الحكام أيضاً يبكون..!
المصري اليوم... مجدي الجلاد ١٧/ ١/ ٢٠١١
عشت عمرى كله مغرماً بالتأمل فى سيكولوجية الحاكم.. أجلس أمام الحكام وهم يتحدثون متفرساً ملامحهم وقسماتهم، ومراقباً لكل حركة وإيماءة وإشارة.. لدى إيمان تام بأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وأنه مثلما تتطابق ملامح الزوجين بعد سنوات الزواج الطويلة، يتوحد الحاكم مع الكرسى وذاته بعد ١٠ أو ١٢ سنة حكماً.. غير أن المثير للدهشة أن شعوبنا - على خلاف شعوب العالم - تتوحد هى الأخرى مع الحاكم، فلا تراه بشراً، ولا تجرؤ على النظر فى عينيه، حتى لو كان صورة على جدار أو تمثالاً فى ميدان عام..!
رأيت ذلك بعينى.. ثمة حكام لدينا يتعامل معهم المحيطون باعتبارهم «كائنات خرافية».. تجاوز الحاكم مساحة البشر، واقترب من الآلهة.. إذا أشار بطرف أصبعه الصغير فى قدمه اليسرى تحولت الإشارة إلى قرار غير قابل للنقاش.. وإذا أومأ بعينه صوب شخص كانت نهايته دون رحمة.. أيقنت بعد سنوات من المراقبة، والتفرس، والتحليل أن حكامنا يفسدون لأنهم يدركون أن مغادرتهم مقعد الحكم ستكون حملاً على «خشبة» الآخرة.. فلماذا يعملون لنا حساباً؟!
ترسخت لدى هذه القناعة حين شاهدت وسمعت الرئيس التونسى المخلوع زين العابدين بن على يتحدث للشعب قبل رحيله بيوم.. كان الرجل مذعوراً.. ضعيفاً.. ذليلاً.. كان المشهد غير معتاد.. الديكتاتور الباطش.. القمعى.. المستبد.. والمرعب.. يستجدى شعبه.. والاستجداء هنا لم يكن حفاظاً على تونس الخضراء، أو حمايةً لدماء أبنائها، وإنما دفاعاً عن كرسى الحكم.. الرجل لم يكتف بـ٢٣ عاماً من السلطان والهيلمان والسطوة والنفوذ والمال.. لاتزال شهيته للسلطة مفتوحة.. هكذا هو «الديكتاتور».. وهكذا كان زين العابدين.. ركع تحت أقدام شعبه ليحافظ على الكرسى.. فهو لم يتصور يوماً أن يغادره وهو يتنفس..!!
الكراسى فيروس قاتل.. لابد أن تتحصن ضده قبل الجلوس.. وفى تاريخنا وتاريخ البشرية كلها نماذج جلست وغادرت بكرامة.. وأخرى لفظت كرسى الحكم.. وثالثة زهدت فى السلطة.. وحتى لا تجتهد فى تصور الأمر.. دعنا نذكر أمثلة لكل نوع.. فأولئك الذين جاءوا وذهبوا كثيرون، إلا عندنا.. فى أمريكا وأوروبا وآسيا.. بل أفريقيا.. أما الذين لفظوا كرسى الحكم، فمنهم السودانى الرمز عبدالرحمن سوار الذهب، والمصرى الذى لم يأخذ حقه اللواء محمد نجيب.. وأما الذين زهدوا فى السلطة، فستجدهم فى تاريخ الإسلام المجيد.. كثيرين.. شيخهم عمر بن الخطاب.. وإمامهم عمر بن عبدالعزيز.. فهل فى عالمنا العربى الآن من ينتمى لنوع من الثلاثة؟!
هل عرفتم لماذا بكى زين العابدين فى الطائرة التى ألقت به «خارج تونس».. لم يذرف الديكتاتور الدمع حزناً على فراق بلده الحبيب.. ولا على الدماء الطاهرة التى سالت فى الشوارع.. ولا على خروجه ذليلاً مطروداً و«مفضوحاً».. وإنما كمداً على الكرسى الذى لم يفلح فى أخذه معه.. كان ينظر من شباك الطائرة بحنين جارف إلى «مقعده الوثير» وليس لحدائق تونس الرقيقة!
.. سوف يبكى زين العابدين دماً.. وسوف يسأله ربه عن ٢٣ سنة من السلطة المطلقة.. وسيجد أن الدنيا بعزها وسلطانها وملكها لا تساوى جناح بعوضة!
.. ومع ذلك.. لن يفهم أى حاكم آخر هذا الكلام.. هل تعرفون لماذا؟!.. إنه الكرسى الذى يعمى الأعين ويغلف القلوب!
المصري اليوم... مجدي الجلاد ١٧/ ١/ ٢٠١١
عشت عمرى كله مغرماً بالتأمل فى سيكولوجية الحاكم.. أجلس أمام الحكام وهم يتحدثون متفرساً ملامحهم وقسماتهم، ومراقباً لكل حركة وإيماءة وإشارة.. لدى إيمان تام بأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وأنه مثلما تتطابق ملامح الزوجين بعد سنوات الزواج الطويلة، يتوحد الحاكم مع الكرسى وذاته بعد ١٠ أو ١٢ سنة حكماً.. غير أن المثير للدهشة أن شعوبنا - على خلاف شعوب العالم - تتوحد هى الأخرى مع الحاكم، فلا تراه بشراً، ولا تجرؤ على النظر فى عينيه، حتى لو كان صورة على جدار أو تمثالاً فى ميدان عام..!
رأيت ذلك بعينى.. ثمة حكام لدينا يتعامل معهم المحيطون باعتبارهم «كائنات خرافية».. تجاوز الحاكم مساحة البشر، واقترب من الآلهة.. إذا أشار بطرف أصبعه الصغير فى قدمه اليسرى تحولت الإشارة إلى قرار غير قابل للنقاش.. وإذا أومأ بعينه صوب شخص كانت نهايته دون رحمة.. أيقنت بعد سنوات من المراقبة، والتفرس، والتحليل أن حكامنا يفسدون لأنهم يدركون أن مغادرتهم مقعد الحكم ستكون حملاً على «خشبة» الآخرة.. فلماذا يعملون لنا حساباً؟!
ترسخت لدى هذه القناعة حين شاهدت وسمعت الرئيس التونسى المخلوع زين العابدين بن على يتحدث للشعب قبل رحيله بيوم.. كان الرجل مذعوراً.. ضعيفاً.. ذليلاً.. كان المشهد غير معتاد.. الديكتاتور الباطش.. القمعى.. المستبد.. والمرعب.. يستجدى شعبه.. والاستجداء هنا لم يكن حفاظاً على تونس الخضراء، أو حمايةً لدماء أبنائها، وإنما دفاعاً عن كرسى الحكم.. الرجل لم يكتف بـ٢٣ عاماً من السلطان والهيلمان والسطوة والنفوذ والمال.. لاتزال شهيته للسلطة مفتوحة.. هكذا هو «الديكتاتور».. وهكذا كان زين العابدين.. ركع تحت أقدام شعبه ليحافظ على الكرسى.. فهو لم يتصور يوماً أن يغادره وهو يتنفس..!!
الكراسى فيروس قاتل.. لابد أن تتحصن ضده قبل الجلوس.. وفى تاريخنا وتاريخ البشرية كلها نماذج جلست وغادرت بكرامة.. وأخرى لفظت كرسى الحكم.. وثالثة زهدت فى السلطة.. وحتى لا تجتهد فى تصور الأمر.. دعنا نذكر أمثلة لكل نوع.. فأولئك الذين جاءوا وذهبوا كثيرون، إلا عندنا.. فى أمريكا وأوروبا وآسيا.. بل أفريقيا.. أما الذين لفظوا كرسى الحكم، فمنهم السودانى الرمز عبدالرحمن سوار الذهب، والمصرى الذى لم يأخذ حقه اللواء محمد نجيب.. وأما الذين زهدوا فى السلطة، فستجدهم فى تاريخ الإسلام المجيد.. كثيرين.. شيخهم عمر بن الخطاب.. وإمامهم عمر بن عبدالعزيز.. فهل فى عالمنا العربى الآن من ينتمى لنوع من الثلاثة؟!
هل عرفتم لماذا بكى زين العابدين فى الطائرة التى ألقت به «خارج تونس».. لم يذرف الديكتاتور الدمع حزناً على فراق بلده الحبيب.. ولا على الدماء الطاهرة التى سالت فى الشوارع.. ولا على خروجه ذليلاً مطروداً و«مفضوحاً».. وإنما كمداً على الكرسى الذى لم يفلح فى أخذه معه.. كان ينظر من شباك الطائرة بحنين جارف إلى «مقعده الوثير» وليس لحدائق تونس الرقيقة!
.. سوف يبكى زين العابدين دماً.. وسوف يسأله ربه عن ٢٣ سنة من السلطة المطلقة.. وسيجد أن الدنيا بعزها وسلطانها وملكها لا تساوى جناح بعوضة!
.. ومع ذلك.. لن يفهم أى حاكم آخر هذا الكلام.. هل تعرفون لماذا؟!.. إنه الكرسى الذى يعمى الأعين ويغلف القلوب!