يبرر خلافه مع الإمام مالك بقول أرسطو: "أفلاطون صديقى والحق صديق فإذا تنازعنا فالحق أولى بالصداقة"
آمن الشاب الصغير "محمد بن إدريس بن العباس بن شافع" الذى سيعرف فيما بعد
باسم "الإمام الشافعى" بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن "الحكمة ضالة
المؤمن.. حيث وجدها فهو أحق بها"، فوهب حياته للبحث عن تلك الضالة مجاهداً
مجتهداً، ولما اطمأن قلبه إلى ما حصّله من حكمة أراد أن يعم النفع على
الناس فكتبت كتبه المشهورة، لكنه وبرغم أنه كان أفقه أهل الأرض فى زمنه
يقول فى وصفها "لقد ألفت الكتب ولم آل فيها، ولابد أن يوجد فيها خطأ لأن
الله تعالى يقول "لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً".
تلك هى صفة العالم، عدم ادعاء الكمال وقبول احتمال وجود خطأ فى آرائه بل
الجزم بوجود الخطأ قائلاً: "ولابد أن يوجد فيها خطأ" فاتحا بذلك السلوك
بابا من أبواب الاجتهاد فيما ما تم تحصيله من علم وما تم تخريجه من أحاديث
وأحكام، ومتبعا سنة الصحابة الكرام الذين كانوا يجتهدون برأيهم وإذا ما
وجدوا الأصوب نحوا نحوه، حيث يقول الإمام فى هذا الشأن: "كان رأيى ورأى عمر
فى أمهات الأولاد -أى الجارية التى تنجب ولدا لسيدها- ألا يبعن وأنا الآن
أرى بيعهن"، وكان ابن عباس يقول لا ربا إلا فى النسيئة، ثم رجع أثبت ربا
الفضل، وأوصى عمر بن الخطاب رضى الله عنه أحد قضاته قائلاً: "لا يمنعنك
قضاء قضية بالأمس فراجعت فيه عقلك وهديت لرشدك من أن ترجع إلى الحق فإن
الرجوع إلى الحق خير من التمادى فى الباطل" وهم فى ذلك متبعون غير مبتدعين
فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حينما سأل عن قذف الرجل
لامرأته توقف عن إبداء الحكم حتى نزلت آية اللعان "والذين يرمون أزواجهم
ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم" وقد روى عنه إنه قال "المؤمن وقاف والمنافق
وثاب".
وعى الإمام الشافعى كل هذا، فكان من أحرص الناس على الوصول إلى الحقيقة غير
متهيب من مخالفة رأيه إذا ما اختلفت الأسس التى بناه عليها، سواء كانت هذه
الأسس أحاديث نبوية لم يكن على علم بها أو مستجدات حياتية لم يكن يعلم
عنها شيئا، ولهذا يؤثر عنه أن عدل بعض فقهه وغيّر ما كان بكتبه بعد أن جاء
إلى مصر ورأى ما لم يره وعلم ما لم يكن يعلمه، ومن أهم ما جعل الإمام يغير
بعض آرائه هو تتبعه أثر الإمام المصرى "الليث بن سعد" واطلاعه على آثار مصر
وحضارتها واندماجه فى المجتمع المصرى وجلوسه بين يدى الصالحين فى هذا
العصر وأشهرهم السيدة نفسية رضوان الله عليها، فمن الثابت أن الإمام
الشافعى قال "الليث أفقه من مالك لولا أن قومه أضاعوه"، وأنه فور قدومه إلى
مصر صار يتتبع أثره ويقف بين يدى تلاميذه ليتعرف على ما فاته من تتلمذ على
يد الليث، لكن القول بأن الإمام الشافعى تأثر بفقه الإمام الليث أغضب
متعصبى المذهب الشافعى، مدعين أن الإمام لم يتأثر بالليث ومتحججين بندرة ما
أخذه الشافعى عن الليث فى كتبه، ولهم العذر فى ذلك إذا ما نظرنا إلى ضيق
أفقهم وضآلة تفكيرهم، فهم لا يعترفون بالعلم إلا نقلا، ولا يدركون أن نتيجة
البحث ليست هى الإنجاز فى حد ذاته، لكن طريقة الوصول إلى هذه النتيجة هى
الإنجاز كله، والمقصود أن الإمام الشافعى قد تأثر بالإمام مالك باتباع نفس
آلياته فى التحقيق والحكم والوصول إلى الفتوى، أى أنه نقل عنه طريقة تفكيره
التى ثبت أنه تعلمها بمقولته "الليث أفقه من مالك" وإلا فكيف عرف أن الليث
أفقه من مالك؟
ويبدو أن حب الشافعى لعالم مصر الأول واحترامه له وتتبعه أثره أسهم فى أن
يتعلق المصريون به وأن تصبح حلقته فى مسجد عمرو بن العاص هى الحلقة الأكبر،
وفى الحقيقة لقد استحق الإمام هذه المكانة عن جدارة، وهو الذى عاش يجوب
البلاد من أجل نيل العلم مضحيا فى سبيل ذلك بصحته ووقته وماله، وكان نتيجة
هذا أن فتح الله عليه بمبادئ مذهب جديد خلد اسمه فى قائمة الأئمة وحفظ
بحروف من نور مكانته فى قائمة النورانيين، وقد وجد الإمام الشافعى أن
الفقهاء فى عصره فريقان، الأول يأخذ بالأحاديث وعلى رأسه الإمام مالك
والثانى يأخذ بالرأى المستنبط من الأحاديث بالقياس وعلى رأسه الإمام
أبوحنيفة، فعمد الإمام الشافعى التقريب بين هذين الفريقين فلا الرأى رأى عن
هوى، ولا من المعقول أن يخالف الكتاب والسنة رأى لا يبتغى إلا مرضاة الله،
وللتدليل على حاجة الفكر الإسلامى إلى ما يزاوج بين الرأى والحديث يورد
الأستاذ عبدالرحمن الشرقاوى فى كتابة "الأئمة التسعة" نماذج لأبرز المواقف
التى أوجبت الاحتكام إلى الرأى المستنبط من الفطرة السليمة والغرض النزيه
والمتفق مع مقاصد الشريعة والحديث الشريف فيقول: سأل أحد أهل الرأى واحدا
من أهل الحديث فى أمر طفل وطفلة رضعا معا من ضرع شاة ثم كبرا، أيجوز لهما
الزواج؟ فقال صاحب الحديث: زواجهما حرام، فسأله صاحب الرأى: بأى نص حكمت؟
فقال صاحب الحديث: بالحديث القائل: كل صبيين اجتمعا على ثدى واحد حرم
أحدهما على الآخر، فقال صاحب الرأى ضاحكا: قال الرسول: اجتمعا على ثدى واحد
لا على ضرع واحد، إنما يثبت الحديث بين الآدميين لا بين شاة وآدمى، فلو
أنك أعملت العقل والرأى ما أخطأت. وما سويت بين المرأة والنعجة!
مثال آخر يورده الشرقاوى فى الشأن قائلاً: امرأة قدمت مع زوجها من إحدى
البلاد إلى الكوفة، فتعلق بها رجل كوفى وتعلقت به، واعيا أنهما زوجان، وعجز
زوجها عن إثبات زواجه لها، فعرضت القضية على أحد أئمة أهل الحديث فحكم بأن
المرأة للكوفى، ولما عرضت على الإمام أبى حنيفة شك فى ادعاء الزوجة
والكوفى، فأخذ جماعة من الناس ومعهم بعض أهل الحديث وذهبوا إلى المنطقة
التى يقيم فيها زوج المرأة فنبحت كلابهم وهمت أن تهاجمهم كما تفعل مع
الغرباء، ثم عاد أبوحنيفة وأخذ الزوجة ومعها شهود من أهل الحديث وأمر
الزوجة أن تدخل وحدها إلى منازل المنطقة، فلما اقتربت بصبص الكلاب حولها
كما تفعل بأصحابها فقال أبوحنيفة: ظهر الحق فانقادت المرأة للحق واعترفت
أنها كذبت، وعادت إلى زوجها وسخر أهل الرأى من أهل الحديث فى هذه القضية.
ولأن الإمام الشافعى كان يبحث دائما عن الحق مزج بين مميزات الفريقين وأنتج
مذهباً جديداً بوعى جديد مضيفا إلى علمه علوما اكتسبها فى مصر، متمردا على
أستاذه القديم "الإمام مالك" ومصدرا كتابه الشهير "خلاف مالك" الذى فند
فيه بعض آراء "الأستاذ" ليكفف من هالة القداسة التى ضربها أتباعه عليه،
ومتبعا فى ذلك سنة الإمام "الليث بن سعد" الذى كان يرسل لـ"مالك" الرسائل
الطوال إذا ما أفتى بما يراه "الليث" خاطئا، ولم يكن بمستغرب بعد مكوث
الشافعى فى مصر أن يحاجج لائميه الذين عاتبوه لإصداره "خلاف مالك" مستشهدا
بمأثورات الثقافة اليونانية قائلاً: "إن أرسطو تعلم الحكمة من أفلاطون ثم
خالفه قائلا إن أفلاطون صديقى والحق صديق فإذا تنازعنا فالحق أولى
بالصداقة".
وفى الحقيقة فإن النهل من المنابع الثقافية المتعددة حتى وإن بدا ذلك غير
مستساغ عند البعض كان ميزة تمتع بها الشافعى، فروى عنه أنه كان يتغنى بشعر
شعراء قبيلة "هذيل" فى الحب والغزل مع أحد أصدقائه ثم قال له "لا تعلم بهذا
أحدا من أهل الحديث فإنهم لا يحتملون هذا"، وذلك لأن الإمام الشافعى كان
قد مكث فى قبيلة هذيل ليتعلم الشعر والأدب واللغة عشر سنوات حفظ فيها أغلب
قصائدهم، حتى قال عنه شيخ اللغويين "الأصمعى": "صححت أشعار الهذليين على
فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس" فقد أيقن الإمام الشافعى أن اللغة هى
مفتاح فهم القرآن والحديث، وما كانت كلمة لتمر أمامه دون أن يعرف معناها،
معجبا بقول العباس "والله ما علمت معنى كلمة فاطر السموات والأرض حتى رأيت
أعرابية تقول عن ابنها أنا فطرته" وهو ذات الموقف الذى وقع مع الإمام
الشافعى حيث توقف الإمام وهو ينظر تفسير القرآن أمام الآية "وقد خاب من
دساها" فخرج إلى خارج مكة ليعرف معناها فلم يتمكن، وسأل عنها فى "هذيل" فلم
يعرفوا للكلمة معنى، فلاذ بأمه يسألها النصيحة فوجهته إلى أحد الفقهاء
فقال له: دساها من لغة السودان ومعناها "أغواها".
وبرغم أن الإمام الشافعى كان تلميذا نجيبا للإمام مالك وبين يديه جلس تسع
سنوات ولم يفارقه إلا حينما مات لكنه كان دائم السعى لينهل من علوم أصحاب
المذاهب الأخرى، فاحتال على عدم إدراكه للإمام أبى حنيفة بأن تتلمذ على يد
تلميذ الإمام محمد بن الحسن كما اكتسب بعضا من العلوم الدنيوية كالكيمياء
والطب والفيزياء الفلك والتنجيم وتعلم الفراسة.
ولأنه رحمه الله كان كأستاذه الإمام مالك لا يستطيع كتمان الحق كان يستكثر
أن يهاجم أحد فقه الإمام أبى حنيفة، وكان الهجوم على الإمام عادة من عادات
أهل الحديث فى المدينة ولهذا كان يردعهم بالقول "كلنا فى الفقه عيال على
أبى حنيفة" ولما مات الإمام مالك سافر الشافعى إلى اليمن متقلدا منصبا فى
القضاء، ويقال إنه تعرف هناك على يحيى بن حسان تلميذ الليث بن سعد المصرى
وصاحبه، فأخذ عنه كل ما انتهى إليه من فقه الليث، لكنه وجد حاكم نجران يظلم
الناس، فقاوم الحاكم ووقف فى المسجد يحض الناس على مقاومته، فوشى حاكم
نجران بالشافعى عند الخليفة هارون الرشيد متهما إياه بالتشيع، وكاد الرشيد
أن يقتله لولا بلاغته فى الدفاع عن نفسه وتوسط محمد بن الحسن تلميذ أبى
حنيفة الذى كان قد قابله فى مكة له، وقد أصبح قاضى بغداد، وبدلا من أن يقطع
الرشيد رقبته أعطاه خمسين ألف دينار لما وجد فيه من نباهة وعلم وفقه
وفصاحة.
تركت تلك المحنة التى مر بها الإمام وتعرضه للسجن والترحيل والوقوف بين يدى
الخليفة مهددا بالموت أثرا كبيرا، فعاهد نفسه على عدم الانغماس فى السياسة
وحينما استدعاه الخليفة المأمون عارضا عليه أن يوليه منصب قاضى القضاة رفض
الشافعى المنصب، وشيئا فشيئا تفرق عنه أحبابه الذين استجابوا لنداء القدر،
وفى هذه الأثناء تلقى دعوة من والى مصر للإقامة ببلد النيل، وقبل أن يرحل
اتجه إلى قبر الإمام أبوحنيفة النعمان وصلى ركعتين، وانظر كيف كان هؤلاء
الأئمة العظام يحترمون بعضهم البعض حتى وهم أموات، فقد روى أن الإمام
الشافعى وهو يزور قبر أبوحنيفة ويصلى ركعتين عدل من حركات الصلاة متبعا
قواعد أبى حنيفة، ولما سأله أصحابه عن علة تغيير حركات الصلاة قال: أدبا مع
الإمام أبى حنيفة أن أخالفه فى حضرته.
وحينما عقد العزم على السفر إلى مصر أنشد الشافعى شعرا يقول فيه:
لقد أصبحت نفسى تتوق إلى مصر.. ومن دونها قطع المهامة والقفر
فوالله ما أدرى أم الفوز والغنى.. أساق إليها أم أساق إلى القبر
وفى خمس سنوات على أقصى تقدير هى مدة إقامة الإمام الشافعى فى مصر، لكنها
كانت سنوات عامرة، فيها راجع فقهه وطوره، وفيها عرف ما لم يعرف، وفيها أصدر
كل كتبه بعد تنقيحها، وفيها أصدر كتابه الشهير "أهل البغى" القائم على
تفسير قوله تعالى: "فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله" منتصرا فيه
للإمام على بن أبى طالب ومعتبرا معاوية بن أبى سفيان باغيا وقتاله جهاداً
فى سبيل الله، وهو ما جعل أصحاب الإمام أحمد بن حنبل يتهمونه بالتشيع فقال
لهم الإمام أحمد: "سبحان الله وهل ابتلى أحد بقتال أهل البغى قبل أمير
المؤمنين على بن أبى طالب" ويبدو أن الإمام كان فى قلبه ميل لكتابة هذا
الكتاب منذ أن كان باليمن لكنه لم يجرؤ على كتابته إلا فى مصر حينما صفت
نفسه وتمكن، وفى مصر أيضا راجع كتاب "الرسالة" ونقد الإمامين "أبوحنيفة
ومالك" تمهيدا لإعلانه مذهبه الجديد.
فى الخمس سنوات التى عاشها الإمام فى مصر أنجز ما لم ينجزه فى حياته كلها،
وأسس الإمام قواعد أصول الفقه وهى الكتاب والسنة المجمع عليها التى لا
اختلاف فيها، والإجماع ثم القياس، وتحامل على نفسه مقصرا فى حق صحته، فقد
ابتلاه الله بمرض البواسير ونصحه الأطباء بالتقليل من جلوسه للدرس وإلا
فستكون فى جلساته أسباب موته، لكنه لم يكترث، بحياته وصحته فى مقابل تأسيس
مذهبه وتنقيح علمه، فمات معانيا مع هذا المرض، لكن ياقوت الحموى فى كتابه
معجم البلدان ذكر سببا آخر لموت الإمام الشافعى يضعه فى خانة شهداء الرأى
بلا جدال، فيقول إنه كان هناك شاب من أتباع الإمام مالك اسمه فتيان "فيه
حدة وطيش" وساء هذا الفتيان تأليف الإمام الشافعى كتابه الشهير "خلاف مالك"
وكان يناظر الإمام وملؤه حقد وتعصب، وفى إحدى المناظرات أحرج الشافعى
"فتيان" على الملأ، فازدادت حدة "فتيان" وتهوره، فشتم الإمام الشافعى شتما
قبيحا، فلم يرد عليه الإمام، لكن أحد الحضور سرد للوالى تلك الواقعة، فأمر
الوالى أن يضرب فتيان بالسياط يحمل على جمل وينادى به المنادى هذا جزاء من
سب آل رسول الله، وقد كان الشافعى يلتقى فى نسبه مع الرسول الكريم، وهذا ما
أثار استياء أصحاب فتيان فتربصوا بالإمام بعد صلاة العشاء، وضربوه ضربا
مبرحا ومات على أثر هذا الضرب، وعلى فراش الموت :
آمن الشاب الصغير "محمد بن إدريس بن العباس بن شافع" الذى سيعرف فيما بعد
باسم "الإمام الشافعى" بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن "الحكمة ضالة
المؤمن.. حيث وجدها فهو أحق بها"، فوهب حياته للبحث عن تلك الضالة مجاهداً
مجتهداً، ولما اطمأن قلبه إلى ما حصّله من حكمة أراد أن يعم النفع على
الناس فكتبت كتبه المشهورة، لكنه وبرغم أنه كان أفقه أهل الأرض فى زمنه
يقول فى وصفها "لقد ألفت الكتب ولم آل فيها، ولابد أن يوجد فيها خطأ لأن
الله تعالى يقول "لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيراً".
تلك هى صفة العالم، عدم ادعاء الكمال وقبول احتمال وجود خطأ فى آرائه بل
الجزم بوجود الخطأ قائلاً: "ولابد أن يوجد فيها خطأ" فاتحا بذلك السلوك
بابا من أبواب الاجتهاد فيما ما تم تحصيله من علم وما تم تخريجه من أحاديث
وأحكام، ومتبعا سنة الصحابة الكرام الذين كانوا يجتهدون برأيهم وإذا ما
وجدوا الأصوب نحوا نحوه، حيث يقول الإمام فى هذا الشأن: "كان رأيى ورأى عمر
فى أمهات الأولاد -أى الجارية التى تنجب ولدا لسيدها- ألا يبعن وأنا الآن
أرى بيعهن"، وكان ابن عباس يقول لا ربا إلا فى النسيئة، ثم رجع أثبت ربا
الفضل، وأوصى عمر بن الخطاب رضى الله عنه أحد قضاته قائلاً: "لا يمنعنك
قضاء قضية بالأمس فراجعت فيه عقلك وهديت لرشدك من أن ترجع إلى الحق فإن
الرجوع إلى الحق خير من التمادى فى الباطل" وهم فى ذلك متبعون غير مبتدعين
فقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حينما سأل عن قذف الرجل
لامرأته توقف عن إبداء الحكم حتى نزلت آية اللعان "والذين يرمون أزواجهم
ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم" وقد روى عنه إنه قال "المؤمن وقاف والمنافق
وثاب".
وعى الإمام الشافعى كل هذا، فكان من أحرص الناس على الوصول إلى الحقيقة غير
متهيب من مخالفة رأيه إذا ما اختلفت الأسس التى بناه عليها، سواء كانت هذه
الأسس أحاديث نبوية لم يكن على علم بها أو مستجدات حياتية لم يكن يعلم
عنها شيئا، ولهذا يؤثر عنه أن عدل بعض فقهه وغيّر ما كان بكتبه بعد أن جاء
إلى مصر ورأى ما لم يره وعلم ما لم يكن يعلمه، ومن أهم ما جعل الإمام يغير
بعض آرائه هو تتبعه أثر الإمام المصرى "الليث بن سعد" واطلاعه على آثار مصر
وحضارتها واندماجه فى المجتمع المصرى وجلوسه بين يدى الصالحين فى هذا
العصر وأشهرهم السيدة نفسية رضوان الله عليها، فمن الثابت أن الإمام
الشافعى قال "الليث أفقه من مالك لولا أن قومه أضاعوه"، وأنه فور قدومه إلى
مصر صار يتتبع أثره ويقف بين يدى تلاميذه ليتعرف على ما فاته من تتلمذ على
يد الليث، لكن القول بأن الإمام الشافعى تأثر بفقه الإمام الليث أغضب
متعصبى المذهب الشافعى، مدعين أن الإمام لم يتأثر بالليث ومتحججين بندرة ما
أخذه الشافعى عن الليث فى كتبه، ولهم العذر فى ذلك إذا ما نظرنا إلى ضيق
أفقهم وضآلة تفكيرهم، فهم لا يعترفون بالعلم إلا نقلا، ولا يدركون أن نتيجة
البحث ليست هى الإنجاز فى حد ذاته، لكن طريقة الوصول إلى هذه النتيجة هى
الإنجاز كله، والمقصود أن الإمام الشافعى قد تأثر بالإمام مالك باتباع نفس
آلياته فى التحقيق والحكم والوصول إلى الفتوى، أى أنه نقل عنه طريقة تفكيره
التى ثبت أنه تعلمها بمقولته "الليث أفقه من مالك" وإلا فكيف عرف أن الليث
أفقه من مالك؟
ويبدو أن حب الشافعى لعالم مصر الأول واحترامه له وتتبعه أثره أسهم فى أن
يتعلق المصريون به وأن تصبح حلقته فى مسجد عمرو بن العاص هى الحلقة الأكبر،
وفى الحقيقة لقد استحق الإمام هذه المكانة عن جدارة، وهو الذى عاش يجوب
البلاد من أجل نيل العلم مضحيا فى سبيل ذلك بصحته ووقته وماله، وكان نتيجة
هذا أن فتح الله عليه بمبادئ مذهب جديد خلد اسمه فى قائمة الأئمة وحفظ
بحروف من نور مكانته فى قائمة النورانيين، وقد وجد الإمام الشافعى أن
الفقهاء فى عصره فريقان، الأول يأخذ بالأحاديث وعلى رأسه الإمام مالك
والثانى يأخذ بالرأى المستنبط من الأحاديث بالقياس وعلى رأسه الإمام
أبوحنيفة، فعمد الإمام الشافعى التقريب بين هذين الفريقين فلا الرأى رأى عن
هوى، ولا من المعقول أن يخالف الكتاب والسنة رأى لا يبتغى إلا مرضاة الله،
وللتدليل على حاجة الفكر الإسلامى إلى ما يزاوج بين الرأى والحديث يورد
الأستاذ عبدالرحمن الشرقاوى فى كتابة "الأئمة التسعة" نماذج لأبرز المواقف
التى أوجبت الاحتكام إلى الرأى المستنبط من الفطرة السليمة والغرض النزيه
والمتفق مع مقاصد الشريعة والحديث الشريف فيقول: سأل أحد أهل الرأى واحدا
من أهل الحديث فى أمر طفل وطفلة رضعا معا من ضرع شاة ثم كبرا، أيجوز لهما
الزواج؟ فقال صاحب الحديث: زواجهما حرام، فسأله صاحب الرأى: بأى نص حكمت؟
فقال صاحب الحديث: بالحديث القائل: كل صبيين اجتمعا على ثدى واحد حرم
أحدهما على الآخر، فقال صاحب الرأى ضاحكا: قال الرسول: اجتمعا على ثدى واحد
لا على ضرع واحد، إنما يثبت الحديث بين الآدميين لا بين شاة وآدمى، فلو
أنك أعملت العقل والرأى ما أخطأت. وما سويت بين المرأة والنعجة!
مثال آخر يورده الشرقاوى فى الشأن قائلاً: امرأة قدمت مع زوجها من إحدى
البلاد إلى الكوفة، فتعلق بها رجل كوفى وتعلقت به، واعيا أنهما زوجان، وعجز
زوجها عن إثبات زواجه لها، فعرضت القضية على أحد أئمة أهل الحديث فحكم بأن
المرأة للكوفى، ولما عرضت على الإمام أبى حنيفة شك فى ادعاء الزوجة
والكوفى، فأخذ جماعة من الناس ومعهم بعض أهل الحديث وذهبوا إلى المنطقة
التى يقيم فيها زوج المرأة فنبحت كلابهم وهمت أن تهاجمهم كما تفعل مع
الغرباء، ثم عاد أبوحنيفة وأخذ الزوجة ومعها شهود من أهل الحديث وأمر
الزوجة أن تدخل وحدها إلى منازل المنطقة، فلما اقتربت بصبص الكلاب حولها
كما تفعل بأصحابها فقال أبوحنيفة: ظهر الحق فانقادت المرأة للحق واعترفت
أنها كذبت، وعادت إلى زوجها وسخر أهل الرأى من أهل الحديث فى هذه القضية.
ولأن الإمام الشافعى كان يبحث دائما عن الحق مزج بين مميزات الفريقين وأنتج
مذهباً جديداً بوعى جديد مضيفا إلى علمه علوما اكتسبها فى مصر، متمردا على
أستاذه القديم "الإمام مالك" ومصدرا كتابه الشهير "خلاف مالك" الذى فند
فيه بعض آراء "الأستاذ" ليكفف من هالة القداسة التى ضربها أتباعه عليه،
ومتبعا فى ذلك سنة الإمام "الليث بن سعد" الذى كان يرسل لـ"مالك" الرسائل
الطوال إذا ما أفتى بما يراه "الليث" خاطئا، ولم يكن بمستغرب بعد مكوث
الشافعى فى مصر أن يحاجج لائميه الذين عاتبوه لإصداره "خلاف مالك" مستشهدا
بمأثورات الثقافة اليونانية قائلاً: "إن أرسطو تعلم الحكمة من أفلاطون ثم
خالفه قائلا إن أفلاطون صديقى والحق صديق فإذا تنازعنا فالحق أولى
بالصداقة".
وفى الحقيقة فإن النهل من المنابع الثقافية المتعددة حتى وإن بدا ذلك غير
مستساغ عند البعض كان ميزة تمتع بها الشافعى، فروى عنه أنه كان يتغنى بشعر
شعراء قبيلة "هذيل" فى الحب والغزل مع أحد أصدقائه ثم قال له "لا تعلم بهذا
أحدا من أهل الحديث فإنهم لا يحتملون هذا"، وذلك لأن الإمام الشافعى كان
قد مكث فى قبيلة هذيل ليتعلم الشعر والأدب واللغة عشر سنوات حفظ فيها أغلب
قصائدهم، حتى قال عنه شيخ اللغويين "الأصمعى": "صححت أشعار الهذليين على
فتى من قريش يقال له محمد بن إدريس" فقد أيقن الإمام الشافعى أن اللغة هى
مفتاح فهم القرآن والحديث، وما كانت كلمة لتمر أمامه دون أن يعرف معناها،
معجبا بقول العباس "والله ما علمت معنى كلمة فاطر السموات والأرض حتى رأيت
أعرابية تقول عن ابنها أنا فطرته" وهو ذات الموقف الذى وقع مع الإمام
الشافعى حيث توقف الإمام وهو ينظر تفسير القرآن أمام الآية "وقد خاب من
دساها" فخرج إلى خارج مكة ليعرف معناها فلم يتمكن، وسأل عنها فى "هذيل" فلم
يعرفوا للكلمة معنى، فلاذ بأمه يسألها النصيحة فوجهته إلى أحد الفقهاء
فقال له: دساها من لغة السودان ومعناها "أغواها".
وبرغم أن الإمام الشافعى كان تلميذا نجيبا للإمام مالك وبين يديه جلس تسع
سنوات ولم يفارقه إلا حينما مات لكنه كان دائم السعى لينهل من علوم أصحاب
المذاهب الأخرى، فاحتال على عدم إدراكه للإمام أبى حنيفة بأن تتلمذ على يد
تلميذ الإمام محمد بن الحسن كما اكتسب بعضا من العلوم الدنيوية كالكيمياء
والطب والفيزياء الفلك والتنجيم وتعلم الفراسة.
ولأنه رحمه الله كان كأستاذه الإمام مالك لا يستطيع كتمان الحق كان يستكثر
أن يهاجم أحد فقه الإمام أبى حنيفة، وكان الهجوم على الإمام عادة من عادات
أهل الحديث فى المدينة ولهذا كان يردعهم بالقول "كلنا فى الفقه عيال على
أبى حنيفة" ولما مات الإمام مالك سافر الشافعى إلى اليمن متقلدا منصبا فى
القضاء، ويقال إنه تعرف هناك على يحيى بن حسان تلميذ الليث بن سعد المصرى
وصاحبه، فأخذ عنه كل ما انتهى إليه من فقه الليث، لكنه وجد حاكم نجران يظلم
الناس، فقاوم الحاكم ووقف فى المسجد يحض الناس على مقاومته، فوشى حاكم
نجران بالشافعى عند الخليفة هارون الرشيد متهما إياه بالتشيع، وكاد الرشيد
أن يقتله لولا بلاغته فى الدفاع عن نفسه وتوسط محمد بن الحسن تلميذ أبى
حنيفة الذى كان قد قابله فى مكة له، وقد أصبح قاضى بغداد، وبدلا من أن يقطع
الرشيد رقبته أعطاه خمسين ألف دينار لما وجد فيه من نباهة وعلم وفقه
وفصاحة.
تركت تلك المحنة التى مر بها الإمام وتعرضه للسجن والترحيل والوقوف بين يدى
الخليفة مهددا بالموت أثرا كبيرا، فعاهد نفسه على عدم الانغماس فى السياسة
وحينما استدعاه الخليفة المأمون عارضا عليه أن يوليه منصب قاضى القضاة رفض
الشافعى المنصب، وشيئا فشيئا تفرق عنه أحبابه الذين استجابوا لنداء القدر،
وفى هذه الأثناء تلقى دعوة من والى مصر للإقامة ببلد النيل، وقبل أن يرحل
اتجه إلى قبر الإمام أبوحنيفة النعمان وصلى ركعتين، وانظر كيف كان هؤلاء
الأئمة العظام يحترمون بعضهم البعض حتى وهم أموات، فقد روى أن الإمام
الشافعى وهو يزور قبر أبوحنيفة ويصلى ركعتين عدل من حركات الصلاة متبعا
قواعد أبى حنيفة، ولما سأله أصحابه عن علة تغيير حركات الصلاة قال: أدبا مع
الإمام أبى حنيفة أن أخالفه فى حضرته.
وحينما عقد العزم على السفر إلى مصر أنشد الشافعى شعرا يقول فيه:
لقد أصبحت نفسى تتوق إلى مصر.. ومن دونها قطع المهامة والقفر
فوالله ما أدرى أم الفوز والغنى.. أساق إليها أم أساق إلى القبر
وفى خمس سنوات على أقصى تقدير هى مدة إقامة الإمام الشافعى فى مصر، لكنها
كانت سنوات عامرة، فيها راجع فقهه وطوره، وفيها عرف ما لم يعرف، وفيها أصدر
كل كتبه بعد تنقيحها، وفيها أصدر كتابه الشهير "أهل البغى" القائم على
تفسير قوله تعالى: "فقاتلوا التى تبغى حتى تفىء إلى أمر الله" منتصرا فيه
للإمام على بن أبى طالب ومعتبرا معاوية بن أبى سفيان باغيا وقتاله جهاداً
فى سبيل الله، وهو ما جعل أصحاب الإمام أحمد بن حنبل يتهمونه بالتشيع فقال
لهم الإمام أحمد: "سبحان الله وهل ابتلى أحد بقتال أهل البغى قبل أمير
المؤمنين على بن أبى طالب" ويبدو أن الإمام كان فى قلبه ميل لكتابة هذا
الكتاب منذ أن كان باليمن لكنه لم يجرؤ على كتابته إلا فى مصر حينما صفت
نفسه وتمكن، وفى مصر أيضا راجع كتاب "الرسالة" ونقد الإمامين "أبوحنيفة
ومالك" تمهيدا لإعلانه مذهبه الجديد.
فى الخمس سنوات التى عاشها الإمام فى مصر أنجز ما لم ينجزه فى حياته كلها،
وأسس الإمام قواعد أصول الفقه وهى الكتاب والسنة المجمع عليها التى لا
اختلاف فيها، والإجماع ثم القياس، وتحامل على نفسه مقصرا فى حق صحته، فقد
ابتلاه الله بمرض البواسير ونصحه الأطباء بالتقليل من جلوسه للدرس وإلا
فستكون فى جلساته أسباب موته، لكنه لم يكترث، بحياته وصحته فى مقابل تأسيس
مذهبه وتنقيح علمه، فمات معانيا مع هذا المرض، لكن ياقوت الحموى فى كتابه
معجم البلدان ذكر سببا آخر لموت الإمام الشافعى يضعه فى خانة شهداء الرأى
بلا جدال، فيقول إنه كان هناك شاب من أتباع الإمام مالك اسمه فتيان "فيه
حدة وطيش" وساء هذا الفتيان تأليف الإمام الشافعى كتابه الشهير "خلاف مالك"
وكان يناظر الإمام وملؤه حقد وتعصب، وفى إحدى المناظرات أحرج الشافعى
"فتيان" على الملأ، فازدادت حدة "فتيان" وتهوره، فشتم الإمام الشافعى شتما
قبيحا، فلم يرد عليه الإمام، لكن أحد الحضور سرد للوالى تلك الواقعة، فأمر
الوالى أن يضرب فتيان بالسياط يحمل على جمل وينادى به المنادى هذا جزاء من
سب آل رسول الله، وقد كان الشافعى يلتقى فى نسبه مع الرسول الكريم، وهذا ما
أثار استياء أصحاب فتيان فتربصوا بالإمام بعد صلاة العشاء، وضربوه ضربا
مبرحا ومات على أثر هذا الضرب، وعلى فراش الموت :