الشيخ ابن عثيمين
الفائدة الأولى: إذا قال لزوجته: أنت طالق، أو نحوه من الصريح فله ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن ينوي به الطلاق، فيقع الطلاق بشرط أن يكون عارفا بمعناه.
الحال الثانية: أن ينوي به غير الطلاق مثل: أن ينوي طاهرا، فيغلط فيقول: طالق، فلا يقع به الطلاق لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى))1 ، لكن هل يقبل منه دعوى ذلك في الحكم عند الترافع إلى الحاكم؟ فيه روايتان إحداهما: لا يقبل؛ لأنه خلاف ما يقتضيه ظاهر لفظه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما أقضي بنحو ما أسمع))2 وهو المذهب عند المتأخرين، وظاهره، لو مع وجود قرينة تدل على صدق دعواه مثل أن تقول له: أريد أن أصلي، فيقول: أنت طالق، ويدعي أنه يريد: أنت طاهر، وفيه نظر؛ لأنهم ذكروا في بعض المسائل أنه إذا ادعى ما يخالف الظاهر مع وجود قرينة تدل على صدقه قُبل منه حكما، فينبغي أن يطرد ذلك هنا وفي جميع المواضع.
والرواية الثانية: في أصل المسألة: يقبل منه دعوى ذلك في الحكم، إلا أن توجد قرينة على كذبه مثل: أن يكون قوله: أنت طالق، جوابا لسؤالها الطلاق، أو قاله حال غضب، قال في الإنصاف: وهو المذهب صححه في التصحيح وجزم به في الوجيز ومنتخب الآدمي، وقدمه في المغني والشرح والكافي...الخ.
وخلاصة هذه الحالة أنه إذا قال: أنت طالق، وادعى أنه أراد: أنت طاهر ونحوه، فغلط، قبلت دعواه فيما بينه وبين الله، ولم يقع الطلاق، وأما عند المحاكمة: فإما أن توجد قرينة على كذب دعواه فلا تقبل رواية واحدة، أو توجد قرينة على صدق دعواه فلا تقبل أيضا في ظاهر كلامهم، وفيه نظر كما سبق، والصحيح قبولها، ولا ينافي قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما أقضي بنحو ما أسمع))3 ؛ لأن المراد ما يسمع من الدعوى وقرائنها، وعلى هذا فلا يقع الطلاق، أو لا توجد قرينة على صدق دعواه ولا كذبها ففيه روايتان: القبول، وعدمه.
الحال الثالثة: أن لا ينوي بقوله: "أنت طالق" لا طلاقا ولا غيره فيقع الطلاق، نص عليه أحمد وعليه الأصحاب؛ لأنه لفظ صريح فيه موضوع له، فوجد الحكم بوجوده، وعنه: لا يقع إلا بقرينة كغضب، أو سؤالها الطلاق، ونحوه، قال ابن القيم في رسالة له سماها (إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان): ومنهم -أي العلماء- من اشترط مع ذلك أن يكون مريدا لمعناه -أي الطلاق- ناويا له، فإن لم ينو معناه، ولم يُرِدْه لم يلزمه حكمه، وهذا قول من يشترط لصريح الطلاق النية، وقول من لا يوقع طلاق الهازل، وهو قول في مذهب أحمد ومالك في المسألتين اهـ.
الفائدة الثانية: إذا وقع به الطلاق فكم طلقة تقع به؟
هذا على أقسام:
القسم الأول: أن يأتي بصريح العدد فيقع ما صرح به، ولا يقبل منه إرادة خلافه سواء كان ما أراد أخف أو أغلظ، مثل أن يقول: أنت طالق ثلاثا فتقع الثلاث ولو أراد واحدة، أو يقول: أنت طالق طلقة واحدة فتقع الواحدة ولو أراد أكثر؛ لأن النية لا تغير الصريح، ولا يثبت بها وحدها حكم الطلاق.
القسم الثاني: أن يقول: أنت طالق ولا يأتي بصريح العدد ولا بالتكرار، فإن نوى واحدة فواحدة؛ لاتفاق دلالة اللفظ والنية، وإن لم ينو شيئا فواحدة أيضاً؛ لأن دلالة اسم الفاعل على معنى المصدر دلالة مطلقة تصدق بالواحدة، وظاهر كلامهم يكون واحدة ولو مع قرينة، كما لو قالت: طلقني ثلاثا فقال: أنت طالق، وإن نوى ثلاثا طلقت ثلاثا على المذهب، قال في الإنصاف: وهو المذهب على ما اصطلحناه، والرواية الثانية: تطلق واحدة فقط، قال في الإنصاف: وهي المذهب عند أكثر المتقدمين.
القسم الثالث: أن يقول: أنت طالق، ويكرر لفظ الطلاق دون لفظ الجملة، مثل أن يقول: أنت طالق، طالق، طالق، فإن نوى الثلاث طلقت ثلاثا، وإن نوى واحدة، أو لم ينو شيئا طلقت واحدة، قال في المنتهى: وأنت طالق طالق طالق: واحدة ما لم ينوِ أكثر، قال في الفروع: وظاهر ما جزم به في الترغيب أنه إذا أطلق -يعني لم ينو عددا- تكرر؛ فإنه قال -أي صاحب الترغيب-: لو قال: أنت طالق طالق طالق قبل قصد التأكيد أيضا. اهـ.
القسم الرابع: أن يقول: أنت طالق، ويكرر لفظ الجملة بدون حرف عطف مثل: أن يقول: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وله ثلاث حالات:
الحال الأولى: أن ينوي تكرار الطلاق، فيقع بقدر ما كرر، فإن كرره مرتين فطلقتان، أو ثلاثا فثلاث لاتفاق دلالة اللفظ والنية.
الحال الثانية: أن ينوي التأكيد أو الإفهام فلا يقع ما نوى به ذلك، سواء أراد تأكيد الأولى بما بعدها أو الثانية بالثالثة.
ويشترط في التأكيد أن يكون متصلا بالمؤكد حقيقة أو حكما، فلو انفصل بكلام أو سكوت اختياري لم يصح.
فلو قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ونوى تأكيد الأولى بالثالثة لم يصح لفصله بالثانية فتطلق ثلاثا، وإن نوى تأكيد الأولى بالثانية والثالثة صح، وطلقت واحدة، وإن نوى تأكيد الثانية بالثالثة صح وطلقت طلقتين.
ولو قال: أنت طالق، وسكت سكوتا يمكنه الكلام فيه، ثم قال: أنت طالق، ونوى التأكيد لم يصح؛ للفصل بالسكوت، فتطلق طلقتين.
وتقبل نية التأكيد ولو مع اختلاف لفظ الطلاق مثل أن يقول: أنت مطلقة أنت مسرحة أنت مفارقة وينوي تأكيد الأولى بما بعدها فيصح وتطلق واحدة.
وظاهر كلام الأصحاب أنه لا يشترط في صحة نية الإفهام أن يكون متصلا فعبارة الزاد وشرحه: إلا أن ينوي تأكيدا يصح بأن يكون متصلا أو إفهاما. وعبارة المنتهى: إلا أن ينوي بتكراره تأكيدا متصلا أو إفهاما، وعبارة الإنصاف والإقناع: ويشترط في التأكيد أن يكون متصلا، إلا أنه في شرح الإقناع قال: ويشترط في التأكيد والإفهام... فزاد والإفهام وعلله بأن الإفهام نوع من التأكيد اللفظي.
واشتراط الاتصال في الإفهام خلاف ظاهر كلام من سبقه من الأصحاب وعدم اشتراطه أظهر؛ لأن الحاجة قد تدعو إليه مع الفصل مثل: أن يخاطب زوجته في حال غفلتها أو غضبها ثم تنتبه فيعيد الجملة عليها؛ فإن قصد الإفهام هنا ظاهر مع الفصل، نعم ينبغي أن يشترط في دعوى نية الإفهام أن يكون محتاجا إليه لغفلة أو غضب أو طرش أو أصوات كثيرة ونحو ذلك، فإن لم يكن محتاجا إليه لم يقبل منه حكما دعوى ذلك. والله أعلم.
الحال الثالثة: أن لا ينوي التأكيد ولا التكرار فيقع العدد فإن كرره مرتين فطلقتان أو ثلاثا، فثلاث: ونقل أبو داود عن أحمد في قوله: اعتدى اعتدى، وأراد الطلاق: هي طلقة، قال في القواعد الأصولية:
وظاهر هذا النص أنه لا يتكرر الطلاق إذا لم ينو التكرار، وقال في الفروع: يتوجه مع الإطلاق وجه كالإقرار يعني أنه لا يتكرر.
القسم الخامس: أن يقول: أنت طالق، ويكرر لفظ الطلاق أو الجملة كلها مع أحد حروف العطف وله حالان:
الحال الأولى: أن تكون حروف العطف متغايرة فلا تقبل نية التوكيد؛ لأن العطف بحرف مغاير يقتضي أن الثاني غير الأول فلو قال: أنت طالق وأنت طالق، ثم أنت طالق. أو أنت طالق، وطالق، ثم طالق، طلقت ثلاثا ولا يقبل منه إرادة التوكيد.
الحال الثانية: أن يكون العطف بحرف واحد مثل أن يقول: أنت طالق، ثم أنت طالق، ثم أنت طالق. أو أنت طالق، ثم طالق فتطلق ثلاثا، فإن نوى تأكيد الثانية بالثالثة قُبل إن كان متصلا، وطلقت طلقتين، وإن نوى تأكيد الأولى بالثانية لم يقبل؛ لأن العطف يقتضي المغايرة، وإن نوى تأكيدها بالثالثة لم يقبل؛ لذلك، وللفصل، وتطلق ثلاثا فيهما.
ويستثنى من ذلك مسألتان:
الأولى: إذا كان العطف ببل مثل: أنت طالق بل طالق، أو أنت طالق طلقة بل طلقة، فإن فيها رواية عن أحمد: أنها تطلق واحدة فقط، والمذهب: أنها طلقتان كما سبق.
المسألة الثانية: إذا تغير لفظ الطلاق إلى معناه مثل: أنت مطلقة، ومسرحة، ومفارقة، فتطلق ثلاثا، ولا تقبل منه نية التأكيد هكذا أطلق الأصحاب، وينبغي أن يقبل منه نية تأكيد الثانية بالثالثة؛ لأنها بمعناها والحرف فيهما واحد، وقد سبق أنه تقبل نية التوكيد في: أنت مطلقة، أنت مسرحة، أنت مفارقة، وعلى هذا فإذا قال: أنت مطلقة، وأنت مسرحة، وأنت مفارقة، ونوى تأكيد الثانية بالثالثة طلقت طلقتين فقط.
وفي أصل المسألة: احتمال بقبول نية التأكيد، فلا تطلق إلا واحدة، وهما احتمالان مطلقان في المغني وغيره، وإنما صح نية التأكيد مع العطف على هذا الاحتمال؛ لاختلاف اللفظين، بخلاف: أنت مطلقة، ومطلقة، ومطلقة فلا يصح نية التأكيد فيها، إلا تأكيد الثانية بالثالثة لعدم اختلاف اللفظين، فلا يحسن عطف لفظ على مساويه للتأكيد؛ لأنه ليس بينهما تغاير يحسن من أجله العطف.
القسم السادس: أن يقول: أنت طالق، ويصف الطلاق بما يقتضي البينونة، مثل: أن يقول: أنت طالق بائن، أو بلا رجعة، أو تملكين نفسك، ونحو ذلك فله حالان:
الحال الأولى: أن يصف الطلاق بوصف يناقض البينونة مثل: أنت طالق واحدة بائنة، أو لا رجعة فيها، ونحوه.. فلا تطلق إلا واحدة، ولو نوى أكثر؛ لأنه صرح بلفظ العدد الذي لا بينونة فيه، والتصريح لا تغيره النية، وعنه: تطلق طلقة واحدة بائنة لا رجعة فيها إلا بعقد، وعنه: تطلق ثلاثا.
الحال الثانية: أن لا يصف الطلاق بوصف يناقض البينونة مثل: أنت طالق بائن، ونحوه.. فتطلق ثلاثًا، وعنه: واحدة بائنة لا رجعة فيها إلا بعقد، وعنه: واحدة رجعية وهو الصحيح؛ لأن المطلق إنما يملك سبب الفرقة، وهو الطلاق، وأما حكمه فإلى الله ورسوله، فإذا أتى بما جعله الشارع سببا للبينونة حصلت به، وإن أتى بغيره لم تحصل به، وإن حكم بها عليه.
قال ابن القيم في زاد المعاد: والجمهور قالوا: لا يملك إبانتها بدون الثلاث إلا بالخلع.
تنبيه: يستثنى من وقوع الطلاق بعدد التكرار في جميع ما سبق إذا كانت الزوجة غير مدخول بها؛ فإنها تبين بالأولى، ولا يلزمه ما بعدها، فإذا قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، طلقت بالأولى واحدة ولم يقع عليها ما بعدها؛ لأنه صادفها بعد البينونة، إلا إذا كان التكرار بما يفيد المعية دون الترتيب فتطلق بعدد مثل أن يقول: أنت طالق، وطالق، وطالق فتطلق ثلاثا، أو أنت طالق طلقة مع طلقة، أو معها طلقة، فتطلق طلقتين.
تنبيه آخر: جميع ما سبق من وقوع عدد الطلاق بتكرار صيغته مبني على القول بأن الطلاق الثلاث يقع ثلاثا، والثنتين يقع طلقتين، أما على القول الراجح بأن الطلاق المكررة صيغته لا يقع إلا واحدة سواء كان بحرف عطف أو بدونه، فالأمر ظاهر أننا لا نحتاج إلى التقاسيم والأحوال السابقة، فإذا قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق، فطلقة واحدة رجعية، سواء كانت مدخولا بها أم غير مدخول بها، وسواء نوى التأكيد أو التأسيس، وسواء كان بحرف عطف أم بدونه، لحديث ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان الطلاق الثلاث على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فلما كان عمر قال: " أرى الناس قد تتابعوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم؟ فأمضاه عليهم4 . رواه مسلم. وفي المسند عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: طلق ركانة امرأته في مجلس واحد فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ((كيف طلقتها؟)) قال: طلقتها ثلاثاً، قال: ((في مجلس واحد؟)) قال: نعم. قال: ((فإنما تلك واحدة فأرجعها إن شئت)) قال: فأرجعها5 .
وهذا القول اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لأدلة كثيرة ليس هذا موضع ذكرها، قال شيخنا عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - في كتابه (المختارات الجلية)6: ورجح الشيخ تقي الدين أن الطلاق لا يقع إلا واحدة بجميع ألفاظ الطلاق، ولو صرح بلفظ الثلاث أو البينونة أو البتة أو غيرها، وأنه لا تقع الثانية إلا بعد رجعة صحيحة، ونصر هذا القول بوجوه كثيرة جدا من وقف على كلامه فيها لم يسعه مخالفة هذا القول؛ لقوته ورجحانه وكثرة أدلته، وضعف ما قابله. اهـ.
و رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.