الرضا هو آخر منازل السلوك إلي معرفة الله عز وجل وهي منزلة الأبرار المقربين من أهل اليقين الذين قال الله عز وجل فيهم "رضي الله عنهم ورضوا عنه" "سورة المائدة 119"
ولكن حقيقة الرضا قد تكون مجهولة أو مشوهة عند الكثير من الناس ولا يمكن أن ندرك حقيقة الرضا إلا من التأمل في أحوال الرسول - سلم - فإنه - سلم - لما كملت معرفته بربه سبحانه وتعالي رأي أن الخالق مالك لما خلق. وللمالك التصرف في ملكه. ورآه حكيما لا يضع شيئا عبثا فسلم - سلم - أموره كلها إلي خالقه تسليم مملوك لحكيم فكانت العجائب تجري علي يديه ولا يوجد منه تغير ولا من طبعه تأفف بل ثبت للأقدار ثبوت الجبل لعواصف الرياح. لقد بعث - سلم - إلي الخلق جميعا وحده والكفر قد ملأ الآفاق فجعل يفر من مكان إلي مكان واستتر في دار الأرقم وهم يضربونه إذا خرج ويرمون عقبه قذفا بالحجارة وهو ساكت ساكن وابتلي بالجوع وشد الحجر علي بطنه ولله خزائن السموات والأرض ولم يتغير وقتل أصحابه من حوله وشج وجهه وكسرت رباعيته ومثل بعمه وهو ساكت ورزق ابنا وسلب منه فتعلل بالحسن والحسين وأخبر بما سيجري عليهما من قضاء الله وسكن بطبعه إلي أم المؤمنين عائشة فتنغص عيشه باتهام المنافقين إياها في حديث الإفك وظهرت نبوته فابتلي بمسيلمة الكذاب والعنسي وابن صياد وأقام ناموس الأمانة والصدق فقالوا ساحر كذاب ولما اعترض عليه عمر في صلح الحديبية قال رسول الله - سلم - إني عبدالله ولن يضيعني فقوله إني عبدالله إقرار بالملك فكأنه قال أنا مملوك لله يفعل بي ما يشاء وقوله لن يضيعني بيان لحكمته وأنه لا يفعل شيئا عبثا وهذان الأصلان هما أساس الرضا عند رسول الله - سلم - وهما أن الإنسان عبد مملوك لحكيم لا يعبث ثم يصيبه المرض كما يصيب الرجلين من الناس وهو ساكت ساكن ثم يشدد عليه الموت فيسلب روحه الشريف وهو مضطجع في كساء ملبد وإزار غليظ وليس عنده زيت يوقد به المصباح ليلتئد هذا بلاء ما قدر علي الصبر عليه كما ينبغي الصبر نبي قبله ولو ابتليت به الملائكة ما صبرت. فهذا آدم عليه السلام تباح له الجنة سوي شجرة واحدة فلا يحرص إلا علي هذه الشجرة الواحدة أن ينال منها ونبينا محمد - سلم - يقول "مالي وللدنيا" ونوح عليه السلام يضج مما لاقي من قومه فيصيح من شدة كمده فيقول رب لا تذر علي الأرض من الكافرين ديارا ونبينا محمد سلم يقول "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" ويخير بين البقاء والموت فيختار الرحيل إلي الرفيق الأعلي وسليمان عليه السلام يقول "رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي" ومحمد - سلم - يقول "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتا" هذا سلوك رجل عرف الوجود وموجده فماتت أغراضه وسكنت اعتراضاته وصار هواه فيما يجري من القضاء والقدر راضيا به مدركا فيه من حكمة الله وعلمه ما لا يدركه غيره فاستحق أن يسجل في القرآن الكريم الثناء عليه ليتلي أبد الدهر علي أسماع الخلق في كل مكان "وإنك لعلي خلق عظيم".