غير خاف على من له علم ومعرفة بدين الإسلام أن للعلماء من رفيع المنزلة وعلو المكانة وسبق الفضل ما لا يزاحمهم فيه غيرهم من أصناف الناس، ففضائلهم في الكتاب والسنة مشهورة، ومناقبهم فيهما منشورة، فهم الواسطة بين الله وبين عباده في تبليغ الشريعة والدلالة عليه - جل وعلا -. قال سفيان بن عيينة: أرفع الناس منزلة من كان بين الله وبين عباده، وهم الأنبياء والعلماء. فالعلماء خلفاء الرسل في أممهم ووارثوهم في علمهم، يحتاج إليهم الصغير والكبير والذكر والأنثى والحاكم والمحكوم. فالواجب عليهم عظيم بقدر ما تبوؤه في الأمة من المكانة والمنزلة، فبصلاحهم وقيامهم بما فرض الله عليهم من النصح والبيان يصلح معاش الناس ومعادهم. ولهذا قيل: إن زلة العالم كالسفينة تغرق ويغرق معها خلق كثير.
ولقد أخذ الله على أهل العلم ميثاق البيان، وعدم الكتمان كما قال – تعالى -: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ) (آل عمران:187). وذم الكاتمين للحق المعرضين عن القيام به، فقال – تعالى -: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(البقرة: من الآية140)، وقال – تعالى -: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) (البقرة:159).
وإن وجوب البيان والنصح للأمة على أهل العلم ليتأكد في أزمنة الفتن وأيام المحن التي تنطمس فيها سبل الهدى، ويلتبس فيه الحق بالباطل، وتستحكم فيها الأهواء ويتبع الناس فيها كل ناعق، ويخفى فيها الحق على طالبه، ولذلك شبه رسول الله – صلى الله عليه وسلم - الفتن بقطع الليل المظلم، أي: الأسود الذي لا نور فيه، كما في قوله – تعالى -: (بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا). رواه مسلم (169) من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه -.
ولقد مرت أمة الإسلام عبر تأريخها بأزمات كثيرة وفتن متلاحقة، قيض الله فيها للأمة من أهل العلم والفضل وأهل النصح والعدل من أنقذ بهم الأمة وحفظ بهم الملة، فأثر العلماء ودورهم في إخراج الأمة من الفتن والنجاة بها من متلاطم المحن مشهور مذكور، فمعهم مصابيح الدجى ومشاعل الهداية التي يخرج الله بها الناس من الظلمات إلى النور. وقد بشر رسول الله – صلى الله عليه وسلم - هذه الأمة بالعز والسناء والرفعة، وأنه لن يزال فيها قائم بأمر الله حتى تقوم الساعة ففي البخاري (6767)، ومسلم (3545) من حديث المغيرة وغيره قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: (لا يزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون). وأهل العلم هم أئمة هذه الطائفة الظاهرة المنصورة.
ولا ريب أن أمة الإسلام اليوم في شرق الأرض وغربها تمر بمرحلة بالغة الحساسية والخطورة، هي أحوج ما تكون فيها إلى أهل العلم الراسخين في علومهم، العاملين لدينهم، الناصحين لأمتهم، العالمين بواقع الأمة وما يحيط بها من أخطار. فهؤلاء بهم تسير السفينة ويبلغ المقصود، بل الأمة اليوم بحاجة إلى كل جهد من أبنائها المشفقين البررة. فكيف يسوغ في مثل هذه الظروف الحرجة من تاريخ أمتنا أن يترجل الفارس وينزوي أهل العلم والخير عن ساحات البيان والنصح ومواقع التأثير والإصلاح، بل الواجب على كل صاحب علم وخير أن يساهم في نصح الأمة بما يستطيع من قول أو رأي أو عمل، وأن يتقدم كل ناصح إلى ميادين الدعوة والبناء بإخلاص وجد وعلم وبصيرة، فإن نصر الله – جل وعلا - ونصر دينه واجب على أهل الإيمان، قال الله – تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد:7). ومن رحمة الله وسعة فضله أن نصر المؤمنين لله ولدينه لا يحده حد ولا يقف عند رسم، بل إن استقامة الواحد منا في نفسه من نصرنا لله تعالى. فينبغي ألا يحقر أحدنا في هذا السبيل شيئاً، فقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم - فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه -: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات). فكل جهد في نصر دين الله والذب عن أمة الإسلام نافع مبرور مهما قل في أعين الناس وصغر. روى البخاري في صحيحه (2681) أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - قال لسعد بن أبي وقاص – رضي الله عنه - لما رأى لنفسه على من دونه فضلاً: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم)، ورواه النسائي (3127) بلفظ: (إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم). وفي لفظ آخر (3128): (ابغوني الضعيف فإنكم إنما ترزقون وتنصرون بضعفائكم).
إن نجاح أهل العلم في الاضطلاع بدورهم، - وفي إنقاذ الأمة والخروج بها من حلقات الفتن وسلاسل المحن، والإبحار بها نحو الغايات العظام - لا يمكن بلوغه ولا سبيل إلى إدراكه إلا بأسباب تمخر بها سفينة الأمة عباب هذه الأمواج المتلاطمة، فإن السفينة لا تجري على اليبس. وهذه الأسباب سلسلة من خصال البر من إخلاص العمل لله - تعالى - وإصلاحه بمتابعة النبي – صلى الله عليه وسلم - وتقوى الله - تعالى - في السر والعلن، والنصح للأمة، والتحلي بأحسن الأخلاق من العلم والحلم واللين والرفق والصبر وغير ذلك من صفات الخير التي تتحقق بها صفات أئمة المتقين التي ينتظمها قول الله – تعالى -خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199)، وقوله – تعالى -: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).