لماذا لن تنتقل ثورة تونس للعالم العربي؟
1 محمد سليمان الزواوي
يبدو أن الثورة التونسية لم تشعل الأوضاع في الداخل التونسي فقط، ولكنها أشعلت حالة من التفكير والدراسة في العالم كله، وأصبحت مثار تحليل من مختلف أساتذة العلوم السياسية حول العالم، حيث كانت تلك الثورة مفاجئة للجميع، وبدت أنها خارجة من رحم صمت كالقبور كان يلف تلك الدولة البوليسية في حكم زين العابدين بن علي، وخرجت النار فجأة وكأنها انفجار بركان لم يخرج من فوهة جبل، ولكنه خرج من أرض مستوية هادئة لم تشهد من قبل حممًا ولا رجفات ولم تخرج حتى دخانًا من قبل.
وعن هذا الموضوع كتب ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد ومؤلف كتاب اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية بالتعاون مع جون ميرشماير، مقالاً في مجلة فورين بوليسي الأمريكية(1) ، في السادس عشر من يناير الجاري، يقول فيها أن تلك الثورة من غير المحتمل أن تنتقل إلى مناطق أخرى من العالم العربي، بالرغم من أن الإطاحة بالنظام التونسي بقيادة زين العابدين بن علي قاد الكثير من المحللين ـ بما في ذلك زميله في مجلة فورين بوليسي مارك لينش ـ إلى القول بأن ذلك ربما يكون محفزًا لموجة من التحول إلى الديموقراطية عبر العالم العربي، والفكرة الأساسية هي أن الأحداث في تونس سوف يكون لها آثار قوية (تعضدها النماذج المتعددة من وسائل الإعلام الجديدة)، مما يقود بعض الجموع الأخرى "غير السعيدة" للثورة وتحدي الدكتاتوريات الخانقة الأخرى في المنطقة، في مصر وسوريا على سبيل المثال. والمقارنة الواضحة مع الثورات المخملية التي حدثت في أوروبا الشرقية، أو ربما "الثورات الملونة" الأخرى التي وقعت في مناطق مثل أوكرانيا وجورجيا.
اعتبروني متشككًا؛ لكن تاريخ ثورات العالم يفيد بأن هذا النوع من الانتقال للثورات كان شحيحًا للغاية، بل حتى عندما يقع نوع من العدوى من ثورة مجاورة، فإنها تحدث ببطء شديد وعادة ما يصاحبها غزو أجنبي واضح وصريح. فالثورة الفرنسية على سبيل المثا لم تفض إلى أي ثورات متعاطفة معها في أرجاء أوروبا، وقد سقطت الملكيات الراسخة في النهاية، ولكن ذلك تم على أسنة حراب الجيش الفرنسي. وروسيا مثال الآخر؛ فبالرغم من أن الكثير من الناس خافوا من انتشار البلشفية عبر أوروبا بعد اندلاع ثورتها عام 1917م ، إلا إنها لم تستطع أن تثبت أنها كانت معدية، ولم يحدث توسع الشيوعية العالمية حتى الحرب العالمية الثانية، والذي دعمته مرة ثانية قوة الجيش الأحمر الروسي (أو من الشيوعيين المحليين أمثال ماوتسي تونج وفقط بعد عقود من الحرب الأهلية).
والثورة الإيرانية في عام 1979م لم تثبت هي الأخرى أنها نموذجًا معديًا أيضًا، بالرغم من ظهور متعاطفين معها في مناطق عدة (مثل لبنان)، ولكننا لم نر موجة من الثورات على الطراز الخوميني في السنوات الثلاثين الماضية. والثورة المخملية في أوروبا الشرقية هي استثناء جزئي، وذلك لأن معظم دول أوروبا الشرقية التابعة للسوفيت آنذاك كانت تعتمد بصورة كبيرة على التهديد بالغزو السوفيتي للإبقاء على أنظمتها الزائفة في السلطة، ولكن بمجرد أن انهارت القوة السوفيتية سقطت كل أحجار الدومينو تلك في صورة متوالية.
وحالة العالم العربي ليست مشابهة لتلك النماذج؛ فبالرغم من أن معظم الحكومات العربية سلطوية، إلا أنها جميعها مستقلة وتعتمد على خليط مختلف من المؤسسات السياسية ومن الإجراءات التي تبقي على حكامها في السلطة، فحقيقة أن بن علي لم يستطع في النهاية أن يدير التحدي وأجبر على الخروج من السلطة لا يعني أن الزعماء العرب الآخرين لن يكونوا قادرين على ردع وإثناء وقمع التحديات على حكمهم.
وهناك ثلاثة أسباب أخرى لماذا أن النموذج التونسي من غير المحتمل أن يقود إلى ثورات مشابهة في مناطق أخرى.
أولاً: ما أظهره تيمور كوران وآخرون وهو أنه من الصعب للغاية قراءة الكوامن الثورية لأي مجتمع مقدمًا، وموجات الثورة المتصاعدة عادة ما تعتمد على خصوصيات لكل مجتمع وعلى آثار انتشار المعلومات والأخبار داخله، وكل ذلك يتم بصورة مشروطة للغاية من أجل اندلاع ثورة حقيقية أو حتى جمع زخم شعبي على مستوى الجماهير.
وثانيًا: تعد حالة تونس علامة تحذير وجرس إنذار واضحة للدكتاتوريين العرب الآخرين، لذا فمن المتوقع أن يكونوا حذرين للغاية في الأشهر القادمة، حتى لا تقع أي موجات ثورية أخرى مشابهة تبدأ في اشعال ثورات.
ثالثًا: أن التجربة التونسية ربما لا تبدو مغرية للغاية في الأسابيع أو الأشهر القليلة القادمة، وبخاصة إذا قاد انهيار الحكومة إلى فوضى عارمة وعنف وصعوبات اقتصادية، فإذا كانت تلك هي الحالة، فإن الجموع الغاضبة في المناطق الأخرى من العالم العربي سوف تكون أقل ميلاً لتحدي الزعماء غير الشعبيين، قائلين أن "حكوماتنا فاسدة، ولكنها أفضل من عدم وجود حكومة على الإطلاق".
وكل تلك الأسباب لا تدعوني للقول بأن التداعيات والعدوى مستحيلة، أو أن تلك الأحداث التي وقعت في تونس لن تخلف آثارًا طويلة الأمد على المناقشات السياسية في مناطق أخرى، أو أنها ليست علامة كاشفة للطموحات الديموقراطية التي من المتوقع أن تجني ثمارها "في النهاية"، ولكن "في النهاية" تلك يمكن أن تكون فترة طويلة نسبيًا، فإذا كنت تتوقع أن ترى تحولاً سريعًا في العالم العربي في أعقاب تلك الأحداث، فأعتقد أنه سيخيب ظنك.
1 محمد سليمان الزواوي
يبدو أن الثورة التونسية لم تشعل الأوضاع في الداخل التونسي فقط، ولكنها أشعلت حالة من التفكير والدراسة في العالم كله، وأصبحت مثار تحليل من مختلف أساتذة العلوم السياسية حول العالم، حيث كانت تلك الثورة مفاجئة للجميع، وبدت أنها خارجة من رحم صمت كالقبور كان يلف تلك الدولة البوليسية في حكم زين العابدين بن علي، وخرجت النار فجأة وكأنها انفجار بركان لم يخرج من فوهة جبل، ولكنه خرج من أرض مستوية هادئة لم تشهد من قبل حممًا ولا رجفات ولم تخرج حتى دخانًا من قبل.
وعن هذا الموضوع كتب ستيفن والت، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد ومؤلف كتاب اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية بالتعاون مع جون ميرشماير، مقالاً في مجلة فورين بوليسي الأمريكية(1) ، في السادس عشر من يناير الجاري، يقول فيها أن تلك الثورة من غير المحتمل أن تنتقل إلى مناطق أخرى من العالم العربي، بالرغم من أن الإطاحة بالنظام التونسي بقيادة زين العابدين بن علي قاد الكثير من المحللين ـ بما في ذلك زميله في مجلة فورين بوليسي مارك لينش ـ إلى القول بأن ذلك ربما يكون محفزًا لموجة من التحول إلى الديموقراطية عبر العالم العربي، والفكرة الأساسية هي أن الأحداث في تونس سوف يكون لها آثار قوية (تعضدها النماذج المتعددة من وسائل الإعلام الجديدة)، مما يقود بعض الجموع الأخرى "غير السعيدة" للثورة وتحدي الدكتاتوريات الخانقة الأخرى في المنطقة، في مصر وسوريا على سبيل المثال. والمقارنة الواضحة مع الثورات المخملية التي حدثت في أوروبا الشرقية، أو ربما "الثورات الملونة" الأخرى التي وقعت في مناطق مثل أوكرانيا وجورجيا.
اعتبروني متشككًا؛ لكن تاريخ ثورات العالم يفيد بأن هذا النوع من الانتقال للثورات كان شحيحًا للغاية، بل حتى عندما يقع نوع من العدوى من ثورة مجاورة، فإنها تحدث ببطء شديد وعادة ما يصاحبها غزو أجنبي واضح وصريح. فالثورة الفرنسية على سبيل المثا لم تفض إلى أي ثورات متعاطفة معها في أرجاء أوروبا، وقد سقطت الملكيات الراسخة في النهاية، ولكن ذلك تم على أسنة حراب الجيش الفرنسي. وروسيا مثال الآخر؛ فبالرغم من أن الكثير من الناس خافوا من انتشار البلشفية عبر أوروبا بعد اندلاع ثورتها عام 1917م ، إلا إنها لم تستطع أن تثبت أنها كانت معدية، ولم يحدث توسع الشيوعية العالمية حتى الحرب العالمية الثانية، والذي دعمته مرة ثانية قوة الجيش الأحمر الروسي (أو من الشيوعيين المحليين أمثال ماوتسي تونج وفقط بعد عقود من الحرب الأهلية).
والثورة الإيرانية في عام 1979م لم تثبت هي الأخرى أنها نموذجًا معديًا أيضًا، بالرغم من ظهور متعاطفين معها في مناطق عدة (مثل لبنان)، ولكننا لم نر موجة من الثورات على الطراز الخوميني في السنوات الثلاثين الماضية. والثورة المخملية في أوروبا الشرقية هي استثناء جزئي، وذلك لأن معظم دول أوروبا الشرقية التابعة للسوفيت آنذاك كانت تعتمد بصورة كبيرة على التهديد بالغزو السوفيتي للإبقاء على أنظمتها الزائفة في السلطة، ولكن بمجرد أن انهارت القوة السوفيتية سقطت كل أحجار الدومينو تلك في صورة متوالية.
وحالة العالم العربي ليست مشابهة لتلك النماذج؛ فبالرغم من أن معظم الحكومات العربية سلطوية، إلا أنها جميعها مستقلة وتعتمد على خليط مختلف من المؤسسات السياسية ومن الإجراءات التي تبقي على حكامها في السلطة، فحقيقة أن بن علي لم يستطع في النهاية أن يدير التحدي وأجبر على الخروج من السلطة لا يعني أن الزعماء العرب الآخرين لن يكونوا قادرين على ردع وإثناء وقمع التحديات على حكمهم.
وهناك ثلاثة أسباب أخرى لماذا أن النموذج التونسي من غير المحتمل أن يقود إلى ثورات مشابهة في مناطق أخرى.
أولاً: ما أظهره تيمور كوران وآخرون وهو أنه من الصعب للغاية قراءة الكوامن الثورية لأي مجتمع مقدمًا، وموجات الثورة المتصاعدة عادة ما تعتمد على خصوصيات لكل مجتمع وعلى آثار انتشار المعلومات والأخبار داخله، وكل ذلك يتم بصورة مشروطة للغاية من أجل اندلاع ثورة حقيقية أو حتى جمع زخم شعبي على مستوى الجماهير.
وثانيًا: تعد حالة تونس علامة تحذير وجرس إنذار واضحة للدكتاتوريين العرب الآخرين، لذا فمن المتوقع أن يكونوا حذرين للغاية في الأشهر القادمة، حتى لا تقع أي موجات ثورية أخرى مشابهة تبدأ في اشعال ثورات.
ثالثًا: أن التجربة التونسية ربما لا تبدو مغرية للغاية في الأسابيع أو الأشهر القليلة القادمة، وبخاصة إذا قاد انهيار الحكومة إلى فوضى عارمة وعنف وصعوبات اقتصادية، فإذا كانت تلك هي الحالة، فإن الجموع الغاضبة في المناطق الأخرى من العالم العربي سوف تكون أقل ميلاً لتحدي الزعماء غير الشعبيين، قائلين أن "حكوماتنا فاسدة، ولكنها أفضل من عدم وجود حكومة على الإطلاق".
وكل تلك الأسباب لا تدعوني للقول بأن التداعيات والعدوى مستحيلة، أو أن تلك الأحداث التي وقعت في تونس لن تخلف آثارًا طويلة الأمد على المناقشات السياسية في مناطق أخرى، أو أنها ليست علامة كاشفة للطموحات الديموقراطية التي من المتوقع أن تجني ثمارها "في النهاية"، ولكن "في النهاية" تلك يمكن أن تكون فترة طويلة نسبيًا، فإذا كنت تتوقع أن ترى تحولاً سريعًا في العالم العربي في أعقاب تلك الأحداث، فأعتقد أنه سيخيب ظنك.