5- من
أهم أسباب النصر: الثقة بالله سبحانه وتعالى والثقة بوعده: وأنه
سبحانه سيعلي هذا الدين وينصره ويمكن له في الأرض إن عاجلاً أو آجلاً، فإن حساب
الزمن ليس عند الله شيء، فمن المعلوم أن اليوم عند الله يساوي ألف سنة مما نعد
نحن، فلا ننظر بمنظار الأعمار البشرية، بل ننظر إلى المنهج الذي ينتصر ويبقى،
وننظر إلى الزبد الذي يذهب جفاء في الأرض .
لابد أن نكون
واثقين من أن الله سينصر هذا الدين مهما ضيق عليه، ومهما حورب دعاته، ومهما وقف
في وجوههم، ومهما وضعت في طريقهم العراقيل؛ فإن النصر حليفهم إن عاجلاً أو
آجلاً، فالحق يبتلى أولاً، ثم يمكن له وينصر . وكم من الدعاة والمجاهدين
والعلماء ابتلوا حتى ظن الناس أنهم قد هلكوا وفشلت دعوتهم، فإذا بهم تنقلب في
طريقهم المحن إلى منح، ويضع الله لهم القبول في الأرض والتمكين والنصر .
6- من أهم أسباب النصر التي
ينبغي أن يعرفها المؤمنون حتى لا يصابوا بشيء من الإحباط: كون الأمة في مستوى
النصر بإمكاناتها بقدراتها بعزائمها ونياتها:كيف ذلك؟
الأمة-
أحياناً- قد تحارب ولكنها لا تكون في مستوى النصر، فيؤخر الله النصر قليلاً حتى
يرتفع مستوى هذه الأمة وتصبح قادرة على تحمل أعباء النصر الذي سيمنحه الله
إياها إذا جاء وقته، يقول الله سبحانه:{
وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[40]}[سورة
الحج] من هم يا رب؟
{الَّذِينَ
إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ
وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ
الْأُمُورِ[41]}[سورة
الحج] . {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي
الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ} إذن: ها هنا نيات وعزائم في القلوب لا
يطلع عليها إلا علام الغيوب .
{الَّذِينَ
إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} هذا مستقبل {الَّذِينَ
إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ}
ربما يوجد من الدعاة من لو مُكن في الأرض لترك بعض أمور الدعوة، وما أقام
الصلاة وما آتى الزكاة، أو ربما يقوم بالصلاة ويؤدي الزكاة، ولكنه لا يقوم تمام
القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ربما يتنازل بعض المحسوبين على
الدعوة عن بعض الأمور الهامة، ربما يتحالف مع الشيوعيين، ربما يتحالف مع
علمانيين من أجل مكاسب.. هذا لا يستحق النصر.
أيضًا:
تكون الأمة في مستوى النصر بالإمكانات بالقدرات، فيكون لديها من يستطيعون إدارة
البلدان المسلمة لو تيسر لها النصر، أو إدارة العالم لو تمكنت من فتح العالم
كله، فإذا أصبحت الأمة في هذا المستوى، وتوفرت لها بقية الأسباب؛ فإن الله جل
وعلا يمنحها النصر أمراً مؤكداً لا شك فيه ولا ريب .
7- أيضاً من أهم أسباب
النصر: الجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وهذان
الأمران سياجان حافظان لهذه الأمة، فالجهاد يحفظها من الخارج، والأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر يحفظها من الداخل، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحفظ
السفينة من أن تُخرق ثم بعد ذلك تغرق، والجهاد يحفظ الأمة من أن تستذل، أو أن
يهينها العدو، فما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا، قاعدة قالها أسلافنا رحمهم الله ،و
رضي الله عن علي إذ قال:'ما غزي قوم قط في عقر دارهم
إلا كتبت عليهم الذلة'.
الجهاد
سبب العز، وسبب النصر: يقول سبحانه:{ كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا
وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[216]}[سورة البقرة] .
عندما تقرأ تفسير هذه الآيات للإمام القرطبي الذي عاش رحمه الله وقت سقوط
الأندلس تحس بالحسرة والألم بين السطور والعبارات، يقول مامعناه :'{وَعَسَى
أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا} وهو القتال وسفك الدماء وبذل الأموال، {وَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ}: أي التمكين في الأرض والعز والنصر، {
وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا} وهو الراحة
والإخلاد إلى الأرض والطمأنينة في البيوت والديار، وهو شر لكم بالإذلال وانتهاك
حرماتكم وأعراضكم، واستيلاء الكفار عليكم، واستئصالهم لكم' ثم قال عبارة مؤلمة
محرقة:' ولما أصبح المسلمون في الأندلس على هذه الحال تسلط عليهم العدو فأخذوا
ديارهم واحدة بعد الأخرى بلاد وأي بلاد '. يعني ما أحسنها من بلاد، ومع ذلك فرط
فيها أهلها فضاعت.
ومن المعلوم
عند كل عاقل أن الكفار لن يتركوا المسلمين ولو تركهم المسلمون، وهذه حقيقة
شرعية وسنة إلهية أخبرنا الله بها في حيث قال:{
وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ
اسْتَطَاعُوا...[217]}[سورة البقرة] . يعني مهما فعلتم، ومهما تقربتم
إلى هؤلاء الكفرة، فهم لا يزالون يقاتلونكم.. لن يتركوكم ترتاحون حتى ترتدوا عن
هذا الدين وتتبعوا أهوائهم كما قال سبحانه:{ وَلَنْ
تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ...[120]}[سورة
البقرة] .
فإذن: هم لن
يرضوا عنك إلا بهذا.. ولن يتركوك من القتال إلا بهذا وإذا كانوا لم يتركوك من
القتال والقتال هو أشق شيء على النفوس، فسيحاربونك بغير القتال من باب أولى..
سيحاربونك بغزو ثقافي.. بغزو فكري.. عن طريق المرأة.. عن طريق الإعلام..
سيحاربونك لتهديم دينك، ولتضييع عقيدتك.. فكن أيها المسلم الموحد من الكافرين
على حذر .
8- ثم
أخيراً من أهم أسباب النصر: السلامة من أسباب الخذلان والهزيمة،
ومنها:
أ –أهم
أسباب الخذلان والهزيمة:
هو الانحراف عن الصراط المستقيم: سواء كان هذا الانحراف انحرافاً عقدياً، أو
انحرافاً عملياً، يعني سواء كانت المعاصي في باب الاعتقاد: بالإلحاد في أسماء
الله وصفاته.. بالشرك الأكبر والشرك الأصغر، أو كان بالردة الكاملة باعتناق
المذاهب الكافرة كالشيوعية، والقومية، والعلمانية، أو كان من باب الأعمال أي
المعاصي العملية.
والمتتبع
للقرآن يجد أن هذا هو سبب هلاك الأمم:{ فَكُلًّا أَخَذْنَا
بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ
أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ
مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا
أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[40]}[سورة العنكبوت] . فالأمم السابقة أخذت
بسبب ذنوبها، وظلمها لأنفسها، والأدلة على هذا كثيرة، وما عليك إلا أن تقرأ
كتاب ربك وستجد ذلك واضحاً، وعلى سبيل المثال: اقرأ قصة أصحاب سبأ، واقرأ قصة
أصحاب السبت، واقرأ سبب إغراق قوم نوح، واقرأ سبب إهلاك قوم عاد وثمود وقوم
لوط، وما حصل لقوم موسى، وما حصل لغيرهم من الأمم؛ فستجد الذنوب هي السبب في
ذلك .
أولا:الانحراف العقدي وأثره:
سنضرب على الانحراف في العقيدة مثلين هما شاهد حي على أن الأمة إذا انحرفت
اعتقاديا،ً فإنها تضعف وتذل:
الشاهد
الأول من القرن الرابع الهجري:
فقد شهد مداً رافضياً شديداً، فقامت دول رافضية في شرق الجزيرة في البحرين
والأحساء قامت دولة القرامطة، وفي بلاد فارس والعراق دولة بني بويه، وفي بلاد
الشام الحمدانيون- أبو فراس الحمداني وجماعته كانوا رافضة- وفي بلاد المغرب
قامت الدولة العبيدية الإسماعيلية القرمطية، والتي تسمى زوراً وبهتاناً بالدولة
الفاطمية، ثم بعد ذلك انطلقت فأخذت مصر، ثم الحجاز. والقرامطة أهل البحرين
وصلوا إلى الحجاز، وأخذوا في ذلك القرن الحجر الأسود وبقي عندهم اثنتان وعشرون
سنة، ووصلوا إلى دمشق، ولم يبق من بلدان المسلمين سالماً من المد الرافضي إلا
القليل، وأذكر لكم ما قاله الإمام ابن كثير رحمه الله في حوادث حصلت في ذلك
الزمن ثم انظروا إلى تعليقاته رحمه الله على تلك الحوادث .
إنه مع قيام
تلك الدول الضالة الرافضية تقدم النصارى من بلاد الروم، فأخذوا بعض بلاد
المسلمين، وفعلوا من الجرائم البشعة ما تقشعر له الأبدان، يذكر الحافظ ابن كثير
بعض هذه الحوادث، ثم يعلق عليها، فيقول في حوادث سنة 359 للهجرة:'وفيها دخلت
الروم أنطاكية فقتلوا من أهلها الشيوخ والعجائز، وسبوا من أهلها الشيوخ
والأطفال نحواً من عشرين ألفاً فإنا لله وإنا إليه راجعون' ثم يعلق على ذلك
بقوله:'وكل هذا في ذمة ملوك الأرض أهل الرفض الذين قد استحوذوا على البلاد
وأظهروا فيها الفساد قبحهم الله'. ثم يذكر أيضاً في حوادث سنة359 هـ أيضاً أن
ملك الروم فعل أعظم من ذلك في طرابلس الشام، وفي السواحل الشامية وحمص وغيرها،
يقول رحمه الله :'ومكث ملك الروم شهرين يأخذ ما أراد من البلاد ويأسر ما قدر
عليه، ثم عاد إلى بلده ومعه من السبي نحو مائة ألف إنسان ما بين صبي وصبية وكان
سبب عوده إلى بلاده كثرة الأمراض في جيشه واشتياقهم إلى أولادهم'.
تصوروا عدو من
أعداء المسلمين يأتي ويأخذ مائة ألف أسير من المسلمين ولا يرجع إلا بسبب
الأمراض التي فتكت بجيشه ولم يحاربه أحد من ملوك الرافضة الذين كانوا ملوك
الأرض في ذلك الوقت، تذكروا ما ذكرناه في أول الموضوع أن من أسباب النصر
القيادة المؤمنة، ويعلق ابن كثير على ما كان يفعله الروافض في ذلك القرن من سب
الصحابة، وما يفعلونه من البدع والضلالات، فيقول في حوادث سنة 351 هـ بعد أن
ذكر غارات الروم وقتلهم ما لايحصى من المسلمين قال:' وفيها كتبت العامة من
الروافض على أبواب المساجد لعنة الله علي معاوية بن أبي سفيان، وكتبوا أيضا:ً
ولعن الله من غصب فاطمة حقها-يعنون أبا بكر رضي الله عنه-، ومن أخرج العباس من
الشورى -يعنون عمر رضي الله عنه-ومن نفى أبا ذر-يعنون عثمان رضي الله عنه-
'يقول ابن كثير رحمه الله:' رضي الله عن الصحابة وعلى من لعنهم لعنة الله' . ثم
تكلم قليلاً ثم قال:'ولما بلغ ذلك جميعه معز الدولة-يقصد ابن بويه وكان
رافضياً- لم ينكره ولم يغيره قبحه الله وقبح شيعته من الروافض'.
انظروا إلى
تعليق ابن كثير وهو المراد في هذه المحاضرة يقول:'لا جرم أن الله لا ينصر هؤلاء
وكذلك سيف الدولة ابن حمدان بحلب فيه تشيع وميل إلى الروافض لا جرم أن الله لا
ينصر أمثال هؤلاء، بل يديل عليهم أعداءهم لمتابعتهم أهواءهم، وتقليدهم سادتهم
وكبراءهم وآباءهم، وتركهم أنبياءهم وعلماءهم، ولهذا لما ملك الفاطميون بلاد
مصر والشام وكان فيهم الرفض وغيره استحوذ الإفرنج على سواحل الشام وبلاد الشام
كلها حتى بيت المقدس ولم يبق مع المسلمين سوى حلب وحمص وحماة ودمشق، وجميع
السواحل وغيرها مع الإفرنج والنواقيس النصرانية والطقوس الإنجيلية تضرب في
شواهق الحصون والقلاع، وتكفر في أماكن الإيمان من المساجد وغيرها من شريف
البقاع' - ثم بعد ذلك صور حال المسلمين-' والناس معهم في حصر عظيم وضيق من
الدين وأهل هذه المدن-يقصد دمشق وحلب وحمص وحماة- التي في يد المسلمين في خوف
شديد في ليلهم ونهارهم من الإفرنج فإنا لله وإنا إليه راجعون وكل ذلك من بعض
عقوبات المعاصي والذنوب وإظهار سب خير الخلق بعد خير الأنبياء'.
هذا نتيجة
الانحراف العقائدي الذي استحوذ على هذه الأمة في القرن الرابع الهجري بل استحوذ
على حكامها وقادتها في ذلك الوقت.
أما
الشاهد الثاني، فأضربه لكم من عصرنا هذا: فقد هُزم العرب أمام اليهود رغم أنه
لا تناسب بين العددين، ورغم ما كان يتشدق به طواغيت العصر في الشام، وفي مصر من
أنهم سيلقون باليهود في البحر، وسيفعلون وسيفعلون، كان أولئك يرفعون لواء
القومية، ولواء الاشتراكية، ويحاربون الإسلام وكان طاغوتهم الأكبر قد قتل سيد
قطب رحمه الله قبل المعركة بسنة، ثم لما جاءت المعركة كانت إذاعاتهم ترفع
النشيد الآتي تقول موجهة الخطاب لطائرات اليهود:
ميراج طيارك هرب خايف من
نسر العرب
والميج علت واعتلت في الجو
تتحدى القدر
هذا كانت
تتغنى به إذاعة دمشق في ذلك الوقت، إذن كانت تلك الهزيمة الساحقة التي أخذ فيها
ما تبقى من فلسطين، وأخذت أضعاف أرض فلسطين مثل سيناء والجولان كانت بسبب تلك
القيادات الفاجرة المنحرفة التي تسلطت على رقاب المسلمين، وكانت سبب من أهم
أسباب الخذلان والهزيمة .
ثانيًا:
الانحراف في ناحية المعاصي العملية، وبالإمكان أن نقسمها إلى ثلاثة أقسام:
1-
معاصي تؤثر أثناء المعركة:
كمعصية أمر القائد في أثناء
المعركة مثل ما حصل في يوم أحد لما ترك الرماة الجبل، وخالفوا أمر النبي، فحصل
ما حصل مما تعرفونه.
2-
معاصي تؤثر من قبل المعركة:
وهذه سنطيل في الحديث عنها، فنتركها إلى الأخير.
3-
وهناك معاصي تؤدي إلى ضرب الذلة على الأمة المؤمنة ضرباً مؤبداً:وهذه
المعاصي تؤثر تأثيراً مباشراً في هزيمة الأمة أمام أعدائها، وقد بينها النبي
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: [إِذَا
تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ
بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا
يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ] حديث صحيح بمجموع طرقه،
رواه أبوداود وأحمد.
والعينة نوع
من أنواع الربا والربا قد انتشر الآن في بلدان المسلمين فحقت عليهم الذلة، [وَرَضِيتُمْ
بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ] يعني: الإخلاد إلى الدنيا
والالتفات إليها.
[وَتَرَكْتُمْ
الْجِهَادَ] من أسباب ضرب الذلة، [سَلَّطَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا]، ليس الذل على اليهود فقط، بل الذل يضرب
أيضاً على هذه الأمة إذا عصت أمر ربها، [سَلَّطَ
اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ] لا يرفعه إلى متى؟ ليس إلى
أن يصبح عندكم مليون جندي، ولا أن يصبح عندكم ألف طائرة، ولا أن يصبح عندكم
خمسة آلاف دبابة، لا.. وإنما [حَتَّى تَرْجِعُوا
إِلَى دِينِكُمْ] فإذا رجعتم إلى دينكم يرفع الله عنكم الذلة، بهذا
الشرط الوحيد، وهو أن ترجعوا إلى دينكم كله من أوله إلى آخره، لا تقولوا: هذه
قشور وهذا لباب، ولا تقولوا: هذه سنن وهذه وهذه ، ولا تقولوا: هذه تفرق
المسلمين إذا بحثت أمور العقائد بين السنة والروافض، أو بين السنة والأشعرية
وغيرهم . بل تأخذ هذا الدين كاملاً كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند
ربه، تأخذ به كاملاً نقياً صافياً.. فعند ذلك يمنح لك النصر، ويمنح لك الظفر
على العدو .
ننتقل
إلى المسألة الثانية:وهي
المعاصي التي توعد عليها بأنها سبب من أسباب الهزيمة فمن ذلك مايلي:
أ ] الظلم:
الظلم ليس سببًا من أسباب الهزيمة فحسب، بل هو سبب من أسباب هلاك الأمم وسقوط
الدول، وتغير الأحوال، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلمة استقرائية ماتعة
يقول:' إن الدول تبقى مع العدل وإن كانت كافرة، وتسقط مع الظلم وإن كانت
مسلمة'. [انظر:السياسة الشرعية] .
ب] ترك
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
وهو سبب من أسباب الهلاك ونزول العذاب، يقول الله:{
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ
عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ
وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا
مُجْرِمِينَ[116]وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا
مُصْلِحُونَ[117]}[سورة هود] . إذا كان أهلها يأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر لا يهلكهم الله، أما إذا تركوا ذلك، وانتشرت الرذائل، وأصبحت علانية،
فليسوا مهددين بالهزيمة بل بأعظم من ذلك، وهو أن يهلكهم الله، ويحل بهم العذاب،
وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه: أَنَّهُ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ
تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ:{يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا
اهْتَدَيْتُمْ[105]}[سورة المائدة] . وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ إِنَّ
النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ
أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ] رواه الترمذي وأبوداود وابن
ماجة وأحمد.
كما أن ترك
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبب من أسباب الاختلاف، وسبب من أسباب التفرق،
وهذا من أهم أسباب الهزيمة.
ج] نقض عهد
الله وعهد رسوله: فقد
جاء في حديث ابْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ يَا مَعْشَرَ
الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ
تُدْرِكُوهُنَّ... فذكرها، ومنها: [ وَلَمْ
يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ]
حديث صحيح رواه ابن ماجة وغيره . ومن المعلوم أن العدو لن يستطيع أن يأخذ بعض
ما في أيدي المسلمين من الأموال، أو من الأراضي، أو من غيرها إلا بعد أن يهزم
المسلمون، ويستذلوا.
د] الغلول:
والغلول المراد به أخذ مال المسلمين بغير حق :
جاء في الموطأ عَنْ مَالِك عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ:' مَا
ظَهَرَ الْغُلُولُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلَّا أُلْقِيَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبُ...'
. ومن المعلوم أنه إذا ألقى الله الرعب في قلوب قوم فإنهم لن يواجهوا العدو
وسيهزمون ويولون الأدبار هذا أمر لا شك فيه ..
هـ ] من
المعاصي التي توعد الله عليها بأن أصحابها يهزمون ولا ينصرون، البطر والفخر
والغرور والعجب: قال
سبحانه:{ وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[47]}[سورة الأنفال]. فهذا الرياء
والبطر والكبر في الأرض، ثم الصد عن سبيل الله أي: الصد عن دينه حتى ولو عن
جزئية من جزئيات الدين، الصد عنها منذر بوقوع الهزيمة كما دلت عليه هذه الآيات
. وكذلك العجب قال الله:{ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ
أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ
عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ[25]}[سورة
التوبة] . فلما أعجب الصحابة بأنفسهم وبكثرتهم، وقالوا: لن نغلب هذا اليوم من
قلة؛ ما أغنت عنهم كثرتهم شيئاً، وبعض الروايات تقول: إن هوازن لم يتجاوزوا
الثلاثة آلاف رجل . والصحابة كانوا عدة أضعاف لهوازن، ومع ذلك ولوا مدبرين لما
أعجبوا بأنفسهم، ونسوا الاعتماد على ربهم عز وجل.
وهنا ملاحظة
جديرة بالاهتمام، وهي: أنك عندما تقرأ في القرآن في أعقاب ذكر غزوات النبي؛ لا
تجد أبداً أن الله يمدح المؤمنين، ويشيد ببطولاتهم، إنما يبين لهم أن هذا النصر
الذي تحقق إنما هو فضل منه:{ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا
مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ[126]}[سورة آل عمران]. {
وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ[10]}[سورة الأنفال].
بل إنك تجد أن
الله ينبه المؤمنين إلى أخطاء وقعت منهم، وهم منتصرون، فيقول لهم يوم بدر:{
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ...[67]}[سورة
الأنفال] .{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ
الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ...} ثم قال لهم بعد:{...
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[1]}[سورة الأنفال] . كأن هذا
إشارة إلى أن اختلافكم في قسمة الغنائم والأنفال ليس بجيد، فاحذروا أن تخالفوا
أمر الله وأمر رسوله.
فإذن: ما قال
لهم لقد أحسنتم وفعلتم وفعلتم.. ما أشاد بهذه البطولات التي فعلها الصحابة يوم
بدر، بل نبههم على أخطاء، وذكرهم بأن لا يعتمدوا على أنفسهم، وأن لا يعجبوا
بأنفسهم، إنما النصر من عند الرب وحده لا شريك له. كذلك في أحد عندما تقرأ قصة
أحد تجد أن الله نبههم على مكمن الخطأ وسبب ما حاق بهم وما حصل لهم . فالله
سبحانه ينبهنا على أن المسلم دائماً يجب أن يكون خاشعاً لله، معتمداً عليه،
مستنصراً به، مخلصاً له، يعلم أن النصر من عنده ليس بعدد ولا بعدة .
السبب
الثاني من أسباب الهزيمة:
ب ]
الفرقة والاختلاف:
تفرق المسلمين وتشتت أحوالهم سبب من أسباب الهزيمة الماحقة، يقول الله:{
وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ
رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[46]}[سورة
الأنفال]. وهذا الأمر بالإضافة إلى الأمر السابق وهو المعصية كان من أعظم أسباب
سقوط الأندلس.
ج ] من
أسباب الهزيمة في تاريخنا الإسلامي:
موالاة الكافرين والمنافقين، وعدم الحذر منهم: لقد حذرنا الله من ذلك تحذيراً
شديداً، وأبدأ وأعاد حتى قال العلامة الشيخ حمد بن عتيق من أئمة الدعوة رحمه
الله:'لم يرد في القرآن الكريم بعد الأمر بالتوحيد والنهي عن ضده أكثر من النهي
عن موالاة الكافرين' . وفيآية واحد يتبين لنا حقيقة الكفار، يقول الله سبحانه:{
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا
بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } أي: لا يقصرون
فيما يفسدكم. { وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} أي:
أحبوا ما يشق عليكم.{ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} فما
استطاعوا إخفاءها. { وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ
أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ[118]}[سورة
آل عمران] ولكن أين الذين يعقلون؟
لقد كان هذا
هو السبب في هزيمة الدولة العباسية أمام التتار لما وثقت بالرافضي الخبيث ابن
العلقمي وولته الوزارة، وكان ذلك الخبيث ممن مالأ التتار وكاتبهم من أجل أن
تهدم الخلافة وتسقط الدولة، فكان ذلك وحصل له ما أراد، ولكن الله كان له
بالمرصاد، فجازاه ملك التتار أن قتله، وقال له: أنت لا تستحق أن يثق فيك، فقتله
شر قتلة، وما أكثر أمثال ابن العلقمي في هذه العصور .
قد يندس
شياطين الإنس من المنافقين في صفوف المؤمنين، ولا يميزهم المؤمنون، فمن رحمة
الله بالمؤمنين أن تتوالى الابتلاءات على المؤمنين، فتكشف حقيقة المنافقين،
وتميز الصف المؤمن وتطهره من هؤلاء المندسين حتى يتميز الصف، ويصبح مؤمناً
خالصاً، وما هذه الابتلاءات التي حصلت لإخواننا المجاهدين في أفغانستان سابقاً
ولا حقاً إلا فيما نحسب من هذا الباب، ليميز الله الصفوف فتتساقط الأوراق
المندسة التي لا يستطيع المؤمن أن يكشفها لتظاهرها بالإيمان.
د ] ومن
أهم أسباب الهزيمة: ترك إعداد العدة والإخلاد إلى الدنيا
وملذاتها والإغراق في اللهو وطلب الراحة مما يجعل الإنسان لا يستطيع أن يدخل
المعركة، ولا أن يواجه العدو .
هذه بعض أسباب
الهزيمة التي مرت في التاريخ الإسلامي، وهي ليست كلها، ولو تتبعت واستقرأها شخص
من بطون كتب التاريخ لوجدها أضعاف ما ذكرنا أضعافاً كثيرة، ولكن حسبنا أن نذكر
الأهم والأقل يدل على الأكثر .وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم
.