العلاقات المصرية الإيرانية وتأثيرها على الخليج
المصدر : موقع الرحمة المهداة www.mohdat.com
لا يقبل المجلس العسكري أن يحكم مصر "خميني آخر" كما أعلن، لكن وزير الخارجية المصرية د.نبيل العربي يريد إقامة علاقة طيبة مع طهران. لا يبدو تفهم ذلك صعباً من الناحية النظرية في خطاب الدول لكنه قد يحمل بعض التناقض في المواقف إذا ما نظر له بشكل مجرد.
رسالة المجلس العسكري على ما يبدو لم تكن في اتجاه إيران، وإنما كانت إما للداخل المحافظ كأولوية أو للخارج الغربي تالياً، مع هذا لا يمنع ذلك من تحسس شعور الحكام الفعليين في القاهرة تجاه طهران واتخاذهم إياها مضرب مثل مستبشع للثيوقراطية.. كان اللقاء يخاطب الداخل النخبوي كموصل جيد للرسالة إلى العواصم الغربية، وتنويهاً إلى أن حدود القوى المحافظة في الأشهر القادمة للتحرك في الأطر السياسية محكومة بضوابط لا تمضي بأحلام أحزابها إلى أفق بعيدة عن الواقع المحلي والدولي، لكنه أظهر تحفظاً ضمنياً على الإفراط الإيراني في التفاؤل حيال العلاقات المصرية الإيرانية استناداً إلى تصريحات العربي، والتي أعقبها هرولة إيرانية باتجاه استغلال الفرصة السانحة لتكريس واقع جديد في فترة انتقالية تمر بها مصر والمنطقة.
على أن تلك الرسالة قد انطوت على مفارقة غريبة، حيث تبدو مصر الشعبية بعيدة كل البعد عن الخمينية، وتحديداً تبرز القوى المحافظة المصرية كالدعوة السلفية رأس حربة ضد المشروع الإيراني في المنطقة، أو حتى جماعة الإخوان التي أعلنت صراحة على لسان وكيل مؤسسي حزبها د.محمد الكتاتني وفي الفضائية المصرية إثر خلع مبارك مباشرة أنها ترفض بشدة استنساخ نظام الملالي في طهران الذي يتعارض كلية مع الفلسفة السنية للحكم التي لا تجعل الأمة مصدر شرعية الحاكم وتنيط بها مهمة توليته أو خلعه إذا لزم الأمر، وتجاوز حدوده التكليفية، ومن الطبيعي أن عبارة "خميني آخر" لم يُقصد بها القوى الليبرالية أو القومية.
مهما يكن من أمر؛ فإن ما مضى من الخطاب ليس سوى إعادة إنتاج نمط مألوف في السياسة المصرية وإعلامها التقليدي، غير أن اللافت بطبيعة الحال كان، ليس إشارات العربي فحسب، وإنما تفعيلها على النحو المتسارع الذي نلمسه فيما بين مصر وإيران على المستوى الدبلوماسي، وهو ما يشير إلى احتمالات ثلاثة تطرح نفسها لتفسير خطوة الخارجية المصرية.
فهي أولاً، إما أنها تعكس رؤية استراتيجية جديدة لمصر تزحزح تموضعها السابق ليقترب إما من محور إيران ـ سوريا ـ "حزب الله "، وحتى حماس، وإما يحاكي سياسة وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو عن "السياسة الصفرية" التي بشر بها، ثم انتهجتها بلاده ـ وإن مؤقتاً ـ لفسح مجال التحرك والتحرر معاً من سياسة التبعية الكاملة للغرب التي كانت قبل العدالة والتنمية، عبر تمتين العلاقات مع جميع القوى الإقليمية والإفادة منها للتحرر من القوى الدولية الأشد وطأة وتأثيراً، بما ينعكس أيضاً على الأصعدة الاقتصادية والعسكرية.
أو ثانياً، هي محاولة جادة لامتلاك أوراق لعب جديدة افتقر إليها نظام مبارك الذي وضع كل كراته في السلال الغربية، ما أودى به في النهاية إلى مصير انتحاري أخرق، ومن ثَم التلويح لاحقاً بالورقة الإيرانية لتحقيق مكتسبات اقتصادية أو على صعيد الدور الإقليمي، والإفادة به في جر "إسرائيل" إلى طلب التقرب إلى مصر، والاستعداد التالي لها للتدخل لدى حلفائها في أعالي النيل لكبح جماح تهورهم في التعاطي مع ملف المياه الاستراتيجي وشديد الحساسية لمصر.
أو ثالثاً، هي محاولة لتحييد جميع القوى التي يمكنها أن تمد أيديها إلى الداخل المصري في هذه المرحلة الدقيقة، ومنها إيران التي يبدو أنها قد تسعى إلى استغلال تلك المرحلة في مد الجسور مع بعض الأحزاب والشخصيات التي ربما سيكون لها يد في صناعة المستقبل المصري ورسم خطواته.
ولكن أيا من هذه الاحتمالات لم يكن ليحد من القلق الذي أبدته عواصم خليجية عديدة إزاء التقارب المصري الإيراني، والذي رأته خصماً من رصيد قدرة الدولة العربية الكبرى على موازنة التمدد الإيراني في المنطقة وسعيها نحو تثوير أتباعها في أكثر من بلد عربي مجاور لها، يرون في مجموعهم مصر حافظاً للثقل السني وقوة عسكرية وناعمة بمقدورها ضمان أمن الخليج بشكل معقول إن لم يكن جيداً، ولعل الجميع هناك لاحظ الغياب المصري الواضح أثناء ما سُمي بثورة البحرين؛ فلم تكن القاهرة جاهزة للتعاطي معها على النحو الذي تتطلع إليه دول الخليج، ما انعكس قلقاً بدت مؤشراته في الإعلام الخليجي هذه الأيام، وهو ما دفع رأس الدبلوماسية المصرية إلى الانتباه له فسارع إلى الترحيب بتدخل درع الجزيرة في البحرين قائلاً: "منظمة مجلس التعاون الخليجي نجحت في التحرك بشكل منسق للحفاظ على الاستقرار في البحرين، في تطبيق عملي لمفهوم الأمن الجماعي في منطقة الخليج."، مؤكداً على "الالتزام بوحدة واستقرار وسلامة أراضي كل دولة من دول الخليج ، هو من أهم ثوابت السياسة المصرية، التي تعتبر أمن واستقرار وعروبة دول الخليج العربي خطوطا حمراء لا تقبل مصر المساس بها".
وقد يكون في كلمات الوزير ضمانة للخارج غير أن تصريحاته تجاه إيران لا تثير حفيظة الجيران العرب الذين تربطهم بمصر وشائج ومصالح أكبر بكثير من تلك التي تتوقع من إيران التي يبلغ حجم التبادل التجاري بينها ومصر 100 مليون دولار فقط، وهو رقم يمثل نحو 1% من حجم المكافئ المتوقع قريباً لما بين مصر وتركيا، أو 3% من نظيره المصري السعودي على سبيل المثال، هذا خلافاً للعلاقة الاستراتيجية والتاريخية والدينية التي لا يمكن تقديرها بالأرقام، إنما أيضاً تثير قضية بالغة الأهمية والتعقيد تتعلق بالأمن القومي داخل مصر ذاتها؛ فإيران تلك الدولة ذات العقيدة السياسية والمصالح الممتدة لن تتعامل مع مصر بمنطق براجماتي فقط، وإنما ستسعى إلى احتواء مصر التي لا تمتلك عقيدة سياسية خارجية مناظرة، وستكون مرشحة لاهتزازات متوقعة إذا ما أخرجت علاقاتها مع إيران عن النطاق الدبلوماسي المحدود، وستفتح شهية طهران لمد نفوذها داخل الحدود المصرية بشكل لا يدعو للارتياح.
لقد بدأت الدولة الإيرانية محاولاتها المبكرة لتجيير الثورة لصالحها، وألحت وسائل إعلامها إبان الثورة، لاسيما قناة العالم على التسويق لفكرة مجافية للحقيقة عن توأمة الثورتين الإيرانية والمصرية، وارتفع سقف طموح الإيرانيين في هذا التجيير إلى الحد الذي جعل مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي يخطب الجمعة بالعربية لإعلان دعمه اللفظي للثورة المصرية، وهو ما انتبهت إليه قوى الثورة المختلفة فرفضت هذه التوأمة غير الشرعية، علاوة على أن المزاج الشعبي المصري، لم يقبل هذا التجيير، والوعي الشعبي ذاته لم يعد يقبل تطويراً للعلاقات على النحو الذي جرى واتضح في العراق ولبنان، ولا يرغب الكثيرون بتكراره في مصر بطبيعة الحال عبر آلية نشر التشييع وتصدير ثورته.
إيران لا تطمح إلى علاقة شراكة اقتصادية مع مصر مبنية على الاحترام المتبادل وتنسيق المواقف على المستوى الدولي، إنما ستباشر سياسة احتوائية تفضي إلى عزل مصر ثانية عن العرب مثلما نجحت مع سوريا التي حولتها من دولة عربية رائدة إلى دولة تابعة في محور عاصمته خارج الحدود العربية على ضفة أخرى من خليج تستاء بشدة وتقاطع وتخاصم كل من يسميه "عربياً"، ولعل الأمر لا ينطوي على مبالغة إن قلنا إن أولى خطوات هذا العزل حصلت إعلامياً بالفعل عندما مررت صحيفة الدار الطائفية الكويتية القريبة من طهران خبراً عن "فيتو خليجي على محاكمة مبارك"، نفته عاصمة خليجية، وتبين لاحقاً أن هذه الصحيفة قد أوقفت بالكويت على إثر وصفها عبور قوات درع الجزيرة (التي تنتمي إليها الكويت ذاتها!) إلى البحرين بـ"الاحتلال"، والقوات السعودية فيه بـ"الاجتياح"..
أما في الداخل المصري، فلا يتوقع أن ينعكس التقارب المصري الإيراني إيجابياً عليه من حيث الاستقرار والسلم الاجتماعي، وقد لوحظ على الفور أن الصحف ووسائل الإعلام واللوبي الإيراني بكامله في مصر قد تحرك من أجل تسميم العلاقات بين القوى والتيارات الدينية في مصر، لاسيما بين السلفيين والصوفيين، وما بين التيارات الإسلامية السياسية والأزهر ودار الإفتاء. وغير بعيد عن رصد المتابعين للحالة الصحفية في مصر أن الصحف التي كانت شنت حملتها المسيئة على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إبان حكم مبارك وقبل نحو عامين هي ذاتها التي بدأت تثير بقوة مسألة الأضرحة وقبور آل البيت في مصر وتدفع باتجاه الصدام الداخلي في وقت دقيق لم يتمكن فيه المصريون من لملمة جروحهم بعد.
نعم، بالتأكيد نحن نطمح إلى استعادة مصر دورها الإقليمي الرائد في المنطقة، لكن ذلك لا يستوجب بالضرورة أن يمر عبر بلد أدمن على إثارة المتاعب لجيرانه، ولا يمكنه الفصل بين التعاون الاقتصادي والاستخباري، ولا بين تنشيط الاستثمار وزرع الجواسيس وعناصر السافاك.
إن استعادة دور مصر لدورها الإقليمي هو خيار لا بديل من اتخاذه، ولا مراء في حاجتنا الملحة إليه الآن، والابتعاد عن الفلك الغربي استحقاق استراتيجي يجب أن نتجه إليه في سياستنا الخارجية إذا ما أردنا بناء مصر مستقلة، غير أنه ينبغي أن نتحلى بقدر عالٍ من الحذر عن اختيار الشركاء في هذا الطريق، وألا نضع بأنفسنا العراقيل في سبيل الانطلاق.. علينا أن نثبت للجيران أننا قادرون على قيادة المنطقة بشكل آخر يبتعد بها عن التبعية.. هل تذكرون بالمناسبة جسر السعودية مصر الذي رفضه مبارك و"الشركاء" في تل أبيب؟!
المصدر : موقع الرحمة المهداة www.mohdat.com
لا يقبل المجلس العسكري أن يحكم مصر "خميني آخر" كما أعلن، لكن وزير الخارجية المصرية د.نبيل العربي يريد إقامة علاقة طيبة مع طهران. لا يبدو تفهم ذلك صعباً من الناحية النظرية في خطاب الدول لكنه قد يحمل بعض التناقض في المواقف إذا ما نظر له بشكل مجرد.
رسالة المجلس العسكري على ما يبدو لم تكن في اتجاه إيران، وإنما كانت إما للداخل المحافظ كأولوية أو للخارج الغربي تالياً، مع هذا لا يمنع ذلك من تحسس شعور الحكام الفعليين في القاهرة تجاه طهران واتخاذهم إياها مضرب مثل مستبشع للثيوقراطية.. كان اللقاء يخاطب الداخل النخبوي كموصل جيد للرسالة إلى العواصم الغربية، وتنويهاً إلى أن حدود القوى المحافظة في الأشهر القادمة للتحرك في الأطر السياسية محكومة بضوابط لا تمضي بأحلام أحزابها إلى أفق بعيدة عن الواقع المحلي والدولي، لكنه أظهر تحفظاً ضمنياً على الإفراط الإيراني في التفاؤل حيال العلاقات المصرية الإيرانية استناداً إلى تصريحات العربي، والتي أعقبها هرولة إيرانية باتجاه استغلال الفرصة السانحة لتكريس واقع جديد في فترة انتقالية تمر بها مصر والمنطقة.
على أن تلك الرسالة قد انطوت على مفارقة غريبة، حيث تبدو مصر الشعبية بعيدة كل البعد عن الخمينية، وتحديداً تبرز القوى المحافظة المصرية كالدعوة السلفية رأس حربة ضد المشروع الإيراني في المنطقة، أو حتى جماعة الإخوان التي أعلنت صراحة على لسان وكيل مؤسسي حزبها د.محمد الكتاتني وفي الفضائية المصرية إثر خلع مبارك مباشرة أنها ترفض بشدة استنساخ نظام الملالي في طهران الذي يتعارض كلية مع الفلسفة السنية للحكم التي لا تجعل الأمة مصدر شرعية الحاكم وتنيط بها مهمة توليته أو خلعه إذا لزم الأمر، وتجاوز حدوده التكليفية، ومن الطبيعي أن عبارة "خميني آخر" لم يُقصد بها القوى الليبرالية أو القومية.
مهما يكن من أمر؛ فإن ما مضى من الخطاب ليس سوى إعادة إنتاج نمط مألوف في السياسة المصرية وإعلامها التقليدي، غير أن اللافت بطبيعة الحال كان، ليس إشارات العربي فحسب، وإنما تفعيلها على النحو المتسارع الذي نلمسه فيما بين مصر وإيران على المستوى الدبلوماسي، وهو ما يشير إلى احتمالات ثلاثة تطرح نفسها لتفسير خطوة الخارجية المصرية.
فهي أولاً، إما أنها تعكس رؤية استراتيجية جديدة لمصر تزحزح تموضعها السابق ليقترب إما من محور إيران ـ سوريا ـ "حزب الله "، وحتى حماس، وإما يحاكي سياسة وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو عن "السياسة الصفرية" التي بشر بها، ثم انتهجتها بلاده ـ وإن مؤقتاً ـ لفسح مجال التحرك والتحرر معاً من سياسة التبعية الكاملة للغرب التي كانت قبل العدالة والتنمية، عبر تمتين العلاقات مع جميع القوى الإقليمية والإفادة منها للتحرر من القوى الدولية الأشد وطأة وتأثيراً، بما ينعكس أيضاً على الأصعدة الاقتصادية والعسكرية.
أو ثانياً، هي محاولة جادة لامتلاك أوراق لعب جديدة افتقر إليها نظام مبارك الذي وضع كل كراته في السلال الغربية، ما أودى به في النهاية إلى مصير انتحاري أخرق، ومن ثَم التلويح لاحقاً بالورقة الإيرانية لتحقيق مكتسبات اقتصادية أو على صعيد الدور الإقليمي، والإفادة به في جر "إسرائيل" إلى طلب التقرب إلى مصر، والاستعداد التالي لها للتدخل لدى حلفائها في أعالي النيل لكبح جماح تهورهم في التعاطي مع ملف المياه الاستراتيجي وشديد الحساسية لمصر.
أو ثالثاً، هي محاولة لتحييد جميع القوى التي يمكنها أن تمد أيديها إلى الداخل المصري في هذه المرحلة الدقيقة، ومنها إيران التي يبدو أنها قد تسعى إلى استغلال تلك المرحلة في مد الجسور مع بعض الأحزاب والشخصيات التي ربما سيكون لها يد في صناعة المستقبل المصري ورسم خطواته.
ولكن أيا من هذه الاحتمالات لم يكن ليحد من القلق الذي أبدته عواصم خليجية عديدة إزاء التقارب المصري الإيراني، والذي رأته خصماً من رصيد قدرة الدولة العربية الكبرى على موازنة التمدد الإيراني في المنطقة وسعيها نحو تثوير أتباعها في أكثر من بلد عربي مجاور لها، يرون في مجموعهم مصر حافظاً للثقل السني وقوة عسكرية وناعمة بمقدورها ضمان أمن الخليج بشكل معقول إن لم يكن جيداً، ولعل الجميع هناك لاحظ الغياب المصري الواضح أثناء ما سُمي بثورة البحرين؛ فلم تكن القاهرة جاهزة للتعاطي معها على النحو الذي تتطلع إليه دول الخليج، ما انعكس قلقاً بدت مؤشراته في الإعلام الخليجي هذه الأيام، وهو ما دفع رأس الدبلوماسية المصرية إلى الانتباه له فسارع إلى الترحيب بتدخل درع الجزيرة في البحرين قائلاً: "منظمة مجلس التعاون الخليجي نجحت في التحرك بشكل منسق للحفاظ على الاستقرار في البحرين، في تطبيق عملي لمفهوم الأمن الجماعي في منطقة الخليج."، مؤكداً على "الالتزام بوحدة واستقرار وسلامة أراضي كل دولة من دول الخليج ، هو من أهم ثوابت السياسة المصرية، التي تعتبر أمن واستقرار وعروبة دول الخليج العربي خطوطا حمراء لا تقبل مصر المساس بها".
وقد يكون في كلمات الوزير ضمانة للخارج غير أن تصريحاته تجاه إيران لا تثير حفيظة الجيران العرب الذين تربطهم بمصر وشائج ومصالح أكبر بكثير من تلك التي تتوقع من إيران التي يبلغ حجم التبادل التجاري بينها ومصر 100 مليون دولار فقط، وهو رقم يمثل نحو 1% من حجم المكافئ المتوقع قريباً لما بين مصر وتركيا، أو 3% من نظيره المصري السعودي على سبيل المثال، هذا خلافاً للعلاقة الاستراتيجية والتاريخية والدينية التي لا يمكن تقديرها بالأرقام، إنما أيضاً تثير قضية بالغة الأهمية والتعقيد تتعلق بالأمن القومي داخل مصر ذاتها؛ فإيران تلك الدولة ذات العقيدة السياسية والمصالح الممتدة لن تتعامل مع مصر بمنطق براجماتي فقط، وإنما ستسعى إلى احتواء مصر التي لا تمتلك عقيدة سياسية خارجية مناظرة، وستكون مرشحة لاهتزازات متوقعة إذا ما أخرجت علاقاتها مع إيران عن النطاق الدبلوماسي المحدود، وستفتح شهية طهران لمد نفوذها داخل الحدود المصرية بشكل لا يدعو للارتياح.
لقد بدأت الدولة الإيرانية محاولاتها المبكرة لتجيير الثورة لصالحها، وألحت وسائل إعلامها إبان الثورة، لاسيما قناة العالم على التسويق لفكرة مجافية للحقيقة عن توأمة الثورتين الإيرانية والمصرية، وارتفع سقف طموح الإيرانيين في هذا التجيير إلى الحد الذي جعل مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي يخطب الجمعة بالعربية لإعلان دعمه اللفظي للثورة المصرية، وهو ما انتبهت إليه قوى الثورة المختلفة فرفضت هذه التوأمة غير الشرعية، علاوة على أن المزاج الشعبي المصري، لم يقبل هذا التجيير، والوعي الشعبي ذاته لم يعد يقبل تطويراً للعلاقات على النحو الذي جرى واتضح في العراق ولبنان، ولا يرغب الكثيرون بتكراره في مصر بطبيعة الحال عبر آلية نشر التشييع وتصدير ثورته.
إيران لا تطمح إلى علاقة شراكة اقتصادية مع مصر مبنية على الاحترام المتبادل وتنسيق المواقف على المستوى الدولي، إنما ستباشر سياسة احتوائية تفضي إلى عزل مصر ثانية عن العرب مثلما نجحت مع سوريا التي حولتها من دولة عربية رائدة إلى دولة تابعة في محور عاصمته خارج الحدود العربية على ضفة أخرى من خليج تستاء بشدة وتقاطع وتخاصم كل من يسميه "عربياً"، ولعل الأمر لا ينطوي على مبالغة إن قلنا إن أولى خطوات هذا العزل حصلت إعلامياً بالفعل عندما مررت صحيفة الدار الطائفية الكويتية القريبة من طهران خبراً عن "فيتو خليجي على محاكمة مبارك"، نفته عاصمة خليجية، وتبين لاحقاً أن هذه الصحيفة قد أوقفت بالكويت على إثر وصفها عبور قوات درع الجزيرة (التي تنتمي إليها الكويت ذاتها!) إلى البحرين بـ"الاحتلال"، والقوات السعودية فيه بـ"الاجتياح"..
أما في الداخل المصري، فلا يتوقع أن ينعكس التقارب المصري الإيراني إيجابياً عليه من حيث الاستقرار والسلم الاجتماعي، وقد لوحظ على الفور أن الصحف ووسائل الإعلام واللوبي الإيراني بكامله في مصر قد تحرك من أجل تسميم العلاقات بين القوى والتيارات الدينية في مصر، لاسيما بين السلفيين والصوفيين، وما بين التيارات الإسلامية السياسية والأزهر ودار الإفتاء. وغير بعيد عن رصد المتابعين للحالة الصحفية في مصر أن الصحف التي كانت شنت حملتها المسيئة على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إبان حكم مبارك وقبل نحو عامين هي ذاتها التي بدأت تثير بقوة مسألة الأضرحة وقبور آل البيت في مصر وتدفع باتجاه الصدام الداخلي في وقت دقيق لم يتمكن فيه المصريون من لملمة جروحهم بعد.
نعم، بالتأكيد نحن نطمح إلى استعادة مصر دورها الإقليمي الرائد في المنطقة، لكن ذلك لا يستوجب بالضرورة أن يمر عبر بلد أدمن على إثارة المتاعب لجيرانه، ولا يمكنه الفصل بين التعاون الاقتصادي والاستخباري، ولا بين تنشيط الاستثمار وزرع الجواسيس وعناصر السافاك.
إن استعادة دور مصر لدورها الإقليمي هو خيار لا بديل من اتخاذه، ولا مراء في حاجتنا الملحة إليه الآن، والابتعاد عن الفلك الغربي استحقاق استراتيجي يجب أن نتجه إليه في سياستنا الخارجية إذا ما أردنا بناء مصر مستقلة، غير أنه ينبغي أن نتحلى بقدر عالٍ من الحذر عن اختيار الشركاء في هذا الطريق، وألا نضع بأنفسنا العراقيل في سبيل الانطلاق.. علينا أن نثبت للجيران أننا قادرون على قيادة المنطقة بشكل آخر يبتعد بها عن التبعية.. هل تذكرون بالمناسبة جسر السعودية مصر الذي رفضه مبارك و"الشركاء" في تل أبيب؟!