لم
تكن التقارير التي نشرتها مجلتان أمريكيتان عن الشرق الأوسط الجديد وتقسيم
الدول العربية إلى دويلات طائفية، ومن ثم التحقيق الموسّع عن سورية التي
نشرته مجلة "نيويورك تايمز ماجازين" إلا تسريبات عن دوائر الاستخبارات
الأمريكية، والتي ركزت فيها على نقطتين هامتين هما: إضعاف أو موت العلاقات
العربية، وإنعاش الطائفية، تمهيداً لإنشاء دويلات تقوم على أساس طائفي.
أما
مجلة القوة العسكرية "Armed Forces Journal" فقد تحدّثت بوضوح وتفصيل قبل
سنوات عن خطط التقسيم، بل إنها ألحقت بمقالها – الذي يعرضه لكم "جهينة
نيوز" اليوم- خريطة للدويلات الجديدة التي سوف تظهر في العالم العربي،
والتي أشارت إلى أنه يجب على الغرب أن يُدرك بأن العراق وسورية ولبنان
وباقي الدول العربية مخلوقات اصطناعية، وأن القومية العربية هي الخطر
الحقيقي على الغرب، والحل يكمُن في إقامة دويلات جديدة طائفية وعشائرية.
وتضيف
المجلة: إن إسرائيل لا يمكنها العيش مع جيرانها ولهذا جاء الفصل عن
جيرانها العرب، وهو ما يتوافق مع المشاريع الصهيونية، فشيمون بيريز حدّد في
كتابه "الشرق الأوسط الجديد" خريطة الشرق الأوسط بأنها تمتد من حدود مصر
الغربية حتى حدود باكستان الشرقية ومن تركيا وجمهوريات آسيا الوسطى
الإسلامية شمالاً حتى المحيط الهندي وشمال السودان جنوباً، وهي منطقة تجمع
دولاً عربية وإسلامية وليس فيها خارج هاتين الدائرتين "العروبة والإسلام"
سوى إسرائيل.
ويعرض التقرير المنشور في المجلة خرائط لمنطقة الشرق
الأوسط بشكلها الحالي، وخرائط للشكل الذي يتم العمل على تحقيقه، ويعتمد
التقرير لتسويغ هذا المخطط على عدد من الحجج الجدلية لتمرير هذا مشروع
ومنها:
أولاً: إن الحدود الحالية هي حدود رسمتها كل من بريطانيا وفرنسا بشكل عشوائي في القرن التاسع عشر وهي حدود غير عادلة.
ثانياً:
إن قوس الحدود الأكثر تشابكاً وفوضوية في العالم يكمن في إفريقيا والشرق
الأوسط، وإن هذه الحدود تعمل على إثارة الحروب في المنطقة، ولذلك يجب
تغييرها وإعادة رسمها لإعطاء الأقليات المذهبية أو القومية والإثنية حقوقها
المسلوبة.
ثالثاً: صحيح أنه في بعض الحالات، قد تتفاهم مجموعات
مختلفة متعددة الأعراق أو الديانات والإثنيات بحيث تتعايش وتتداخل مع بعضها
البعض، لكن الغالب أن التداخل بالدم أو المعتقد في أماكن أخرى قد لا يكون
ناجحاً بقدر الاتحاد الذي يحصل في داخل المجموعة الواحدة، لذلك لا بد من
إجراء هذا التغيير في خريطة الشرق الأوسط.
رابعاً: الحدود المرسومة
للدول ليست ثابتة على الإطلاق والعديد من الحدود من الكونغو إلى القوقاز
مروراً بكوسوفو تتغير الآن، ومن هنا فإنه لا يجب التجاوب مع الحجة القائلة
إن هذه الحدود لهذه الدول لا يجب تغييرها، لأنها تعبّر عن واقع موجود منذ
آلاف السنيين، وإن المحافظة عليها تتطلب تحمل ضريبة المشكلات التي تحصل
فيها.
خامساً: إن حدود الشرق الأوسط تسبّب خللاً وظيفياً داخل
الدولة نفسها، وبين الدول بعضها البعض، خاصة من خلال الممارسات ضد الأقليات
القومية والدينية والإثنية، أو بسبب التطرف الديني أو القومي والمذهبي،
ولذلك يجب إنهاء هذا الأمر.
ويدّعي التقرير أن الغاية من هذا
التعديل هو تحقيق عدد من الأهداف الإنسانية والتي تتعلق بالعدل
والديمقراطية والتوازن وأهداف أخرى رئيسية هي:
أولاً: إنهاء الظلم
الذي يعاني منه عدد من الأقليات في الشرق الأوسط ومنها: الأكراد، البلوش
والشيعة العرب؛ وعلى الرغم من أن التعديلات المرتقبة تأخذ بعين الاعتبار
مصالح هذه الفئات، إلا أن هذه التعديلات المرتقبة قد لا تستطيع أن تحقّق
مصالح أقليات أخرى!!.
ثانياً: محاربة الإرهاب بشكل كامل بواسطة القوات الأمريكية المتمركزة في المنطقة وحلفائها من الدول المحلية أو العالمية.
ثالثاً: تأمين تدفق النفط بشكل تام وكامل للغرب دون أي قيود.
رابعاً: تحقيق السلام الكامل عبر إحداث تعديلات في الحدود الجيو- سياسية للدول الموجودة حالياً في الشرق الأوسط، ونشر الديمقراطية.
ويمرّر التقرير في ثناياه عدداً من النقاط التي قد يمر القارئ عليها مرور الكرام، ولكنها خطيرة جداً في مضمونها ومعناها ومنها:
أولاً:
الترويج أن هذا التغيير والتعديل هو لمصلحة الجميع، خاصة أنه – وعلى عكس
ما قامت به كل من فرنسا وبريطانيا- يراعي مصالح القوميات والإثنيات
والمذاهب والمجموعات المختلفة المنتشرة في المنطقة القائمة حالياً، لأنه
قائم على أساس وقائع ديموغرافية تشمل الأقليات المذهبية والإثنية والقومية.
ثانياً:
إن هذا التغيير في الحدود المرسومة حالياً وتعديلها لإيجاد شرق أوسط جديد،
لا يمكن أن يتمّ بسهولة وسرعة، لأن إعادة تصحيح الحدود الدولية يتطلب
توافقاً لإرادات الشعوب التي قد تكون مستحيلة في الوقت الراهن، ولضيق الوقت
فإنه لابد من (سفك الدماء) للوصول إلى هذه الغاية واستغلال عامل الوقت
لصالح هذه الخطة.
استناداً لما تمّ ذكره، فإن دولاً جديدة ستنشأ،
مما يعني فقدان بعض الدول الموجودة لأجزاء كبيرة من حدودها الحالية وزيادة
حدود دول أخرى.
ملامح الخريطة الدموية المقترحة (الشرق الأوسط الجديد)
*الدولة
الكردية: تقضي الخطة المذكورة بإقامة دولة كردية مستقلة للأكراد البالغ
عددهم ما بين (27 – 36) مليون كردي يعيشون في مناطق محاذية لبعضها البعض في
الشرق الأوسط، إذ يعتبر التقرير أن الأكراد هم أكبر قومية في العالم لا
يعيشون في دولة مستقلة، وأنه يجب تحقيق دولتهم المستقلة عبر عدد من الخطوات
منها:
أولاً: استغلال الفرصة التاريخية التي لاحت للولايات المتحدة
بعد سقوط بغداد في إنشاء دولة كردية إثر تقسيم العراق إلى ثلاث دول، لأن
الأكراد سيصوتون بنسبة 100% لصالح قيام دولة مستقلة إذا عُرضت عليهم فرصة
قيام دولة مستقلة.
ثانياً: دعم أكراد تركيا على الرغم من أن هجماتهم
في الداخل قد خفّت خلال العشر سنوات الماضية، إلا أنهم عادوا من جديد
الآن، وعليه يجب استغلال هذه الفرصة للضغط على تركيا، وإظهار الجزء الشرقي
منها كما وأنها "منطقة محتلة".
ثالثاً: بعد قيام الدولة الكردية
المستقلة في العراق وتركيا، فإن أكراد إيران وسورية سينضمون بمناطقهم
مباشرة إليها وسيشكلون "دولة كردستان الكبرى المستقلة" بحدودها النهائية.
وستكون هذه الدولة الكردية الممتدة من ديار بكر في تركيا إلى تبريز في إيران أكبر حليف للغرب في المنطقة ما بين اليابان وبلغاريا.
*
الدولة الشيعية العربية: وفقاً للتقرير؛ فإن الجزء الجنوبي من العراق
سيكون نواة لتشكيل دولة شيعية عربية تنضم إليها مناطق واسعة من الأراضي
المحيطة بها ليشكل حزاماً على المنطقة المحاذية للخليج العربي على أن تشمل
المناطق التالية:
أولاً: الجزء الجنوبي الغربي من إيران والمعروف بمنطقة الأهواز أو عربستان والتي تضم معظم الشيعة العرب في إيران.
ثانياً: الجزء الشرقي من المملكة العربية السعودية والذي يضم العدد الأكبر من الأقلية الشيعية في المملكة.
*
دولة سورية الكبرى: بعد تقسيم العراق إلى ثلاثة أقسام: كردي في الشمال،
شيعي في الجنوب وسني في الوسط، سيضطر الجزء السني إلى الالتحاق بسورية،
وذلك لأنه سيصبح دولة لا مقومات لها بين مطرقة الدولة الكردية الكبرى إلى
شماله، وسندان الدولة الشيعية إلى جنوبه إذا لم ينضم إلى سورية، وسيتم
إجبار سورية عن التخلي عن جزء صغير منها لضمه إلى لبنان لتشكيل "دولة لبنان
الكبير" على البحر المتوسط لإعادة إحياء دولة فينيقيا.
* تقسيم
المملكة العربية السعودية: ستكون المملكة إلى جانب الباكستان بالإضافة إلى
تركيا من الأكثر الدول التي ستعاني نتيجة للتغيير الذي سيطرأ على المنطقة،
وسيتم تقسيم المملكة إلى خمسة أقسام:
أولاً: القسم الشرقي الساحلي
حيث تتواجد الأقلية الشيعية في المملكة، وسيتم إلحاق هذا القسم بالدولة
العربية الشيعية التي تحدثنا عنها أعلاه.
ثانياً: القسم الثاني هو
جزء يقع في شمال غرب وشرق المملكة، وسيتم إلحاقه بالأردن الذي سيشكل بحدوده
الموجودة حالياً إضافة إلى الجزء السعودي دولة "الأردن الكبرى" التي ستضمّ
كل الفلسطينيين في الشتات.
ثالثاً: القسم الثالث من المملكة سيضمّ
كل المدن الدينية ولاسيما مكة المكرمة والمدينة المنورة التي سيتم تشكيل
دولة دينية عليهما يحكمها مجمع ديني من مختلف الطوائف والمذاهب الإسلامية
ويشبه إلى حدّ كبير الفاتيكان.
رابعاً: إلحاق قسم من جنوب المملكة بالجمهورية اليمنية التي سيزيد حجمها.
خامساً: تشكيل دولة سياسية في القسم المتبقي من حجم المملكة الأصلي.
*
الجمهورية الإيرانية: صحيح أنه سيتم اقتسام بعض الأجزاء من إيران لصالح
تشكيل دولة كردية ودولة شيعية عربية ودولة بلوشية وجزء صغير لضمه لدولة
أذربيجان، إلا أنه سيتم اقتطاع جزء من أفغانستان المجاورة لتشكيل دولة
قومية فارسية تحل محل الجمهورية الإيرانية الحالية.
* أفغانستان
وباكستان: القسم الذي سيتم اقتطاعه من أفغانستان لمنحه لإيران سيتم تعويضه
من خلال منح أفغانستان جزءاً كبيراً من باكستان حيث العديد من القبائل
الأفغانية والقريبة لها، وسيتم اقتطاع جزء آخر أيضاً من باكستان حيث يقيم
البلوش لمنحه لدولة بلوشستان الحرة، وبذلك يتبقى مساحة ثلث أو أقل من حجم
باكستان الحالية التي ستشكل الدولة الجديدة المنتظرة.
* الكويت وقطر
وعمان والإمارات واليمن: ستبقى هذه الدول على الأرجح بشكلها الحالي دون
زيادة أو نقصان، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الإمارات قد تشهد بعض
التغييرات، وذلك تبعاً للتغيير الذي سيصيب بعض الدول المجاورة لها، سواء
لناحية إيران أو لناحية دولة الشيعة العرب، فيما سيزيد حجم اليمن نتيجة
لمنحها جزءاً من المملكة العربية السعودية.
وكما نرى فإن إعادة رسم
خريطة الشرق الأوسط الجديد سيتم على أساس قومي أو إثني أو طائفي في أحيان
أخرى، وبما أن إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط لا يمكن أن تتم فوراً حتى ولو
أراد الناس ذلك إلا أنه مع الوقت - ومع عملية سفك الدماء وفقاً للتقرير-
فإن تحقيق هذه الخريطة الجديدة سيكون ممكناً جداً.
ومما لا شك فيه
أن الخطط الأمريكية تجاه العالم الإسلامي "الذي تدعوه الشرق الأوسط" تعدّدت
وتنوعت على مر السنين لتتلاءم مع التغيرات التي تطرأ على المنطقة بين
الحين والآخر، لكنها في جميع الأحوال والظروف حافظت على عاملين اثنين
أساسيين اعتبرتهما كثوابت في جميع هذه الإستراتيجيات، وخطاً أحمر يمسّ
الأمن القومي الأمريكي:
العامل الأول هو: حماية أمن إسرائيل ودعمها بأي ثمن.
العامل الثاني هو: تأمين النفط والمصالح الإستراتيجية الأمريكية الأخرى.
وعلى
العموم فإن الإستراتيجية الأمريكية الجديدة في المنطقة يمكن تلمس معالمها
من خلال الأدوار التي لعبتها أمريكا في أفغانستان والعراق، ومن خلال
الأدوار التي تلعبها اليوم بمساعدة أوروبا في عدد من الملفات، سواء في
سورية أو لبنان أو فلسطين أو مصر أو الخليج العربي وتركيا.
وبطبيعة
الحال فإن الدول التي تحويها القائمة الأمريكية في هذا المجال هي الدول
الأكثر تنوعاً وامتزاجاً مثل: العراق، أفغانستان، السودان، الجزائر،
لبنان...الخ وذلك من أجل إعادة صياغة الواقع العرقي والطائفي والقومي وفق
تركيبة تناسب المخططات الأمريكية التي تهدف إلى تحقيق عدة أهداف منها:
أولاً:
إضعاف الدولة القومية- بشكلها الحالي- التي لديها حساسية كبيرة بطبيعة
الحال تجاه التدخلات الخارجية في شؤونها، وهو ما سيسهل عملية الاختراق
الأمريكية للدول التي تأبى الانصياع لما تريده أو التي ترفض التغيير بحسب
الوصفة المقدمة على الطريقة الأمريكية.
ثانياً: ضمان عدم التحام هذه
الأقليات والطوائف والأعراق، وضمان عدم ذوبانها أو على الأقل انسجامها مع
الأغلبية في أي بلد من بلدان الشرق الأوسط في أي إطار جامع على الشكل الذي
كانت فيه منذ قرون لضمان أنها ستكون بحاجة إلى مساعدة خارجية، وكل ذلك من
أجل أن تبقى هذه الأقليات برميل بارود يمكن تفجيره في الوقت الذي تراه
القوى الغربية مناسباً، وبالتالي أمريكا ستكون جاهزة للتدخل في أي مكان
وزمان تراه مناسباً في أي بلد من هذه البلدان إذا رأت أن ذلك لمصلحتها،
وبحجة الحماية بطبيعة الحال، وإن لم يكن ذلك في مصلحتها فلا هي ترى ولا
تسمع ولا تتكلم.
ثالثاً: إن الهدف أيضاً من ورقة الأقليات هو تسويغ
وجود إسرائيل وتوسيع رقعة المشكلات والنزاعات الإقليمية الداخلية العرقية
والقومية لإشغال العالم العربي والإسلامي وشعوب هذه الدول بالمشكلات
الداخلية المستجدة لديهم والمخاطر التي تتهدد بلدانهم المعرضة آنذاك
للتفتيت والتقسيم، بمعنى تقسيم المقسم أصلاً وتجزئة المجزأ بعدها حتى تصبح
القضية الفلسطينية في آخر اهتمامات الشارع الإسلامي والدول الإسلامية، هذا
إن تذكرها بعد ذلك أحد، وبالتالي تنعم إسرائيل بما هي فيه.
رابعاً:
الهدف أيضاً من الموضوع نفسه هو إفساح المجال أمام إسرائيل للدخول والتغلغل
في هذه الدول عبر الأقليات سواء القومية أو الطائفية أو العرقية، إذ إن
الدولة المدمرة أو المفتتة أو التي يتم إضعافها عبر ورقة الأقليات سيكون من
السهل على إسرائيل اختراقها كما حدث مؤخراً في جنوب السودان.
وعلى
هذا فإن الإستراتيجية الأمريكية التي يتصدّى لتنفيذها اليوم بعض الأعراب
والأتراك تحت مسمّى "الربيع العربي"، هي الوجه الحقيقي لـ"خريطة الدم
الأمريكية" والتي تقضي كما رأينا بإغراق الشارع العربي والإسلامي بالدم، بل
إن المؤامرة لن تتوقف عند سورية وفلسطين ولبنان، إنما ستمتد نيرانها لتحرق
تركيا وقبلها الخليج العربي بإماراته ومشيخاته التي ارتضت أن تكون وقوداً
رخيصاً لهذه المؤامرة الأمريكية البشعة.