شغل تاريخ المسلمين المرتبط بأرض فلسطين فكر الكثير من الباحثين اليهود، وأسست كليات ومراكز دراسات في الجامعات العبرية؛ للبحث، والدراسة، والتأليف، والتحقيق، والنشر في هذا المجال، بدءاً من البحث والدراسة في معجزة الإسراء بالنبي محمد - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، والأحاديث التي ثبتت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفيها فضل المسجد الأقصى والصلاة فيه ومكانة الأرض المباركة، وفضل شد الرحال إليها، والبشرى بفتحها، ومستقبل تلك الأرض المباركة، ثم بفتح عمر - رضي الله عنه - لأرض فلسطين وكتابة الشروط العمرية، وما تبع ذلك من شد الرحال، وإيقاف الأوقاف، والنشاط العلمي والحضاري في القدس وما حولها، وكذلك الحروب الصليبية، وكيف حررها المسلمون من الاحتلال الصليبي، وواقع الأمة الإيماني والمعنوي في عصرنا الحالي.
وكان اهتمامهم ونتاجهم بكل ما يتصل بالحركة الصَّليبية نتج عنها دراسات يفوق التصور، وذلك لما سكن في العقل الصهيوني من التشابه الصارخ بين التجربتين، وبين المشروعين الاستعماريين (المشروع الصليبي المشروع الصهيوني) والقاسم المشترك بينهما هو الأب الداعم الأوروبي الذي رأى في وجود المشروع الصهيوني قضية كبرى لمصلحته الإستراتيجية في المنطقة، وللإحساس العميق لدى الدارسين الإسرائيليين بالمصير الذي لاقته الحملات الصَّليبية في هذه البلاد، وهي (التجربة الصَّليبية) هي النموذج التاريخي الحي الذي يمكن استقراؤه وتمحيصه للاستفادة من تجربته، ولتلافي أخطائه التي عجلت بإنهائه (1)
"وشغلت الحروب الصليببة عدد كبير من العلماء والباحثين في إسرائيل، حتى أصبحت الجامعة العبرية من أهم مراكز الأبحاث الصَّليبية في العالم يستخرجون العبر من دراسة تلك التجربة التاريخية الحية لمجتمع أجنبي حل في البلاد المقدسة واستقر فيها قرابة قرنين من الزمن" (2)
والباحثون اليهود يدرسون تاريخ الحركة الصليبية، وطبيعة علاقات الصليبيين بشعوب المنطقة وعوامل النجاح التي حققت لهم الانتصارات الأولية، ثم عوامل الفشل والإخفاق التي أدت إلى رحيل الصليبين من المنطقة العربية ونهاية دولتهم.
حيث أنهم على قناعة أن هناك كثيراً من أوجه التشابه بينهما (الصليبيين الصهاينة)، فكلتا الحركتين استعماريتين استيطانيتين، تسربلتا برداء الدين، وارتكزت على مفهوم الخلاص، وكل من مملكة بيت المقدس اللاتينية وإسرائيل كيان غريب، يضم مجموعات بشرية متفاوتة الثقافات والدرجات الحضارية، زرع في أرض عربية اللسان، إسلامية الثقافة، مشرقية السمات، كما أن الصليبيين والصهاينة يشتركون في الاعتماد في كلتا الحالتين، فضلاً عن جوانب أخرى تشابه فيها الصليبيون والإسرائيليون، منها الطابع العسكري للمجتمع وتوظيف كافة موارد هذا المجتمع من أجل الحرب، ومنها العنصرية التي تختفي خلف ستار الدين، هذا التشابه هو الذي يغري الكثيرين من الدارسين اليهود بدراسة تاريخ الحركة الصليبية وتسخير نتائج دراساتهم في دارسة مستقبل الكيان الصهيوني (3)
والأعمال الأكاديمية والبحثية اليهودية تكاد لا تترك شاردة ولا واردة متعلقة بفترة فتح عمر - رضي الله عنه - للمقدس، وكذلك مرحلة الحروب الصليبية وما جرى بها من ظروف وأحداث.
والغريب في الأمر أن يحاول اليهود كتابة تاريخ فترة الحروب الصليبية!! وادعاء الوجود اليهودي في تلك الفترة، واختلاق معاناة عاناها اليهود في ظل الحروب والاحتلال الصليبي!! ووصفها وكأنها حروب عدوانية وقعت على الشعب اليهودي في فلسطين!! وذلك لقصد إثبات استمرار الوجود اليهودي على أرض فلسطين؛ فقد ساء الباحثون اليهود أن لا يذكر شيء عن اليهود قي فلسطين خلال الحروب الصليبية، ودفاعهم عن تلك الأرض المباركة!!
والكثير من نتائج البحوث اليهودية المتعلقة بالتجربة الصليبية تتحدث عن " دور يهودي" في المواجهة مع الصليبين، والزعم بأن معركة حطين على أنها" شأن يهودي" أيضا مثلما هي شأن عربي إسلامي.
وهذا ما حاول إثباته المؤرخ اليهودي "يهوشع براور" أيضاً في كتابه: "تاريخ مملكة القدس اللاتينية"، بل وصل لحد ذكر أسباب إخفاق الحملات الصليبية إلى " فرسان المعبد" وسرعة قراراتهم، وقبل أن يصل لهذه النتيجة وصف الغزو الصليبي كاستعمار أوروبي وكنوع من العدوان وقع على اليهود في فلسطين (4)
على الرغم أنهم لم يجدوا أي وثيقة أو مصدر عربي أو بيزنطي أو سرياني أو أوروبي أو لاتيني، ما يؤكد انه كان لليهود دور في الحروب الصليبية إلا أنهم استمروا في التزييف والاستخفاف بعقول البشر.
وحول دوافعهم في دراسة هذا التأريخ كتب الصحفي والباحث / "صالح محمد النعامي" (5) على موقعه الشخصي (6) مقال بتاريخ 22/10/2009 م، بعنوان: "عمر بن الخطاب يقض مضاجع الصهاينة من قبره" (7)؛ جاء فيه: " تيدي كوليك رئيس بلدية الاحتلال في مدينة القدس الأسبق الذي توفي قبل عامين، والذي يعتبر أحد أبرز قادة الحركة الصهيونية على الإطلاق، ولم يكتسب كوليك مكانته الكبيرة في سلم القيادة الصهيونية بفضل جهوده في مجال تهويد مدينة القدس فقط، ومسؤوليته عن مضاعفة مساحة المدينة عدة مرات منذ العام 1967 ببناء المزيد من الأحياء الاستيطانية، بل أيضاً بفضل سجله الكبير في العمل الأمني والاستخباري، علاوة على حقيقة أنه كان أوثق مستشاري رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول دفيد بن غوريون".
وكان قد كشف النقاب صديقه رجل الأعمال يوسي أهارونوش الذي قال في مقابلة مع إذاعة الاحتلال باللغة العبرية: " أن كوليك أقبل في السنوات الأخيرة بعدما أنهى منصبه كرئيس للبلدية على دراسة تاريخ المدينة، حيث أن أكثر ما أصابه بالفزع هو نجاح المسلمين في فتح المدينة وبقية فلسطين في زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وأرضاه، وتمكن المسلمين من الحفاظ على المدينة لقرون طويلة. وينوه أهارونوش إلى أن كوليك توقف ملياً عند حرص عمر بن الخطاب على القدوم شخصياً لتسلم مفاتيح القدس، معتبراً أن هذه الخطوة الذكية تجعل الأجيال المسلمة حالياً وفي المستقبل ملتزمة بالعمل على إعادة تحرير المدينة وطرد الإسرائيليين منها، علاوة على أن خطوة عمر مثلت مصدراً لأسلمة القضية الفلسطينية، ويضيف أهارونوش إلى أن دراسة تاريخ المدينة المقدسة جعلت كوليك قبل وفاته أقل ثقة بمستقبل المشروع الصهيوني".
وتحت عنوان: " حتى لا يولد صلاح الدين من جديد" (8) كتب أيضاً صالح النعامي عن الجنرال شلومو باوم الذي يوصف بأنه أسطورة الجيش الإسرائيلي، وكان يعتبره رئيس الوزراء الإسرائيلي الأول دفيد بن غوريون " مفخرة الدولة اليهودية "، بينما كتب عنه أرئيل شارون أنه " آلة حرب متحركة تتجسد في جسم بشري ".
يقول شلومو باول: " عندما حلت ذكرى وفاته نشر الكاتب الإسرائيلي حاييم هنغبي مقالاً في صحيفة " معاريف " كشف آفاقاً أخرى في شخصية باوم، حيث يشير أنه لكثرة ما سمع من إطراء على باوم قرر التعرف عليه بعد تسرحه من الجيش للتعرف على الدوافع الكامنة وراء " معنوياته العالية، وشعوره المطلق بعدالة ما يقوم به ".
ويضيف هنغبي أنه عندما توجه إلى باوم في شقته، وجد إنساناً آخر غير الذي سمع عنه، وجد شخصاً قد تملكه الخوف واستولى عليه الهلع واستبد به القلق، ويشير إلى أنه عندما سأله عن سر دافعيته الكبيرة لقتال العرب وحرمان نفسه في سبيل ذلك الراحة لعشرات السنين، فإذا بباوم يصمت هنيهة، ثم يقوم من مجلسه ويحضر ملفاً كبيراً يأخذ بتقليب صفحاته، ثم يقدمه لهنغبي، ويقول: "هل سمعت عن الحروب الصليبية، هل سمعت عن معركة حطين، هل سمعت عن شخص يدعى صلاح الدين".
يقول هنغبي: "عندها قلت له مستنكراً: لكن العالم العربي الآن في أقصى مستويات الضعف في كل المجالات "، فيضحك باوم ساخراً، ويقول: " لقد كانت أوضاع المسلمين قبل معركة حطين تماثل من حيث موازين القوى أوضاع العرب حالياً "، وقال باوم: " أن أكثر ما أزعجه من دراسة تاريخ الحروب الصليبية هو قدرة صلاح الدين على بعث نهضة العرب من جديد وتنظيم صفوف قواته بعكس المنطق الذي تمليه موازين القوى العسكرية ".
ويواصل باوم شرح مخاوفه كما رواها هنغبي قائلاً: " منذ عشرين عاماً وأنا أحاول رصد الأسباب التي جعلت المسلمين يحققون هذا النصر الأسطوري وفق منطق العقل والتحليل العسكري، وأن ما جعلني أتعلق بالحرب هو حرصي على أن أقوم بكل شيء من أجل عدم تهيئة الظروف لمولد صلاح الدين الأيوبي من جديد، إنني أعيش في خوف دائم على المشروع الصهيوني" (9)
ولا شك أن الباحثين اليهود يولون الصليبيات عناية فائقة، يرون فيها الحركة الرائدة والتجربة السالفة، فالغزو الصهيوني يشبه في غزوه واحتلاله الغزو الصليبي، يهتمون بالمشكلات التي واجهت الصليبيات، الأمن، الاستيطان، العمائر والمستوطنات الحربية، نقص في الطاقات البشرية، يدرسون الموقف في الشرق العربي الإسلامي، وهناك فرق عمل كاملة في الجامعات العبرية تخصصت في دراسة الحروب الصليبية، "يهوشع بروار" " ميرون بنفينستي "، " بنيامين أربل "، " آرييه جرابوس "، " يأئيل كاتزير "، والقائمة طويلة، يكتبون بالعبرية والإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والروسية، ويتابعون ما يُنشر عن الصليبيات في العالم أجمع، ويشاركون في الجمعيات العلمية المهتمة بدراسة الصليبيات مثل: جمعية دراسة الحروب الصليبية والشرق اللاتيني بإنجلترا، الصليبيات في حد ذاتها لا تهمهم، وإنما يهتمون بها باعتبارها نقلة بين الحركة الصهيونية والمستقبل، إسقاط التاريخ على الواقع المستقبلي، درسوا القلاع الصليبية ونظم التحصين الصليبي في مرتفعات الجولان، حللوا رحلات الحجاج والتغير في الرؤية للأرض المقدسة، درسوا الجغرافيا التاريخية لفلسطين إبان الحروب الصليبية، وتاريخ اليهود والأحياء اليهودية والاستيطان الصليبي، والإقطاع وقوانين الإدارة والتجارة والحدود،... والسقوط المفاجئ لمملكة بيت المقدس وطرد آخر بقايا الصليبيين غداة سقوط عكا، هذه المسألة في الماضي، وممتدة في المستقبل (10)
وقامت الجامعة العبرية في القدس والمكتبة الوطنية بتوفير جميع تلك الدراسات والمؤلفات للباحثين والدارسين، ولا بدع في ذلك فمكتبة الجامعة العبرية من المكتبات الهامة جداً والعريقة، وفيها من الكتب ما لا يوجد في غيرها حيث تجاوزت محتوياتها من الكتب العربية المليوني كتاب عدا عن الكتب باللغات الأخرى، وفيها من المخطوطات العربية الكثير، وبالذات ما تم الاستيلاء عليه من خزائنها الأصلية، ودور أصحابها التي صودرت أثناء النكبة سنة 1948م.
أيضاً يوجد فيها معظم المخطوطات العربية الهامة على المصغرات الفيلمية (ميكروفيلم وميكروفيش)، وهناك أرشيف لدورٍ تحتفظ بمئات الألوف من الوثائق، فلا عجب حينما يتصدون لدراسة تلك الحقبة وتلك الفترة (11)
وضمن محاضرة قيمة للدكتور المؤرخ شاكر مصطفى ألقاها في ندوة دمشق بمناسبة مرور ثمانمائة سنة على معركة حطين. وفي معرض حديثه عن كتاب" الإسلام والصليبيات" للمستشرق والباحث الإسرائيلي عمانوئيل سيفان، يقول: " تبين أن زاوية اهتمام الصهيونيين محصورة في نقطة وحيدة هي: كيف تم طرد الصليبين من هذه البقاع نفسها التي يحتلونها. لهذا لا يهمهم بحث ما قتلة الغربيون بحثا، ولكن تهمهم الرمال المتحركة تحت الغزاة في فلسطين وحول فلسطين، إنهم يدرسون معنى الجهاد وكيف استيقظ في المشرق العربي ومدى حيويته في الشام بالذات، وتأثير فكرة الجهاد قبل الصليبيات وخلالها وبعدها. يحللون مدى قدسية القدس وعناصرها في نفوس المسلمين وردود فعلهم ضد الاحتلال الغريب (12)
ومن الكتب التي يدرسها الباحثون اليهود، تلك الكتب التي تتحدث في فضائل الشام، الكتب التي تتحدث في فضائل الشام والقدس ومقارنتها بمكة والمدينة(وتصل إلى خمسة وثلاثين كتابا) منها: زيارة القدس" والكنجي الصوف" فضائل بيت المقدس وفضل الصلاة فيها " وشهاب الدين القدسي" مثير الغرام في فضائل القدس والشام" وأبي إسحق إبراهيم المكناسي " فضائل البيت المقدس" وعز الدين السلمي" ترغيب أهل الإسلام في سكنى الشام" وابن المرجي" فضائل المقدس والخليل" (13)
فدراسة تاريخ القدس بكل مراحله وعهوده هدف ينشده الباحثون اليهود، وهو لا يخفى على من عرف حقيقة الصراع على أرضنا المباركة؛ لأن بمعرفتهم الماضي واستخلاص دروسه يوصلهم لمعرفة الواقع والمستقبل، فاهتمامهم بالمستقبل، دافعه تخفيف حالة القلق من الوجود الفلسطيني للوصول إلى حالة من الاطمئنان الذاتي.
ويعبر يوري أفنيري في كتابه" إسرائيل بدون صهيونية" عن المكنون الإسرائيلي العام بشأن التماثل بين الماضي والحاضر، ويخصص فصلاً في كتابه للمقارنات بين " الصهيونيين والصليبين" معدداً أوجه التشابه التي يجدها مثيرة للغاية، ومبيناً أن الصليبين بعد أن حاربوا طيلة ثمانية أجيال، وجدوا أنفسهم في النهاية وقد القوا في البحر من قبل العرب، وهنا يبدوا مفهوماً لما يتوجس الإسرائيليون من أن يصل التشابه إلى حد مواجهة المصير ذاته -الاندحار- فيدعو أفنيري إلى ضرورة أ تأخذ إسرائيل العبرة من التجربة الصليبية (14)
وكتابة التاريخ بهوى يهودي خطر كبير، حيث التاريخ وللأسف يكتبه القوي المنتصر!!، وأما الضعيف المغلوب على أمره، لا يكتفي بأن يعيش بهزيمته وآلامه، بل عليه أن يرضى ويصدق بهذا التاريخ، ويقبل بسرد الوقائع التي وقعت أمام عينه بصور مغايرة للحقائق، انطلاقا من المقولة " التاريخ صنع المنتصرين "!!.
وأقول بألم: أن"تاريخ القدس بين تضليل اليهود وتضييع المسلمين" هذا هو العنوان الأجدر كتابته لنلخص دور المؤسسات اليهودية والمستشرقين في نشر الأبحاث المضللة والكاذبة والمخادعة من أجل تحقيق أهدافهم الخبيثة لتشويه التاريخ والتشكيك في كل ما هو ثابت من أحداث تاريخية أو أحاديث نبوية أو آيات قرآنية فيعملون على تأويلها.
بعد أن حاول اليهود كتابة تاريخ فترة الحروب الصليبية، وادعاء الوجود اليهودي في تلك الفترة، واختلاق معاناة عاناها اليهود في ظل الحروب والاحتلال الصليبي، ووصفها وكأنها حروب عدوانية وقعت على الشعب اليهودي في فلسطين، وذلك لقصد إثبات استمرار الوجود اليهودي على أرض فلسطين، فقد ساء الباحثون اليهود أن لا يذكر شيء عن اليهود في فلسطين خلال الحروب الصليبية، ودفاعهم عن تلك الأرض المباركة ومحاولة إثبات "دور يهودي" في المواجهة مع الصليبين، والزعم بأن معركة حطين على أنها "شأن يهودي" أيضاً مثلما هي شأن عربي إسلامي.
الغريب أن يمتد هذا التزييف والتحريف ليصل إلى أيامنا المعاصرة، حيث قال مناحييم بيغن: "أننا نحن الذين حررنا البلد من الحكم البريطاني، وأقمنا استقلالنا في أراضينا لصالح كافة الأجيال المقبلة"(15) ويعني بذلك: أن اليهود حرروا فلسطين من الاحتلال البريطاني (1918- 1948م) وتناسي هذا المخرف الدور البريطاني في تمكين اليهود على أرض فلسطين، ووعد بلفور، وإقامة المغتصبات على الأرض المباركة، وتسليحهم.
مقولات تصل إلى حد الترهات، ولنسأل ذلك المخرف: من الذي تولى تسهيل الهجرة اليهودية وتنشيطها، والأخذ بيدها، وإسكانها في فلسطين؟! ومن الذي كان يتصدى لأهل فلسطين ومقاومتهم الهجرة اليهودية؟! ومن الذي سلّح هؤلاء المغتصبين من اليهود، وبنا لهم المغتصبات، وأقام لهم القلاع المدججة بالسلاح؟! ومن الذي كان يفك الطوق عن المغتصبات التي شيدها في ظل احتلاله - الذي أسموه زوراً انتداب - حينما يقاومها أهل فلسطين؟!
ومن الذي أسكت وتصدى خلال احتلاله لأرض فلسطين (1918-1948م) خمس عشرة ثورة خلال ثلاثين عاما؟! ومن الذي تولى بقواته ودماء أبنائه الدفاع عن الجالية اليهودية؟! ومن الذي حمي الهجرة اليهودية، ومكِّن اليهود من الاستيلاء على الأرض العربية؟!
أليست بريطانيا التي تدعي يا بيغن أنكم حررتم أرض فلسطين منهم هي التي مكنتكم ومدتكم بكل مقومات الوجود المعاصر على أرض فلسطين؟ ألم تكن اليد البريطانية هي التي كانت تعمل على إجلاء العرب عن أراضيهم وتسلمها إلى اليهود خالية من أهلها وبيوتها ومساجدها ومقابرها؟!
ألم يتمكن اليهود عن طريق التحايل والدعم البريطاني والالتفاف على القوانين والأنظمة العثمانية التي كانت تمنع حيازة اليهود للأراضي في فلسطين، وزرع الموظفين العملاء والسماسرة الخونة، من اقتناص 650000 دونم بحجة إنعاش الزراعة وبناء المستشفيات والجامعات، خلال الفترة الممتدة من 1850م إلى 1920 م (16).
ومن الذي وعد اليهود في عام 1917م جعل فلسطين وطناً قومياً لليهود ؟! ومن الذي عمل لتحقيق هذا الوعد ووضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني؟!(17) الذي قَدَّمَ كامل التسهيلات للنفوذ والهجرة اليهودية؟! وكان العرب حينذاك يُشكلون 95 % من السكان، ومن الذي عين اليهودي "هربرت صموئيل" (18) في عام 1920م منصب المندوب السامي البريطاني في فلسطين؟!
ألم تسمع يا بيغن بالكتاب الأبيض، والذي أصدره ونستون تشرشل وزير المستعمرات البريطاني في يونيو 1922 وأكد فيه أن الشعب اليهودي موجود في فلسطين كحق لا كَمنّةٍ ووعد بمنحِ البلاد حُكماً ذاتياً، ونوه بضرورة زيادة عدد اليهود بالمهاجرة" (19).
وهل كان اليهود يملكون أكثر من 1% فقط من مساحة فلسطين عند بداية الاحتلال البريطاني؟! ثم فتحت بريطانيا خلال احتلالها لفلسطين عام 1918- 1948م الأبواب للهجرة اليهودية، فتضاعف عدد اليهود من 55 ألفاً سنة 1918 إلى 646 ألفاً سنة 1948 - أي من 8% إلى 31% من السكان - كما دَعَمَتْ تَمَلُّكَ الأراضي فتزايدت مِلكيَّةُ اليهود للأرض من نحو نصف مليون دونم - 2% من الأرض - إلى نحو مليون و800 ألف دونم - 6. 7% من أرض فلسطين (20).
ألم يتمكن اليهود تحت حماية الحراب البريطانية من بناء مؤسساتهم الاقتصادية والسياسية والتعليمية والعسكرية والاجتماعية، وفي سنة 1948 كانوا قد أَسَّسُوا 292 مُستعمرة " (21).
ألم تقرأ الإحصاءات الرسمية التي وثقت مجموع ما استولى عليه اليهود إلى يوم انتهاء الانتداب البريطاني في 15 مايو 1948 بنحو مليوني دونم أي نحو 7% من مجموع أراضي فلسطين (22).
ألم يؤكد "روجيه غارودي": أن الصهاينة أيام وعد بلفور عام 1917 م كانوا لا يملكون إلا 2. 5 % من الأراضي، وعندما تم تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، كانوا يملكون 6. 5 % منها" (23)
ولعلك يا بيغن لم تسمع بهنري فورد، المليونير العالمي في كتابه: اليهودي العالمي الذي أكد "أن إدارة الانتداب البريطاني كانت يهودية، ومن المتعذر على أي ناطق يهودي مهما افتقر إلى الشعور بالمسؤولية أن ينكر الحقيقة الواقعة، وهي أن: إدارة فلسطين يهودية، فالحكومة فيها يهودية، وإجراءات العمل يهودية، والأساليب المستعملة يهودية، ولا ريب في أن فلسطين تقدم الدليل على ما يفعله اليهود عندما يصلون إلى الحكم" (24)
ويضيف تحت عنوان "اقتناص الأراضي" أنه: " لو عرف العالم حقيقة الأساليب التي اتُّبعت لاغتصاب أراضي فلسطين من أهلها العرب في الأيام الأولى من الغزو الصهيوني، أو لو سُمِحَ لهذا العالم بمعرفتها، لَعمَّه السخط والاشمئزاز، ولا ريب في أن هذه الأساليب كانت تجري بمعرفة صموئيل المندوب السامي اليهودي وتأييده " (25)
لاشك أننا أمام تزييف حقيقي للتاريخ المعاصر، حيث أصبح الكذب على تاريخ هذه الأمة وتزييف حقائقه الماضية والمحاضرة خطاً مستمراً ينمو مع الأيام، نعم كان ساذجاً في البداية، ولكنه تعقد مع الزمن، فأصبحت له قواعده وأصوله وأساتذته ومراكزه وجامعاته.
والتأريخ الذي نحن بحاجة له لا تأريخ اليهود والصهاينة، ولا المؤرخون الجدد" (26)، ولكننا بحاجة إلى تاريخ عربي إسلامي للأحداث المعاصرة، وبحاجة إلى رواية ووثائق عربية رسمية تقدم للباحثين والمؤرخين.
وبحاجة إلى روايات دقيقة موثقة؛ لدحض أكاذيب اليهود التي انطلت على الكثير، بل أصبحت مسلمات لا مجال لإنكارها، أو التشكيك فيها، وهذا ما يدعونا إلى معرفة التحدي الذي نواجهه، تاريخ يسرق، ويتم الاستحواذ عليه قطعةً قطعة، وحجراً حجرا، إنهم يعاقبون أمتنا بالتدمير والتفكيك، وسرقة ذاكرتها، وسلب روحها، وتحويلها إلى أمة بلا تاريخ.
حقاً إنكم يا يهود بارعون في الكذب والتزييف والتحريف، والحقيقة المُرّة أن: مأساة فلسطين، وما حل بأهلها "تاريخ لم يُكتبْ بعد"، فما حدث في فلسطين من اقتلاع شعب من أرضه، وإحلال شتات اليهود في مساكنهم وممتلكاتهم وأرضهم، وهم لا يزالون يحملون مفاتيح بيوتهم، وينتظرون العودة لها...، ما زال يدور حول هذا التاريخ الكثير من الأكاذيب؛ لأنه إن كُتب فَيُكتبُ بأيدٍ يهودية مُنطلقها: "إذا أردت أن تقتلَ عدواً لا تُطْلق عليه رصاصةً بل أُكذوبة" (27)
ما سبق يوضح الأسباب التي تدفع الباحثين والمستشرقين الصهاينة إلى التوغل في أعماق غابات الكتب الصفراء، قراءةً وتحقيقاً واستخلاصاً، واليهود يدركون أن النصر قادم للمسلمين، ويعملون لإبعاد موعده ما استطاعوا، ولا شك أن سيرة قادة المسلمين الذين حققوا فتحاً ونصراً في القدس، وفلسطين تؤثر في عقول قادة اليهود وباحثيهم ومؤرخيهم، لهذا درسوا سيرهم، وأحوالهم، وسر نجاحهم، وتحقيقهم النظر، والظروف والبيئات التي عاشوا فيها.
ونؤكد أن الأغراض الدعائية والتضليلية التي انتهجها الباحثون اليهود في حشر اسم اليهود، وإقحامهم في المواجهة مع الصليبين والبريطانيين؛ ليظهروا كما لو أنهم كانوا طرفاً رديفاً للعرب المسلمين في هذه المواجهة، دفعتهم إعادة كتابة التأريخ وصياغته من جديد، فالإسلام، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وصلاح الدين الأيوبي - رحمه الله - يمثلون رُعباً حقيقياً لليهود، ويخشون أن يضاف لأسمائهم أسماً جديداً يجدد أمر الدين في النفوس، ويحرر الأرض المسلوبة، والمسجد الأقصى من براثن اليهود.
لذا عمل الباحثون اليهود جهدهم للتشكيك في سيرهم، وفتوحهم، ومكانتهم، وادعى بعضهم أن عمر- رضي الله عنه - لم يفتح بيت المقدس، ومنهم من زعم أن لليهود لهم دور في رد الحروب الصليبية، ومصيبة يهود اليوم كما هم يهود الأمس أن صفاتهم التي تأصلت في نفوسهم ما دموا يهود ثابتة في أوضح وأفضح كتاب فضح اليهود، وكشف سوآتهم، وعرى مخازيهم، ولله الحمد أن هذا الكتاب خالد باقٍ محفوظ من التحريف والتبديل، يتلى آلاء الليل وأطراف النهار، باقياً وفاضحاً لليهود، وهو القرآن الكريم، والذي بلغ فيه الحديث عن بني إسرائيل واليهود في نحو خمسين سورة من سور القرآن الكريم.
1 - عبد الطيف زكي أبو هاشم، أوجه التشابه بين صليبي الأمس ويهود اليوم، مجلة بيت المقدس للدراسات، العدد الأول يناير 2006، ص 34.
2 - انظر: مقدمة كتاب " فوشيه الشارتري" (تاريخ الحملة إلى القدس) ترجمة: د. زياد العسلي، ص5.
3 - قاسم عبده قاسم؛ رؤية إسرائيلية:، ص248-50؛ بتصرف.
4 - للاستزادة: أنظر الإستشراق، ص 229، د. قاسم عبده قاسم في ندوة الحروب الصليبية ومستقبل الصراع، ص 96
5 - متخصص في الدراسات الصهيونية والعبرية، ومترجم العديد من المقالات واللقاءات والكتب من العبرية إلى العربية.
6 - وعنوان الموقع على الشبكة العالمية " الانترنت: " www.naamy.net
7 - ونشرت المقال عدة مواقع صحافية وإسلامية منها موقع طريق الإسلام www.islamway.com، وصحيفة أويا الليبية في 30/10/2009م.
8 - صحيفة أويا الليبية في 30/10/2009م. وموقع الكاتب والباحث الصحفي "صالح محمد النعامي" على الشبكة العالمية " الانترنت: " www.naamy.net
9 - من مقال بعنوان "عمر بن الخطاب يقض مضاجع الصهاينة من قبره"، للباحث والصحفي / صالح محمد النعامي، نشر في 22/10/2009 م، " www.naamy.net، ومواقع أخرى متعددة.
10 - عبد الطيف زكي أبو هاشم، أوجه التشابه بين صليبي الأمس ويهود اليوم، مجلة بيت المقدس للدراسات، العدد الأول يناير 2006، ص 44.
11 - المصدر السابق، ص 47.
12 -إبراهيم عبد الكريم، الاستشراق وأبحاث الصراع لدى إسرائيل، ص 230.
13 - الاستشراق، ص 231.
14 - الاستشراق، ص 233.
15 - من خطاب مناحيم بيغن رئيس وزراء الكيان الصهيوني - الموجه إلى مصر الشعب المصري في 11/11/1977 م بعدما أعلن السادات استعداده لزيارة القدس، انظر: خرافات يهودية لأحمد الشقيري، ط الكترونية، ص 16.
16 - انظر للاستزادة: فلسطين وأكذوبة بيع الأرض، لـ عيسى القدومي، ص 21-33، تهويد فلسطين، إعداد وتحرير إبراهيم أبو لغد، ص 140. د. هدى درويش، العلاقات التركية اليهودية وأثرها على البلاد العربية، ص 177. د. هند البديري، أراضي فلسطين بين مزاعم الصهيونية وحقائق التاريخ، ص 38-140. وكذلك الفصل الثالث بأكمله.
17 - وهي في الواقع حكومة احتلال وليست انتداب، وُجدت لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين تنفيذًا لوعد بلفور.
18 - "هربرت صموئيل": هو أحد أبرز صهاينة بريطانيا، وأحد صانعي وعد بلفور، وقد كان وزيرا للداخلية البريطانية عند إصدار وعد بلفور.
19 - "الوثائق الرئيسة في قضية فلسطين" المجموعة الأولى 1915 1946، إصدار جامعة الدول العربية القاهرة 1957 م.
20 - د. محمد محسن صالح، الحقائق الأربعون في القضية الفلسطينية، إصدار صحيفة السبيل الأردنية، الطبعة الأولى 1425، عمان، هـ- 2004م، ص15. كذلك انظر الجدول رقم (1).
21 - د. محمد محسن صالح، الحقائق الأربعون في القضية الفلسطينية، ص15.
22 - محمد أمين الحسيني، حقائق عن قضية فلسطين، ص 12.
23 - روجيه غارودي، الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، ترجمة حافظ الجمالي صياح الجهيم، بيروت: دار عطية للنشر، 1996 م، الطبعة الثانية، ص 192- 193.
24 - هنري فورد، اليهودي العالمي، دار الآفاق الجديدة - بيروت، ص 152.
25 - هنري فورد، اليهودي العالمي، دار الآفاق الجديدة - بيروت، ص 154.
26 - المؤرخون الجدد: هم مجموعة من المؤرخين اليهود الداعين إلى مراجعة تاريخ الصراع العربي- الصهيوني على ضوء الوثائق التي أفرج عنها الكيان اليهودي - بعد مضي ثلاثين سنة- ويعملون على إعادة النظر في الروايات التي ترادفت مع قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين، من خلال مراجعة الصيغة التاريخية الرسمية، وتنقيتها من الأكاذيب ومن حيل الحرب النفسية التي تحولت إلى مسلمات في الطرح الصهيوني.
ويعتبر بني موريس نفسه مؤسس حركة "المؤرخون الجدد"، وهو من المؤرخين المعروفين وأستاذ التاريخ في "جامعة بن غوريون"، و "يوسي بيلين" و اسرائيل شاحاك و" ايلان بابيه " و " زئيف ستيل نهيل "، و "موشي سميش" و "سيمحا فلابان" و"بار يوسف" وأروي رام وسامي سموحا وباروخ كيفرلنج وتامار كارتيال وسارا كازير وجيرسون شافير وبارون ازراحي وشلومو سويرسكي وتوم سيجيف ويناثان شابيترو يورين بن اليعازر وباجيل وايلا شوحات وآفي شلايم وايلان باي وغيرهم. للاستزادة: أنظر مجلة بيت المقدس للدراسات الصادرة عن مركز بيت المقدس للدراسات، العدد الثاني؛ صيف 2006م، بحث بعنوان: حقيقة المرخون الجدد ص 42-59. وكتاب: يهود يكرهون أنفسهم، للدكتور محمد أحمد النابلسي دار الفكر دمشق 2003م.
27 - عيسى القدومي، فلسطين وأكذوبة بيع الأرض، إصدار مركز بيت المقدس للدراسات التوثيثية، ط1 (1425هـ - 2004م)؛ ص 14.