من طرف عبد العظيم عبد الفتاح 13/6/2010, 8:57 am
هذ[size=18]ة
السورة التي لاتتجاوز ثماني عشرة آية ، سورة جليلة ضخمة ، تتضمن حقائق
كبيرة من حقائق العقيدة والشريعة ، ومن حقائق الوجود والإنسانية . حقائق
تفتح للقلب والعقل آفاقاً عالية وآماداً بعيدة ، وتثير في النفس والذهن
خواطر عميقة ومعاني كبيرة ، وتشمل من مناهج التكوين والتنظيم ، وقواعد
التربية والتهذيب ، ومبادىء التشريع والتوجيه ، ما يتجاوز حجمها وعدد
آياتها مئات المرات !
وهي تبرز أمام الناظر أمرين عظيمين للتدبر
والتفكير .
وأول ما يبرز للناظر عند مطالعة السورة ، هو أنها تكاد تستقل
بوضع معالم كاملة ، لعالم رفيع كريم نظيف سليم ، متضمنة القواعد والأصول
والمبادىء والمناهج التي يقوم عليها هذا العالم ، والتي تكفل قيامه أولاً
،وصيانته أخيراً .. عالم يصدر عن الله ، ويتجه إلى الله ، ويليق أن ينتسب
إلى الله ..عالم نقي القلب ، نظيف المشاعر ، عف اللسان ، ، وقبل ذلك عف
السريرة ..عالم له أدب مع الله ، وأدب مع رسوله ، وأدب مع نفسه ، وأدب مع
غيره . أدب في هواجس ضميره . وفي حركات جوارحه ، وفي الوقت ذاته له شرائعه
المنظمة لأوضاعه ٍوله نظمه التي تكفل صيانته . وهي شرائع ونظم تقوم على ذلك
الأدب ، وتنبثق منه ، وتتسق معه ، فيوافي باطن هذا العالم و ظاهره ،
وتتلاقى شرائعه ومشاعره ، وتتوازن دوافعة وزواجرة ، وتتناسق أحاسيسه وخطاه
وهو يتجه ويتحرك إلى الله . ومن ثم لا يوكل قيام هذا العالم الرفيع الكريم
النظيف السليم وصيانته ، لمجرد أدب الضمير ونظافة الشعور ، ولا يوكل كذلك
لمجرد التشريع والتنظيم . بل يلتقي هذا بذلك في انسجام وتناسق . كذلك لا
يوكل الشعور الفرد وجهده ، كما لايترك لنظم الدولة وإجراءتها . بل يلتقي
فيه الأفراد بالدولة ، والدولة بالأفراد ، وتتلاقى واجباتهما في تعاون
واتساق .
هو عالم له أدب مع الله ومع رسول الله يتمثل هذا الأدب في
إدراك حدود العبد أمام الرب والرسول الذي يبلغ عن الرب ( يا أيها الذين
آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ، واتقوا الله ، إن الله سميع عليم )
هو
عالم له منهجه في التثبيت من الأقوال والأفعال والاستياق من مصدرها ، قبل
الحكم عليها ، يستند هذا المنهج إلى تقوى الله ، وإلى الرجوع بالأمر إلى
رسول الله ، في غير ما تقدم بين يديه ، ولا اقتراح لم يطلبه ولم يأمر به (
وأعلموا أن فيكم رسول الله ، لو يطعيكم في كثير من الأمر لعنتم )
وهو
عالم له نظمه وإجراءته العمليه في مواجهة ما يقع من خلاف وفتن ، تخلل كيانه
لو تركت بلا علاج . وهو يواجهها بإجراءات عملية منبثقة من قاعدة الأخوة
بين المؤمنين ، ومن حقيقة العدل والإصلاح ( إنما المؤمنين إخوة ، فأصلحوا
بين أخويكم ، واتقوا الله لعلكم ترحمون )
وهو عالم له آدابه النفسية في
مشاعره تجاه بعضه البعض ، وله آدابه السلوكية في معاملاته بعضه مع بعض : (
ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ، ولا
نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن ، ولا تنابزوا بالألقاب . بئس الاسم .
الفسوق بعد الإيمان . ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون )
وهو عالم نظيف
المشاعر ، مكفول المحرمات ، مصون الغيبة والحضرة ، لا يؤخد فيه أحد بظنة ،
ولاتتبع فيه العورات ، ولا يتعرض أمن الناس وكرامتهم وحريتهم فيه لأدنى
مساس : ( ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ، ولا
تجسسوا ، ولا يغتب بعضكم بعضا )
هو عالم له فكرته الكامله عن وحدة
الإنسانية المختلفة الأجناس المتعددة الشعوب ، وله ميزانه الواحد الذي يحكم
به الجميع ، إنه ميزان الله المبرأ من شوائب الهوى والاضطراب : ( ياأيها
الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى ، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا . إن
أكرمكم عند الله أتقاكم ، إن الله عليم خبير ) .
والسورة بعد عرض هذه
الحقائق الضخمة التي تكاد تستقل برسم معالم ذلك العالم الرفيع الكريم
النظيف السليم ، تحدد معالم الإيمان ، الذي باسمه دعي المؤمنين إلى إقامة
ذلك العالم : ( ياأيها الذين آمنوا ) ..ذلك النداء الذي يخجل من دعي به من
الله أن لا يجيب ، والذي ييسر كل تكليف ويهون كل مشقة ، ويشوق كل قلب فيسمع
ويستجيب .
وتكشف السورة في ختامها عن ضخامة الهبة الألهية للبشر . هبة
الإيمان التي يمن بها على من يشاء : ( يمنون عليك أن أسلموا . قل : لاتمنوا
علي إسلامكم . بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين )
فأما
الأمر الثاني الذي يبرز للنظر من خلال السورة فهو الجهد الثابت الذي تمثله
توجيهات القرآن الكريم والتربية النبوية الحكيمة لإنشاء تلك الجماعات
المسلمة ، التي تمثل في ذلك العالم الكريم النظيف السليم ، الذي وجدت
حقيقته يوماً على هذه الأرض ، فلم يعد فكرة مثالية ، ولاحلماً طائراً ،
يعيش في الخيال !
هذه الجماعة المثالية لم توجد مصادفة بل نمت كما تنموا
الشجرة الباسقة العميقة الجدور واحتاجت إلى صبر طويل وجهد بصير وإلى
معاناة تجارب واقعية مريرة ،مع التوجية لعبرة هذه التجارب ، وكانت الرعاية
الإلهيه لهذه الجماعة - على علم - لحمل الأمانة الكبرى وتحقيق مشيئة الله
في الأرض[/size] .