رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وسيد المرسلين.
وبعد:
للحجاب في تركيا قصة طويلة محزنة، تبدأ من قوانين أتاتورك، ولا تنتهي عند مروة قاوقجي، أو خير النساء (اسم زوجة رئيس الجمهورية عبد الله جول).
ذهبت (مروة قاوقجي) للدراسة في الجامعة، فلم يُسمَح لها بسبب ارتدائها الحجاب، فذهبت للدراسة في أمريكا بحجابها، ثم عادت إلى بلادها لتترشح في البرلمان وتفوز بمقعدٍ حَرَمها منه حرسُ العلمانية الأوفياء، وبسبب حجابها أيضاً، بل نُزِعت منها جنسيتها، فرحلت من جديد إلى أمريكا.
ومنذ ما يقرب من ثمانين عاماً، كان البوليس التركي يقوم بنزع الحجاب عن النساء بالقوة وعقابهن أحياناً، امتثالاً لقانون أتاتورك. وهلك أتاتورك واندثر قانونه، ولكن بقي منع الحجاب وحظره قائماً في مؤسسات الدولة الرسمية. وخلال عقود متتالية، طُرِد مئات العسكريين من الجيش بسبب ارتداء زوجاتهم للحجاب، وفُصِلت أعداد متزايدة من الموظفات في أجهزة الدولة بسبب الحجاب.
في عام 1987م، صدر قانون يمنع دخول المحجبات إلى الجامعات، ونُفِّذ القانون في أكثر من 80 جامعة تركية، فامتنعت كثير من الطالبات عن الذهاب إلى الجامعة، واحتالت بعضهن على القانون فارتدين شعراً مستعاراً بدلاً من الحجاب كما فعلت ابنة رئيس الجمهورية عبد الله جول، وبعضهن كُنَّ يخلعن الحجاب على عتبة الجامعة.
وقبل أشهر قليلة، وافق البرلمان التركي على تعديلات دستورية لمادتين في الدستور، ولم تشر التعديلات صراحة إلى الحجاب، ولكنـها أكـدت حق جميع المواطنين في الاستفادة من مؤسـسات الدولـة دون تميـيز، وأكـدت كـفالة حـق التعليم لجميـع المواطـنين ما دام أنهـم لم يخـالفـوا الدستور. وحسب هذه التعديلات يصبح منع المحجبات من دخول الجامعات غير دستوري، وهو ما أثار حفيظة حرس العلمانية ونقمتهم، فسارعوا إلى رفع الأمر إلى المحكمة الدستورية لتفصل فيه.
ومن المعروف أن الحرس العلماني التركي يتركز في الجيش والقضاء وإدارة الجامعات.
ولنا مع قضية الحجاب في تركيا وتداعياتها الأخيرة عدة وقفات.
الوقفة الأولى: لماذا الحجاب؟
إن العلـمانـيين فـي تركيا وغيرها لا يقصدون من مصطلح «الحجاب» ما يُقصد به شرعاً، بل يقتصر الحجاب حسب رؤيتهم على غطاء الرأس، فلو سحبت الطالبة غطاء الشعر منحسراً عن معظم شعرها إلى الخلف لَدخلت جامعتها بلا حـرج، ولو تركته يغطي معظم شعر رأسها ويكشف بعضه لما تمكّنت من الدخول.
إن الحجاب على الرغم من مكانته، لا يعدو أن يكون أمراً ضمن منظومة من الأوامر والنواهي الشرعية، فلماذا تركزت العداوة ضده على نحو لافت؟
إن أهمية الحجاب (وخطورته) في سياق الحرب على الإسلام؛ تكمن في كونه مظهَراً من المظاهر الإسلامية التي تُبرِز للعيان مدى ارتباط الشعوب الإسلامية بدينها ومستوى ذلك الارتباط، وهو مظهر يمتلك كغيره من المظاهر الإسلامية - القدرةَ على التذكير والإيقاظ والإنعاش لكل من لعِب الشيطان برأسه وأغْرته الشهوات أو أضلَّته الشبهات.
وعـندما زار صحفي ألماني مصر ومكث بها عدة أعوام أثـناء حـكـم عبد الناصر؛ كان الحجاب معياراً أساسياً يقيس به مسـتوى تأثـير الإسلام في حياة الشعب، فكتب يقول: «...ويكـفي أن تعلم أنه منذ عـشــريــن عاماً فقط كانت كل النساء تقريباً يرتدين الحجاب.أما اليوم؛ فإنه حتى في أكثر المناطق شعبية لم نعد نرى الحجاب»[1].
وألمح قرار المحكمة الدستورية الأخير إلى كون الحجاب من رموز الإسلام السياسي، وهو ما يهدد نظام الدولة العلماني؛ وهذا يؤكد خطورة المظاهر الإسلامية وشعبيتها وانتشارها على العلمانيين؛ إذ إن شعبية هذه المظاهر تعد بمنزلة استفتاء غير مباشر على النظام العلماني برُمّته، وربما تكون الخطوة التالية هي المطالبة باعتبار الإسلام ديناً رسمياً ومصدراً للتشريع.
إن كراهية العلمانيين للإسلام تقودهم إلى مسارات ومسالك يَبْدون فيها قِمماً في التفاهة والفراغ الذهني والبلادة العقلية، إنهم يطالبون المرأة بنزع غطاء رأسها، بينما يضعون عقولهم في حُجُب من الكراهية والرجعية إلى الكفر.. فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 64].
وإلا فكيف يمكن قبول مواجهة المحكمة الدستورية لتعديلات وافق عليها 411 نائباً برلمانياً مقابل رفض 103 نوّاب فقط؟ كما أن الحجاب ليس غريباً عن المرأة التركية، فنسبة المحجبات في تركيا لا تقل عن الثلثين، وحسب تصريحات بعض مسؤولي حزب العدالة تصل النسبة إلى 80% من النساء التركيات، ونسبة مماثلة من النساء تدعم رفع الحظر على الحجاب.
كما أن نحو 800 ألف طالبة جامعية يرتدين الحجاب ويمثلن 25% من إجمالي الطالبات الجامعيات في تركيا، بل إن نسبة المحجبات في حزب الشعب الجمهوري العلماني الذي أشعل الحرب الأخيرة تبلغ 41% من عضوات الحزب؛ إذن: في أيِّ جدار يضرب الحرس العلماني رؤوسَهم؟
إن العلمانية في تركيا جاءت كياناً مسخاً مستنسخاً من العلمانية الأوروبية، فهو أشبه ما يكون بـ (النعجة دوللي)، فاقِدٌ للقدرة على الاستمرار، ترتبط كينونته في الأساس بعداوته للإسلام، فلو التفت عن الإسلام إلى غيره لَهوى الكيان العلماني التركي تماماً، فهو يستمد حياته وبقاءه من نفث سمومه على كل ما هو إسلامي في تركيا، ويحتل الحجاب مكان الصدارة في لائحة العداء العلمانية.
الوقفة الثانية: إن حرب الحجاب في تركيا لا تؤتي ثمارها حلوة أبداً لمن يقودها، ففي كل مرة يصابون بخيبة وتراجع، ولِمَ لا ونحو 80% من النساء في تركيا محجبات بعد كل ما بذلوه من مجهودات خارقة وما سنوه من قوانين، فإن أغلبية النساء التركيات محجبات؟
وعندما وقف العلمانيون بصلابة ووقاحة رافضين دخول محجبة (مروة قاوقجي) للمرة الأولى إلى البرلمان، كانت عاقبتهم دخول محجبة أخرى قصْرَ الرئاسة نفسه بعد سنوات، وهي (خير النساء) زوجة عبد الله جول.
إن الحرس العلماني في تركيا وغيرها من البلاد الإسلامية يريد اجـتثاث الأمة من تاريخها وأصـولها، وهـو ما لا يمكن أن يحدث مهما حاولوا وبذلوا. لذا؛ فإن إعادة الأمور إلى نصابها الصحيح تقتضي التساؤل عن الأسباب التي دعت المرأة إلى التخلي عن حجابها، وليس عن الأسباب التي تدفع النساء إلى العودة إليه حالياً، فإن انحرافاً فرعياً في التاريخ لا يتجاوز سـبـعـيـن أو ثمانين عاماً (متوسط عمر رجل واحد) لا يمكن بحال أن يقضي على أصلٍ متجذِّر منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمان، كشجرة ضخمة أصلها ثابت وفرعها في السماء: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف: 8].
الوقفة الثالثة: الرافضون للإسلام في بلاد الإسلام يمثِّلون فئة ثابتة متكررة، تتغير في أسمائها وألقابها وتتوافق في أفكارها وطموحاتها، إنهم يتحرقون شوقاً لرؤية الإسلام في أبعد مكان من قلوب الناس وحياتهم، وتحتل المرأة المسلمة موقعاً مهماً في قائمة أهدافهم، فهي بالنسبة لهم وسيلة وغاية.
وهم يتدرجون في خطابهم (النسوي) ويتلونون بما يناسب حالهم، فهم في بلد يركزون على خروج المرأة وقيادتها للسيارة وكشفها لوجهها واختلاطها بالرجال في أماكن العمل والتعليم، وهم في بلد آخر ينادون بتحريم الختان وتأخير سن الزواج وتقليص قِوامة الرجل على زوجته، وفي بلد ثالث يطاردون حجاب «فلة» (دمية الأطفال) في المحالِّ والطرقات، وفي تركيا يحرِّمون ارتداء الحجاب في الجامعات: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران: 811].
إن مواجهة ما يحدث في تركيا تبدأ بالاستفادة من دروسه، وما لم يتعظ أهل الدين ودعاته ويأخذوا حِذْرهم ويشحذوا عزيمتهم؛ فإن ما يحدث في تركيا سيحدث في بلاد أخرى ولو بعد حين.
إن «مسرحية حرب الحجاب» ذات فصول عديدة، لكن فصولها من البداية وحتى النهاية تُعرَض جميعها في الدول الإسلامية، ومن أراد أن يتعظ بـ «فصله» فلْيراقب الفصل التالي في بلدٍ مجاور!.