دعنا فى البداية نؤكد حقيقتين:
الأولى: أن من حق الإخوان المسلمين إذا تمكنوا -كما هو واضح ومرجَّح
ومؤكَّد- من الفوز بأغلبية البرلمان، أن يشكلوا حكومتهم فورا ويتسلموا
إدارة مصر، وأن الحجة الوهمية الهشة التى يتحجج بها المجلس العسكرى
وفيلسوفه القانونى ممدوح شاهين من أن الإعلان الدستورى لا يلزم «العسكرى»
بتكليف حزب الأغلبية بتشكيل الحكومة، مردود عليها بأن الإعلان كذلك لم
يمنع تكليف حزب الأغلبية! ومن ثم فإن حق الإخوان مكفول بالديمقراطية
وبالمنطق وبالإعلان الدستورى الذى يظن شاهين ومن لفّ لفّه أنه عكس ذلك!
الثانية: أن تنازل الإخوان عن هذا الحق لأسبابهم الخاصة ومصالحهم
الضيقة إنما هو خيانة للديمقراطية، كما أن تنسيق وتحالف القوى الرافضة
للإخوان مع المجلس العسكرى لمنع تكليف الإخوان بالحكومة هو أيضا خيانة
للديمقراطية وسندفع جميعا ثمنها غاليا.
لكن هذا لا يمنعنا إطلاقا من الإعلان بكل ثقة واطمئنان أن هذا البرلمان
الجديد بحلوه ومره، بأحزابه وتياراته، بلجنته العليا للانتخابات التى
قدمت نموذجا مصريا رائعا فى الهرتلة والعشوائية والعبثية (والعباسية!!)،
لا بد أن يختفى من أمامنا فى شهر يونيو القادم، بمجرد انتخاب الرئيس
الجديد!
نعم عمر هذا البرلمان يجب أن لا يطول عن سبعة أشهر فقط ثم يتم حله… لماذا؟
لأنه بمجرد وضع وصياغة دستور جديد وإقراره باستفتاء شعبى، فإن هذا
المجلس يصبح بلا شرعية للبقاء يوما واحدا، فالدستور الجديد يبنى الحياة
المصرية بطريقة جديدة ويضع ثوابت وقواعد مستجدة، فمن الممكن أن يلغى نسبة
الخمسين فى المئة (عمال وفلاحين)، وممكن كذلك أن يلغى مجلس الشورى، ثم حتى
لو لم يغير تلك الأوضاع فإنه سيصنع أوضاعا أخرى جديدة تستلزم أن يتم
انتخاب برلمان غيره على نضيف وبشوكه وجديده!
بطبيعة الحال فإن النواب الذين سيجلسون على مقاعد البرلمان القادم سوف
يتمسكون -بكل طاقتهم- بالإبقاء على هذا البرلمان بعد إقرار الدستور الجديد
وسوف يلجؤون إلى الحيلة إياها، وهى وضع مواد انتقالية فى الدستور تسمح
لمجلس الشعب بالبقاء حتى إتمام وإكمال فترته (حتى 2017)، وهذه ستكون
انتهازية مؤكدة من هؤلاء النواب، حيث إن مصر ليست فى حاجة إلى مراحل
انتقالية أخرى ترهقنا وتعطلنا، كما أنه لا يمكن التمسك بمكاسب حزبية
وشخصية فى مقابل حق الشعب فى بداية جديدة بدستور جديد، فضلا عن أنه كيف
يتسق وجود رئيس جمهورية منتخب طبقا لدستور جديد فى وجود مجلس شعب منتخب
طبقا لإعلان دستورى انتهت صلاحيته بالدستور الجديد وقتها!
مهمة لجنة صياغة الدستور أن تتخلص من التعبير عن المصالح الحزبية
والسياسية، ومن ثم يجب أن لا يكون اختيارها -كما ألححْنا ألف مرة- حِكرا
على أعضاء مجلس الشعب، فسيكون لدينا قرابة أربعمئة عضو للإخوان والسلفيين،
يمكنهم أن ينتخبوا ويختاروا لجنة صياغة الدستور من وعاظهم ورجالهم فقط
ويستبعدوا أو يهمشوا كل القوى الوطنية والطوائف والشرائح الاجتماعية
والاقتصادية، فإذا بنا أمام مجموعة تؤمن بشكل معين للدين وبفهم محدد
(ومحدود) للإسلام، تحتكر صياغة مواد الدستور (لا تقل لى إنه سيُعرض فى
النهاية على الشعب للاستفتاء، فالشعب أثبت لنا أنه يريد الجنة عبر صناديق
الانتخابات، ثم إن الشعب زهق وسيوافق على أى دستور يعرض عليه كى يخلص!).
المجلس العسكرى يحاول هذه الأيام ستر عورته والتراجع عن خطيئته الكبرى
فى حق البلد حين مشى وراء مستشاريه الفشَلة وبدأ طريق المرحلة الانتقالية
بالانتخابات لا بالدستور، وحين ترك ثغرة هائلة فى الإعلان الدستورى لا يضع
فيها حدودا واضحة لاختيار لجنة صياغة الدستور، ويحاول بمساعدة من
مستشارين جدد (بعضهم فشلة جدد!) أن ينقذوه بمشروع قانون لجمعية صياغة
الدستور، والعجيب أنهم يريدون إصداره قبل انعقاد مجلس الشعب، والمدهش الذى
يتجاوز عنه هؤلاء ويجعل الأمر أقرب إلى التمثيلية الرديئة أنه يمكن
للبرلمان القادم أن يلغى هذا القانون ويرميه من الشباك ويقر قانونا آخر،
لكن الشرط الوحيد الذى يجعل من قانون لجنة صياغة الدستور محصَّنا من
الإلغاء والتغيير هو إصداره فى إعلان دستورى يجعله بمثابة المحتم النهائى،
وهو ما يجعلنا نشك فى قدرة، بل ورغبة المجلس العسكرى فى الإقدام على هذه
الخطوة، فهو يخشى الإخوان المسلمين والتيار السلفى، ويكاد -منذ جاء- لا
ينفذ إلا ما يريده الإخوان والسلفيون، وبينما يتهم الثوار بالعمالة
وبالأجندات الأجنبية، ويصيبهم ويقتلهم رجال أمنه فى المظاهرات والمسيرات،
إذا به حنون خجول يسلّم خده الأيمن بعد الأيسر للإخوان والسلفيين.. فهل
يجرؤ على تحدى هذه التيارات، خصوصا أنها قد أوشكت بالفعل على سيادة مجلس
الشعب، حين يضع إعلانا دستوريا يمنع عن الإسلاميين الاستفراد بتشكيل جمعية
صياغة الدستور؟
أشك كثيرا وأشك جدا.