ماذا لو قرّرتَ يوماً ما أن تجنّ ..؟؟؟
ماذا لو استيقظتَ ذات صباح – ككلّ صباح - و مارستَ جميع طقوسك المعتادة من تثاؤب و تمطّط و فرك عيون و توضيب شعر و خلافه , ثم , بعد أن شاهدتَ نشرة الأخبار و أنت تحتسي قهوتكَ الصباحيّة الثقيلة و راقبت صعود الأسهم و هبوطها و تحركات الشركات و اندماجها , و أحصيتَ عدد الجثث مجهولة الهوية المرمية في شوارع بغداد , و تأمّلتَ وجه المذيعة الجميلة التي تنبئكَ و هي تبتسم ابتسامةَ بديعة أن الكارثة البيئيّة الناجمة عن الاحتباس الحراري قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى مما يعني ضمناً أن يوم القيامة قد اقترب , و قبل أن تذهب إلى الحمّام تتابع – واقفاً- أخبار الطقس التي تعلمك أن اليوم مثل الذي سبقه - و مثل آلاف الأيام التي سبقته - حاراً جافاً ليس فيه قطرة ماء تبلل نملة ..
في الطريق إلى الحمام لتكمل بقية الطقوس الضرورية لصباح روتيني تتوقّف فجأة .. تعبث بشعرك الذي ما زال منكوشاً .. تمسح جبهتك الحزينة .. تحملق في نقطة سوداء صغيرة على البلاط المتراصف .. ثم تبتسم هنيهة و تقول لنفسك :
- حسنٌ ... لقد قرّرتُ أن أجنّ ..
هل تصدّقون أنه يمكن لأيٍّ كان أن يتخذ قراراً بملء إرادته أن يجنّ ..؟؟؟
بالطبع أنا لا أقصد بالجنون تلك اللحظة الهوجاء التي فقدتَ فيها أعصابك و طار منك صوابك و تصرّفتَ دون أي شعور بالمسؤولية أو مراعاة للعواقب و قررتَ أن تتوقّف عن التدخين و أن تستبدله بعادة صحيّة أكثر كمضغ اللبان المحلّى الذي جعلك تبدو مراهقاً متسكّعاً لا همّ له إلا متابعة الأغاني الشبابية و البصبصة على السيّدات , و لتكتشف بعد أيّام أنكَ تمسك سيجارتك المشتعلة بين أصابعك و تلوك اللبان في فمك و أنك بحمد الله قد أصبحتَ مدمناً على اللبان و السجائر معاً ..
و لا أقصد أيضاً ذلك التصرّف الغريب المستهجَن يوم ( انطسّيت ) في نافوخك و عمي على بصيرتك و قمتَ هكذا بكل بساطة بدعوة أصدقائكَ على الغداء دون أن تجري قبل ذلك الاستشارات القانونية و الالتماسات المطلوبة في مثل هذه الحالات للسيدة حرمكم مما جعلها ( تتنرفز ) فوق الحدّ الاعتيادي و جعلكَ بنصف هدومك أمام الأصدقاء و ( بلا هدومك ) أمام الأولاد فيما بعد ..
لا .. لا .. أنا لا أقصد ذلك الجنون المؤقّت الذي يعترينا أحياناً حين نحلم مستيقظين أن السماء ستمطر يوماً ما , و الأشجار ستنمو من جديد , و أن الأطفال لن يبكوا بعد اليوم , و سيصبح الناس طيّبين جميعاً , ستنطفئ كلّ الحرائق , و ستبرق المجرّات المتراقصة على أنغام الكون البهيّ , و ستصبح النساء جميلات جداً و سيغدو الرجال رجالا , و سنتوقّف عن انتظار ما لا يأتي و سيأتي ما كنّا ننتظر أخيراً ..
لا .. ليس ذلك الجنون اللذيذ الذي يوحي إليكَ أنّك تلمس وجه حبيبتك حين تسطو عليكَ قسوة العمر المضني و تستولي على أعصابكَ المرهقة تلك الرغبة الخفيّة في الاستسلام و الموت , فتشعر تواً بالسلام و المحبّة و يستيقظ الطفل بداخلك يلعب و يغني و يرسم أشجاراً و سماءً و عصافير ملونة , فتغمض عينيك برهةً لتكتشف أن لحظة واحدةً من الجنون قد تهديك فرح أعمار ..
لا .. ليس ذلك الجنون اللطيف الذي يهديكَ في غفلةٍ من دهركَ الصارم كلمة حب همس بها طيف حنون , أو باقةُ عطر انداحت عبر نافذتك المفتوحة ذات حلم صغير , أو لمحةً صغيرة من ذاكرتك الموغلة في الهجرة حين كانت ضحكتك تزغرد في الفضاء صافية رقراقة ..
لا .. ليس هذا الجنون ..
هو الجنون الحقيقيّ .. الجنون الذي ينفلت فيه العقل من أبعاده الأربعة و يتوه في مساحاتٍ مجهولة لم يكن يدريها ليشتعل في الشموس المحترقة و يغرق في أعمق محيط و يجالس القطط المتشرّدة على الأرصفة القذرة و ينام ملتحفاً جريدةً مهترئة و ينسى شكل النقود و يتشارك في عشائه مع بعض الكلاب الصديقة المقيمة جوار مطعمٍ بنجومٍ كثيرة ...
الجنون القاسي .. الذي يمزّق بعنف و سعار نسيجَ هذا العالَم المنظّم محطّماً رتابة الأشياء بتوحّش مدهش ناثراً فوضاه العارمة في كل الأنحاء ..
الجنون المخيف .. الذي يرقص مع أشباح الليل و جثث الموتى الهلِعة و ينصت مذهولاً لصرخات الأرواح الشقيّة حين تلفظها الأرض و ترفضها السماء فيبكي جذعاً على شواهد القبور الفاغرة أشداقها كثقوب سوداء نهمة بحجم أكوان ..
الجنون المتناقض المفتوح على كلّ الاحتمالات المتمرّد على كلّ ما هو مألوف و معتاد و نمطيّ .. الذي يضحك في المآتم و يندب في الأعراس , و يرقص عارياً في الشوارع حيث لا أحد يهتمّ , يتمدّد أمام السيّارات المتعجّلة و يتسلّق أعمدة النور و إشارات المرور , يمدّ لسانه في الوجوه المغرورة هازئاً بكلّ المتأنّقين , و يتغزّل في الصبايا العابرات دون خجل , و ينام على باب مسجدٍ صغير وقت الضحى ..
الجنون المعمّد بنار الرفض و التحدّي و الشكّ و السؤال الذي لا إجابة عنه , المغروس في عتمة الزوايا التي لم ترها عينان قط , المعذّب بتناقضات هذا العالَم الغامض المضمّخ بالأسرار , المرعوب مع كلّ قطرة دم تسفح على ظهر البريّة , المذهول من حجم الألم الذي يحيط كوكبنا كغلافٍ جويّ عملاق ينمو مع كلّ آهة و كل أنّة و كل نظرة وجع و كل صفعةٍ بربريّة تهبط على خدِ طفلةٍ لم تدرك بعد معنى الألم الحقيقيّ .
الجنون المقدّس الذي يصفعنا حين نخطئ , و يصرخ في وجوهنا حين نتحول إلى ذئابٍ بربطاتِ عنق و أنيابٍ نحاسيّة , و يضربنا بعصاه حين نضع ساقاً على ساق في الأماكن الخاشعة , و ينهرنا بقسوة حين نسيء الأدب في حضرة الله ..
الجنون المتفوّق .. الذي يتعالى على غرورنا و قسوتنا و صراعاتنا التافهة و شهواتنا الدنيئة و أحلامنا المريضة باحثاً وحده عن نورِ هذا العالَمِ المعتم الغامض ..
هذا هو الجنون الذي أعنيه ..
و هذا هو بالضبط الجنون الذي أردته حين قرّرت أن أصبح مجنوناً ..
( أيها العاقلون ..
افتحوا رؤوسكم المغلَقة ..
و الجماجم الموصَدة ...
انفضوا عن أدمغتكم غبار السنون ..
انثروا عليها الشمس و الهواء أياماً سبعة ..
و هلمّوا إلى حفلة الجنون .. )
ماذا لو استيقظتَ ذات صباح – ككلّ صباح - و مارستَ جميع طقوسك المعتادة من تثاؤب و تمطّط و فرك عيون و توضيب شعر و خلافه , ثم , بعد أن شاهدتَ نشرة الأخبار و أنت تحتسي قهوتكَ الصباحيّة الثقيلة و راقبت صعود الأسهم و هبوطها و تحركات الشركات و اندماجها , و أحصيتَ عدد الجثث مجهولة الهوية المرمية في شوارع بغداد , و تأمّلتَ وجه المذيعة الجميلة التي تنبئكَ و هي تبتسم ابتسامةَ بديعة أن الكارثة البيئيّة الناجمة عن الاحتباس الحراري قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى مما يعني ضمناً أن يوم القيامة قد اقترب , و قبل أن تذهب إلى الحمّام تتابع – واقفاً- أخبار الطقس التي تعلمك أن اليوم مثل الذي سبقه - و مثل آلاف الأيام التي سبقته - حاراً جافاً ليس فيه قطرة ماء تبلل نملة ..
في الطريق إلى الحمام لتكمل بقية الطقوس الضرورية لصباح روتيني تتوقّف فجأة .. تعبث بشعرك الذي ما زال منكوشاً .. تمسح جبهتك الحزينة .. تحملق في نقطة سوداء صغيرة على البلاط المتراصف .. ثم تبتسم هنيهة و تقول لنفسك :
- حسنٌ ... لقد قرّرتُ أن أجنّ ..
هل تصدّقون أنه يمكن لأيٍّ كان أن يتخذ قراراً بملء إرادته أن يجنّ ..؟؟؟
بالطبع أنا لا أقصد بالجنون تلك اللحظة الهوجاء التي فقدتَ فيها أعصابك و طار منك صوابك و تصرّفتَ دون أي شعور بالمسؤولية أو مراعاة للعواقب و قررتَ أن تتوقّف عن التدخين و أن تستبدله بعادة صحيّة أكثر كمضغ اللبان المحلّى الذي جعلك تبدو مراهقاً متسكّعاً لا همّ له إلا متابعة الأغاني الشبابية و البصبصة على السيّدات , و لتكتشف بعد أيّام أنكَ تمسك سيجارتك المشتعلة بين أصابعك و تلوك اللبان في فمك و أنك بحمد الله قد أصبحتَ مدمناً على اللبان و السجائر معاً ..
و لا أقصد أيضاً ذلك التصرّف الغريب المستهجَن يوم ( انطسّيت ) في نافوخك و عمي على بصيرتك و قمتَ هكذا بكل بساطة بدعوة أصدقائكَ على الغداء دون أن تجري قبل ذلك الاستشارات القانونية و الالتماسات المطلوبة في مثل هذه الحالات للسيدة حرمكم مما جعلها ( تتنرفز ) فوق الحدّ الاعتيادي و جعلكَ بنصف هدومك أمام الأصدقاء و ( بلا هدومك ) أمام الأولاد فيما بعد ..
لا .. لا .. أنا لا أقصد ذلك الجنون المؤقّت الذي يعترينا أحياناً حين نحلم مستيقظين أن السماء ستمطر يوماً ما , و الأشجار ستنمو من جديد , و أن الأطفال لن يبكوا بعد اليوم , و سيصبح الناس طيّبين جميعاً , ستنطفئ كلّ الحرائق , و ستبرق المجرّات المتراقصة على أنغام الكون البهيّ , و ستصبح النساء جميلات جداً و سيغدو الرجال رجالا , و سنتوقّف عن انتظار ما لا يأتي و سيأتي ما كنّا ننتظر أخيراً ..
لا .. ليس ذلك الجنون اللذيذ الذي يوحي إليكَ أنّك تلمس وجه حبيبتك حين تسطو عليكَ قسوة العمر المضني و تستولي على أعصابكَ المرهقة تلك الرغبة الخفيّة في الاستسلام و الموت , فتشعر تواً بالسلام و المحبّة و يستيقظ الطفل بداخلك يلعب و يغني و يرسم أشجاراً و سماءً و عصافير ملونة , فتغمض عينيك برهةً لتكتشف أن لحظة واحدةً من الجنون قد تهديك فرح أعمار ..
لا .. ليس ذلك الجنون اللطيف الذي يهديكَ في غفلةٍ من دهركَ الصارم كلمة حب همس بها طيف حنون , أو باقةُ عطر انداحت عبر نافذتك المفتوحة ذات حلم صغير , أو لمحةً صغيرة من ذاكرتك الموغلة في الهجرة حين كانت ضحكتك تزغرد في الفضاء صافية رقراقة ..
لا .. ليس هذا الجنون ..
هو الجنون الحقيقيّ .. الجنون الذي ينفلت فيه العقل من أبعاده الأربعة و يتوه في مساحاتٍ مجهولة لم يكن يدريها ليشتعل في الشموس المحترقة و يغرق في أعمق محيط و يجالس القطط المتشرّدة على الأرصفة القذرة و ينام ملتحفاً جريدةً مهترئة و ينسى شكل النقود و يتشارك في عشائه مع بعض الكلاب الصديقة المقيمة جوار مطعمٍ بنجومٍ كثيرة ...
الجنون القاسي .. الذي يمزّق بعنف و سعار نسيجَ هذا العالَم المنظّم محطّماً رتابة الأشياء بتوحّش مدهش ناثراً فوضاه العارمة في كل الأنحاء ..
الجنون المخيف .. الذي يرقص مع أشباح الليل و جثث الموتى الهلِعة و ينصت مذهولاً لصرخات الأرواح الشقيّة حين تلفظها الأرض و ترفضها السماء فيبكي جذعاً على شواهد القبور الفاغرة أشداقها كثقوب سوداء نهمة بحجم أكوان ..
الجنون المتناقض المفتوح على كلّ الاحتمالات المتمرّد على كلّ ما هو مألوف و معتاد و نمطيّ .. الذي يضحك في المآتم و يندب في الأعراس , و يرقص عارياً في الشوارع حيث لا أحد يهتمّ , يتمدّد أمام السيّارات المتعجّلة و يتسلّق أعمدة النور و إشارات المرور , يمدّ لسانه في الوجوه المغرورة هازئاً بكلّ المتأنّقين , و يتغزّل في الصبايا العابرات دون خجل , و ينام على باب مسجدٍ صغير وقت الضحى ..
الجنون المعمّد بنار الرفض و التحدّي و الشكّ و السؤال الذي لا إجابة عنه , المغروس في عتمة الزوايا التي لم ترها عينان قط , المعذّب بتناقضات هذا العالَم الغامض المضمّخ بالأسرار , المرعوب مع كلّ قطرة دم تسفح على ظهر البريّة , المذهول من حجم الألم الذي يحيط كوكبنا كغلافٍ جويّ عملاق ينمو مع كلّ آهة و كل أنّة و كل نظرة وجع و كل صفعةٍ بربريّة تهبط على خدِ طفلةٍ لم تدرك بعد معنى الألم الحقيقيّ .
الجنون المقدّس الذي يصفعنا حين نخطئ , و يصرخ في وجوهنا حين نتحول إلى ذئابٍ بربطاتِ عنق و أنيابٍ نحاسيّة , و يضربنا بعصاه حين نضع ساقاً على ساق في الأماكن الخاشعة , و ينهرنا بقسوة حين نسيء الأدب في حضرة الله ..
الجنون المتفوّق .. الذي يتعالى على غرورنا و قسوتنا و صراعاتنا التافهة و شهواتنا الدنيئة و أحلامنا المريضة باحثاً وحده عن نورِ هذا العالَمِ المعتم الغامض ..
هذا هو الجنون الذي أعنيه ..
و هذا هو بالضبط الجنون الذي أردته حين قرّرت أن أصبح مجنوناً ..
( أيها العاقلون ..
افتحوا رؤوسكم المغلَقة ..
و الجماجم الموصَدة ...
انفضوا عن أدمغتكم غبار السنون ..
انثروا عليها الشمس و الهواء أياماً سبعة ..
و هلمّوا إلى حفلة الجنون .. )