ليس المقصود بالتفكير العلمي هو بحث العلماء في مسألة متخصصة باصطلاحات ورموز متعارف عليها بينهم ، بل المقصود هو التفكير المنظم المبني على مبادئ واضحة قابلة للتكرار والذي يمكن أن نستخدمه في شئون حياتنا اليومية ..بعبارة واحدة هو العقلية العلمية التي يمكن أن يتصف بها الإنسان العادي حتى ولو لم يكن يعرف نظرية علمية واحدة ..العقلية المنظمة التي تسعى إلى التحرر من مخلفات عصور الجهل والخرافة .
التفكير العلمي ليس مجرد حشد المعلومات العلمية أو معرفة طرق البحث في ميدان معين وإنما هو طريقة في النظر إلى الأمور تعتمد على العقل والبرهان ..وهي يمكن أن تتوافر لشخص لم يكتسب تدريبا خاصا في فروع العلم ( مثل تاجر حاذق ) كما يمكن أن يفتقر إليها أشخاص وافر لهم من المعارف العلمية حظ كبير وشهادات رسمية .
التفكير العلمي له سمات رئيسية وأهمها التراكمية فهي أشبه ببناء يرتفع طابقا فوق طابق وينتقل معه السكان إلى الطابق الأعلى بعكس المعرفة الفلسفية مثلا التي لم تكن تراكمية فكل مذهب فلسفي يظهر لم يكن يبدأ من حيث انتهت المذاهب السابقة ولم يكن مكملا لها فالبناء الفلسفي – بعكس البناء العلمي – يتمدد أفقيا وليس رأسيا .
وكذلك الفن الذي ينمو أفقيا بمعنى أننا نظل نتذوق الفن القديم ولا نتصور أن ظهور فن جديد يعني التخلي عن الأعمال القديمة أما في المعرفة العلمية فالأمر يختلف فالحقيقة العلمية لا تكف عن التطور دون أن تكون النظرية الجديدة بديلا يلغي القديمة وإنما توسعها وتكشف عن أبعاد جديدة لم تستطع النظرية القديمة أن تفسرها أو تعمل لها حسابا .وأوضح مثال هنا هو فيزياء نيوتن التي ظنوا أنها الكلمة النهائية لمدة قرنين حتى جاءت فيزياء أينشتين وتجاوزتها .
وهذا التغير ليس بأي حال من الأحوال علامة نقص ( وهو الانتقاد الشائع له في بلادنا الشرقية ) لأن ثبات العلم يعني موته ونهايته ..فالمعرفة العلمية متغيرة حقا ولكن تغيرها يأخذ شكل التراكم والإضافة والاتساع.
التنظيم من أهم سمات التفكير العلمي ، ويقصد به ترتيب هذه الأفكار بطريقة محددة عن طريق اتباع منهج محدد يعتمد على خطة واعية تبدأ بملاحظة الظواهر الطبيعية التي يراد بحثها ثم توضع هذه الظواهر في ظروف يمكن التحكم فيها مع تنويع الظروف كلما أمكن ..وبعدها يضم القوانين الجزئية التي تم التوصل إليها في نظرية واحدة ..بعدها يلجأ للاستنباط العقلي ثم يقوم بتجارب من نوع جديد لكي يتحقق من صحة النتائج السابقة ..
وأبرز مثال هنا هو نظرية النسبية لإينشتين الي وضعها بناء على ملاحظات وتجارب جزئية سابقة ثم استخلص النتائج المترتبة عليها بالاستنباط العقلي ولم تثبت صحتها في عالم الواقع إلا حينما حدث الكسوف الشمسي في عام 1916 وأثبتت صحة هذه النظرية .
وهكذا يسير المنهج العلمي المعترف به من الملاحظات للتجارب للاستنتاج العقلي ثم إلى التجارب مرة أخرى .
البحث عن الأسباب سمة أخرى من سمات التفكير العلمي ، ولقد كانت حضارات قديمة تشيد مباني ضخمة دون أن تحاول معرفة النظريات الكامنة من وراء عملية البناء والحساب وتكتفي بأنها حققت الهدف المطلوب دون أن تكترث أن تسأل لماذا ؟ لكن معرفة أسباب هذه الظواهر هي التي تمكنا من التحكم بها على نحو أفضل فعلى سبيل المثال الدراسة الدقيقة لطبيعة الموجات الصوتية هي التي مكنت من ظهور اختراعات كالتلفون واللاسلكي والراديو وكان من المستحيل بلوغها لولا معرفة أسباب هذه الظواهر .
الشمولية صفة هامة من صفات المعرفة العلمية بمعنى أنها تسري على جميع أمثلة الظاهرة التي يبحثها العلم فلا يصير مجال للخلاف بين فرد وآخر ومن هنا كانت الحقيقة العلمية " لا شخصية " وقابلة أن تنقل لكل الناس بعكس العمل الأدبي عموما لأنه موضوع فردي مرتبط بصاحبه .
الحقيقة العلمية تتسم أيضا باليقين ، ولكنه ليس اليقين الذاتي الذي كثيرا ما يكون مضللا فشعورنا الداخلي قد لا يكون مبنيا على أي أساس سوى ميولنا أو اتجاهاتنا الذاتية ، ولكنه يقين موضوعي يرتكز على أدلة منطقية مقنعة لأي عقل.
وإذا كنا في حياتنا العادية يمكننا أن نستخدم عبارات تتسم بالغموض وتبتعد عن الدقة مثل " قلبي يحدثني أنه سيحدث كذا " فمن غير المقبول أن نستخدم عبارة في العلم يشوبها الغموض وحتى يكون الشيء احتماليا فالعلم يعبر عن هذه الاحتمالية بدقة أي بنسبة رياضية محددة ..وبذلك فإنه يحدد بدقة درجة عدم الدقة باستخدام لغة الرياضيات .
..........................
والعلم ظاهرة متأخرة في تاريخ البشرية ، وحتى الآن فالبشرية ككل ما زالت بعيدة عن اكتساب جميع سمات التفكير العلمي رغم أن الوعي والنشاط الروحي لم يتوقف لحظة طوال تاريخ الإنسان فإنه لم ينتج علما إلا في وقت متأخر لأن الإنسان آثر ألا يواجه الواقع مواجهة مباشرة وأن يستعيض عنه بأخيلته وميوله الذاتية ..بعبارة أخرى فإن العلم لم ينشأ إلا في اللحظة التي قرر فيها الإنسان أن يفهم العالم كما موجود بالفعل لا كما يتمتاه ..ومثل هذا القرار ليس عقليا فحسب بل هو أخلاقي ومعنوي أيضا ..فقبل هذه المرحلة استعاض الإنسان عن العلم بالحلم وكان الأدب والفنون هو المظهر الرئيسي لنشاط الإنسان الروحي وفيها يهتم الإنسان بمشاعره الذاتية أكثر مما يهتم بالعالم المحيط ..وانتشر الفكر الأسطوري الذي كان يقدم تفسيرا متكاملا للعالم مرتكزة على مبدأ حيوية الطبيعة التي تصبغ جميع الظواهر الطبيعية بصبغة الحياة (مثل أسطورة أيزيس وأوزريس التي كانت يفسرون بها فيضان النيل ) بينما يسعى العلم إلى تفسير الحي عن طريق غير الحي فيحاول أن يفسر ظواهر الحياة من خلال عمليات فيزيائية وكيمائية .
وإذا كان الفكر الأسطوري قد اختفى فإن الفكر الخرافي ما زال يمارس تأثيره على عقول الناس حتى اليوم ..ومن أسباب استمراره اتجاه العقل البشري إلى التعميم بحيث يؤمن بفاعليته بناء على نجاح أمثلة قليلة تتحقق بالصدفة ويتجاهل حالات إخفاقه الكثيرة ..فنقول عن فلانة أن أحلامها لا تخيب لمجرد أن هذا حدث مرة أو مرين وربما كانت روته بعد وقوع الحادث أو مشغولة به في عقلها الباطن ونسقط من حسابنا آلاف الأحلام التي حلمت بها فلانة هذه ولم تتحقق..وبأمثال ذلك تنتشر أسطورة صاحبة الرؤية التي لا تخيب .
وما زال التفكير الخرافي موجودا في أرقى المجتمعات والدليل ظهور أعمدة "حظك لهذا اليوم " أو قراءة الطالع أو التشاؤم من رقم 13 أو انتشار تعبيرات تحمل معنى خرافيا مثل أمسك الخشب ..وغالبا ما يكون الشعور بالعجز هو العامل الأساسي في ظهور الخرافة وانتشارها فيلجأ الإنسان في تعليله للأحداث إلى قوى لا عقلية تساعده على التخلص من المشكلات التي يواجهها خلاصا وهميا بدلا من أن تساعده على حلها أو مواجهتها بطريقة واقعية ..لكن استمرار ظاهرة التفكير الخرافي في المجتمعات المتقدمة تظل هامشية ولا تمثل خطرا دائما على مسار الحياة هناك بعكس مجتمعاتنا العربية التي يتخذ فيها التفكير الخرافي شكل العداء الأصيل للعلم والعقل ..ويعبر عن جمود المجتمع وتوقفه عند أوضاع قديمة ، وربما تجد من يتمسح في العلم لتأكيد خرافات مثل محاولة تحضير أرواح تؤثر في أشياء مادية مثل تحريك الأكواب رغم أن هذا يستحيل ما لم تكن الروح شيئا ماديا وهو ما يتناقض أساسا مع تعريف الروح..وتراهم يروجون بضاعتهم الفاسدة بأقوال من قبيل أن منهج العلم الحالي محدود ، وأن العلم صار الآن يتقبل أشياء كان يرفضها من قبل ، ومثل هذه الطريقة في التفكير تفتح الباب على مصراعيه لكل الخزعبلات المخرفة .
وأخطر أسلحة الفكر الخرافي هو الربط بينه وبين الدين فيستغلون بعض النصوص عن الحقائق الغيبية مثل السحر والروح ليدافعوا بحرارة عن الظواهر الخرافية ، وخطورة هذا السلاح أنه يضع الدين – بدون مبرر – في مواجهة العلم ..وهو ما سبب انصراف الناس عن الكنيسة في الغرب حينما عارضت مبدأ دوران الأرض مثلا ، ولكننا في الشرق يجب أن نستفيد من تجربة الغرب خصوصا وأننا أصحاب دين فسره مفكروه في صدر الإسلام تفسيرا لا يتعارض مع البحث العلمي بل يدفع الفكر والعلم إلى الانطلاق .
.......................................
السلطة الفكرية والعلمية قد تمثل عائقا آخر أمام التفكير العلمي خصوصا حينما يكون الرأي قديما فكثيرون يؤمنون أن الحكمة كلها تكمن في القدماء ، وهذا بالطبع نوع من النظرة الرومانسية للتاريخ . وتزداد المشكلة إذا كان هذا الرأي منتشرا ومستظلا بالكثرة الغالبة ، أو صادر عن شخص أشتهر بينهم بالخبرة والدراية في ميدانه أو كان هذا الرأي يداعب ما يتمنى الناس حدوثه مثلما ما حدث مع جاليلو حينما رفض المعاصرون له النظر إلى السماء بالمنظار المقرب الذي أخترعه خشية أن يهدم عالم عزيزا مألوفا لديهم يكون فيه الأرض مركز الكون لا مجرد كوكب سيار . ولا ننس أن الخضوع لآراء أرسطو قد تسبب في تجميد التفكير وشل الروح الإبداعية طوال أكثر من ألف وخمسائة عام لذلك أعتبر ديكارت وبيكون التحرر من قبضة أرسطو الخطوة الأولى نحو بلوغ الحقيقة ..
...............................
من الطبيعي يهيب الإنسان في مجال الفنون بملكات أخرى غير العقل لكن إنكار قدرة العقل في ميدان المعرفة واستبدالها بالحدس أو الإلهام أو الحاسة السادسة يمثل عقبة في طريق العلم ..وخصوم العقل يبدءون من مقدمة صحيحة ( مثل أن العقل ما زال عاجزا عن كشف كثير من أسرار الكون ) ثم يستنتجون منها نتيجة باطلة ( مثل أن العقل عاجز قاصر ويجب الاعتماد على قوى أخرى )..وللأسف ينطلي هذا الأسلوب الخادع على كثيرين لاستخدامه مقدمة صحيحة تؤيدها الشواهد فيتصورون أن النتيجة لا بد أن تكون صحيحة بدورها .
وهؤلاء الذين ينكرون دور العقل عليهم أن ينظروا لشكل الحياة منذ خمسائة عام ويقارنوها بالمعارف الحالية والأمل كبير في اتساع تلك المعارف في المستقبل لتكون الصورة أبعد ما تكون عن صورة العقل العاجز الذي يصورونه ..
أما ملكة الحدس القادرة على النفاذ بنا إلى عمق الأشياء وتعريف ما هو فريد منها فبعض الفلاسفة مثل برجسون قد أعتبرها مكملة للعقل وليس بديلا عنها في مجالات معينة من النشاط الإنساني كاتخاذ صديق مثلا لكنها لا تصلح وحدها في مجالات أخرى كثيرة.
.........................
التعصب للرأي والاعتقاد الخاطئ أن المرء يحتكر لنفسه الحقيقة وأن غيره يفتقرون إليها يتعارض كلية وطبيعة الحقيقة العلمية لأنه يحول الموضوع الذي نتعصب له إلى أسطورة ويشجع التفكير اللا عقلي لأنه الدعامة الوحيدة لموقفه مثلما كان أساس النازية هو أسطورة الفكر الآري المتفوق ..والعقل البشري لا يستطيع أن يجد حلا وسطا بين الاثنين فإما العلم وإما التعصب ولا بد من القضاء على أحدهما لكي يبقى الآخر .
...................
الإعلام المضلل عقبة رئيسية أمام التفكير العلمي ، وللأسف فإن الاتجاه الغالب على ما تقدمه وسائل الإعلام لا يخدم قضية التفكير العلمي ولا يساعد على نشره بين الجماهير العريضة فعملية التزييف هدفها تجاري لترويج السلع والطريق الأخطر سياسي من \أجل دعم مركزها بين الشعب فتلجأ لأساليب تتناقض مع التفكير السليم مثل تكرار نشر صورة زعيم معين وتضخيم أخباره وتكرارها بلا انقطاع واستخدام كل أنواع المغالطات لتبرير أعماله .
التفكير العلمي ليس مجرد حشد المعلومات العلمية أو معرفة طرق البحث في ميدان معين وإنما هو طريقة في النظر إلى الأمور تعتمد على العقل والبرهان ..وهي يمكن أن تتوافر لشخص لم يكتسب تدريبا خاصا في فروع العلم ( مثل تاجر حاذق ) كما يمكن أن يفتقر إليها أشخاص وافر لهم من المعارف العلمية حظ كبير وشهادات رسمية .
التفكير العلمي له سمات رئيسية وأهمها التراكمية فهي أشبه ببناء يرتفع طابقا فوق طابق وينتقل معه السكان إلى الطابق الأعلى بعكس المعرفة الفلسفية مثلا التي لم تكن تراكمية فكل مذهب فلسفي يظهر لم يكن يبدأ من حيث انتهت المذاهب السابقة ولم يكن مكملا لها فالبناء الفلسفي – بعكس البناء العلمي – يتمدد أفقيا وليس رأسيا .
وكذلك الفن الذي ينمو أفقيا بمعنى أننا نظل نتذوق الفن القديم ولا نتصور أن ظهور فن جديد يعني التخلي عن الأعمال القديمة أما في المعرفة العلمية فالأمر يختلف فالحقيقة العلمية لا تكف عن التطور دون أن تكون النظرية الجديدة بديلا يلغي القديمة وإنما توسعها وتكشف عن أبعاد جديدة لم تستطع النظرية القديمة أن تفسرها أو تعمل لها حسابا .وأوضح مثال هنا هو فيزياء نيوتن التي ظنوا أنها الكلمة النهائية لمدة قرنين حتى جاءت فيزياء أينشتين وتجاوزتها .
وهذا التغير ليس بأي حال من الأحوال علامة نقص ( وهو الانتقاد الشائع له في بلادنا الشرقية ) لأن ثبات العلم يعني موته ونهايته ..فالمعرفة العلمية متغيرة حقا ولكن تغيرها يأخذ شكل التراكم والإضافة والاتساع.
التنظيم من أهم سمات التفكير العلمي ، ويقصد به ترتيب هذه الأفكار بطريقة محددة عن طريق اتباع منهج محدد يعتمد على خطة واعية تبدأ بملاحظة الظواهر الطبيعية التي يراد بحثها ثم توضع هذه الظواهر في ظروف يمكن التحكم فيها مع تنويع الظروف كلما أمكن ..وبعدها يضم القوانين الجزئية التي تم التوصل إليها في نظرية واحدة ..بعدها يلجأ للاستنباط العقلي ثم يقوم بتجارب من نوع جديد لكي يتحقق من صحة النتائج السابقة ..
وأبرز مثال هنا هو نظرية النسبية لإينشتين الي وضعها بناء على ملاحظات وتجارب جزئية سابقة ثم استخلص النتائج المترتبة عليها بالاستنباط العقلي ولم تثبت صحتها في عالم الواقع إلا حينما حدث الكسوف الشمسي في عام 1916 وأثبتت صحة هذه النظرية .
وهكذا يسير المنهج العلمي المعترف به من الملاحظات للتجارب للاستنتاج العقلي ثم إلى التجارب مرة أخرى .
البحث عن الأسباب سمة أخرى من سمات التفكير العلمي ، ولقد كانت حضارات قديمة تشيد مباني ضخمة دون أن تحاول معرفة النظريات الكامنة من وراء عملية البناء والحساب وتكتفي بأنها حققت الهدف المطلوب دون أن تكترث أن تسأل لماذا ؟ لكن معرفة أسباب هذه الظواهر هي التي تمكنا من التحكم بها على نحو أفضل فعلى سبيل المثال الدراسة الدقيقة لطبيعة الموجات الصوتية هي التي مكنت من ظهور اختراعات كالتلفون واللاسلكي والراديو وكان من المستحيل بلوغها لولا معرفة أسباب هذه الظواهر .
الشمولية صفة هامة من صفات المعرفة العلمية بمعنى أنها تسري على جميع أمثلة الظاهرة التي يبحثها العلم فلا يصير مجال للخلاف بين فرد وآخر ومن هنا كانت الحقيقة العلمية " لا شخصية " وقابلة أن تنقل لكل الناس بعكس العمل الأدبي عموما لأنه موضوع فردي مرتبط بصاحبه .
الحقيقة العلمية تتسم أيضا باليقين ، ولكنه ليس اليقين الذاتي الذي كثيرا ما يكون مضللا فشعورنا الداخلي قد لا يكون مبنيا على أي أساس سوى ميولنا أو اتجاهاتنا الذاتية ، ولكنه يقين موضوعي يرتكز على أدلة منطقية مقنعة لأي عقل.
وإذا كنا في حياتنا العادية يمكننا أن نستخدم عبارات تتسم بالغموض وتبتعد عن الدقة مثل " قلبي يحدثني أنه سيحدث كذا " فمن غير المقبول أن نستخدم عبارة في العلم يشوبها الغموض وحتى يكون الشيء احتماليا فالعلم يعبر عن هذه الاحتمالية بدقة أي بنسبة رياضية محددة ..وبذلك فإنه يحدد بدقة درجة عدم الدقة باستخدام لغة الرياضيات .
..........................
والعلم ظاهرة متأخرة في تاريخ البشرية ، وحتى الآن فالبشرية ككل ما زالت بعيدة عن اكتساب جميع سمات التفكير العلمي رغم أن الوعي والنشاط الروحي لم يتوقف لحظة طوال تاريخ الإنسان فإنه لم ينتج علما إلا في وقت متأخر لأن الإنسان آثر ألا يواجه الواقع مواجهة مباشرة وأن يستعيض عنه بأخيلته وميوله الذاتية ..بعبارة أخرى فإن العلم لم ينشأ إلا في اللحظة التي قرر فيها الإنسان أن يفهم العالم كما موجود بالفعل لا كما يتمتاه ..ومثل هذا القرار ليس عقليا فحسب بل هو أخلاقي ومعنوي أيضا ..فقبل هذه المرحلة استعاض الإنسان عن العلم بالحلم وكان الأدب والفنون هو المظهر الرئيسي لنشاط الإنسان الروحي وفيها يهتم الإنسان بمشاعره الذاتية أكثر مما يهتم بالعالم المحيط ..وانتشر الفكر الأسطوري الذي كان يقدم تفسيرا متكاملا للعالم مرتكزة على مبدأ حيوية الطبيعة التي تصبغ جميع الظواهر الطبيعية بصبغة الحياة (مثل أسطورة أيزيس وأوزريس التي كانت يفسرون بها فيضان النيل ) بينما يسعى العلم إلى تفسير الحي عن طريق غير الحي فيحاول أن يفسر ظواهر الحياة من خلال عمليات فيزيائية وكيمائية .
وإذا كان الفكر الأسطوري قد اختفى فإن الفكر الخرافي ما زال يمارس تأثيره على عقول الناس حتى اليوم ..ومن أسباب استمراره اتجاه العقل البشري إلى التعميم بحيث يؤمن بفاعليته بناء على نجاح أمثلة قليلة تتحقق بالصدفة ويتجاهل حالات إخفاقه الكثيرة ..فنقول عن فلانة أن أحلامها لا تخيب لمجرد أن هذا حدث مرة أو مرين وربما كانت روته بعد وقوع الحادث أو مشغولة به في عقلها الباطن ونسقط من حسابنا آلاف الأحلام التي حلمت بها فلانة هذه ولم تتحقق..وبأمثال ذلك تنتشر أسطورة صاحبة الرؤية التي لا تخيب .
وما زال التفكير الخرافي موجودا في أرقى المجتمعات والدليل ظهور أعمدة "حظك لهذا اليوم " أو قراءة الطالع أو التشاؤم من رقم 13 أو انتشار تعبيرات تحمل معنى خرافيا مثل أمسك الخشب ..وغالبا ما يكون الشعور بالعجز هو العامل الأساسي في ظهور الخرافة وانتشارها فيلجأ الإنسان في تعليله للأحداث إلى قوى لا عقلية تساعده على التخلص من المشكلات التي يواجهها خلاصا وهميا بدلا من أن تساعده على حلها أو مواجهتها بطريقة واقعية ..لكن استمرار ظاهرة التفكير الخرافي في المجتمعات المتقدمة تظل هامشية ولا تمثل خطرا دائما على مسار الحياة هناك بعكس مجتمعاتنا العربية التي يتخذ فيها التفكير الخرافي شكل العداء الأصيل للعلم والعقل ..ويعبر عن جمود المجتمع وتوقفه عند أوضاع قديمة ، وربما تجد من يتمسح في العلم لتأكيد خرافات مثل محاولة تحضير أرواح تؤثر في أشياء مادية مثل تحريك الأكواب رغم أن هذا يستحيل ما لم تكن الروح شيئا ماديا وهو ما يتناقض أساسا مع تعريف الروح..وتراهم يروجون بضاعتهم الفاسدة بأقوال من قبيل أن منهج العلم الحالي محدود ، وأن العلم صار الآن يتقبل أشياء كان يرفضها من قبل ، ومثل هذه الطريقة في التفكير تفتح الباب على مصراعيه لكل الخزعبلات المخرفة .
وأخطر أسلحة الفكر الخرافي هو الربط بينه وبين الدين فيستغلون بعض النصوص عن الحقائق الغيبية مثل السحر والروح ليدافعوا بحرارة عن الظواهر الخرافية ، وخطورة هذا السلاح أنه يضع الدين – بدون مبرر – في مواجهة العلم ..وهو ما سبب انصراف الناس عن الكنيسة في الغرب حينما عارضت مبدأ دوران الأرض مثلا ، ولكننا في الشرق يجب أن نستفيد من تجربة الغرب خصوصا وأننا أصحاب دين فسره مفكروه في صدر الإسلام تفسيرا لا يتعارض مع البحث العلمي بل يدفع الفكر والعلم إلى الانطلاق .
.......................................
السلطة الفكرية والعلمية قد تمثل عائقا آخر أمام التفكير العلمي خصوصا حينما يكون الرأي قديما فكثيرون يؤمنون أن الحكمة كلها تكمن في القدماء ، وهذا بالطبع نوع من النظرة الرومانسية للتاريخ . وتزداد المشكلة إذا كان هذا الرأي منتشرا ومستظلا بالكثرة الغالبة ، أو صادر عن شخص أشتهر بينهم بالخبرة والدراية في ميدانه أو كان هذا الرأي يداعب ما يتمنى الناس حدوثه مثلما ما حدث مع جاليلو حينما رفض المعاصرون له النظر إلى السماء بالمنظار المقرب الذي أخترعه خشية أن يهدم عالم عزيزا مألوفا لديهم يكون فيه الأرض مركز الكون لا مجرد كوكب سيار . ولا ننس أن الخضوع لآراء أرسطو قد تسبب في تجميد التفكير وشل الروح الإبداعية طوال أكثر من ألف وخمسائة عام لذلك أعتبر ديكارت وبيكون التحرر من قبضة أرسطو الخطوة الأولى نحو بلوغ الحقيقة ..
...............................
من الطبيعي يهيب الإنسان في مجال الفنون بملكات أخرى غير العقل لكن إنكار قدرة العقل في ميدان المعرفة واستبدالها بالحدس أو الإلهام أو الحاسة السادسة يمثل عقبة في طريق العلم ..وخصوم العقل يبدءون من مقدمة صحيحة ( مثل أن العقل ما زال عاجزا عن كشف كثير من أسرار الكون ) ثم يستنتجون منها نتيجة باطلة ( مثل أن العقل عاجز قاصر ويجب الاعتماد على قوى أخرى )..وللأسف ينطلي هذا الأسلوب الخادع على كثيرين لاستخدامه مقدمة صحيحة تؤيدها الشواهد فيتصورون أن النتيجة لا بد أن تكون صحيحة بدورها .
وهؤلاء الذين ينكرون دور العقل عليهم أن ينظروا لشكل الحياة منذ خمسائة عام ويقارنوها بالمعارف الحالية والأمل كبير في اتساع تلك المعارف في المستقبل لتكون الصورة أبعد ما تكون عن صورة العقل العاجز الذي يصورونه ..
أما ملكة الحدس القادرة على النفاذ بنا إلى عمق الأشياء وتعريف ما هو فريد منها فبعض الفلاسفة مثل برجسون قد أعتبرها مكملة للعقل وليس بديلا عنها في مجالات معينة من النشاط الإنساني كاتخاذ صديق مثلا لكنها لا تصلح وحدها في مجالات أخرى كثيرة.
.........................
التعصب للرأي والاعتقاد الخاطئ أن المرء يحتكر لنفسه الحقيقة وأن غيره يفتقرون إليها يتعارض كلية وطبيعة الحقيقة العلمية لأنه يحول الموضوع الذي نتعصب له إلى أسطورة ويشجع التفكير اللا عقلي لأنه الدعامة الوحيدة لموقفه مثلما كان أساس النازية هو أسطورة الفكر الآري المتفوق ..والعقل البشري لا يستطيع أن يجد حلا وسطا بين الاثنين فإما العلم وإما التعصب ولا بد من القضاء على أحدهما لكي يبقى الآخر .
...................
الإعلام المضلل عقبة رئيسية أمام التفكير العلمي ، وللأسف فإن الاتجاه الغالب على ما تقدمه وسائل الإعلام لا يخدم قضية التفكير العلمي ولا يساعد على نشره بين الجماهير العريضة فعملية التزييف هدفها تجاري لترويج السلع والطريق الأخطر سياسي من \أجل دعم مركزها بين الشعب فتلجأ لأساليب تتناقض مع التفكير السليم مثل تكرار نشر صورة زعيم معين وتضخيم أخباره وتكرارها بلا انقطاع واستخدام كل أنواع المغالطات لتبرير أعماله .