سئل حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: كيف يعرف الرجل منا، هل أصابته فتنة أم لا؟
قال: إن كان ما يراه حراماً بالأمس يراه حلالاً اليوم فقد فُتن.
هنا ميزان واضح يرسم حذيفة معالمه أمامنا في كلمات مختصرات واضحات لا تحتاج إلى إعمال تفكير لفهمها، ولكنها تحتاج في نظري إلى شيء من التفصيل.
إن المعنى الواضح من كلام حذيفة بن اليمان يؤكد لنا أنَّه يقصد ما ثبتت حرمتُه شرعاً مما لا يدخل تحريمه في دائرةِ خلافٍ بين أحدٍ من علماء المسلمين وفقهائهم، وكأني به يقول كلمته هذه وفي ذهنه لفظ الحديث النبوي الشريف الصحيح: (الحلال بيَّن والحرام بيَّن)، فإذا وصل المسلم إلى درجة الشك في حرمة ما ظهرت حرمتُه وثبتت، أو في حِلَّ ما ظهر حِلُّه وثبت، فلا شك أنَّه قد فُتن شرَّ فتنةٍ والعياذ بالله.
إذا ظهر هذا المعنى الواضح من كلمة حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - تجلّى لنا الفرق الكبير بين هذا المعنى، وبين ما قد يراه الناس من رجوع عالمٍ عن فتوى سابقةٍ له بناها على اجتهاد سابقٍ تبيَّن له مع الأَّيام خطؤه، حيث يرجع ذلك العالم عن فتواه معلناً حقيقة اجتهاده السابق فيها، وموضحاً حقيقة العلم اليقينيّ الذي وصل إليه في شأنها حتى أعلن رجوعه عنها.
هنا يصبح الأمر ميزةً لذلك العالم، وورعاً منه يشكر عليه، وهو بلا شك يؤجر عليه من الله - سبحانه وتعالى - إن صلحت نيته، وخلصت لله سريرته، وقد حدث هذا من عدد من العلماء والفقهاء الأجلاء على مدى التاريخ، وفي هذا من عظمة أولئك الرجال ما لا يخفى.
ولا يدخل في معنى كلام حذيفة - رضي الله عنه - ما قد يراه الناس من تغيير بعض أهل العلم والفقه والفكر بعض أساليبهم في دعوتهم وتعليمهم وتعاملهم مع الوقائع والأشخاص، فهذا داخل أيضاً في مجال الاجتهاد للبحث عن الأفضل في أساليب الدعوة وطرائق المناقشة، وهو أمر متاح ما دام قائماً على اجتهاد صادق ونية خالصة لوجه الله.
أما ميزان حذيفة - رضي الله عنه - فهو ميزان دقيق واضح المعالم يجب على كلّ مسلم أن يستخدمه بدقة في وزن مواقفه، خاصةً في أزمنة الفتن التي تصير كقطع الليل المظلم يصبح فيها الحليم حيران.
ومثال ذلك أن يكون الإنسان على يقين بتحريم الرشوة مهما تغيرت أسماؤها، وأن يعلم يقينه بحرمتها، ثم يلين ويضعف أمامها حينما تلوح له بحلاوتها الممزوجة بمرارة المعصية وسوء العاقبة.
هنا يجب على المسلم أن يستخدم هذا الميزان الرائع الدقيق الذي أشار إليه حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - في كلمته السابقة.
ويُقاس على الرشوة غيرها من الأمور المحرمة التي لها علاقة برغبات النفس البشرية ومصالحها الدنيوية، كالمتاجرة في بعض المحرمات، أو الاعتداء بمنطق القوة على بعض حقوق الضعفاء، أو تسويغ معاملات الربا الواضحة استجابةً لهوى النفس.
هنا يكون ميزان حذيفة بن اليمان مهماً؛ لأنه يوضح لمَن تسرقه غفلته من نفسه حقيقة ما هو عليه.