العقاب الجماعي بين الظلم الدولي والشريعة الإسلامية
الآلة العسكرية الإسرائيلية التي تعمل ليلاً ونهارًا قتلاً وإبادة وتشريدًا وهدمًا لكل ما هو فلسطيني، اعتادت على أن تقدم أوضح نموذج للعالم على سياسة العقاب الجماعي، هذا العقاب الذي وصل إلى حد حرمان أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني في قطاع غزة من أبسط مقومات الحياة، باتخاذ إجراءات تمنع وصول الدواء والغذاء والكهرباء والماء إليهم.
الإدارة الأمريكية تشجع الكيان الصهيوني على القيام بهذا الفعل، وتزامنا مع الجرائم الصهيونية التي تقتل يوميًا العشرات وتهدم البيوت، تعقب الإدارة الأمريكية على الجرائم الإسرائيلية بمباركتها معتبرة أن ما يجرى من قبل إسرائيل هو دفاع عن النفس.
بل إن الولايات المتحدة لها ماض طويل في مجال العقاب الجماعي ولعل آخره كان ضد العراق ولا زالت آثاره تتوالى حتى الآن، فطوال أكثر من 13 عامًا فرضت الولايات المتحدة حصارًا شرسًا على العراق تحت زعم إضعاف نظام حكم الرئيس الراحل صدام حسين، فمنعت الغذاء والدواء عن الناس ومنعتهم من السفر وجعلت حياتهم جحيمًا.
سياسة العقوبات الجماعية ثقافة سياسية تبلورت منذ السياسة الأمريكية في العقود الأولى لتأسيس الدولة، تبلورا استند على اتباع سياسة الهيمنة، وسياسة معاقبة كل من يرفضها. في ذلك الوقت كان المفهوم المتعلق بهذا الاتجاه يحمل عنوان "أمركة العالم"، هذا المخطط الذي اعتبر أحد أبرز أدوات السياسة العنصرية الإمبريالية الأمريكية، حتى أن الرئيس الأمريكى تيودور روزفلت اعتبر "أن قدرنا هو أمركة العالم .. تكلموا بهدوء .. واحملوا عصا غليظة، عندئذ يمكن أن تتوغلوا بعيدا".
ولذلك نجد أن الولايات المتحدة تمارس حتى الآن سياسة العقاب الجماعي ضد كل الدول والشعوب التي لم تتصالح مع منطق الهيمنة الأمريكية. فلا عجب إذن أن يبارك الرؤساء الأمريكيون المتعاقبون سياسة العقاب الجماعي التي تمارسها إسرائيل ضد الفلسطينيين.
وإذا كانت الإدارة الأمريكية قد شنت حروبا تحت مبررات ودعاوى نشر الديمقراطية فإن إسرائيل، تفعل ما تفعله في نفس السياق، مع زعم إضافي يدعى أنها تقوم بمكافحة الإرهاب، وفقا للمفهوم الأمريكي المراوغ. لكن الملاحظ أن أكثر الحروب دموية وعنفا هي تلك التي تشن بدعوى تمدين الشعوب ومنحها الحرية، كما هو الحال في الحرب التي أطلقتها الولايات المتحدة بعد هجمات 11 سبتمبر تحت مسمى "الحرب على الإرهاب" التي بدأت باحتلال أفغانستان في نوفمبر 2001 ثم احتلال العراق في أبريل 2003.
النموذجان الأمريكي ونظيره الإسرائيلي نموذجان يعتمدان القتل والجريمة وسرقة ثروات الشعوب وإنزال العقاب الجماعي على كل من يرفض هذا المنطق المبرر وفقا للسياسة الأمريكية والإسرائيلية، لأن كلتاهما دولتا احتلال ولتاهما تملك ثقافة تاريخية واحدة، وكلتاهما أقام دولة على أشلاء السكان الأصليين ويجمع بينهما الكثير والكثير من الإطار الديني والأخلاقي والحضاري الفاسد.
إن هدم البيوت هو إجراء إداري يتم دونما محاكمة ودونما حاجة إلى إثبات تهمة الشخص الذي بسببه يتم الهدم، أمام أية جهة قضائية. وتم تنفيذ عمليات هدم البيوت طبقاً لأمر عسكري موقع من قبل القائد العسكري في المنطقة، استناداً إلى النظام 119 من أنظمة الطوارئ للعام 1945. ويمنح هذا النظام الصلاحية للقائد العسكري، فيما يمنح، إصدار أمر الهدم لكل بيت في أي بلدة، حي أو شارع قام سكانها بتنفيذ مخالفات عنيفة. وبعد تسليم أمر الهدم أتاح الجيش الإسرائيلي للعائلة تقديم استئناف إلى القائد العسكري خلال 48 ساعة. وجاء في الحكم القضائي الصادر عن محكمة العدل العليا في عام 1989، أنه عندما يرفض الاستئناف، يجب إتاحة الفرصة أمام أفراد العائلة للالتماس إلى محكمة العدل العليا قبل تنفيذ الهدم.
إن القانون الدولي يحظر أيضاً العقاب الجماعي، أي عقاب أناس بسبب أفعال أناس آخرين (البند 33 من اتفاقية جنيف الرابعة والنظام 50 من أنظمة هاج). فهدم البيوت يشكل وسيلة صارخة من العقاب الجماعي، حيث أن المتضررين الأساسيين هم من أبناء الأسرة للمتهمين بتنفيذ المخالفات.
ومن وجهة النظر الإسلامية فإن تعميم الأحكام وانتهاج أسلوب العقاب الجماعي ظلم كبير لأنه يأخذ الأبرياء بجريرة غيرهم، ويوسع دائرة العسف ويعرض مجتمعاتنا للخطر والعنف ويفتح الباب للعنف المضاد.
وقد جعل الوحي للحياة قيمة سامية أمر باحترامها بأبلغ لغة، فقال الله سبحانه:
[مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ] المائدة:32.
كما احترم الوحي الحرية وأمر بفك القيود عن الإنسان فقال عن أهداف ومسؤوليات رسول الله صلى الله عليه وسلم: [وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)] الأعراف: 157.
ورسخ الإسلام مبدأ براءة الإنسان وأنه لا يتحمل مسؤولية فعل غيره فقال تعالى: [قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ] الأنعام:164.
ورسخ الإسلام أيضًا مبدأ الكرامة البشرية بأتم لغة حيث قال تعالى: [وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً] الإسراء:70.
ونهى الإسلام عن أخذ أحد بالظنة, وأكد على ضرورة الشفافية في التعامل مع الأحداث فقال سبحانه: [وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا] النجم: 28.
والإسلام يؤكد بصورة واضحة انتفاء مسؤولية المرء عن عمل غيره، قال تعالى: [
قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُون] الأنعام:164.
وقال تعالى: [وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ] يونس: 41.
وقال أيضًا: [قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِين] النور: 54.
وقال أيضًا: [قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُون] سبأ: 25.
وقال عز وجل: [الْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون] يس: 54.
وقال سبحانه وتعالى: [وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى] النجم: 39.