من يحمي المسيحيين العرب الإســلام.. أم الفاتيكــــــان؟؟ 7 فلسفــــة الإســــــلام فــــي الحكــــــمطباعة ارسال إلى صديق
د.محمد عمارة
تميز الإسلام بأنه عقيدة وشريعة عن المسيحية - التي لم تأت بشريعة.. وإنما وقفت عند «التعاليم»، وبنفي السلطة الدينية (الثيوقراطية) وهدمها، كما تميز نظام الحكم الإسلامي عن الكهانة الكنسية التي مارستها الكنيسة الكاثوليكية، والتي ورثتها - لا عن المسيحية - وإنما عن الفرعونية والكسروية - في التاريخ القديم! ولقد أوجز الأستاذ الإمام الشيخ «محمد عبده» (1266 - 1323هـ / 1849 - 1905م) تميز فلسفة الإسلام في الحكم هذه عن «الثيوقراطية الكنسية» وعن «العلمانية» - كليهما - فقال: «إن الإسلام لم يعرف تلك السلطة الدينية التي عرفتها أوروبا، فليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير، والتنفير عن الشر، وهي سلطة خوّلها الله لكل المسلمين، أدناهم وأعلاهم. والأمة هي التي تولي الحاكم، وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي تخلعه متى رأت ذلك في مصلحتها، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه، ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط بين الخليفة عند المسلمين، بما يسميه الإفرنج «ثيوكونيك»، أي سلطان إلهي، فليس للخليفة - بل ولا للقاضي أو المفتي أو شيخ الإسلام - أدنى سلطة على العقائد وتحرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية، قدرها الشرع الإسلامي، فليس في الإسلام سلطة دينية بوجه من الوجوه، بل إن قلب السلطة الدينية، والإتيان عليها من الأساس، هو أصل من أصول الإسلام. والإسلام: دين وشرع، فهو قد وضع حدوداً، ورسم حقوقاً، ولا تكتمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظم الجماعة.. والإسلام لم يدع ما لقيصر لقيصر، بل كان من شأنه أن يحاسب «قيصر» على ما له، ويأخذ على يده في عمله، فكان الإسلام - (بذلك) - كمالاً للشخص، وألفة في البيت، ونظاماً للملك، امتازت به الأمم التي دخلت فيه عن سواها ممن لم تدخل فيه»(1). مسخ الإسلام لذلك.. فإن السعي الفاتيكاني إلى علمنة الإسلام والمجتمعات الإسلامية، هو سعي إلى مسخ الإسلام كي يكون كالمسيحية، يدع ما لقيصر لقيصر، ويقف عند ما لله!.. ومحاولة للوقوف بالإسلام عند العقيدة والأخلاق، مع استبعاد الشريعة - أي السعي لقطع إحدى رئتي الإسلام!! - ودون ذلك «خرط القتاد»! أما ادعاء الوثيقة الفاتيكانية - في البند 110: «إن الدولة الإسلامية - في بعض البلدان - تطبق الشريعة، ليس فقط في الحياة الخاصة، بل أيضاً في الحياة الاجتماعية، حتى على غير المسلمين، مما ينتج عنه تجاهل حقوق الإنسان». فهو ادعاء مليء بالجهل.. والافتراء، فالشريعة الإسلامية لم تنزل للحياة الخاصة وحدها.. وإنما نزلت للحياة الاجتماعية والسياسية أيضاً.. وبعبارة رائد التنوير الحديث «رفاعة رافع الطهطاوي»: «ومن أمعن في كتب الفقه الإسلامية ظهر له أنها لا تخلو من تنظيم الوسائل النافعة من المنافع العمومية، حيث بوبوا للمعاملات الشرعية أبواباً مستوعبة للأحكام التجارية، كالشركة، والمضاربة، والقرض، والمخابرة، والعارية، والصلح، وغير ذلك... ومن المعلوم أن بحر الشريعة الغراء، على تفرع مشاربه، لم يغادر من أمهات المسائل صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأحياها بالسقي والري.. ولم تخرج الأحكام السياسية عن المذاهب الشرعية، لا على سبيل التهاون ولا على سبيل الشذوذ، بل سارت على مشاعب المذاهب لمجاراة مجريات النوازل والنوائب.. لأنها أصل، وجميع مذاهب السياسات عنها بمنزلة الفرع.. فالشرع جامع الأنواع المطلوب، من المعقول والمنقول، مع ما اشتمل عليه من بيان السياسات المحتاج إليها في نظام أحوال الخلق، كشرع الزواجر المفضية إلى حفظ الأديان والعقول والأنساب والأموال، وشرع ما يدفع الحاجة على أقرب وجه يحصل به الغرض، كالبيع، والإجارة، والزواج، وأصول أحكامها، فكل رياضة لم تكن بسياسة الشرع لا تثمر العاقبة الحسنى. فلا عبرة بالنفوس القاصرة الذين حكّموا عقولهم بما اكتسبوه من الخواطر التي ركنوا إليها تحسيناً وتقبيحاً، وظنوا أنهم فازوا بالمقصود بتعدي الحدود، فينبغي تعليم النفوس السياسة بطرق الشرع، لا بطرق العقول المجردة، ومعلوم أن الشرع الشريف لا يحظر جلب المنافع ولا درء المفاسد، ولا ينافي المتجددات المستحسنة التي يخترعها من منحهم الله تعالى العقل وألهمهم الصناعة»(2). تلك هي شمولية الشريعة الإسلامية لكل ميادين الحياة؛ الخاص منها والعام، الفردي منها والاجتماعي على حد سواء.. وتلك هي أبوابها المفتوحة للجديد والتجديد. ادعاءات فاتيكانية أما دعوى - الوثيقة الفاتيكانية - تطبيق بعض الدول الإسلامية هذه الشريعة «على غير المسلمين، مما ينتج عنه تجاهل حقوق الإنسان»، فهي دعوى ظالمة، لا ظل لها من الواقع في أي من ديار الإسلام - لا تاريخياً، ولا في هذا العصر الذي نعيش فيه.. ذلك أن الشريعة الإسلامية لا تطبق على غير المسلمين إلا حيث لا توجد «تعاليم مسيحية»، في مثل «الميراث» الذي هو بالنسبة للمسيحي «قانون وضعي»، لا بديل له في الإنجيل واللاهوت.. فهو مما تُرك لـ«قيصر». وكذلك كل أحكام «فقه المعاملات» الإسلامي، الذي هو ثمرة لاجتهاد الفقهاء، المحقق للمصالح المدنية والاجتماعية المعتبرة للأمة، في ضوء ثوابت الشريعة وكلياتها وفلسفاتها في التشريع، النابعة من منظومة القيم والأخلاق التي اتفقت فيها وعليها كل ديانات السماء. إن الشريعة - كما يقول الإمام ابن القيم (691 - 751هـ / 1292 - 1350م): «هي عدل كلها، وحكمة كلها، ومصلحة كلها.. والسياسة الشرعية على التدابير التي يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعها الرسول ولا نزل بها الوحي»(3). فوحدة المحكمة ووحدة القانون - وكذلك وحدة المدرسة - في المجتمعات الإسلامية بالنسبة لجميع المواطنين لا تمثل جوراً على تعاليم المسيحية وعقائد المسيحيين في هذه المجتمعات الإسلامية بحال من الأحوال. لقد تركت المسيحية «ما لقيصر لقيصر»، واكتفت بـ«ما لله».. أما الإسلام، فقد جمع بين «ما لقيصر» و«ما لله».. لكنه خص المسلمين بما جاء فيه لله.. وعمّم ما لقيصر - الذي تركته المسيحية - على كل الأمة والمجتمع والوطن.. فوحَّد القانون والمحكمة، دون أن يكون في ذلك أي افتئات على ما جاء بالمسيحية مما هو لله. دين ودولة وعن هذه الحقيقة بالغة الأهمية يقول أبو القانون المدني الحديث في الشرق الإسلامي - القاضي العادل والفقيه الفذ الدكتور «عبدالرزاق السنهوري باشا» (1313 - 1391هـ/ 1895 - 1971م): «إن الإسلام دين ودولة، وهذه حقيقة تغيب عن بعض الباحثين، فيعتقدون أن الإسلام ليس إلا ديناً منزلاً، ويدفعهم إلى هذا الخطأ تقريب خاطئ بين الإسلام والمسيحية، فالمسيحية أعطت ما لله لله، وما لقيصر لقيصر.. ويظنون أن الإسلام كالمسيحية في ذلك، ولكن الإسلام يختلف عن المسيحية اختلافاً جوهرياً، فقد جمع ما لله وما لقيصر، وخص المسلمين بما لله، وجعل ما لقيصر عاماً واجب التطبيق على الكافة مسلمين وغير مسلمين. والأصل في أحكام الشريعة أنها خطاب لجميع الناس - مسلمين وغير مسلمين - فهي إذن أحكام إقليمية، إذ هي واجبة التطبيق في دار الإسلام على جميع المقيمين فيها من مسلمين وغير مسلمين.. وذلك باستثناء مسائل قليلة - هي الزواج، ونفي المهر، وتقوّم الخمر والخنزير - تتصل بالعقيدة والدين، يُتركون فيها وما يدينون»(4). أي أنه عندما تكون هناك تعاليم دينية مسيحية - مما هو لله - فإن حقوق الإنسان التي قررها الإسلام - منذ ظهوره وحتى الآن - هي التي تقررها القاعدة الشرعية: «يُتركون وما يدينون». عقلاء المسيحيين ولقد أبصر هذه الحقيقة - التي افترت عليها الوثيقة الفاتيكانية، عقلاء المسيحيين في الشرق الإسلامي، الذين اختار 63% منهم - بمصر - تطبيق الشريعة الإسلامية بما فيها الحدود، في منظومة القوانين المصرية - في استطلاع للرأي العام أجراه «المركز القومي للبحوث الاجتماعية» سنة 1985م(5). هؤلاء العقلاء المسيحيون الذين كتب أحد مفكريهم ومثقفيهم - هو الأستاذ «صادق عزيز» - حول تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على المسيحيين، فيما لا بديل له في الإنجيل، فقال: «إن مصر دولة إسلامية منذ دخلها الإسلام، ويومها كان المسلمون هم الأقلية، وكان الأقباط هم الأغلبية، ومع ذلك كانت إسلامية، بل إن مصر في تاريخها لم تكن دولة «قبطية» حتى من قبل الإسلام، فهي تقع دائماً تحت الحكم الروماني أو البيزنطي أو المقدوني، أما الحكم القبطي فلم نسمع عنه أبداً. وفيما عدا الأحوال الشخصية، فإن أحكام الشريعة الإسلامية لا تتعارض إطلاقاً مع المسيحية، وذلك لعدة أسباب، أهمها: 1 - أنه إذا كانت الدولة إسلامية، فالقوانين الوضعية يجب أن تكون إسلامية، وعلينا قبول ذلك، بل والترحيب به، عملاً بقول المسيح: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله». 2 - أن أحكام الشريعة الإسلامية تنطبق في كثير جداً من الأحوال مع شريعة العهد القديم، وهي ما جاء المسيح لا لينقضها.. بل ليكملها. 3 - أن المسيحية لم تأت بأحكام وقوانين وضعية، عملاً بقول المسيح: «مملكتي ليست في هذا العالم»، ومن ثم ترك للحكام أو لـ«قيصر» وضع الأحكام الأرضية، وأمرنا بأن نعطي ما للحكام للحكام»(6). امتيازات للمسيحيين فكل حقوق الإنسان المسيحي - حقوق المواطنة وواجباتها - مصانة ومرعية ومقننة.. وكل حقوقه الدينية مصانة ومرعية. بل إن المقارنة بين حقوق الأغلبيات المسلمة والأقليات المسيحية - في عدد من البلاد الإسلامية - تبرز امتيازات المسيحيين على المسلمين! وعلى سبيل المثال: فالكنائس مفتوحة على مدار الليل والنهار.. بينما المساجد - في بعض البلاد - تغلق عقب الصلاة. ومنبر الكنيسة حر.. ومنابر المسلمين مقيدة بسياسات الحكومات. وأوقاف الكنائس والأديرة والجمعيات المسيحية قائمة ومصانة، تحقق الاستقلال المالي واستقلال القرار لهذه المؤسسات.. بينما الأوقاف الإسلامية - في بعض البلاد - استولى عليها الإصلاح الزراعي، واستأثرت بها الحكومات. والشباب المسيحي حر في ممارسة كل ألوان التدين، بما في ذلك الرهبنة في الأديرة - التي غدت مؤسسات إقطاعية - بينما القيود مفروضة على اعتكاف بعض الشباب المسلم ليالي في رمضان - في بعض البلاد!.. بل إن بعض البلاد الإسلامية قد جعلت إطلاق اللحية لغير العجائز تحتاج إلى تصريح! وكثير من بطاركة الشرق الإسلامي يمارسون الزعامة السياسية - على خلاف تعاليم الكنيسة واللاهوت - حتى لتوشك كنائسهم أن تكون الواحدة منها «دولة» داخل الدولة.. وأحياناً فوق الدولة.. تمتنع عن الخضوع للقانون وتنفيذ أحكام القضاء!.. بينما مؤسسات العلم الإسلامي - بنت الدين الشامل منهاجه لكل مناحي الحياة - تقف عند حدود العلم والتعليم والوعظ والإرشاد.. وتكاد أن تترك «ما لقيصر لقيصر»، مكتفية ببعض «ما لله»! ومع هذا، تسعى الوثيقة الفاتيكانية لعلمنة الإسلام والمجتمعات الإسلامية - وتحكّم الأقلية في الأغلبية!.. وتتباكى على حقوق الإنسان المسيحي في ظل شريعة الإسلام! دعوة شاذة ومما يزيد هذه الدعوة الفاتيكانية إلى علمنة الإسلام والمجتمعات الإسلامية، غرابة وشذوذاً أنها - في الوقت الذي تريد فيه للإسلام التخلي عن الشريعة.. والوقوف عند الشعائر والعبادات - تدعو إلى تسييس المسيحية وتديين المسيحيين والمجتمعات التي يعيشون فيها! ففي البند 102 تقول: «وفي هذه الظروف تقوم مساهمة المسيحي في أن يقدم ويعيش قيم الإنجيل».. وهي لا تطلب للمسيحي «أن يعيش قيم الإنجيل» لنفسه، وأسرته فقط، وإنما للمجتمع الذي يعيش فيه. وبعبارة البندين 46، 111: «فكل مسيحي في وطنه هو حامل رسالة المسيح لمجتمعه.. وللمسيحي إسهام نوعي لا غنى عنه في المجتمع الذي يعيش فيه، ليثريه بقيم الإنجيل، ولذلك ينبغي على التعليم المسيحي أن يكوّن - في الوقت نفسه - مؤمنين مواطنين، فعّالين في مختلف مجالات المجتمع». التزام سياسي والوثيقة لا تدع مجالاً للشك في أنها تريد «التزاماً سياسياً بقيم الإنجيل ورسالة المسيح».. فتقول: «فالالتزام السياسي الخالي من القيم الإنجيلية هو شهادة مضادة، ويسبب ضرراً أكثر مما يعمل خيراً». وتطلب - هذه الوثيقة الفاتيكانية - في البند 108 - هذا «الالتزام السياسي بقيم الإنجيل ورسالة المسيح» من العلمانيين المسيحيين، فتقول: «وحبذا لو التزم العلمانيون المسيحيون في المجتمع دائماً أكثر». فهي - بهذا - تطلب تديين الالتزام السياسي للمسيحي - الذي تطلب منه مسيحيته أن «يدع ما لقيصر لقيصر»، وتدعوه للالتزام، في السياسة، بقيم الإنجيل ورسالة المسيح.. بينما تحرِّم ذلك على المسلم - المؤمن بالدين الشامل للسياسة والدولة والاجتماع والاقتصاد - فإذا راعى هذا المسلم قيم القرآن في الالتزام السياسي، سُمي ذلك «إسلاماً سياسياً» و«أسلمة»، ووضع ذلك في إطار المحرمات والمحظورات!! بل إن هذه الوثيقة، التي جعلت عودة المسلمين إلى «إسلام الأصول» - الإسلام الذي حرر المسيحية الشرقية من القهر الروماني الذي دام عشرة قرون.. والذي حرر أوطان الشرق وترك شعوبه وما يدينون، حتى أن نسبة الإسلام بين رعية الدولة الإسلامية - بعد قرن من الفتوحات الإسلامية - كانت 20% فقط لا غير!(7) تعتبر هذه الوثيقة - عودة المسلمين إلى «إسلام الأصول» هذا كخيار حضاري ونهضوي، بديل عن نماذج التحديث الغربية - تعتبر ذلك «أصولية مرذولة».. وفي ذات الوقت تطلب - هذه الوثيقة - من المسيحيين العودة إلى الأصول والجذور، فتقول - في البند 39: «علينا أن نعود إلى نموذج الجماعة المسيحية الأولى». فالعودة إلى «إسلام الأصول»: أصولية مرذولة.. والبعد السياسي للإسلام.. بمعنى السياسة الشرعية - خطر يجب التصدي له.. بينما العودة إلى «نموذج الجماعة المسيحية الأولى»! فريضة فاتيكانية.. والالتزام السياسي المسيحي في المجتمع بقيم الإنجيل ورسالة المسيح واجبات يدعو إليها الفاتيكان!!>
د.محمد عمارة
تميز الإسلام بأنه عقيدة وشريعة عن المسيحية - التي لم تأت بشريعة.. وإنما وقفت عند «التعاليم»، وبنفي السلطة الدينية (الثيوقراطية) وهدمها، كما تميز نظام الحكم الإسلامي عن الكهانة الكنسية التي مارستها الكنيسة الكاثوليكية، والتي ورثتها - لا عن المسيحية - وإنما عن الفرعونية والكسروية - في التاريخ القديم! ولقد أوجز الأستاذ الإمام الشيخ «محمد عبده» (1266 - 1323هـ / 1849 - 1905م) تميز فلسفة الإسلام في الحكم هذه عن «الثيوقراطية الكنسية» وعن «العلمانية» - كليهما - فقال: «إن الإسلام لم يعرف تلك السلطة الدينية التي عرفتها أوروبا، فليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير، والتنفير عن الشر، وهي سلطة خوّلها الله لكل المسلمين، أدناهم وأعلاهم. والأمة هي التي تولي الحاكم، وهي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي تخلعه متى رأت ذلك في مصلحتها، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه، ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط بين الخليفة عند المسلمين، بما يسميه الإفرنج «ثيوكونيك»، أي سلطان إلهي، فليس للخليفة - بل ولا للقاضي أو المفتي أو شيخ الإسلام - أدنى سلطة على العقائد وتحرير الأحكام، وكل سلطة تناولها واحد من هؤلاء فهي سلطة مدنية، قدرها الشرع الإسلامي، فليس في الإسلام سلطة دينية بوجه من الوجوه، بل إن قلب السلطة الدينية، والإتيان عليها من الأساس، هو أصل من أصول الإسلام. والإسلام: دين وشرع، فهو قد وضع حدوداً، ورسم حقوقاً، ولا تكتمل الحكمة من تشريع الأحكام إلا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظم الجماعة.. والإسلام لم يدع ما لقيصر لقيصر، بل كان من شأنه أن يحاسب «قيصر» على ما له، ويأخذ على يده في عمله، فكان الإسلام - (بذلك) - كمالاً للشخص، وألفة في البيت، ونظاماً للملك، امتازت به الأمم التي دخلت فيه عن سواها ممن لم تدخل فيه»(1). مسخ الإسلام لذلك.. فإن السعي الفاتيكاني إلى علمنة الإسلام والمجتمعات الإسلامية، هو سعي إلى مسخ الإسلام كي يكون كالمسيحية، يدع ما لقيصر لقيصر، ويقف عند ما لله!.. ومحاولة للوقوف بالإسلام عند العقيدة والأخلاق، مع استبعاد الشريعة - أي السعي لقطع إحدى رئتي الإسلام!! - ودون ذلك «خرط القتاد»! أما ادعاء الوثيقة الفاتيكانية - في البند 110: «إن الدولة الإسلامية - في بعض البلدان - تطبق الشريعة، ليس فقط في الحياة الخاصة، بل أيضاً في الحياة الاجتماعية، حتى على غير المسلمين، مما ينتج عنه تجاهل حقوق الإنسان». فهو ادعاء مليء بالجهل.. والافتراء، فالشريعة الإسلامية لم تنزل للحياة الخاصة وحدها.. وإنما نزلت للحياة الاجتماعية والسياسية أيضاً.. وبعبارة رائد التنوير الحديث «رفاعة رافع الطهطاوي»: «ومن أمعن في كتب الفقه الإسلامية ظهر له أنها لا تخلو من تنظيم الوسائل النافعة من المنافع العمومية، حيث بوبوا للمعاملات الشرعية أبواباً مستوعبة للأحكام التجارية، كالشركة، والمضاربة، والقرض، والمخابرة، والعارية، والصلح، وغير ذلك... ومن المعلوم أن بحر الشريعة الغراء، على تفرع مشاربه، لم يغادر من أمهات المسائل صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها وأحياها بالسقي والري.. ولم تخرج الأحكام السياسية عن المذاهب الشرعية، لا على سبيل التهاون ولا على سبيل الشذوذ، بل سارت على مشاعب المذاهب لمجاراة مجريات النوازل والنوائب.. لأنها أصل، وجميع مذاهب السياسات عنها بمنزلة الفرع.. فالشرع جامع الأنواع المطلوب، من المعقول والمنقول، مع ما اشتمل عليه من بيان السياسات المحتاج إليها في نظام أحوال الخلق، كشرع الزواجر المفضية إلى حفظ الأديان والعقول والأنساب والأموال، وشرع ما يدفع الحاجة على أقرب وجه يحصل به الغرض، كالبيع، والإجارة، والزواج، وأصول أحكامها، فكل رياضة لم تكن بسياسة الشرع لا تثمر العاقبة الحسنى. فلا عبرة بالنفوس القاصرة الذين حكّموا عقولهم بما اكتسبوه من الخواطر التي ركنوا إليها تحسيناً وتقبيحاً، وظنوا أنهم فازوا بالمقصود بتعدي الحدود، فينبغي تعليم النفوس السياسة بطرق الشرع، لا بطرق العقول المجردة، ومعلوم أن الشرع الشريف لا يحظر جلب المنافع ولا درء المفاسد، ولا ينافي المتجددات المستحسنة التي يخترعها من منحهم الله تعالى العقل وألهمهم الصناعة»(2). تلك هي شمولية الشريعة الإسلامية لكل ميادين الحياة؛ الخاص منها والعام، الفردي منها والاجتماعي على حد سواء.. وتلك هي أبوابها المفتوحة للجديد والتجديد. ادعاءات فاتيكانية أما دعوى - الوثيقة الفاتيكانية - تطبيق بعض الدول الإسلامية هذه الشريعة «على غير المسلمين، مما ينتج عنه تجاهل حقوق الإنسان»، فهي دعوى ظالمة، لا ظل لها من الواقع في أي من ديار الإسلام - لا تاريخياً، ولا في هذا العصر الذي نعيش فيه.. ذلك أن الشريعة الإسلامية لا تطبق على غير المسلمين إلا حيث لا توجد «تعاليم مسيحية»، في مثل «الميراث» الذي هو بالنسبة للمسيحي «قانون وضعي»، لا بديل له في الإنجيل واللاهوت.. فهو مما تُرك لـ«قيصر». وكذلك كل أحكام «فقه المعاملات» الإسلامي، الذي هو ثمرة لاجتهاد الفقهاء، المحقق للمصالح المدنية والاجتماعية المعتبرة للأمة، في ضوء ثوابت الشريعة وكلياتها وفلسفاتها في التشريع، النابعة من منظومة القيم والأخلاق التي اتفقت فيها وعليها كل ديانات السماء. إن الشريعة - كما يقول الإمام ابن القيم (691 - 751هـ / 1292 - 1350م): «هي عدل كلها، وحكمة كلها، ومصلحة كلها.. والسياسة الشرعية على التدابير التي يكون الناس معها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعها الرسول ولا نزل بها الوحي»(3). فوحدة المحكمة ووحدة القانون - وكذلك وحدة المدرسة - في المجتمعات الإسلامية بالنسبة لجميع المواطنين لا تمثل جوراً على تعاليم المسيحية وعقائد المسيحيين في هذه المجتمعات الإسلامية بحال من الأحوال. لقد تركت المسيحية «ما لقيصر لقيصر»، واكتفت بـ«ما لله».. أما الإسلام، فقد جمع بين «ما لقيصر» و«ما لله».. لكنه خص المسلمين بما جاء فيه لله.. وعمّم ما لقيصر - الذي تركته المسيحية - على كل الأمة والمجتمع والوطن.. فوحَّد القانون والمحكمة، دون أن يكون في ذلك أي افتئات على ما جاء بالمسيحية مما هو لله. دين ودولة وعن هذه الحقيقة بالغة الأهمية يقول أبو القانون المدني الحديث في الشرق الإسلامي - القاضي العادل والفقيه الفذ الدكتور «عبدالرزاق السنهوري باشا» (1313 - 1391هـ/ 1895 - 1971م): «إن الإسلام دين ودولة، وهذه حقيقة تغيب عن بعض الباحثين، فيعتقدون أن الإسلام ليس إلا ديناً منزلاً، ويدفعهم إلى هذا الخطأ تقريب خاطئ بين الإسلام والمسيحية، فالمسيحية أعطت ما لله لله، وما لقيصر لقيصر.. ويظنون أن الإسلام كالمسيحية في ذلك، ولكن الإسلام يختلف عن المسيحية اختلافاً جوهرياً، فقد جمع ما لله وما لقيصر، وخص المسلمين بما لله، وجعل ما لقيصر عاماً واجب التطبيق على الكافة مسلمين وغير مسلمين. والأصل في أحكام الشريعة أنها خطاب لجميع الناس - مسلمين وغير مسلمين - فهي إذن أحكام إقليمية، إذ هي واجبة التطبيق في دار الإسلام على جميع المقيمين فيها من مسلمين وغير مسلمين.. وذلك باستثناء مسائل قليلة - هي الزواج، ونفي المهر، وتقوّم الخمر والخنزير - تتصل بالعقيدة والدين، يُتركون فيها وما يدينون»(4). أي أنه عندما تكون هناك تعاليم دينية مسيحية - مما هو لله - فإن حقوق الإنسان التي قررها الإسلام - منذ ظهوره وحتى الآن - هي التي تقررها القاعدة الشرعية: «يُتركون وما يدينون». عقلاء المسيحيين ولقد أبصر هذه الحقيقة - التي افترت عليها الوثيقة الفاتيكانية، عقلاء المسيحيين في الشرق الإسلامي، الذين اختار 63% منهم - بمصر - تطبيق الشريعة الإسلامية بما فيها الحدود، في منظومة القوانين المصرية - في استطلاع للرأي العام أجراه «المركز القومي للبحوث الاجتماعية» سنة 1985م(5). هؤلاء العقلاء المسيحيون الذين كتب أحد مفكريهم ومثقفيهم - هو الأستاذ «صادق عزيز» - حول تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية على المسيحيين، فيما لا بديل له في الإنجيل، فقال: «إن مصر دولة إسلامية منذ دخلها الإسلام، ويومها كان المسلمون هم الأقلية، وكان الأقباط هم الأغلبية، ومع ذلك كانت إسلامية، بل إن مصر في تاريخها لم تكن دولة «قبطية» حتى من قبل الإسلام، فهي تقع دائماً تحت الحكم الروماني أو البيزنطي أو المقدوني، أما الحكم القبطي فلم نسمع عنه أبداً. وفيما عدا الأحوال الشخصية، فإن أحكام الشريعة الإسلامية لا تتعارض إطلاقاً مع المسيحية، وذلك لعدة أسباب، أهمها: 1 - أنه إذا كانت الدولة إسلامية، فالقوانين الوضعية يجب أن تكون إسلامية، وعلينا قبول ذلك، بل والترحيب به، عملاً بقول المسيح: «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله». 2 - أن أحكام الشريعة الإسلامية تنطبق في كثير جداً من الأحوال مع شريعة العهد القديم، وهي ما جاء المسيح لا لينقضها.. بل ليكملها. 3 - أن المسيحية لم تأت بأحكام وقوانين وضعية، عملاً بقول المسيح: «مملكتي ليست في هذا العالم»، ومن ثم ترك للحكام أو لـ«قيصر» وضع الأحكام الأرضية، وأمرنا بأن نعطي ما للحكام للحكام»(6). امتيازات للمسيحيين فكل حقوق الإنسان المسيحي - حقوق المواطنة وواجباتها - مصانة ومرعية ومقننة.. وكل حقوقه الدينية مصانة ومرعية. بل إن المقارنة بين حقوق الأغلبيات المسلمة والأقليات المسيحية - في عدد من البلاد الإسلامية - تبرز امتيازات المسيحيين على المسلمين! وعلى سبيل المثال: فالكنائس مفتوحة على مدار الليل والنهار.. بينما المساجد - في بعض البلاد - تغلق عقب الصلاة. ومنبر الكنيسة حر.. ومنابر المسلمين مقيدة بسياسات الحكومات. وأوقاف الكنائس والأديرة والجمعيات المسيحية قائمة ومصانة، تحقق الاستقلال المالي واستقلال القرار لهذه المؤسسات.. بينما الأوقاف الإسلامية - في بعض البلاد - استولى عليها الإصلاح الزراعي، واستأثرت بها الحكومات. والشباب المسيحي حر في ممارسة كل ألوان التدين، بما في ذلك الرهبنة في الأديرة - التي غدت مؤسسات إقطاعية - بينما القيود مفروضة على اعتكاف بعض الشباب المسلم ليالي في رمضان - في بعض البلاد!.. بل إن بعض البلاد الإسلامية قد جعلت إطلاق اللحية لغير العجائز تحتاج إلى تصريح! وكثير من بطاركة الشرق الإسلامي يمارسون الزعامة السياسية - على خلاف تعاليم الكنيسة واللاهوت - حتى لتوشك كنائسهم أن تكون الواحدة منها «دولة» داخل الدولة.. وأحياناً فوق الدولة.. تمتنع عن الخضوع للقانون وتنفيذ أحكام القضاء!.. بينما مؤسسات العلم الإسلامي - بنت الدين الشامل منهاجه لكل مناحي الحياة - تقف عند حدود العلم والتعليم والوعظ والإرشاد.. وتكاد أن تترك «ما لقيصر لقيصر»، مكتفية ببعض «ما لله»! ومع هذا، تسعى الوثيقة الفاتيكانية لعلمنة الإسلام والمجتمعات الإسلامية - وتحكّم الأقلية في الأغلبية!.. وتتباكى على حقوق الإنسان المسيحي في ظل شريعة الإسلام! دعوة شاذة ومما يزيد هذه الدعوة الفاتيكانية إلى علمنة الإسلام والمجتمعات الإسلامية، غرابة وشذوذاً أنها - في الوقت الذي تريد فيه للإسلام التخلي عن الشريعة.. والوقوف عند الشعائر والعبادات - تدعو إلى تسييس المسيحية وتديين المسيحيين والمجتمعات التي يعيشون فيها! ففي البند 102 تقول: «وفي هذه الظروف تقوم مساهمة المسيحي في أن يقدم ويعيش قيم الإنجيل».. وهي لا تطلب للمسيحي «أن يعيش قيم الإنجيل» لنفسه، وأسرته فقط، وإنما للمجتمع الذي يعيش فيه. وبعبارة البندين 46، 111: «فكل مسيحي في وطنه هو حامل رسالة المسيح لمجتمعه.. وللمسيحي إسهام نوعي لا غنى عنه في المجتمع الذي يعيش فيه، ليثريه بقيم الإنجيل، ولذلك ينبغي على التعليم المسيحي أن يكوّن - في الوقت نفسه - مؤمنين مواطنين، فعّالين في مختلف مجالات المجتمع». التزام سياسي والوثيقة لا تدع مجالاً للشك في أنها تريد «التزاماً سياسياً بقيم الإنجيل ورسالة المسيح».. فتقول: «فالالتزام السياسي الخالي من القيم الإنجيلية هو شهادة مضادة، ويسبب ضرراً أكثر مما يعمل خيراً». وتطلب - هذه الوثيقة الفاتيكانية - في البند 108 - هذا «الالتزام السياسي بقيم الإنجيل ورسالة المسيح» من العلمانيين المسيحيين، فتقول: «وحبذا لو التزم العلمانيون المسيحيون في المجتمع دائماً أكثر». فهي - بهذا - تطلب تديين الالتزام السياسي للمسيحي - الذي تطلب منه مسيحيته أن «يدع ما لقيصر لقيصر»، وتدعوه للالتزام، في السياسة، بقيم الإنجيل ورسالة المسيح.. بينما تحرِّم ذلك على المسلم - المؤمن بالدين الشامل للسياسة والدولة والاجتماع والاقتصاد - فإذا راعى هذا المسلم قيم القرآن في الالتزام السياسي، سُمي ذلك «إسلاماً سياسياً» و«أسلمة»، ووضع ذلك في إطار المحرمات والمحظورات!! بل إن هذه الوثيقة، التي جعلت عودة المسلمين إلى «إسلام الأصول» - الإسلام الذي حرر المسيحية الشرقية من القهر الروماني الذي دام عشرة قرون.. والذي حرر أوطان الشرق وترك شعوبه وما يدينون، حتى أن نسبة الإسلام بين رعية الدولة الإسلامية - بعد قرن من الفتوحات الإسلامية - كانت 20% فقط لا غير!(7) تعتبر هذه الوثيقة - عودة المسلمين إلى «إسلام الأصول» هذا كخيار حضاري ونهضوي، بديل عن نماذج التحديث الغربية - تعتبر ذلك «أصولية مرذولة».. وفي ذات الوقت تطلب - هذه الوثيقة - من المسيحيين العودة إلى الأصول والجذور، فتقول - في البند 39: «علينا أن نعود إلى نموذج الجماعة المسيحية الأولى». فالعودة إلى «إسلام الأصول»: أصولية مرذولة.. والبعد السياسي للإسلام.. بمعنى السياسة الشرعية - خطر يجب التصدي له.. بينما العودة إلى «نموذج الجماعة المسيحية الأولى»! فريضة فاتيكانية.. والالتزام السياسي المسيحي في المجتمع بقيم الإنجيل ورسالة المسيح واجبات يدعو إليها الفاتيكان!!>