بين يدي الموضوع:
إن من مقاصد الشريعة العظمى، وأهدافها الرئيسة جمع كلمة المسلمين على الحق، وتأليف قلوبهم، ولزوم جماعة المسلمين.
لهذا ورد التحذير من الفرقة والتفرق، فقال - تعالى -: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا) ([1]).
قال ابن جرير - رحمه الله - : (يريد بذلك - تعالى -ذكره: وتمسكوا بدين الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله) ([2]).
وشنع الله - تعالى -على أهل التفرق والشتات، وذكَّر بما حصل للأمم السابقة من الضعف والهلاك.. فقال - تعالى -: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )([3]).
نقل الإمام الشاطبي عن الإمام مالك قوله في هذه الآية: (فأي كلام أبين من هذا؟. فرأيته يتأولها لأهل الأهواء) ([4]).
وقال - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَ****هُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) ([5]).
وجاء في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) ([6]).
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فمات مات ميتة جاهلية)) ([7]).
ومن خلال التاريخ لقد شهدت كثير من الوقائع التاريخية أن الأمة المسلمة متى ائتلفت واجتمعت على الدين والحق.. قوي أمرها، واشتد عودها.
ومتى تفرقت وبعدت عن الحق والدين تشتت شملها، وضعف كيانها.
وهنا يقول الإمام الشاطبي - رحمه الله -: ".. استمر مزيد الإسلام، واستقام طريقه على مدة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعد موته، وأكثر قرن الصحابة - رضي الله عنهم - ... إلى أن نبغت فيهم نوابغ الخروج على السنة، وأصغوا إلى البدع المضلة، كبدعة القدر، وبدعة الخوارج، وهي التي نبه عليها الحديث بقوله: ((يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان.. يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم)) يعني لا يتفقهون فيه، بل يأخذونه على الظاهر... " ([8]).
الاجتماع على ولي أمر المسلمين ومناصحته:
وأولي الأمر بيعتهم وطاعتهم مشروعة في غير معصية الله - تعالى -، وعدم الخروج عليهم ثابتة بنصوص الكتاب والسنة وبالأدلة العقلية ومن ذلك:
قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) ([9]).
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) ([10]).
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: " دعانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه. فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: ((إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)) ([11]).
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) ([12]).
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - يرويه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية)) ([13]).
وهذا المذهب منسوب إلى الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما -، وهم: سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة ([14])، وأبو بكرة رضي الله - تعالى -عنهم أجمعين، وهو: مذهب الحسن البصري ([15]) والمشهور عن الإمام أحمد بن حنبل وعامة أهل الحديث.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "... ولهذا كان مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح بر، أو يُستراح من فاجر..." ([16]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "ولهذا استقر رأي أهل السنة على ترك القتال في الفتنة، للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم" ([17]).
تعريفات مهمة:
ما المراد بالجماعة؟
تحديد مفهوم الجماعة جاء على معان مترادفة منها([18]):
1) أنها السواد الأعظم من أمة الإسلام، وهذا قول ابن مسعود، وابن سيرين.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - في وصيته لمن سأله عن قتل عثمان: " عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة " ([19]).
قال الشاطبي: " فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدوا الأمة وعلماؤها، وأهل الشريعة العاملون بها، ومن سواهم داخلون في حكمهم لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم " ([20]).
2) أنهم العلماء المجتهدون، وهذا ما ذهب إليه ابن المبارك، وابن راهويه، البخاري ([21]).
3) أن الجماعة هم الصحابة خاصة؛ لأنهم أقاموا عماد الدين، وأرسوا أوتاده.
4) أنهم جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير، لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزومه، ونهى عن بيعة غيره إذا استتب له الأمر، ومن نكث بيعته خرج على الجماعة، وهذا هو اختيار الإمام الطبري ([22])، وتعليله لأنه إذا لم يكن للناس أمير تفرقوا أحزاباً.
وهذه الأقوال يبدوا أنه لا تعارض بينها، ويمكن الجمع بينها بأن الجماعة لها أصلان عظيمان وهما:
الأصل الأول: المنهج السديد وهو الكتاب والسنة وفهم سلف هذه الأمة في القرون المفضلة قبل ظهور البدع، ويقوم عليه العلماء والمجتهدون.
الأصل الثاني: البناء والكيان الواحد للأمة المسلمة، ويقوم عليه أمراء المسلمين ([23]).
ولهذا لما حصل الاجتماع بتنازل الحسن بن علي لمعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهم - سُمّي ذلك العام " عام الجماعة " لاجتماع كلمة المسلمين على إمام واحد.
ما هو حد الخروج على الجماعة؟
قال النووي: " قوله التارك لدينه عام في كل من ارتد بأي ردة كانت فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام، وقوله المفارق للجماعة يتناول كل خارج عن الجماعة ببدعة أو نفي إجماع كالروافض والخوارج وغيرهم " [نقلاً عن فتح الباري: 12/ 202 شرح حديث رقم 6484].
وقال الشوكاني: " والمراد بمفارقة الجماعة مفارقة جماعة الإسلام ولا يكون ذلك إلا بالكفر لا بالبغي والابتداع ونحوهما" [نيل الأوطار: 7/92 حديث رقم (1) كتاب الدماء، باب إيجاب القصاص بالقتل العمد وأن مستحقه بالخيار بينه وبين الدية].
وقال الأمير الصنعاني: " المفارق للجماعة يتناول كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي أو غيرهما كالخوارج إذا قاتلوا وأفسدوا" [سبل السلام: 1/167 بداية كتاب الجنايات].
أنواع الخروج على جماعة المسلمين:
وهنا لا بد من التفصيل في مسألة الخروج على جماعة المسلمين إذ يمكن تقسيم الخارجين على الجماعة على نوعين:
النوع الأول: خروج عن الحق والمنهج في أصول الدين وثوابته التي جاءت في الكتاب والسنة الثابتة الصحيحة، وهذا الصنف هم الذين تأثروا بشبهات ومفاهيم وتأويلات مخالفة لصريح القرآن، وصحيح السنة، وفَهم سلف الأمة.. وهم على أنواع مختلفة:
فمنهم المرتد، ومنهم الباغي، ومنهم المبتدع المغالي، ومنهم المحارب.
النوع الثاني: الذين خرجوا عن إمام المسلمين، وتظاهروا بالبغي، وجاهروا بمعصيته.. ورفعوا السلاح في وجهه.
وهذا الخروج يختلف باختلاف بواعثه وهو على ثلاثة أقسام:
أ) الخروج بناء على اعتقاد فاسد يخالف الكتاب والسنة.. يرى أصحابه فيه أن الحاكم قد سقطت ولايته، ويقاتلونه عليه، ويرون قتالهم عليه ديناً.. ويكفرونهم ويكفرون من لم يقاتلهم.. وهؤلاء كالخوارج والإمامية الاثني عشرية التي لا ترى صحة الإمامة في غير الاثني عشر، ويكفرون من تولاها غيرهم أو طاعهم.
ب) الخروج بالسلاح بقصد شرعي وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. لا لغرض منازعة الحاكم سلطانه.. وهذا أخف جُرماً من الأول.. وهو خطأ وقد وقع فيه بعض السلف، لكن لا يكون خروجهم مبرراً ومسوغاً على الخروج لأنهم ندموا على الخروج ([24]).
قال ابن تيمية - رحمه الله -: " كل أولئك خرجوا غضباً للدين من أجل جور الولاة، وترك عملهم بالسنة النبوية، وهم طلاب حق.. غير أنهم مخطئون فيما فعلوا، وقد تبين لهم خطأهم فهم لم يحمدوا ما فعلوه من القتال آخر الأمر " ([25]).
وقال ابن تيمية - رحمه الله - في موضع آخر: " فهؤلاء وإن عُذروا وعُرفت مراتبهم من العلم والدين.. فلا يجوز ترك ما تبين من السنة والهدى من أجل تأويلهم " ([26]).
ج) الذين يخرجون على الأمير لقاعدتهم في الخروج على الظلمة في نظرهم مع عدم مراعاة المفاسد الكثيرة المترتبة على الخروج.
تنبيه:
وهنا بعد هذا التفصيل لا بد أن نفهم أمرين:
الأمر الأول: أن القول بعدم جواز الخروج على جماعة المسلمين أو ولي الأمر المسلم.. لا يعني فيه البدء بقتال الخارجين، أو مطاردتهم... حتى يرفعوا السلاح، ويجاهروا بالبغي، لكن قبل أن يستخدموا السلاح.. فالحوار معهم هو الصواب.. كما فعل علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - مع الخوارج بإرسال ابن عباس - رضي الله عنهم - لحوارهم ومناظرتهم.
كما أنه لا يكون مسوغاً للتمادي في المنكرات الظاهرة أو السكوت عليها، والطاعة لهم في المعصية.
بل يجب على الوالي أن يغير المنكرات التي تكون سبباً لوقوع مثل هذه الفتن؛ لأن هذه أمانة عليه تجاه الرعية، وأن يكون معيناً لأهل العلم والخير في درئها، ويسهل لهم مهمة النصيحة له ولمن دونه..
الأمر الثاني: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجب فيه أن يكون على علم وبصيرة قبله، ورفق ولين أثناءه، وصبر بعده ([27]).
فلا يعني قولنا بعدم الخروج أن تلغى هذه الشعيرة الإسلامية الواجبة على الأمة، ولا يعني هذا التهرب من مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر الخير في المجتمع.
إنما كان المنع من الخروج لما يترتب عليه من مفاسد ومنكرات أعظم مما هو حاصل، والنصيحة لولاة الأمر بالرفق واللين مطلوبة، لا بمنازعتهم سلطانهم.
كيف يتعامل الوالي مع الخارجين على جماعة المسلمين:
لا بد أن يتعامل معهم بمقتضى الشرع، وبما تتحقق به مصلحة جماعة المسلمين كما يأتي:
1) التثبت في خروجهم، والتدرج معهم: بأن يبدأ بمراسلتهم، أو إرسال الوجهاء والعلماء لمعرفة الدافع لخروجهم، فيحقق لهم ما يذكرونه من مطالب مشروعة، ويرفع ما عليهم من مظالم.
2) حوارهم ومناقشتهم: بأن يخول لهم من يكشف لهم شبهاتهم التي دعتهم للخروج، ويبين لهم الصواب من الكتاب والسنة.
وهذا هو نفس صنيع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مع الخوارج إذ راسلهم، وأرسل لهم ابن عباس - رضي الله عنهما - لمناظرتهم فأبطل حجتهم وعاد منهم أربعة آلاف.
3) إذا طلبوا الإمهال أمهلهم ـ ما لم يتأكد له أنها منهم مكيدة ـ ويمهلهم اليومين والثلاثة.. مع تخولهم بالموعظة، والدعوة لهم إلى الرجوع.. مع تخويفهم من آثار القتال.
وإن طلبوا أكثر من ذلك بحث عن السبب، فإن كان القصد منهم جمع الأنصار والتقوي من أجل القتال لا يمهلهم، ولو بذلوا المال لما في ذلك من الضرر والفتنة ([28]).
وعلى هذا: له أن يطلب منهم تسليم السلاح إن كانوا قد حملوا السلاح، والنزول من الحصون إن كانوا متحصنين..، والرجوع إلى البلدة إن كانوا قد خرجوا منها.. وغير ذلك مما يعين على دفع الفتنة.
4) القتال لهم: فإن لم ينفع معهم هذا كله، وأصروا على الخروج، وبدؤوا بالقتال.. قاتلهم لقوله - تعالى -: (فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي).
ففي هذه الحالة وجب على ولي الأمر تفريق جمعهم، أو قتالهم دفعاً لضررهم وفتنتهم بقدر ما تتحقق به درء المفسدة، وكف أذاهم.. ولا يقاتلون بسلاح يعمُّ ضرره على الآخرين، أو ممتلكات غيرهم.. كالسلاح الفتَّاك.. إلا إذا رأى ولي الأمر بعد مشورة أهل الأمانة والعدل أن خطرهم يستدعي ذلك فستخضع القضية للواقع.
ولا يجهز على جريحهم، ولا يتبع من فرَّ منهم، وأما مَن وضع السلاح، أو وقع أسيراً.. فإن دخل في الطاعة أُطلق بشرط أن يكون قد هُزم أصحابه، وإن لم يدخل في الطاعة حُبس مع الوعظ له حتى ينتهي شر الطائفة، ولا يجوز أن يُستعان عليهم بكافر ([29]). والله أعلم.
آثار الخروج على جماعة المسلمين في الحال والمآل:
الخروج على جماعة المسلمين يمثل خطراً عظيماً على المجتمع المسلم، ويُعد عاملاً كبيراً لضعف كيان الأمة المسلمة، وذهاب ريحها.. وله آثاره وأضراره.. سواء على المجتمع المسلم ومصالحه، أو على الدين وضرورياته.. وسأتناول هذه الآثار في كل من (الخروج على الحق ببدعة مضلة، أو الخروج على ولاة الأمر) كما أن في الخروج مخالفة لنصوص الاجتماع، والأمر بالطاعة، والبقاء مع الجماعة.. فإن هناك آثاراً سيئة عاجلة وآجلة.
آثار الخروج على جماعة المسلمين في الحال:
أولاً ـ الاستهانة بدماء وأموال المسلمين، واستتباب الخوف مكان الأمن.
قال الإمام القرطبي ـ في مفاسد الخروج على إمام المسلمين ـ أن فيه: " استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض " ([30]).
ثانياً ـ تعطيل مصالح الناس من معاش و وظائف، وتجارات، وأسفار، ومدارس، وجُمَع وجماعات، وحج، وأمر بمعروف ونهي عن منكر.. وغير ذلك.
قال ابن تيمية: (وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر، أعظم مما تولد من الخير) ([31]).
ولذلك (فلا يهدم أصل المصلحة شغفًا بمزاياها، كالذي يبني قصرًا ويهدم مصرًا)([32]).
ثالثاً ـ الاقتتال الداخلي الذي يؤدي إلى إضعاف الدولة المسلمة، وإنهاك قواها، وتدمير مقوماتها.. فيسهل على العدو الخارجي الاستيلاء عليها.
رابعاً ـ إيجاد الفرص المناسبة لإشعال فتيل الفتنة بين المجتمعات الإسلامية، ودخول المغرضين والمندسين في الصف الإسلامي... للقضاء على دول المسلمين، ومن ثم الاستيلاء عليها.
خامساً ـ أنها طريقة غير صحيحة لتغيير الولاة والحكام، أو تغيير الأوضاع المتردية.
يقول ابن تيمية - رحمه الله -: " ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان، إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته " ([33])
وقد جرَّب المسلمون الخروج فلم يروا منه إلا الشر:
1- خرج الناس على عثمان يرون أنهم يريدون الحق.. فكانت الفتنة الدائمة، وإسالة الدماء، وتفرُّق الكلمة.
2- ثم خرج أهل الجمل يرى رؤساؤهم ومعظمهم أنهم إنما يطلبون الحق، فكانت ثمرة ذلك بعد اللقيا، والتي أن انقطعت خلافة النبوة.
3- ثم اضطر الحسين بن علي إلى ما اضطر إليه فكانت تلك المحنة على آل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ.
4- ثم خرج أهل المدينة فكانت وقعة الحرَّة المحزنة.
5- ثم خرج القرَّاء مع ابن الأشعث فماذا كان؟
6- ثم كانت قضية زيد بن علي، وعرض عليه الروافض أن ينصروه على أن يتبرأ من أبي بكر وعمر، فخذلوه، فكان ما كان ([34]).
وقد عدَّ أبو الحسن الأشعري خمسة وعشرين خارجًا كلهم من آل البيت ([35]) ولم يصل أيٍ منهم على مطلوبه.
ومن يراجع تاريخ اليمن يجد من تلك الأمثلة الكثير والكثير، ويتدبر ما وقع فيها من المفاسد، وخراب البلاد والعمران.. بين أبناء العمومة، أو أبناء وآبائهم.. حيث خرج تحت قاعدة الخروج على الظلمة معارضون لأئمة حاكمين بحجة أنهم ظالمون في وقت واحد يخرج عدد من الأئمة على من توفرت فيهم الشروط عندهم، ولكن زعموا أنهم من أهل الظلم فأهلك الحرث والنسل، وعم الفساد.
آثار الخروج على جماعة المسلمين في المآل:
أولاً ـ الاستهانة بالولاية العامة، وولاة الأمر، والنصوص الشرعية التي تحث على تنصيب الولاة أو عزلهم بالطرق المشروعة.
كما حصل في مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وقد عبر عن هؤلاء الخارجين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حينما طُلب منه قبول البيعة فقال: " إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم.. فا هدؤوا عني وانظروا ماذا يأتيكم ثم عودوا " ([36]).
وقال ابن تيمية - رحمه الله -: "... وبهذا الوجه صارت الخوارج يستحلون السيف على أهل القبلة حتى قاتلت عليًا - رضي الله تعالى عنه - وغيره من المسلمين، وكذلك من وافقهم في الخروج على الأئمة بالسيف في الجملة " ([37]).
ثانياً ـ الغلو في التعامل مع حكام الظالمين، وتكفيرهم بدون برهان، ومن ثم تكفير المجتمع المسلم... واستباحة دمائهم، وأموالهم... بدون حق.
لأن الأصل في التعامل مع الحكام هو النصيحة، والصبر على جورهم لو جاروا، ومراعاة مصلحتهم من المفسدة، وطاعتهم في ما فيه طاعة لله - تعالى -، ومعصيتهم في معصية الله - تعالى -.. للنصوص الكثيرة الدالة على ذلك، وما استتب عليه أمر جمهور علماء الأمة.
قال القاضي عياض: (وقال جمهور أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين لا ينعزل ـ أي الحاكم ـ بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك بل يجب وعظه وتخويفه) ([38]).
ثالثاً ـ ترسيخ ثقافة ومفاهيم مرفوضة تقوم على أساس طائفي، أو عنصري.. في المجتمع المسلم. والصراع من أجل الوصول إلى السلطة والحكم، أو البقاء فيها.
رابعاً ـ إحياء الثارات العنصرية والطائفية بين الأسر الحاكمة. كما حصل بين بعض دول الإسلام.
خامساً ـ تكرار فتن التاريخ التي وقعت بسبب الخروج على ولاة الأمر.. وعدم الاستفادة من العبرة فيما حصل.
سادساً ـ فتح المجال أمام الطامعين بثروات المجتمع المسلم عن طريق الانشقاق داخل المجتمع، والتشطير.
سابعاً ـ الخلط بين مفهوم الجهاد الشرعي، والخروج على جماعة المسلمين.. إذ يعده البعض جهاداً بناء على أفكار خاطئة.
ومع ذلك المنع من الخروج.. فالواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم الطاعة في المعصية، ووجوب النصح بإزالة المنكرات بالكلمة الطيبة.
إن من مقاصد الشريعة العظمى، وأهدافها الرئيسة جمع كلمة المسلمين على الحق، وتأليف قلوبهم، ولزوم جماعة المسلمين.
لهذا ورد التحذير من الفرقة والتفرق، فقال - تعالى -: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا) ([1]).
قال ابن جرير - رحمه الله - : (يريد بذلك - تعالى -ذكره: وتمسكوا بدين الذي أمركم به، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه من الألفة والاجتماع على كلمة الحق والتسليم لأمر الله) ([2]).
وشنع الله - تعالى -على أهل التفرق والشتات، وذكَّر بما حصل للأمم السابقة من الضعف والهلاك.. فقال - تعالى -: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )([3]).
نقل الإمام الشاطبي عن الإمام مالك قوله في هذه الآية: (فأي كلام أبين من هذا؟. فرأيته يتأولها لأهل الأهواء) ([4]).
وقال - تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَ****هُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) ([5]).
وجاء في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ((لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) ([6]).
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر، فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فمات مات ميتة جاهلية)) ([7]).
ومن خلال التاريخ لقد شهدت كثير من الوقائع التاريخية أن الأمة المسلمة متى ائتلفت واجتمعت على الدين والحق.. قوي أمرها، واشتد عودها.
ومتى تفرقت وبعدت عن الحق والدين تشتت شملها، وضعف كيانها.
وهنا يقول الإمام الشاطبي - رحمه الله -: ".. استمر مزيد الإسلام، واستقام طريقه على مدة حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعد موته، وأكثر قرن الصحابة - رضي الله عنهم - ... إلى أن نبغت فيهم نوابغ الخروج على السنة، وأصغوا إلى البدع المضلة، كبدعة القدر، وبدعة الخوارج، وهي التي نبه عليها الحديث بقوله: ((يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان.. يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم)) يعني لا يتفقهون فيه، بل يأخذونه على الظاهر... " ([8]).
الاجتماع على ولي أمر المسلمين ومناصحته:
وأولي الأمر بيعتهم وطاعتهم مشروعة في غير معصية الله - تعالى -، وعدم الخروج عليهم ثابتة بنصوص الكتاب والسنة وبالأدلة العقلية ومن ذلك:
قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) ([9]).
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة)) ([10]).
وعن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: " دعانا النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه. فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، قال: ((إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان)) ([11]).
وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) ([12]).
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - يرويه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية)) ([13]).
وهذا المذهب منسوب إلى الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة التي وقعت بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما -، وهم: سعد بن أبي وقاص، وأسامة بن زيد، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة ([14])، وأبو بكرة رضي الله - تعالى -عنهم أجمعين، وهو: مذهب الحسن البصري ([15]) والمشهور عن الإمام أحمد بن حنبل وعامة أهل الحديث.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "... ولهذا كان مذهب أهل الحديث ترك الخروج بالقتال على الملوك البغاة والصبر على ظلمهم إلى أن يستريح بر، أو يُستراح من فاجر..." ([16]).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "ولهذا استقر رأي أهل السنة على ترك القتال في الفتنة، للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم" ([17]).
تعريفات مهمة:
ما المراد بالجماعة؟
تحديد مفهوم الجماعة جاء على معان مترادفة منها([18]):
1) أنها السواد الأعظم من أمة الإسلام، وهذا قول ابن مسعود، وابن سيرين.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - في وصيته لمن سأله عن قتل عثمان: " عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة " ([19]).
قال الشاطبي: " فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدوا الأمة وعلماؤها، وأهل الشريعة العاملون بها، ومن سواهم داخلون في حكمهم لأنهم تابعون لهم ومقتدون بهم " ([20]).
2) أنهم العلماء المجتهدون، وهذا ما ذهب إليه ابن المبارك، وابن راهويه، البخاري ([21]).
3) أن الجماعة هم الصحابة خاصة؛ لأنهم أقاموا عماد الدين، وأرسوا أوتاده.
4) أنهم جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير، لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بلزومه، ونهى عن بيعة غيره إذا استتب له الأمر، ومن نكث بيعته خرج على الجماعة، وهذا هو اختيار الإمام الطبري ([22])، وتعليله لأنه إذا لم يكن للناس أمير تفرقوا أحزاباً.
وهذه الأقوال يبدوا أنه لا تعارض بينها، ويمكن الجمع بينها بأن الجماعة لها أصلان عظيمان وهما:
الأصل الأول: المنهج السديد وهو الكتاب والسنة وفهم سلف هذه الأمة في القرون المفضلة قبل ظهور البدع، ويقوم عليه العلماء والمجتهدون.
الأصل الثاني: البناء والكيان الواحد للأمة المسلمة، ويقوم عليه أمراء المسلمين ([23]).
ولهذا لما حصل الاجتماع بتنازل الحسن بن علي لمعاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهم - سُمّي ذلك العام " عام الجماعة " لاجتماع كلمة المسلمين على إمام واحد.
ما هو حد الخروج على الجماعة؟
قال النووي: " قوله التارك لدينه عام في كل من ارتد بأي ردة كانت فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام، وقوله المفارق للجماعة يتناول كل خارج عن الجماعة ببدعة أو نفي إجماع كالروافض والخوارج وغيرهم " [نقلاً عن فتح الباري: 12/ 202 شرح حديث رقم 6484].
وقال الشوكاني: " والمراد بمفارقة الجماعة مفارقة جماعة الإسلام ولا يكون ذلك إلا بالكفر لا بالبغي والابتداع ونحوهما" [نيل الأوطار: 7/92 حديث رقم (1) كتاب الدماء، باب إيجاب القصاص بالقتل العمد وأن مستحقه بالخيار بينه وبين الدية].
وقال الأمير الصنعاني: " المفارق للجماعة يتناول كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي أو غيرهما كالخوارج إذا قاتلوا وأفسدوا" [سبل السلام: 1/167 بداية كتاب الجنايات].
أنواع الخروج على جماعة المسلمين:
وهنا لا بد من التفصيل في مسألة الخروج على جماعة المسلمين إذ يمكن تقسيم الخارجين على الجماعة على نوعين:
النوع الأول: خروج عن الحق والمنهج في أصول الدين وثوابته التي جاءت في الكتاب والسنة الثابتة الصحيحة، وهذا الصنف هم الذين تأثروا بشبهات ومفاهيم وتأويلات مخالفة لصريح القرآن، وصحيح السنة، وفَهم سلف الأمة.. وهم على أنواع مختلفة:
فمنهم المرتد، ومنهم الباغي، ومنهم المبتدع المغالي، ومنهم المحارب.
النوع الثاني: الذين خرجوا عن إمام المسلمين، وتظاهروا بالبغي، وجاهروا بمعصيته.. ورفعوا السلاح في وجهه.
وهذا الخروج يختلف باختلاف بواعثه وهو على ثلاثة أقسام:
أ) الخروج بناء على اعتقاد فاسد يخالف الكتاب والسنة.. يرى أصحابه فيه أن الحاكم قد سقطت ولايته، ويقاتلونه عليه، ويرون قتالهم عليه ديناً.. ويكفرونهم ويكفرون من لم يقاتلهم.. وهؤلاء كالخوارج والإمامية الاثني عشرية التي لا ترى صحة الإمامة في غير الاثني عشر، ويكفرون من تولاها غيرهم أو طاعهم.
ب) الخروج بالسلاح بقصد شرعي وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. لا لغرض منازعة الحاكم سلطانه.. وهذا أخف جُرماً من الأول.. وهو خطأ وقد وقع فيه بعض السلف، لكن لا يكون خروجهم مبرراً ومسوغاً على الخروج لأنهم ندموا على الخروج ([24]).
قال ابن تيمية - رحمه الله -: " كل أولئك خرجوا غضباً للدين من أجل جور الولاة، وترك عملهم بالسنة النبوية، وهم طلاب حق.. غير أنهم مخطئون فيما فعلوا، وقد تبين لهم خطأهم فهم لم يحمدوا ما فعلوه من القتال آخر الأمر " ([25]).
وقال ابن تيمية - رحمه الله - في موضع آخر: " فهؤلاء وإن عُذروا وعُرفت مراتبهم من العلم والدين.. فلا يجوز ترك ما تبين من السنة والهدى من أجل تأويلهم " ([26]).
ج) الذين يخرجون على الأمير لقاعدتهم في الخروج على الظلمة في نظرهم مع عدم مراعاة المفاسد الكثيرة المترتبة على الخروج.
تنبيه:
وهنا بعد هذا التفصيل لا بد أن نفهم أمرين:
الأمر الأول: أن القول بعدم جواز الخروج على جماعة المسلمين أو ولي الأمر المسلم.. لا يعني فيه البدء بقتال الخارجين، أو مطاردتهم... حتى يرفعوا السلاح، ويجاهروا بالبغي، لكن قبل أن يستخدموا السلاح.. فالحوار معهم هو الصواب.. كما فعل علي بن أبي طالب - رضي الله عنهم - مع الخوارج بإرسال ابن عباس - رضي الله عنهم - لحوارهم ومناظرتهم.
كما أنه لا يكون مسوغاً للتمادي في المنكرات الظاهرة أو السكوت عليها، والطاعة لهم في المعصية.
بل يجب على الوالي أن يغير المنكرات التي تكون سبباً لوقوع مثل هذه الفتن؛ لأن هذه أمانة عليه تجاه الرعية، وأن يكون معيناً لأهل العلم والخير في درئها، ويسهل لهم مهمة النصيحة له ولمن دونه..
الأمر الثاني: أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الواجب فيه أن يكون على علم وبصيرة قبله، ورفق ولين أثناءه، وصبر بعده ([27]).
فلا يعني قولنا بعدم الخروج أن تلغى هذه الشعيرة الإسلامية الواجبة على الأمة، ولا يعني هذا التهرب من مسئولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر الخير في المجتمع.
إنما كان المنع من الخروج لما يترتب عليه من مفاسد ومنكرات أعظم مما هو حاصل، والنصيحة لولاة الأمر بالرفق واللين مطلوبة، لا بمنازعتهم سلطانهم.
كيف يتعامل الوالي مع الخارجين على جماعة المسلمين:
لا بد أن يتعامل معهم بمقتضى الشرع، وبما تتحقق به مصلحة جماعة المسلمين كما يأتي:
1) التثبت في خروجهم، والتدرج معهم: بأن يبدأ بمراسلتهم، أو إرسال الوجهاء والعلماء لمعرفة الدافع لخروجهم، فيحقق لهم ما يذكرونه من مطالب مشروعة، ويرفع ما عليهم من مظالم.
2) حوارهم ومناقشتهم: بأن يخول لهم من يكشف لهم شبهاتهم التي دعتهم للخروج، ويبين لهم الصواب من الكتاب والسنة.
وهذا هو نفس صنيع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - مع الخوارج إذ راسلهم، وأرسل لهم ابن عباس - رضي الله عنهما - لمناظرتهم فأبطل حجتهم وعاد منهم أربعة آلاف.
3) إذا طلبوا الإمهال أمهلهم ـ ما لم يتأكد له أنها منهم مكيدة ـ ويمهلهم اليومين والثلاثة.. مع تخولهم بالموعظة، والدعوة لهم إلى الرجوع.. مع تخويفهم من آثار القتال.
وإن طلبوا أكثر من ذلك بحث عن السبب، فإن كان القصد منهم جمع الأنصار والتقوي من أجل القتال لا يمهلهم، ولو بذلوا المال لما في ذلك من الضرر والفتنة ([28]).
وعلى هذا: له أن يطلب منهم تسليم السلاح إن كانوا قد حملوا السلاح، والنزول من الحصون إن كانوا متحصنين..، والرجوع إلى البلدة إن كانوا قد خرجوا منها.. وغير ذلك مما يعين على دفع الفتنة.
4) القتال لهم: فإن لم ينفع معهم هذا كله، وأصروا على الخروج، وبدؤوا بالقتال.. قاتلهم لقوله - تعالى -: (فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي).
ففي هذه الحالة وجب على ولي الأمر تفريق جمعهم، أو قتالهم دفعاً لضررهم وفتنتهم بقدر ما تتحقق به درء المفسدة، وكف أذاهم.. ولا يقاتلون بسلاح يعمُّ ضرره على الآخرين، أو ممتلكات غيرهم.. كالسلاح الفتَّاك.. إلا إذا رأى ولي الأمر بعد مشورة أهل الأمانة والعدل أن خطرهم يستدعي ذلك فستخضع القضية للواقع.
ولا يجهز على جريحهم، ولا يتبع من فرَّ منهم، وأما مَن وضع السلاح، أو وقع أسيراً.. فإن دخل في الطاعة أُطلق بشرط أن يكون قد هُزم أصحابه، وإن لم يدخل في الطاعة حُبس مع الوعظ له حتى ينتهي شر الطائفة، ولا يجوز أن يُستعان عليهم بكافر ([29]). والله أعلم.
آثار الخروج على جماعة المسلمين في الحال والمآل:
الخروج على جماعة المسلمين يمثل خطراً عظيماً على المجتمع المسلم، ويُعد عاملاً كبيراً لضعف كيان الأمة المسلمة، وذهاب ريحها.. وله آثاره وأضراره.. سواء على المجتمع المسلم ومصالحه، أو على الدين وضرورياته.. وسأتناول هذه الآثار في كل من (الخروج على الحق ببدعة مضلة، أو الخروج على ولاة الأمر) كما أن في الخروج مخالفة لنصوص الاجتماع، والأمر بالطاعة، والبقاء مع الجماعة.. فإن هناك آثاراً سيئة عاجلة وآجلة.
آثار الخروج على جماعة المسلمين في الحال:
أولاً ـ الاستهانة بدماء وأموال المسلمين، واستتباب الخوف مكان الأمن.
قال الإمام القرطبي ـ في مفاسد الخروج على إمام المسلمين ـ أن فيه: " استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء، وشن الغارات على المسلمين، والفساد في الأرض " ([30]).
ثانياً ـ تعطيل مصالح الناس من معاش و وظائف، وتجارات، وأسفار، ومدارس، وجُمَع وجماعات، وحج، وأمر بمعروف ونهي عن منكر.. وغير ذلك.
قال ابن تيمية: (وقل من خرج على إمام ذي سلطان إلا كان ما تولد على فعله من الشر، أعظم مما تولد من الخير) ([31]).
ولذلك (فلا يهدم أصل المصلحة شغفًا بمزاياها، كالذي يبني قصرًا ويهدم مصرًا)([32]).
ثالثاً ـ الاقتتال الداخلي الذي يؤدي إلى إضعاف الدولة المسلمة، وإنهاك قواها، وتدمير مقوماتها.. فيسهل على العدو الخارجي الاستيلاء عليها.
رابعاً ـ إيجاد الفرص المناسبة لإشعال فتيل الفتنة بين المجتمعات الإسلامية، ودخول المغرضين والمندسين في الصف الإسلامي... للقضاء على دول المسلمين، ومن ثم الاستيلاء عليها.
خامساً ـ أنها طريقة غير صحيحة لتغيير الولاة والحكام، أو تغيير الأوضاع المتردية.
يقول ابن تيمية - رحمه الله -: " ولعله لا يكاد يعرف طائفة خرجت على ذي سلطان، إلا وكان في خروجها من الفساد ما هو أعظم من الفساد الذي أزالته " ([33])
وقد جرَّب المسلمون الخروج فلم يروا منه إلا الشر:
1- خرج الناس على عثمان يرون أنهم يريدون الحق.. فكانت الفتنة الدائمة، وإسالة الدماء، وتفرُّق الكلمة.
2- ثم خرج أهل الجمل يرى رؤساؤهم ومعظمهم أنهم إنما يطلبون الحق، فكانت ثمرة ذلك بعد اللقيا، والتي أن انقطعت خلافة النبوة.
3- ثم اضطر الحسين بن علي إلى ما اضطر إليه فكانت تلك المحنة على آل البيت ـ رضوان الله عليهم ـ.
4- ثم خرج أهل المدينة فكانت وقعة الحرَّة المحزنة.
5- ثم خرج القرَّاء مع ابن الأشعث فماذا كان؟
6- ثم كانت قضية زيد بن علي، وعرض عليه الروافض أن ينصروه على أن يتبرأ من أبي بكر وعمر، فخذلوه، فكان ما كان ([34]).
وقد عدَّ أبو الحسن الأشعري خمسة وعشرين خارجًا كلهم من آل البيت ([35]) ولم يصل أيٍ منهم على مطلوبه.
ومن يراجع تاريخ اليمن يجد من تلك الأمثلة الكثير والكثير، ويتدبر ما وقع فيها من المفاسد، وخراب البلاد والعمران.. بين أبناء العمومة، أو أبناء وآبائهم.. حيث خرج تحت قاعدة الخروج على الظلمة معارضون لأئمة حاكمين بحجة أنهم ظالمون في وقت واحد يخرج عدد من الأئمة على من توفرت فيهم الشروط عندهم، ولكن زعموا أنهم من أهل الظلم فأهلك الحرث والنسل، وعم الفساد.
آثار الخروج على جماعة المسلمين في المآل:
أولاً ـ الاستهانة بالولاية العامة، وولاة الأمر، والنصوص الشرعية التي تحث على تنصيب الولاة أو عزلهم بالطرق المشروعة.
كما حصل في مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وقد عبر عن هؤلاء الخارجين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - حينما طُلب منه قبول البيعة فقال: " إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم.. فا هدؤوا عني وانظروا ماذا يأتيكم ثم عودوا " ([36]).
وقال ابن تيمية - رحمه الله -: "... وبهذا الوجه صارت الخوارج يستحلون السيف على أهل القبلة حتى قاتلت عليًا - رضي الله تعالى عنه - وغيره من المسلمين، وكذلك من وافقهم في الخروج على الأئمة بالسيف في الجملة " ([37]).
ثانياً ـ الغلو في التعامل مع حكام الظالمين، وتكفيرهم بدون برهان، ومن ثم تكفير المجتمع المسلم... واستباحة دمائهم، وأموالهم... بدون حق.
لأن الأصل في التعامل مع الحكام هو النصيحة، والصبر على جورهم لو جاروا، ومراعاة مصلحتهم من المفسدة، وطاعتهم في ما فيه طاعة لله - تعالى -، ومعصيتهم في معصية الله - تعالى -.. للنصوص الكثيرة الدالة على ذلك، وما استتب عليه أمر جمهور علماء الأمة.
قال القاضي عياض: (وقال جمهور أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين لا ينعزل ـ أي الحاكم ـ بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك بل يجب وعظه وتخويفه) ([38]).
ثالثاً ـ ترسيخ ثقافة ومفاهيم مرفوضة تقوم على أساس طائفي، أو عنصري.. في المجتمع المسلم. والصراع من أجل الوصول إلى السلطة والحكم، أو البقاء فيها.
رابعاً ـ إحياء الثارات العنصرية والطائفية بين الأسر الحاكمة. كما حصل بين بعض دول الإسلام.
خامساً ـ تكرار فتن التاريخ التي وقعت بسبب الخروج على ولاة الأمر.. وعدم الاستفادة من العبرة فيما حصل.
سادساً ـ فتح المجال أمام الطامعين بثروات المجتمع المسلم عن طريق الانشقاق داخل المجتمع، والتشطير.
سابعاً ـ الخلط بين مفهوم الجهاد الشرعي، والخروج على جماعة المسلمين.. إذ يعده البعض جهاداً بناء على أفكار خاطئة.
ومع ذلك المنع من الخروج.. فالواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم الطاعة في المعصية، ووجوب النصح بإزالة المنكرات بالكلمة الطيبة.