هل المحاماة مهنه ترفضها الشريعة؟
بسبب أخطاء بعض المحامين انتشرت بين الناس مفاهيم وحكايات يتحدث بها العامة حول مهنه ( المحاماة ) تشير معظمها إلى أنها مهنة الحيل والخداع والأباطيل والتلبيس .. وهذا من كلام العامة .
كما يرى بعض المتخصصين في الشريعة والقانون أنها محض توكيل في خصومة بين شخصين والتوكيل بدفع الحد عن المتهم لا يصح والمحاماة عن المتهم فيها لا تجوز وأن النيابة في دفع الحد وطلب الحماية للمتهم أمر لا تقره الشريعة وكذلك الوكيل شفيع ولا شفاعة في الحدود _ وغيرها .
بل إن للأستاذ أبو الأعلى المودودى - رحمه الله – رأى قديم في هذا الصدد ولكنه عدل عنه بعد علم ومناقشة لأهمية المحاماة الحقة وليست كما يصف بعض الكتاب أحيانا هذه المهنة بأنها ( كصنع الخمر وبيع لحم الخنزير ) !! (1)
عيوب الممارسة
إن هذه الصفات السالفة الذكر لو كانت بحق في المحامين ... فهي ليست من المحاماة في شيء وليست من الشريعة في شيء ولكن المحاماة في حقيقتها مهنة (الدفاع عن الحق ) . وكل خصومة أو نزاع أو اتهام أو مشكلة ، فيها حق وفيها باطل ، سواء أكان الحق في ناحية والباطل في الناحية الأخرى ، أو كان هنا بعض الحق وبعض الباطل ، وهناك كذلك بعض الحق وبعض الباطل ، ولكن من طبيعة المتخاصمين أن يظن كل واحد منهما أنه على الحق الكامل وخصمه على الباطل الكامل ولهذا يثور النزاع ويصل إلى التضاد . ولا يتصور عقلا أن يكون المتخاصمان كلاهما على الحق الكامل أو على الباطل الكامل ، إذ لا يمكن أن يسمى النزاع نزاعا إلا أن يكون في الأمر صراع بين حق وباطل ، أو بين ضدين متناقضين . وكثيرا ما يلجأ المتخاصمان إلى السعي لحل النزاع وديا فان عجزا وصمم أحدهما أو كلاهما على رفع الأمر للقضاء ، فهنا تكون مهنة القاضي أن يستمع إلى حججهما وأدلتهما ثم يقضى بينهما بحكمه ولا يمكن أن يطلب من القاضي أن ينزل إلى أحد الخصمين ، أو كليهما ليغطى عجزه أو ينقب له عن الأدلة ويسعى لتوفيرها ، سواء بالبحث والتقصي العلمي أو بتجهيز الشهود و البيانات والمستندات ، لأن القاضي إن فعل ذلك يكون قد فقد حيدته التي هي شرط لازم لمن يتولى القضاء ، فضلا عن أن هذا يخرج عن طبيعة عمل القاضي ، ولا يطبقه في خضم الأقضية التي بين يديه .
مساعدة الخصوم على تجهيز دفاعهم :
ومع تشابك المصالح وتعدد المنازعات وتعقدها ، ومع كثرة القوانين واللوائح والنظم في العصر الحديث ، أصبحت الحاجة ملحة لإيجاد عناصر تقوم بمساعدة الخصوم في المحاكم على تجهيز دفاعهم ، وترتيب حججهم ، وتنسيق مستنداتهم ، وإجراء البحوث الشرعية والقانونية التي تؤيد الحق لا الباطل في كل دعوى ، بشرط أن تكون هذه العناصر من الأشخاص المثقفين ثقافة شرعية وقانونية عالية ، ومن المدربين تدريبا جيدا على هذا العمل العلمي والفني ، وأن يكونوا ممن صلحت أخلاقهم واستوي صلاحهم ، وأن يكون هدفهم خدمة الحق وإظهاره ودحض الباطل وإنكاره في كل قضية . وهؤلاء هم المحامون ومهنتهم هذه هي " المحاماة " أو " الدفاع " وبغير مساعدة هؤلاء سيغم الأمر على القضاء وتضيع حقوق الناس ، خصوصا في العصر الحديث(2) .
والقاضي بشر يخطئ ويصيب وقد يغم عليه الأمر .وخير الهدى هدى سيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم – إذ يقول في قضائه ما مبناه ومعناه " تختصمون إلى ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فأقضي له ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنما هو قطعة من النار " .
وإذا كان هذا هوا حال الرسول المصطفى – صلى الله عليه وسلم – وفى زمان كانت المنازعات فيه بسيطة ، وسبل حلها ميسرة وكانت الأخلاق في قمتها ، فما بالنا بحال الناس اليوم ، وهذه أخلاقهم وهذا زمانهم المعقد في كل جوانبه ونظمه وقوانينه وهذه مصالحهم التي لا حصر لها ولا حدود ، وهؤلاء قضاتهم من الناس ، هل نترك الخصوم لحالهم دون سند أو مساعدة نرتبها وننظمها لهم حتى يظهر الحق ، ويغيب الباطل ..؟!
وللمحاماة ... فوائد أخرى
وليس هذا هو مجال المحاماة فقط ، بل منها المشورة والنصيحة والصلح بين الناس ،ودفع مظالم السلطات العامة .. وغير هذا كثير .. كصياغة العقود والمشاركة في وضع مشروعات النظم واللوائح والقوانين ، والطعن في الأحكام لتصحيحها ....
والأصل أن المحامى لا يقبل الدفاع إلا عن الحق لا الباطل ، فإذا عرضت عليه قضية درسها ، فان وجدها على الحق قبلها ، وان وجدها على الباطل رفضها ونصح صاحبها وهذا ما يطبقه كل محام ملتزم بدينه ، وعددهم وفير ونجاحهم كثير و ، ولا يضرهم أو يمنعهم من ضل عن النهج القويم .
وهذه بعض الحقائق الهامة في الموضوع
1 – المحاماة جائزة في كل القضايا بل واجبة في الخطير منها ، ومن ذلك قضايا الحدود ، لا على أساس أنها شفاعة ، إنما لأنها تساعد القاضي في تبيين وجه الحق في كل أطراف الموضوع ، وبيان دفاع المتهم التوضيحي المبنى على بيان الصواب من الخطأ في عقوبة من أخطر العقوبات التي ستلحقه ، ولو لم يكن للمتهم محام لعينت له المحكمة محاميا .2 – بناء على ما يبين من بحوث ودراسات يقدمها الادعاء والدفاع يكون للقاضي إمكانية الاهتداء إلى الحق في الموضوع برمته ويقضى فيه بمقتضى الشريعة الغراء.3 –
إذا كان النبي الأكرم قال ( ادرءوا الحدود بالشبهات ) فان هذا من عدل الشريعة وسماحتها ، وقد تبين للقاضي أن شروط الحد غير متوفرة ( كسرقة مثلا ... ومن سرق قد يكون فقيرا أو جائعا ... الخ ) ، أو أن الجرم عقابه التعزير لا الحد ، أو أن الادعاء على صواب فيقضى بالحد .... وهذا كله من ضمانات القضاء في دولة الإسلام .4 – قد يسيء بعض المحامين التصرف ويخالف أصول المحاماة ، وهذا شيء وارد ، ويقع مثله في المهن الأخرى ، ولكن لا يجوز أن ينسحب اثر هذه التصرفات والأخطاء على المهنة ذاتها أو على الملتزمين بأصولها وآدابها وأخلاقياتها . 5 – المصالح المرسلة للناس تتطور وتتحدد الحاجة إليها ومنها تطور القضاء وتشابك الصلات بين الناس ، وكثرة المشاكل وتعدد النظم والقوانين .
6 – الجعل أو أتعاب المحاماة ليست من قبيل عقود الغرر ... إنما هي نظير عمل ولا يجب أن تكون مرهونة بنتيجة الخصومة ولابد من التفريق بين أتعاب المحامى والرسوم القضائية التي تفرضها المحاكم وقوانين التقاضي . 7 – من ضروب الدفاع الرباني عن المظلومين أن يقيض الله نفرا من عباده للدفاع عن المظلومين من المؤمنين " إن الله يدافع عن الذين آمنوا " (الحج/38 ) .(3)