخص معين معتبر هل يجوز أم لا؟ وإذا كان يغلب على ظن المتقاعد عن ذلك أن القادم يخجل أو يتأذى باطناً، وربما أدى ذلك إلى بغضٍ وعداوة ومقت، وأيضاً المصادفات في المحافل وغيرها، وتحريك الرقاب إلى جهة الأرض والانخفاض، هل يجوز ذلك أم يحرم... إلى آخر السؤال؟ يقول - رحمه الله -: رب العالمين، لم تكن عادة السلف على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين أن يعتادوا القيام كلما يرونه - عليه السلام -، كما يفعله كثير من الناس، بل قد قال أنس بن مالك - رضي الله عنه -: "لم يكن شخص أحب إليهم من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما يعلمون من كراهته لذلك"، لكن ربما قاموا للقادم من مغيبه تلقياً له، أي: إذا قدم مسافر -مثلاً- فيمكن أن تقوم لتحييه أو تلتزمه وتسلم عليه، كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قام لـعكرمة، وقال للأنصار لما قدم سعد بن معاذ: ((قوموا إلى سيدكم))، وكان قد قدم ليحكم في بني قريظة؛ لأنهم نزلوا على حكمه. يقول شيخ الإسلام: والذي ينبغي للناس أن يعتادوا اتباع السلف على ما كانوا عليه على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنهم خير القرون، وخير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، فلا يعدل أحدٌ عن هدي خير الورى وهدي خير القرون إلى ما هو دونه، وينبغي للمطاع ألا يقر ذلك مع أصحابه؛ بحيث إذا رأوه لم يقوموا له إلا في اللقاء المعتاد، وأما القيام لمن يقدم من سفر ونحو ذلك تلقياً له فحسن، وإذا كان من عادة الناس إكرام الجائي بالقيام ولو ترك لاعتقد أن ذلك لترك حقه أو قصد خفضه ولم يعلم العادة الموافقة للسنة؛ فالأصلح أن يقام له؛ لأن ذلك أصلح لذات البين، وإزالة للتباغض والشحناء، وأما من عرف عادة القوم الموافقة للسنة فليس في ترك ذلك إيذاء له، يعني: من كان يعلم أن هؤلاء الناس إذا دخل عليهم قادم لا يقومون؛ لأنهم سنيون سلفيون، ولأنهم يعلمون الحديث، ويقصدون بذلك معنىً شرعياً، وهو: الاقتداء بالسلف وبالصحابة بفعلهم، وهو يعلم أنهم يفعلون ذلك تديناً؛ فلا يجوز له أن يكره ذلك منهم، ولكن كلام شيخ الإسلام فيمن إذا دخل ولم تقم له، وهو لا يعلم هذا الحكم، ولا يعلم هذه الأحاديث، ولا يعلم أنهم يتدينون بذلك، بل يرى هذا تنقص، وأنهم لا يحترمونه؛ فأجاز شيخ الإسلام حينئذ القيام إذا كان في تركه فسادٌ لذات البين، يقول شيخ الإسلام: وليس هذا القيام المذكور في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من سره أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار))؛ فإن ذلك أن يقوموا له وهو قاعد، هذا تأويل شيخ الإسلام لهذا الحديث، يعني: أن يكون جالساً وهم يقفون على رأسه، وليس المراد أن يقوموا لمجيئه إذا جاء، ولهذا فرقوا بين أن يقال: قمت إليه، وقمت له، فالقائم للقادم ساواه في القيام بخلاف القائم للقاعد، وقد ثبت في صحيح مسلم: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى بهم قاعداً في مرضه صلوا قياماً فأمرهم بالقعود، وقال: ((لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضاً))"، فنهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد، وإن كان هذا الحكم نسخ فيما بعد، وقال: ((لا تعظموني كما يعظم الأعاجم بعضها بعضاً))؛ لأنه كان جالساً وهم كانوا قائمين، فنهاهم عن ذلك، وقد نهاهم عن القيام في الصلاة وهو قاعد لئلا يتشبهوا بالأعاجم الذين يقومون لعظمائهم وهم قعود، يقول شيخ الإسلام: وجماع ذلك كله الذي يصلح: اتباع عادات السلف وأخلاقهم، والاجتهاد عليها بحسب الإمكان؛ فمن لم يعتقد ذلك ولم يعرف أنه العادة، وكان في ترك معاملته بما اعتاد من الناس من الاحترام مفسدة راجحة؛ فإنه يدفع أعظم الفسادين بالتزام أدناهما، كما يجب فعل أعظم الصلاحين بتفويت أدناهما. وسبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
قول الألباني في حكم القيام للقادم:
هناك مذهب آخر في هذه المسألة، ونحن نذكر هذه الأدلة من باب أن الإنسان يكون على معرفة بمذهب من يخالفه، وأنه يعتمد على أدلة لا على هوى؛ حتى يفرق بين الإنكار في المسائل المتفق عليها والمسائل المختلف فيها، ويرتفع أفق الإنسان بمعرفة مآخذ المذهب المخالف، فمن العلماء من يمنعون القيام للقادم مطلقاً، وممن ينتصر لهذا القول العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني - رحمه الله-، واستدل بحديث أبي مجلز قال: دخل معاوية بيتاً فيه عبد الله بن الزبير وعبد الله بن عامر، فقام ابن عامر وثبت ابن الزبير، وكان أدربهما -وفي بعض النسخ: أرزنهما، لكن الأصح أدربهما- فقال معاوية: "اجلس يا ابن عامر!" فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((من أحب أن يتمثل الناس له قياماً فليتبوأ مقعده من النار))، قال الألباني: صحيح، رجال إسناده ثقات، رجال الشيخين، قال: وللحديث شاهد مرسل في قصة طريفة، أخرجه الخطيب من طريق عبد الرزاق بن سليمان بن علي بن الجعد، قال: سمعت أبي يقول: لما أحضر المأمون أصحاب الجواهر فناظرهم على متاعٍ كان معهم، ثم نهض المأمون لبعض حاجته، فقام كل من كان في المسجد إلا ابن الجعد فإنه لم يقم، قال: فنظر إليه المأمون كهيئة المغضب، ثم استخلاه -أي: خلا به- فقال له: يا شيخ! ما منعك أن تقوم لي كما قام أصحابك، قال: أجللت أمير المؤمنين للحديث الذي نأثره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: وما هو؟ قال: علي بن الجعد: سمعت المبارك بن فضالة يقول: سمعت الحسن يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار))، قال: فأطرق المأمون متفكراً في الحديث، ثم رفع رأسه فقال: لا يشترى إلا من هذا الشيخ، قال: فاشترى منه في ذلك اليوم بقيمة ثلاثين ألف دينار، يقول الألباني: فصدق في علي بن الجعد -وهو ثقة ثبت- قول الله - عز وجل -: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [الطلاق: 2-3]؛ لأنه إذا خالف التجار الآخرين خشي ذهاب البيع عليه، ولكنه خشي أن يخالف نهي النبي - عليه الصلاة والسلام -، وعومل الآخرون بنقيض قصدهم، وفاتتهم البيعة! ونحو هذه القصة ما أخرجه الدينوري في المنتقى من المجالسة قال: حدثنا أحمد بن علي البصري قال: وجه المتوكل إلى أحمد بن العدل وغيره من العلماء، فجمعهم في داره، ثم خرج عليهم، فقام الناس كلهم إلا أحمد بن العدل، فقال المتوكل لـعبيد الله: إن هذا الرجل لا يرى بيعتنا -يعني: أنه لم يقم لي لأنه لا يعتبرني، ولا يعتد بإمامتي- فقال له: بلى يا أمير المؤمنين! ولكن في بصره سوء، يعني: نظره ضعيف فلم يرك، فقال أحمد بن العدل: يا أمير المؤمنين! ما في بصري من سوء، ولكنني نزهتك من عذاب الله تعالى؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار))، فجاء المتوكل وجلس إلى جنبه! وروى ابن عساكر في تاريخ دمشق بسنده عن الأوزاعي قال: حدثني بعض حرس عمر بن عبد العزيز قال: خرج علينا عمر بن عبد العزيز ونحن ننتظره يوم الجمعة، فلما رأيناه قمنا، فقال: إذا رأيتموني فلا تقوموا، ولكن توسعوا، يقول الألباني - رحمه الله - في فقه الحديث: دلنا هذا الحديث -يشير إلى حديث: ((من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار))- على أمرين:
الأول: تحريم حب الداخل على الناس القيام منهم له، وهو صريح الدلالة؛ بحيث إنه لا يحتاج إلى بيان، يعني: أن الوعيد الذي فيه ((فليتبوأ مقعده من النار))، وعيد شديد جداً، كما في قوله: ((من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار))، فهذا من الكبائر القلبية الغليظة، ولا خلاف في هذا.
الثاني: كراهة القيام من الجالسين للداخل ولو كان لا يحب القيام، وذلك من باب التعاون على الخير، وعدم فتح باب الشر، وهذا معنىً دقيق دلنا عليه راوي الحديث معاوية - رضي الله عنه -، وذلك بإنكاره على عبد الله بن عامر قيامه له، واحتج عليه بالحديث، وذلك من فقهه في الدين، وعلمه بقواعد الشريعة التي منها سد الذرائع، ومعرفته بطبائع البشر، وتأثرهم بأسباب الخير والشر، يعني: أنه يعتمد على قاعدة سد الذرائع؛ ولذلك قال بالكراهة ولم يقل بالتحريم، يقول: فإنك إذا تصورت مجتمعاً صالحاً كمجتمع السلف الأول لم يعتاد القيام لبعض فمن النادر أن تجد فيهم من يحب هذا القيام الذي يرديه في النار، وذلك لعدم وجود لما يذكره به، وهو القيام نفسه، وعلى العكس من ذلك: إذا نظرت إلى مجتمع كمجتمعنا اليوم قد اعتادوا القيام المذكور، فإن هذه العادة -لا سيما مع الاستمرار عليها- تذكره به، ثم إن النفس تتوق إليه، وتشتهيه؛ حتى تحبه، فإذا أحبه هلك، فكان من باب التعاون على البر والتقوى أن يترك هذا القيام، حتى لمن نظن أنه لا يحبه؛ خشية أن يجره قيامنا له إلى أن يحبه، فنكون قد ساعدنا على إهلاك نفسه، وهذا لا يجوز، ومن الأدلة الشاهدة على ذلك: أنك ترى بعض أهل العلم -الذين يظن فيهم حسن الخلق- تتغير نفوسهم إذا ما وقع نظرهم على فردٍ لم يقم لهم! هذا إذا لم يغضبوا عليه، ولم ينسبوه إلى قلة الأدب، ويبشروه بالحرمان من بركة العلم؛ بسبب عدم احترامه لأهله بزعمهم، بل إن فيهم من يدعوهم إلى القيام، ويخدعهم بمثل قوله: أنتم لا تقومون لي كجسم من عظم ولحم، وإنما تقومون للعلم الذي في صدري! وكأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عنده لم يكن لديه علم؛ لأن الصحابة كانوا لا يقومون له، أو أن الصحابة لا يعظمون النبي - عليه الصلاة والسلام - التعظيم اللائق به، فهل يقول بهذا أو ذاك مسلم؟! ثم يقول الشيخ - رحمه الله -: ومن أجل هذا الحديث وغيره ذهب جماعة من أهل العلم إلى المنع من القيام للغير، كما في فتح الباري. ثم قال: ومحصل المنقول عن مالك إنكار القيام ما دام الذي يقام لأجله لم يجلس، ولو كان في شغل نفسه؛ فإنه سئل عن المرأة تبالغ في إكرام زوجها؛ فتتلقاه وتنزع ثيابه، وتقف حتى يجلس؟ أي: أن الإمام مالك سئل عن امرأة حينما يدخل عليها زوجها تبالغ في إكرامه؛ فأول شيء أنها تتلقاه وتقابله، ثم تنزع ثيابه، ثم تقف حتى يجلس؛ إكراماً لزوجها، فقال: أما التلقي فلا بأس به، وأما القيام حتى يجلس فلا؛ فإن هذا من فعل الجبابرة، وقد أنكره عمر بن عبد العزيز، يقول الألباني: قلت: وليس في الباب ما يعارض دلالة هذا الحديث أصلاً، والذين خالفوا فذهبوا إلى جواز هذا القيام بل استحبابه استدلوا بأحاديث بعضها صحيح وبعضها ضعيف، والكل عند التأمل في طرقها ومتونها لا ينهض للاستدلال على ذلك، ومن أمثلة القسم الأول: حديث: ((قوموا إلى سيدكم))، ففيه زيادة في الحديث: ((فأنزلوه))؛ لأنه كان مجروحاً، ومن أمثلة القسم الآخر الضعيف: حديث قيامه - صلى الله عليه وسلم - حين أقبل عليه أخوه من الرضاعة، فأجلسه بين يديه، فهو حديث ضعيف معضل الإسناد، ولو صح فلا دليل فيه أيضاًَ، ثم ذكر في موضع آخر حديث أنس - رضي الله عنه - قال: "ما كان في الدنيا شخص أحب إليهم رؤيةً من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا له؛ لما كانوا يعلموا من كراهيته لذلك"، قال: إسناده صحيح على شرط مسلم، ثم قال الألباني - رحمه الله -: وهذا الحديث مما يقوي ما دل عليه الحديث السابق من المنع من القيام للإكرام؛ لأن القيام لو كان إكراماً شرعاً لم يجز له - صلى الله عليه وسلم - أن يكرهه من أصحابه، وهو أحق الناس بالإكرام، وهم أعرف الناس بحقه - صلى الله عليه وسلم -، وأيضاً فقد كره الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذا القيام له من أصحابه، فعلى المسلم -خاصة إذا كان من أهل العلم وذوي القدوة- أن يكره ذلك لنفسه؛ اقتداءً به - صلى الله عليه وسلم -، وأن يكرهه لغيره من المسلمين؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير))، فلا يقوم له أحد، ولا هو يقوم لأحد، بل كراهتهم لهذا القيام أولى بهم من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ وذلك لأنهم إن لم يكرهوه اعتادوا القيام بعضهم لبعض، وذلك يؤدي بهم إلى حبهم له، وهو سبب يستحقون عليه النار، كما في الحديث السابق، وليس كذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه معصوم من أن يحب مثل هذه المعصية، فإذا كان مع ذلك قد كره القيام له؛ كان واضحاً أن المسلم أولى بكراهته له.
إكرام الناس على حسب مراتبهم وإنزالهم منازلهم:
ثم ذكر الإمام النووي - رحمه الله تعالى - أطرافاً مما جاء في تنزيل الناس منازلهم، وإكرامهم على حسب مراتبهم، وما جاء في احترام وإكرام فضلاء المسلمين، وتوقير أولي السن والورع والعلم والدين، والرفق بطلبة العلم وأولي الفضل والفهم؛ تعظيماً لحرمات المؤمنين المسلمين، ومسارعةً إلى رضا رب العالمين، قال: وهو دليل لما قدمته، وعاضد لما أسلفته: قال الله - عز وجل -: (وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج: 30]، وقال - تعالى -: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32]، ثم روى حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يأتيكم رجال من قبل المشرق يتعلمون، فإذا جاءوكم فاستوصوا بهم خيراً))، وعن عامر بن إبراهيم قال: كان أبو الدرداء - رضي الله عنه - إذا رأى طلبة العلم قال: "مرحباً بطلبة العلم"، وكان يقول: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى بكم"، وذكر حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إن من إجلال الله - تعالى -إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)) أي: الحاكم العادل، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا))، وهناك حديث ضعيف ذكره عن ميمون بن أبي شبيب أن عائشة - رضي الله عنها - مر بها سائل فأعطته كسرة، ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة فأقعدته فأكل، فقيل لها في ذلك، فقالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أنزلوا الناس منازلهم))، ولكن ميموناً لم يدرك عائشة، وذكر أيضاً عن عائشة أنها قالت: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ننزل الناس منازلهم"، وهذا رواه مسلم في مقدمة الصحيح، وعن إسحاق الشهيدي قال: كنت أرى يحيى القطان - رحمه الله تعالى -يصلي العصر، ثم يستند إلى أصل منارة مسجده، فيقف بين يديه علي بن المديني والشاذكوني وعمرو ابن علي وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهم، يسألونه عن الحديث وهم قيام على أرجلهم، إلى أن تحين صلاة المغرب، لا يقول لواحدٍ منهم: اجلس، ولا يجلسون هيبةً وإعظاماً، وذكر أيضاً عن الإمام البغوي أنه قال: وكذلك تجوز إقامة الإمام والوالي الرجل على رأسه في موضع الحرب، ومقام الخوف، يعني: أن بعض الأئمة يحملون حديث: ((من أحب أن يتمثل الناس أو الرجال له قياماً فليتبوأ مقعده من النار))، على أن يكون الإنسان جالساً والناس قيام على رأسه، كالجنود والحراس ونحوهم، ويستثنون حالة الحرب والخوف؛ حتى يدخل الرعب في قلوب الأعداء، كما حصل في صلح الحديبية حينما كان يقف المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قائماً على رأس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه السيف، وعليه المغفر، يقول النووي: هذا الذي قاله البغوي - رحمه الله تعالى -متفق عليه، يعني: استثناء هذه الحالة، وهو أن يقف على رأس السلطان بالهيبة والسلاح إرهاباً للأعداء في حالة الخوف والحرب، والحديث مشهور في الصحيح.
أدلة المانعين من القيام للقادم:
ثم ذكر الإمام النووي - رحمه الله تعالى -الباب الثاني في الأحاديث التي يستدل بها على النهي عن القيام وما أجاب به عنها أهل المعرفة والحذق والأفهام، ثم روى حديث أنس - رضي الله عنه - قال: "لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لما يعلمون من كراهته لذلك"، وهذا الحديث صحيح.
الحديث الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار)).
الحديث الثالث: عن أبي أمامة قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوكئاً على عصا، فقمنا إليه، فقال: ((لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضاً))"، وهو حديث ضعيف، ثم أجاب الإمام النووي - رحمه الله - عن هذه الأحاديث فقال: أما الجواب عن الحديث الأول -وهو أقرب ما يحتج به- فمن وجهين: أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خاف عليهم وعلى من بعدهم الفتنة بإفراطهم في تعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما جاء في حديث الآخر: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبدٌ، فقولوا: عبد الله ورسوله))، فقوله هذا من نفس هذا الباب؛ لسد الافتتان به والغلو في تعظيمه - صلى الله عليه وآله وسلم -، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قيامهم له لهذا المعنى، ولم يكره قيام بعضهم لبعض، بل قام - صلى الله عليه وسلم - لبعضهم، وقاموا لغيره بحضرته، ولم ينكر ذلك، بل أقره، وأمر به في حديث القيام لـسعد، يقول: وقد قدمنا في الباب الأول بيان هذا كله، وهذا جواب واضح لا يرتاب فيه إلا جاهلٌ أو معاند، الوجه الثاني في الجواب عن هذا الحديث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بينه وبين أصحابه - رضي الله عنهم - من الأنس وكمال الود والصفا ما لا تحتمل زيادته بالإكرام بالقيام، فلم يكن في القيام مقصود، بخلاف غيره، فإن فرض صاحبٌ للإنسان قريبٌ من هذه الحالة فلا حاجة إلى القيام، أما الحديث الثاني -وهو قوله: ((من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار))، يعني: فليجلس على مقعده من النار- فقد أولع أكثر الناس بالاحتجاج به، والجواب عنه من أوجه، والأصح والأولى والأحسن، بل الذي لا حاجة إلى ما سواه: أنه ليس فيه دلالة؛ وذلك أن معناه الصريح الظاهر منه: الزجر الأكيد والوعيد الشديد للإنسان أن يحب تمثل الناس قياماً له، وليس فيه تعرض للقائم بنهي ولا غيره، وهذا متفق عليه، يعني: يحرم على الإنسان أن يحب قيام الناس له، فالإمام النووي يقول: هذا ليس فيه دلالة على المسألة التي نتكلم فيها؛ فالكلام ليس على حب القادم أن يتمثل الناس له قياماً، فهذا حرام، لكن الكلام في القائم نفسه، فهل في هذا الحديث وعيد له أم لا؟ فمذهب الإمام النووي أنه ليس هناك تعرضٌ لحال الذي يقوم، وإنما فيه تعرض لتحريم محبة القادم أن يتمثل الناس له قياماً، فالمنهي عنه هو محبته للقيام. يقول: وليس فيه تعرضٌ للقائم بنهي ولا غيره، وهذا متفق عليه، وهو أنه لا يحل للآتي أن يحب قيام الناس له، والمنهي عنه هو محبته القيام، ولا يشترط كراهيته لذلك، وخطور ذلك بباله، حتى إذا لم يخطر ذلك بباله فقاموا له أو لم يقوموا فلا ذم عليه، وإذا كان معنى الحديث ما ذكرناه فمحبته أن يقام له محرم، فإذا أحب ذلك فقد ارتكب التحريم، سواءً قيم له أو لم يقم له، يعني: لو أن رجلاً يحب أن يقوم الناس له -وهذا عمل قلبي-، وهم لم يقوموا له؛ فهو يأثم، حتى لو لم يقوموا له، قال: فمدار التحريم على المحبة، ولا تأثير لقيام القائم، ولا نهي في حقه بحال، فلا يصح الاحتجاج بهذا الحديث. فإن قال من لا تحقيق عنده: إن قيام القائم سببٌ لوقوع هذا في المنهي عنه، قلنا: هذا سؤال فاسدٌ لا يستحق سائله جواباً؛ فإن تبرع عليه قيل ما قدمناه: إن الوقوع في المنهي عنه يتعلق بالمحبة فحسب. الجواب الثاني: أنه حديث مضطرب، والاضطراب يوجب ضعف الحديث، وهذا الجواب فيه نظر كما قال الإمام النووي - رحمه الله -، ثم ذكر عن بعض الأئمة أنهم قالوا: إنما كره القيام على طريق الكبر، فأما على طريق المودة فلا، فكل من أحب أن تقوم له فلا تقم له، أي: إذا علمت أنه يحب أن تقوم له فلا تقم له، وأظن أن من هذا -والله أعلم- ما يحصل في المدارس؛ حيث إن المدرس يحب أن يقوم التلاميذ له، قال: من يغلظ على من لا يقوم، مخالف لسمت السلف، وهذا دليل على أنه يحب القيام له، حيث يغضب على من لا يقوم له، فالخوف عليه أكثر؛ لأنه وقع في الوعيد بما لا يحتمل التأويل؛ لأنه أحب أن يتمثل الناس له قياماً، فهذه من الكبائر القلبية، وبعض العلماء قالوا: إن هذا الوعيد فيمن يأمرهم بذلك ويلزمهم إياه على طريق النخوة والكبر، وأما أبو موسى فقال: معنى الحديث: أن يقوم الرجال على رأسه، كما يقام بين يدي الملوك، أما الحديث الثالث -وهو: ((لا تقوموا كما يقوم الأعا