المصدر : موقع الرحمة المهداة www.mohdat.com
الغرب ولغة المصالح
هناك أسئلة كثيرة تتبادر إلى العقلية العربية هذه الأيام:
أولها: لماذا سكتت أمريكا والدول الغربية عن ثروات الرؤساء العرب إبَّان توليهم حكم بلادهم، وسارعت إلى الكشف عنها بعد تنحّيهم عن السلطة؟
وثانيها: لماذا تركت الدول الغربية رجالها وحلفاءها العرب في منطقة الشمال الإفريقي يواجهون الخلع والإبعاد من قبل شعوبهم؟
وثالثها: هل الأمر يتعلق بشفافية الحكومات الغربية أمام شعوبها؛ لتظهر طاهرة اليد والسمعة، أم أنه يتعلق بضغوط المنظمات والجمعيات الحقوقية والإنسانية في الداخل والتي تنادي بقيم الحرية والمساواة والعدالة؟ أو أنه يتعلق بمصالح سياسية واقتصادية غربية في البلدان العربية يُخشى أن تُمسّ بسوء أو ينالها الضرر، الأمر الذي يحتم عليهم غض الطّرف عن مثل هذه الأمور "الصغائر"؛ لأنها لا تعنيهم بصورة مباشرة؟
تواطؤ الدول الغربية:
نيكولاس شاكسون، الخبير في الشؤون الإفريقية والملاذات الضريبية في «شاتام هاوس» البريطاني، قال في حديث لشبكة (سي إن إن): «المملكة المتحدة والولايات المتحدة وسويسرا هي الدول الثلاث الرئيسة المعروفة بغسل الأموال، وتلك الدول تريد أن ينظر إليها على أنها تفعل شيئًا".
وقال: «لكن الصورة الأكبر هي عمليات النهب بالجملة من مصر، إذا نجحت سويسرا والمملكة المتحدة في الإفلات، بالإشارة إلى العثور على عدة مئات الملايين، فهذا يخفي قضية حقيقية وهي التواطؤ، حيث تساعد الدول الغربية القادة الفاسدين في الدول النامية على نهب مواطنيهم، لاسيما باستخدام الملاذات الضريبية السرية في الخارج، مثل جزيرة جيرسي أو جزر كايمان".
ولا يخفى أن الدول الغربية مستفيدة من عوائد هذه الأموال (التي تُقدّر بمئات المليارات لجميع الرؤساء والحكام العرب) في إحداث تنمية حقيقية في بلادهم، ولو أضفت إليها الصناديق السيادية للدول العربية مجتمعة فأنت تتحدث عن تريليونات من الدولارات مودعة في البنوك الغربية، يستفيد منها الغرب وتُحرم منها الشعوب العربية، وبحسب منظمة الشفافية الدولية في فرنسا فهناك (50) منطقة في العالم تحولت إلى ملاذات ضريبية، فيها أكثر من (400) مؤسسة مصرفية، ونحو ثلثي صناديق الاستثمار، ونحو مليوني شركة في العالم. وتضم فيما بينها قرابة عشرة ترليونات دولار من الأصول المالية، أي ما يعادل (4) أضعاف الناتج المحلي الإجمالي في فرنسا.
التواطؤ هنا أصبح مفضوحًا، فمن أجل الإبقاء على رؤوس الأموال العربية في البنوك الغربية يتم التغاضي عن ثروات الحكام العرب وعن الكشف عنها، بل وغض الطرف عن الممارسات الديكتاتورية التي ينتهجها هؤلاء الحكام مع شعوبهم، وهو ما يظهر لنا إلى أي مدى تتلاعب هذه الدول بنا كشعوب عربية، فما يريدون إظهاره يظهرونه، وما يريدون إخفاءه يخفونه.
من هنا نستطيع أن نفهم دلالة تصريحات وزير التجارة البريطاني في المملكة المتحدة، فينس كيبل، الذي أشار في حديث إلى هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، إلى أن حكومته ستتخذ إجراءات ضد أي مصرف بريطاني تورّط في مساعدة الرئيس المصري مبارك على تحريك أمواله بشكل غير صحيح، وأن الحكومة البريطانية لن تعمل بمفردها (لاحظْ)، وأنها بحاجة إلى التأكد من أن تلك الأموال تم الحصول عليها بطريقة غير صحيحة أو بشكل غير صحيح.
وإذا كانت الأجهزة الاستخباراتية الغربية تحتفظ بسجلات سرية تتعلق بالحالة الصحية للزعماء والرؤساء العرب، وتتابع ذلك بكل تفصيلاته (لاحظ أن حالة الرئيس المصري الصحية كشفت عنها صحف إسرائيلية والمؤكد أن خلفها تسريبات استخباراتية)، فمن الغباء السياسي الظن بأن هذه الأجهزة الاستخباراتية لا تعرف حجم الأرصدة العربية للقادة والزعماء العرب والسياسيين ورجال الأعمال المشبوهين، بل إن مجموعة «النزاهة المالية الدولية» - وهي منظمة معنية بالأبحاث والاستشارات مقرّها العاصمة الأميركية واشنطن صرَّحت أن (57) مليار دولار تدفقت خارج مصر في الفترة ما بين عامي 2000 و2008، وهو ما يعني أن هناك رصدًا دقيقًا لما يجري في الدول العربية على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية.
المراحل الثلاثة
والمتابع للثورتين التونسية والمصرية يلاحظ أمرًا في غاية الأهمية أيضًا، وهو أن الدول الغربية تطوّرت مواقفها عدة مرات إبان هذه الثورات، وظهرت في عدة مراحل:
المرحلة الأولى: لبست فيها الدول الغربية ثياب المعارِضة لما يحدث، بل والمسانِدة للنظام، فالديموقراطية من وجهة نظرهم ليست لازمة أو ضرورية للشعوب العربية، وربما كان دافعها إلى ذلك اطمئنانها إلى قدرة النظامين التونسي والمصري على التعامل مع ما تظنه أنها "أحداث استثنائية"، وأنه لم يخطر ببالها أنها ستتحول في كلا البلدين إلى ثورة شعبية بكل ما تحتمله هذه الكلمة من معانٍ.
المرحلة الثانية: بعد مضي الثورتين قدمًا، حيث تحول الموقف الغربي المساند للأنظمة إلى الوقوف على الحياد مع الترقب؛ خوفًا من نجاح الثورة المصرية على غرار سابقتها التونسية، فلا تخسر الأخضر واليابس معًا، وربما تكون لها حساباتها التي ترى ضرورة الأخذ بسياسة الإمساك بالعصا من المنتصف؛ فلا هي إلى هؤلاء، ولا هي إلى هؤلاء.
المرحلة الثالثة: شهدت تحوّلاً كاملاً في سياسة هذه الدول، فأصبحت مسايرة للوضع الجديد وداعمًة له - خاصة بعد التطورات الميدانية المتلاحقة على أرض الواقع - وبعد نجاح التجربة التونسية كانت كل الدلائل تشير إلى أن الثورة المصرية ستنجح هي الأخرى، وستفرض نفسها على الواقع، ومن ثم تصرفت الدول الغربية بسياسة من لا يلوي على شيء، باعتبار أن النظام المصري كان ورقة رابحة، إلاّ أنها احترقت وبدا عوارها للجميع.
الحكام العرب استنفدوا رصيدهم:
إن الغرب لا يزال يعاني حتى اليوم من تسونامي الأزمة المالية العالمية، ويواجه ضغوطًا داخلية كبيرة تطالب بتحسين الأحوال المعيشية وعدم تبديد أموال دافعي الضرائب على الحروب الخارجية والمغامرات الدولية، وخرج من يطالب بضرورة انتشار ثقافة الديموقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي، ووجوب مقاومة الديكتاتوريات الحاكمة وعدم مساندتها بعد أن فاحت رائحتها "العفنة"، ثم مع بدء خروج الأمور في المنطقة العربية عن نطاق السيطرة الغربية إثر قيام الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وغيرها من الدول العربية، وجدت الحكومات الغربية نفسها مضطرة إلى ترك هؤلاء الحكام والقادة يواجهون مصيرهم المحتوم بالخلع والإبعاد (في مصر وتونس حتى الآن)، وفي الوقت ذاته تعمل على مراقبة المنطقة بدقة وحذر، وتحاول قدر الإمكان التعامل بحنكة مع الواقع السياسي الجديد حتى لا تصبح كالمُنْبَتِّ الذي لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى.
الخوف من انفلات الأمور:
أدركت الدول الغربية بما لا يدع مجالاً للشك - أن المنطقة العربية تسير نحو الانفجار الخطير والانهيار الكبير، خاصة بعدما برزت المطالب الشعبية المتعلقة بضرورة إجراء تعديلات دستورية، وتحسين الظروف الاقتصادية المعيشية، وتوفير الحريات السياسية، وتخفيف القبضة الأمنية، كما بدا واضحًا أيضًا أن هذه المطالب هي الغالبة والسائدة في أوساط المثقفين والسياسيين، وأن فئات الشباب الذين يشكلون النسبة الكبرى من عدد السكان في العالم العربي هي المحرك الرئيس لهذه التظاهرات.
كما بدا أن غياب القيادات "الدينية" عن هذه التظاهرات أعطى نوعًا من الاطمئنان الحذر للغرب بأن هذه الثورات ليست ثورات دينية على شاكلة ما حدث في الثورة الإيرانية، وعبثًا حاول بعض فلول النظام البائد وأذنابهم تفسير موقف الدكتور العلامة القرضاوي عندما خطب "جمعة النصر" من ميدان التحرير بأنه ركوب على موجة الثورة، وأنه أشبه بموقف الخميني من قبل.
أضف إلى ذلك أن الساحة السياسية الآن لا يبدو عليها فصيل سياسي واحد، فهناك اتجاهات كثيرة وطنية وقومية سواء كانت موجودة من قبل أو وُلدت من رحم هذه الثورات باتت تشغل حيزًا وتشكل حضورًا وإن اتصف بالضعف، إلاّ أنه في تنامٍ مستمر، ومن ثم فالتخوّف من قفز الإسلاميين على الثورات أو تحكمهم في شؤون البلدان بما يشكل تهديدًا واضحًا للمصالح الغربية لم يعد له وجود، وفي أقل تقدير ضعيف الحدوث بدرجة كبيرة.
بل إن الإسلاميين أنفسهم أصبحوا يدركون هذه التحوّلات، ولا يريدون الظهور في ثوب "الفزّاعة" التي يتخوّف منها الغرب، ويعمل لها ألف حساب، فرحّبوا بالحوار مع ممثلي الحكومة السابقة المخلوعة، كما حدث في مصر، وباتوا اليوم أكثر قبولاً بالآخر وأكثر تفهمًا لقواعد الممارسة السياسية والديموقراطية، وأثبتوا أنهم أكثر اعتدالاً في تصوّرهم للدولة المدنية والعلاقات الدولية، وأكّدوا عدم رغبتهم في الهيمنة المطلقة على الشارع السياسي أو الدخول في مواجهات مع الغرب (الإخوان في مصر أعلنوا أنهم سيدخلون للمنافسة في الانتخابات البرلمانية فقط بنسبة الثلث، وأنه لن يكون لهم مرشح للرئاسة، ولن يتقدموا لشغل حقيبة وزارية إلاّ إذا طُلب منهم ذلك صراحة، ورأوا أن الظروف تستدعي ذلك).
من هنا أدرك الغربيون أنهم إذا وقفوا موقفًا سلبيًا من هذه التظاهرات فقد يؤثر ذلك عليهم في المستقبل القريب؛ إذ يمكن أن يدفع ذلك الشعوب العربية التي عرفت الآن ثمن الحريات، وبدا واضحًا استعدادهم لتقديم هذا الثمن مهما كان كبيرًا - نحو الانفجار الذي لا يمكنهم السيطرة عليه، لذلك قرّروا التخلي عن إمداد بعض الحكام العرب خاصة أولئك الذين واجهوا ثورات عارمة من قبل شعوبهم بأي دعم يمكِّنهم من الوجود والصمود، وأدركوا كذلك ضرورة السعي نحو إقامة نظام ديموقراطي تعدّدي يسمح باستيعاب الإسلاميين، بما يمكنهم من احتوائه والتعامل معه بما لا يضرّ بمصالحهم وأهدافهم الإستراتيجية.
وبدا واضحًا كذلك أن الحكومات الغربية تضغط على بقية الحكومات العربية لتسارع في إجراء تعديلات دستورية، وإصلاحات اقتصادية، للحفاظ على كراسيهم من ناحية، ولتأمين المصالح الغربية من ناحية أخرى، وإلاّ فلن يقف الغرب في صف نظام لا يريده شعبه.
من كل ما سبق نستطيع القول إن المصالح الغربية متشابكة مع بعضها البعض، ومن الصعوبة فصل أحدها عن الآخر، فالحكومات الغربية معنية أن تظهر نظيفة اليد والسمعة أمام شعوبها، كما أنها تعمل ألف حساب للمنظمات والجمعيات الحقوقية والإنسانية الداخلية والخارجية على السواء، والأمر الذي لا يختلف عليه اثنان هو ما يتعلق بمصالحها السياسية والاقتصادية في البلدان العربية.
نحن هنا بحق - أمام فضيحة أخلاقية كبرى، فورقة التوت الغربية سقطت، والخطابات الملونة فضحتها الممارسات الواقعية، ومع ذلك لا تزال بقية الأنظمة العربية تتعامل مع الغرب على أنه الحارس الأمين الذي يحمي عروشها وكراسيها، والكل يرفع شعار: إن بلدنا يختلف عن بقية البلدان، وهي المقولة التي كذّبتها الثورات العربية الثلاث في المنطقة العربية حتى الآن، وأثبتت أن الفعل (الظلم والاستبداد) واحد في كل الدول، ومن ثم كان ردّ الفعل (ثورات وإبعاد وخلع للرؤساء) متشابهًا من الشعوب.