جمال سلطان
أعتقد جازما أن من دعوا إلى مظاهرة أمس الجمعة يشعرون الآن بالندم على عنادهم مع قوى الثورة ونسيجها المتكامل ، لأنهم لم يحصلوا سوى على الإحراج وحصاد الاتهام بشق صفوف الثورة وإضعاف وهجها ، رغم الجهد الخرافي الذي بذله بعض الإعلاميين من أجل تضخيم العدد والادعاء الفج بأنه وصل مليونا وربما زاد حسب قولهم ، فإن الجميع شاهد على الشاشات الحقيقة ، ولم تختلف التقديرات المحايدة إلا في نطاق محدود ، هل هم خمسون ألفا كما قالت الجزيرة أم أربعون ألفا كما قالت قناة العربية ، إلا أن المؤكد أن العدد "الهزيل" ـ بمقاييس مظاهرات الثورة ـ أكد بما لا يدع مجالا للشك أن محاولات شق صفوف قوى الثورة واصطناع مطالب خاصة بكل فريق ومحاولة فرضها على الجميع ، يضعف من قوة دفع الثورة ، إضافة إلى أنه موقف ضد الثورة نفسها ، ناهيك عن أن يكون ضد الديمقراطية التي من أجلها ثرنا .
هذا الحشد المتواضع بمقاييس ثورة يناير وحشودها المليونية ، جاء رغم أن بعض شرائح التيار الإسلامي حرصت على المشاركة فيه ، معتبرة أنها غير ملزمة بالدعايات والمطالب المتطرفة التي عرضها البعض أثناء الدعوة إليه ، من إلغاء الاستفتاء الدستوري والدعوة لمجلس رئاسي ، وشارك الآلاف من أبناء التيار الإسلامي ـ بمن فيهم بعض شباب الإخوان المسلمين ـ من أجل إثبات المطالب المشتركة للثورة من سرعة محاكمة الرئيس وأركان نظامه وتطهير المحليات والجامعات وتحديد اختصاصات الأمن الوطني الجديد الذي تم تشكيله بديلا لأمن الدولة ، كما رفع بعضهم لافتات تطالب بعزل الدكتور يحيى الجمل ، الوزير المثير للجدل وصاحب الخصومة الشهيرة مع التيار السلفي تحديدا ، فلو تصورنا امتناع هذا القطاع عن المشاركة فإن المشهد سيبدو أكثر هزالا بالتأكيد .
عدد المشاركين في مظاهرة أمس أقل من عدد أصوات دائرة انتخابية واحدة في مصر من بين مئات الدوائر بطول مصر وعرضها ، بل إن العدد أقل من ربع أو خمس عدد المسجلين في معظم دوائر الجمهورية التي يصل عدد الأصوات في بعضها إلى ربع مليون أو أكثر ، ومع ذلك يصر هؤلاء على أنهم بديل "ديمقراطي" عن هؤلاء الملايين كلهم ، ولو طالبت الآن بأي ممارسة ديمقراطية أو انتخابات تحتكم فيها إلى الشعب المصري فإن هؤلاء "الديمقراطيين" جدا سيرفضون رأي الشعب ومرجعية الشعب وحكم الشعب ، رغم أن شعار الثورة الأساس وعنوانها ورايتها كانت عبارة "الشعب يريد" ، الآن يقولون لك ليس مهما ما يريد الشعب ، المهم أن "مجموعتنا" تريد .
المظاهرة لم تخل من إيجابيات بالطبع ، منها الحفاظ على النظام ، والالتزام بسلمية النضال الشعبي ، وقد أحسنت القوات المسلحة بانسحابها من الميدان بالكامل ، فقطعت السبيل على أي محاولة للاصطياد في الماء العكر واصطناع تحرشات بالضباط والجنود ومحاولة استفزازهم بما يضطرهم للدفاع عن أنفسهم فيقع المحظور ، كما رفض المتظاهرون بالإجماع أي إساءة للقوات المسلحة ومنعوا بعض المتحدثين من استكمال كلامهم عندما بدا أنهم يحاولون الإساءة للمجلس العسكري .
التظاهر حق مشروع لأي قوة وطنية ، بل هو ضرورة لتجدد روح الثورة وحيويتها ، بشرط أن يدرك الجميع أن التظاهر هو أداة من أدوات النضال الديمقراطي ، ولكنه ليس بديلا عن أدوات النضال الأخرى ، كما أنه ليس بديلا أبدا عن أدوات إدارة الخلاف السياسي مؤسسيا ، ولا عن آليات الحسم الديمقراطي السلمي ، المتمثلة في الانتخاب الحر المباشر للشعب ، في انتخابات أو استفتاءات أو غيرها ، لأن هذا هو المعيار العلمي الديمقراطي الإحصائي الوحيد الذي يمكن أن يقول لك "هذا اختيار الشعب والأمة" ، وكانت الثورة بالأساس من أجل استعادة هذا المعيار بشفافيته ومصداقيته من نظام زور كل شيء وسرق إرادة الشعب وحرمه من الحق في الاختيار ، وما ترتب على ذلك كله من فساد وقمع وديكتاتورية ونهب للمال العام وتلاعب بالقضاء وتشكيل برلمان لا يمثل هذا الشعب أبدا ، الآن نحن نستعيد هذا كله بثورتنا ، فبدلا من أن يحشد هذا خمسين ألف ويحشد آخرون مائة ألف ويحشد غيرهم مليونا ، على الجميع أن يحترم المعيار الديمقراطي العلمي الذي لا يكذب ولا يحتاج إلى كاميرات ولا محللين ولا مهرجين خلف الشاشات ، هذا إذا كنا نبحث فعلا عن تأسيس دولة ديمقراطية .