تصريحات الأنبا بيشوى
وجذورها الكاشفة
الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
ان التصريحات التى أدلى بها الأنبا بيشوى وكل ما بها من إهانات وفريات وإتهامات جارحة فى حق الدولة والوطن والقانون ، والتى تضع الكنيسة القبطية فى تصنيف الخيانة والتواطؤ مع الغرب المسيحى المتعصب و الرضوخ لمخطط الفاتيكان ضد مصلحة أمن الدولة والتعايش السلمى بين أبناء الوطن ، ليست وليدة الأمس وإنما سبق للأنبا يوحنا قلتة ،ممثل الكنيسة الكاثوليكية، أن أعلنها صراحة فى كتابه المعنون "المسيحية والألف الثالثة" والذى تناولته بالرد عليه آنذاك فى اكتوبر 2003 .. وهو كتاب يكشف الى اى مدى الفاتيكان بات يتحكم ويقود الكنائس التى كانت منشقة ويخرجها من عقائدها وتجميعها لإقتلاع الإسلام ، وفيما يلى المقال المشار اليه :
المسيحية والألف الثالثة !
إلى أخ في الوطن وزميل في اللقب العلمى،
إلى المواطن المصرى الدكتور/ الأنبا يوحنا قلتا ..
قرأت كتابك الذى يحمل عنوان نفس هذا الرد ، والصادر عن دار مصر المحروسة ، وهزنى ما في بعض عباراته من صدق وأنين ..نعم ، على حد قولك ، فلنطو صفحة الفى سنة مضت ، ولنفتح صفحة جديدة لألف سنة عنوانها : " مسلمون ومسيحيون لمستقبل أفضل " كما تقول ، وأضيف إلى ما أنهيت به كتابك : " فمصر لكل المصريين " .. لذلك أمد يدى إلى يدك الممدودة في أخوة لنتعاون جميعا على صد تلك الهجمة الشرسة التى يحيكها لنا الغرب المتعصب ، فكلنا على حافة الهاوية ، والقذيفة حين تسقط لا تميّز بين قبطى ومسلم ..
وتابعت تأملاتك ـ كما تطلق عليها ـ وهزنى ذلك الحزن المتردد بين صفحات تحمل العديد من القضايا المطروحة ، وإن كان بكثير من المواربة أو عدم الوضوح ، وأخرى يشار إلى نتائجها فحسب ، الأمر الذى لا يسمح للقارئ بفهمها أو فهم أسبابها ، وبالتالى فلن يمكنه الإسهام في حلها أو في تخطيها ، وإذا ما استثنينا تلك المساحة الواسعة من الكتاب ، والتى تندرج تحت بند التعريف والتبشير الواضح بالمسيحية - ولعل ذلك يرجع إلى مهنتك الكهنوتية بالطبع ، فإنه يمكن تقسيم القضايا المطروحة إلى عدة مجموعات حتى يسهل تناولها تباعا وهى : نغمات نشاز ؛ خلافات عقائدية مسيحية ؛ الإسلام ؛ قضايا الساعة ؛ والحوار ..
وأبدأ بالنغمات النشاز ، لا لأهميتها فحسب ، ولكن لاستبعادها من المناقشة هنا حيث أن حيز المقال لا يسمح بتناولها بشئ من التفصيل ، ولأنها قُتلت بحثا .. ومن هذه النغمات النشاز :
تكرار أن مصر بأسرها كانت قبطية أيام الفتح الإسلامى ، وأن عدد الأقباط كان آنذاك أربعة ملايين نسمة ، ولوم المؤرخين على "إسقاط العصر المسيحى" من تاريخ مصر ، والتأكيد على أنه قد إمتد ستة قرون : "سته قرون سادت فيها المسيحية وسيطرت الكنيسة " أو "حكمت" .. والإصرار على عبارة "مصر القبطية"، و "الشعب القبطى" وعلى أن كلمة "مصر" تعنى " قبط " وإن القبط وحدهم هم المصريون الحقيقيون وهم سلالة المصريين القدماء أصحاب البلد ، وإن المصريين المسلمين دخلاء ، بل والقول بأن كل المنطقة العربية كانت مسيحية بما في ذلك شبه الجزيرة العربية ومكة والمدينة ، وأنها قد دخلت الإسلام بسبب الخلافات العقائدية المسيحية أو بسبب انتشار الإسلام بالسلاح وفرض الجزية قهرا .. وتكرار أن العرب أو أعراب شبه الجزيرة عبارة عن قبائل من "الجياع والعطشى" قد احتلوا البلدان المسيحية ، و"تحول حال المسيحيين من أغلبية إلى أقلية وسط بحر زاخر من المسلمين" وأن الإسلام قد أخذ عن القانون الساسانى الفارسى، وإثارة قضية خلق القرآن أكثر من مرة ، وما إلى ذلك من القضايا التى لا يؤدى إثارتها إلا إلى المساس بمصداقية الكاتب و أمانته العلمية.. وهنا سأكتفى بسؤال واحد : تُرى هل يفقد الإنسان جنسيته لتغيير عقيدته ؟ ..
وإن أمكن الرد في عجالة لأوضحت لك أيها الأخ الكريم إجمالا أن مصر بأسرها لم تكن قبطية في أى وقت من الأوقات ، لا كمرحلة إنتقالية بين العصر الفرعونى والإسلامى ، ولا أيام الفتح الإسلامى ، بل و لم يحدث فى التاريخ أن كان الأقباط يمثلون الأغلبية فى أى وقت من الأوقات ، فقد كان هناك المستعمر اليونانى والرومانى بجلياتهما التى كانت تمثل الطبقة الحاكمة بجنودها و جيشها ، وجاليات اليهود والوثنيين والمصريين القدماء الذين استمرت معابدهم إلى ما بعد الفتح الإسلامى ، فالمسيحية كانت تحارب بضراوة حتى عام 381 عندما أعلنها قسطنطين ديانة رسمية هناك .. فكيف يمكن أن يصل عدد أقباط مصر إلى أربعة ملايين آنذاك في حوالى قرنين ؟!
وبمناسبة تكرار تساؤلك حول تعداد مسيحيي الشرق وتعداد أقباط مصر ومسيحييها ، وأنه " لا توجد إحصائية تحدد ذلك " فيمكنك الرجوع إلى ما أعلنه الفاتيكان من أن عدد المسيحيين في الشرق الاوسط إثنا عشر مليونا ، منهم أربعة ملايين نسمة تقريبا في مصر ( كتاب الجغرافيا السياسية للفاتيكان ) ، وهى نفس الأرقام الواردة بأحدث المراجع ، ومنها "موسوعة تاريخ المسيحية " الصادرة في ابريل عام 2000. وهنا إسمح لى بتعليق بسيط كأخت لك في هذا الوطن الجريح بسبب عدد من الذين يتخذون نفس موقفك ، فأيا كان عدد المسيحيين المصريين بمختلف عقائدهم ، فإن ذلك لا يضيرهم في شئ إطلاقا ولا يمس كرامتهم أو كيانهم في أى شئ ، ومن حقهم كمصريين أن يعيشوا ويسهموا في تقدم مصر ورخائها و فى الدفاع عنها وسط إخوانهم المسلمين كأسرة واحدة وأمة واحدة . وذلك سواء أكان عددهم، كما هو حاليا ، حوالى أربعة ملايين أو حتى أربعة أشخاص ! وتلك هى سماحة الإسلام الحقة .. وإثارة نغمات نشاز من هذا القبيل لا تعنى في الواقع سوى ترديد مطالب الغرب السياسية المتعصبة الذى يسعى حثيثا إلى تقسيم العالم العربى والإسلامى ليسهل تنصيره وحكمه كما يعلنون و كما هو واضح جلى من مجرى الأحداث.. فهذا أمر مرفوض أساسا ولا يليق بمن في مثل مكانتك العلمية أو اللاهوتية .
وهنا أضيف في عجالة أيضا وللعلم ، أن اسم مصر Egypt مشتق من كلمة "كمت" الهيروغليفية وتعنى "الأرض السوداء" ، وأن كلمة " قبط " مشتقة من اسم مدينة " قفط " بالصعيد وكان اسمها coptos أيام اليونان والرومان ، ولا تزال الخرائط القديمة تحمل هذا الاسم ، ومن المعروف أن أوائل المسيحيين المصريين كانوا يهربون من المذابح اليونانية والرومانية إلى أقاصى الصعيد وتجمعوا في مدينة قفط وضواحيها وصار منها اسم قبط ..
وملحوظة أخيرة حول هذه النغمات النشاز : إن الإسلام لم ينتشر بالسلاح والقهر والاستبداد وإنما التعصب الكنسى هو الذى مارس ذلك ، والتاريخ الدموى للكنيسة معروف في صراعه على السلطة منذ بداية تكوينها حتى يومنا هذا ، والإنقسام الجذرى الذى اشرت إليه والذى وقع في القرن الحادى عشر، ثم ذلك الذى وقع في القرن الخامس عشر لم يكن إلا نتيجة لذلك الصراع الدائر بين السلطة الكنسية والسلطة المدنية ، ولم تقم فرنسا أيام الثورة الفرنسية بالفصل بين السلطتين من فراغ ، وهو ما قامت به ثانية عام 1905 عندما لم يرتدع التعصب الكنسى .. وما أكثر ما كُتب في هذا المجال .. فتلك المجازر هى التى أدت بالغرب المسيحى إلى الإلحاد والعلمانية إضافة إلى كل ما كشف عنه التقدم العلمى من تعديل وتبديل في ترجمة النصوص المسيحية و الأناجيل.. فلننتقل إلى نقطة الخلافات العقائدية في تلك المسيحية ..
لقد اشرت يا أخى طوال كتابك إلى تواريخ معيّنة وإلى مجامع بعينها كما أشرت إلى خلافات محزنة ، كما تقول ، وإلى الإنشقاقات الناجمة عنها ، دون أن توضح ما الذى حدث تحديدا. ولكى نكون منصفين ، إن كنا نود أن نضع حدا لكل ما يوجد من خلافات سواء بين المسيحيين بعضهم بعضا أو بين المسيحيين والمسلمين ، فمن الأمانة الموضوعية أن نقول بإيجاز شديد ما الذى دار في هذه المجامع أو تلك التواريخ التى اكتفيت بالإشارة إليها ، حتى يكون القارئ على بيّنة من الأحداث ، خاصة بعد أن قال موريس بوكاى عن حق : "إن أغلب المسيحيين لا يعرفون أن المسيحية قد تم تحريفها عبر المجامع على مر العصور ، كما أنهم لا يعرفون إن الأناجيل التى بين أيديهم لم يكتبها أولئك الذين هى معروفة باسمائهم " ( الإنجيل والقرآن والعلم ) .
والمجامع التى اشرت اليها هى : مجمع سنه 49 في اورشليم ، ومجمع نيقية الأول سنه 325 ، ومجمع القسطنطينية سنه 381 ، وأفسوس سنه 431 ، وخلقيدونيا سنه 451 ، والقسطنطينية الثانى سنه 553 ، والثالث سنه 681 ، ثم انتقلت فجأة وبلا مقدمات إلى اتفاق تم حول " طبيعة المسيح أو شخصه القدوس " ، وتم حسم هذا الخلاف يوم 22/2/1988 بين البابا يوحنا بولس الثانى والبابا شنودة ، عن طريق لجنة الحوار المشتركة بين الكنيستين ، وأوردت نص الإتفاق الذى يقول :
" نؤمن أن ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الكلمة المتجدد هو كامل في ناسوته ، و جعل ناسوته واحدا مع لاهوته بغير اختلاط ولا إمتزاج ولا تغيير ولا تشويش وفى نفس الوقت نحرّم كلا من تعاليم نستور وأوطيخي" (صفحة 79).
والجملة الأولى في هذا النص اللاهوتي بين الكنيستين "نؤمن أن ربنا ومخلصنا يسوع المسيح" وما كررته كثيرا من "أن المسيح هو الله " أو " المسيح الإله" أو "الله الثالوث المقدس" أو "المسيحية هي الإيمان بالمسيح الإله" ، أو" الله المتجسد في المسيح" كل هذه العبارات وكثيرغيرها لا تتفق وما تحاول نفيه من شرك بالله أو من نفى للتعددية فى المسيحية.. وهي نقطة جوهرية أو هي النقطة الجوهرية الأساسية في الخلاف بين الإسلام والمسيحية ، وسوف نعود إليها فيما بعد . ولنواصل التواريخ والمجامع التي أشرت إليها.
فقد أشرت بعد ذلك إلى مجمع 1054 الذي " قسم المسيحية إلى شرقية وغربية " ثم "ثورة الإصلاح" ، ثم أشرت إلى مجمع الفاتيكان الأول عام 1869، ومجمع الفاتيكان الثاني عام 1965 ، إضافة إلى الإشارة إلى اسمين أو ثلاثة بمرارة شديدة هما أريوس ونستور وأوطيخي الذين تواصل الكنيسة حرمانهم حتى يومنا هذا.
ولكي يكون القارئ على بينة من الأحداث سنتناول هذه المجامع والأسماء باختصار شديد لكى يدرك القارىء أو يفهم ما الذى تتحدث عنه فى كتابك :
49 مجمع أورشليم : وهو أول مجمع عقد في أورشليم من أجل تدارس إلغاء الختان الذي كان يقف عقبة في سبيل اعتناق الوثنيين للمسيحية ، وقام صراع بين بولس وبرنابا (أعمال ارسل 15 : 1-2 و 5) فذهبا للقاء الأسقف يعقوب ، أخو الرب (غلاطية 1: 19) أسقف كنيسة أورشليم وتدارسوا الموضوع واقترح بولس إلغاء الختان ( الذي أراده الرب عهدا أزليا أبديا) وقام يعقوب أسقف الكنيسة بإعلان ذلك بحكم منصبه ( أعمال الرسل 15 : 19 –21 ). والمعروف أن بولس لم ير السيد المسيح ولم يكن من الحواريين كما أنه لا يحق له إلغاء ما شرّعه الله .. وكان الإجتماع فى بيت يعقوب فلم تكن هناك كنائس آنذاك.
325 مجمع نيقية الأول : هو المجمع الذي تم فيه تأليه السيد المسيح ، وذلك على عكس الآيات التي لا تزال موجودة والتي يفرق فيها هو بينه وبين الله سبحانه وتعالى ، أو تلك التي تقول أنه نبي. وقد تمت صياغة عقيدة الإيمان في هذا المجمع ، ونصها : " نؤمن بإله واحد ألآب القوي ، خالق كل الكائنات المرئية وغير المرئية ، وبرب واحد يسوع المسيح ، ابن الله المولود من الآب ، المولود الوحيد ، أي من نفس طبيعة الآب، إله من إله ، نور من نور، إله حقيقي من إله حقيقي ، مولود وليس مخلوق ، من نفس طبيعة الآب ، الذي به قد تم كل شئ ، ما هو في السماء وما هو في الأرض ، والذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا قد نزل وتجسد ، وجعل نفسه إنسانا ، وتألم وبعث في اليوم الثالث ، وصعد إلى السماوات ، وسيعود ليحاكم الأحياء والأموات، و(نؤمن) بالروح القدس . والذين يقولون " كان هناك زمن لم يكن موجودا فيه ولم يكن موجودا قبل أن يولد وأنه صار بعد أن لم يكن موجودا ، أو أنه من أي أقنوم أو طبيعة أخرى" ، أو الذين يؤكدون أن ابن الله قابل للتغير أو التحلل ، فان الكنيسة الكاثوليكية والرسولية تلعنهم ".
وكان هذا المجمع قد عقد لإدانة أريوس وحرمانه لأنه كان رافضا لتأليه السيد المسيح (نصوص عقيدة الإيمان مأخوذه من كتاب تاريخ ونصوص المجامع المسكونية 1994) .
381 – مجمع القسطنيطنية الأول : هو المجمع الذي تم فيه مساواة الروح القدس بالله وبالسيد المسيح وفرض عقيدة التثليث ، لذلك تم تعديل عقيدة الإيمان إلى النص التالي : " نؤمن باله واحد ألآب القوي خالق السماء والأرض ، وكل الأشياء المرئية واللامرئية ، وبرب واحد يسوع المسيح، ابن الله ، المولود الوحيد ، الذي ولد من ألآب قبل كل القرون ، نور من نور، اله حقيقي من اله حقيقي ، مولود وليس مخلوق ، من نفس طبيعة ألآب ، الذي به قد تم كل شئ والذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا قد نزل من السماوات وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء وجعل نفسه إنسانا ، وقد صلب من أجلنا أيام بونس بيلاطس، وتألم ودفن ، وبعث في اليوم الثالث وفقا للنصوص المقدسة وصعد إلى السماوات ، ويجلس عن يمين ألآب وسيعود ممجدا ليحاكم الأحياء والأموات ، ولا نهاية لحكمه ،ونؤمن بالروح القدس ، وهو اله يمنح الحياة ، وهو منبثق من ألآب، ويعبد ويمجد مع ألآب والابن ، وقد تحدث إلى الأنبياء ، ونؤمن بكنيسة واحدة كاثوليكية ورسولية. واعترف بتعميد واحد لمغفرة الذنوب ، وانتظر بعث الأموات وحياة العالم الآخر ، آمين ".
فكيف يمكن يا أخي الفاضل أن تقول بعد ذلك "أن الثالوث يعد شرحا لوحدانية الله" أو "ما أبعد المسيحية عن الشرك أو عن التعددية " أو " ليس التثليث معناه انقسام الله إلى ثلاثة استغفر الله العظيم ، وليس هو تأليه المسيح استغفر الله " (صفحات 49 ، 50 ، 93) . ترى هل يجوز لمن فى مثل منصبك أن يخرج صراحة عن عقيدة الإيمان كما طالعناها للتو ؟! كما أن السيد المسيح لم يبق "مدفونا" ثلاثة أيام كما تقول العقيدة إذ أنه "مات" مساء الجمعة و بُعث صباح الأحد ، وفقا لما هو وارد بالأناجيل ..
431 مجمع افسوس : انعقد هذا المجمع لفرض عقيدة أن السيدة مريم العذراء هي أم الله وليس لمجرد مناقشة دورها في التجسد فحسب كما تقول يا أخي ، كما قرر المجمع إدانة وحرمان كل من لا يؤمن بأن السيدة مريم العذراء أم الله ، ومن لا يؤمن بأن المسيح هو الله وأن الله هو المسيح ، ومن يقوم بالتفرقة بين الطبيعيتين (الطبيعة الجسدية والإنسانية والطبيعة الإلهية ) ، ومن يفصل بين الله والمسيح ، ومن ينكر الطبيعة الإلهية للمسيح أو يقول أنه قد تم تمجيده بفضل الروح القدس وكأنه شئ آخر مختلفا عنه وليس هو!! وقام المجمع بإدانة نستور وحرمانه لرفضه اعتبار أن السيدة مريم " أم اله ". ذلك هو ما فرضه مجمع أفسوس..
451 مجمع خلقيدونيا : انعقد المجمع لإدانة القائلين بأن المسيح له طبيعة واحدة جسدية وليست له طبيعة الهية وفرض سيادة الكنيسة الرومانية على كافة الكنائس كما قام بالتصدى للذين رفضوا اعتبار السيدة مريم أم الله وأدان أوطيخي لدفاعه عن النستورية ولرفضه قبول فكرة أن السيد المسيح له طبيعتان مستقلتان إنسانية وإلهية ، وقام المجمع بالتأكيد على " أن مريم أم الله ، و أن المسيح الإبن و الرب ، المولود الوحيد ، له طبيعتان بلا خلط ولا تغيير وانقسام أو تفرقة ، وأن اختلاف الطبيعيتين لا يتلاشى بسبب اتحادهما ، فكل طبيعة منهما مستقلة في شخص واحد وأقنوم واحد ، مسيح واحد لا يتجزأ ولا ينقسم في شخصين ، وإنما ابن واحد ، الوحيد المولود ، الإله الكلمة ، الرب يسوع المسيح ، وهو ما قام الأنبياء بتعليمه وقد أخذوه عنه ، كما علمه لنا يسوع المسيح بنفسه ونقله الينا الآباء عن طريق عقيدة الإيمان "..
وقام المجمع بحرمان كل من يخالف ذلك ، وهذه التحديدات العقائدية هي التي أدت إلى انفصال الكنيسة الأورثوذكسية أو القبطية ، وإن كانت قد عادت وقبلت بعضه وفقا لما هو وارد بالاتفاقية المشار إليها سالفا والتى تم توقيعها يوم 22/2/1988.. وتضفي المراجع أهمية خاصة على هذه المجامع الأربعة الأولى لأنها هي التي صاغت مجمل العقيدة المسيحية تقريبا.
553 مجمع القسطنطينية الثاني : انعقد لإدانة أعمال أوريجين ومؤلفاته ، وإدانة النستوريين الذين لا يزالوا يرفضون عقيدة التثليث وخاصة لرفضهم قبول أن السيدة مريم أم الله ، ولا يزال هناك أتباع للكنيسة النستورية حتى يومنا هذا.
681 مجمع القسطنطينية الثالث : انعقد لإدانة القائلين بأن هناك طبيعة واحدة فقط للسيد المسيح و "إرادة واحدة لطبيعة يسوع الإله الحقيقي وأحد أقانيم الثالوث المقدس" ، كما انعقد لإدانة الذين يعترضون على عقيدة تجسد الله في المسيح ، وقد أقر المجمع عقيدة الإيمان السابقة وأضاف إليها مزيدا من التفاصيل التي تؤكد " أن السيد المسيح هو الله ومن نفس طبيعة الله ومن نفس طبيعة البشر ما عدا الخطية ".
وكانت الخلافات قد تزايدت حول مقولة انبثاق الروح القدس من ألآب ، ومن الابن ومساواتهم الثلاثة أم أنه ينبثق من ألآب عن طريق الإبن ، وبالتالي فإن الاقانيم الثلاثة للثالوث المقدس لا تتساوي .. وقد ظلت الخلافات والمعارك الخاصة بالثالوث تندلع من بلد إلى آخر ومن مجمع إلى آخر حتى رفضه البروتستانت في ثورة الإصلاح ، كما رفضوا أن تكون السيدة مريم أم الله ، وذلك من بين خمس وتسعين إدانة أخرى وجهونها للكنيسة الكاثوليكية ، وقد قامت الكنيسة الهولندية عام 1966 باستبعاد عقيدة الثالوث تماما من كتابها للتعليم الديني لعدم تمشيها مع المنطق وعدم قبول الاتباع لها..
1545 مجمع ترانت : انعقد ليفرض صحة الترجمة اللاتينية للأناجيل التي قام بها القديس جيروم وأقرها مجمع سنة 494 ، كما فرض المجمع الإيمان بهذه النصوص على " أنها نص منزّل نهائي وأساسي " ، وذلك رغم كل ما انتابها من تعديل وتبديل عند نقلها من لغة لأخرى ورغم كل ما واجهها من ادانات. كما صاغ المجمع عقيدة الخطية الأولى ، وحمّلها على كافة الأتباع ، وأدان مارتن لوثر وأصرّ على الحفاظ على الأسرار السبعة للكنيسة التي سبق فرضها في مجمع فلورنسا سنة 1439 ، وكانت الخلافات حولها قد تزايدت لتصبح جزءا من مطالب ثورة الإصلاح ولا تزال الخلافات قائمة حول بعضها . لذلك أعاد المجمع فرض حقيقة " تحول الإفخارستيا فعلا إلى دم المسيح ولحمه عند تناولها " ، وذلك تثبيتا لما فرضه مجمع لاتران سنة 1225. كما قام مجمع ترانت هذا بتجديد قضية المطهر وعبادة القديسين واباحة الصور الدينية .
1869 مجمع فاتيكان الأول : تصدى للمطالبين بتنقية نصوص الأناجيل مما بها من تناقضات أو معلومات لم تعد تتمشى مع الإكتشافات العلمية الحديثة ، كما تصدى للتقدم العلمي والحضاري فيما هو معروف باسم "معركة الكنيسة مع العلم ". وأقر المجمع السيادة الباباوية ومعصومية البابا من الخطأ التي سبق فرضها بما أنه يمثل الله على الأرض ، وفرض "أن الله هو المؤلف الوحيد للأناجيل" !!
1965 مجمع فاتيكان الثاني : يعتبر هذا المجمع أول مجمع هجومي في التاريخ لما تمخض عنه من قرارات فى المجالات اللاهوتية والاجتماعية والسياسية حيث أن كافة المجامع السابقة إجمالا كانت تتعلق بخلافات العقائد وتثبيتها أو الدفاع عنها بالتصدي لرافضيها بالحرق أحياء أو بالقتل أو بالسجن .. ومن أهم قرارات هذا المجمع تبرأة اليهود من دم المسيح ، بعد أن ظلت تلعنهم فى قداس كل يوم أحد على أنهم قتلة الرب ، واقناع المسلمين والعرب آنذاك بأنها مجرد مصالحة دينية ؛ اقتلاع اليسار في عقد الثمانينات حتى لا تبقى هناك أنظمة بديلة للرأسمالية الاستعمارية واقتصادها ؛ اقتلاع الإسلام في عقد التسعينات حتى تبدأ الألفية الثالثة والعالم كله قد أصبح مسيحيا ؛ توحيد كافة الكنائس تحت لواء كاثوليكية روما، الأمر الذي بدأ فعلا كما رأينا في اتفاقية 22/2/1988 الوارد نصها بتنازل الكنيسة الأورثوذكسية عن أحدى عقائدها ؛ تحميل عبء عملية التبشير على كافة المسيحيين بحكم تعميدهم في الصغر ، وذلك للكنسيين منهم والعلمانيين ، وهي أول مرة تفرض فيها الكنيسة عدة بنود خاصة بالاستعانة بالمدنيين بهذا الشكل الواسع ، كما قرر المجمع استخدام الكنائس المحلية في عملية التبشير وإقرار مبدأ الحوار لخدمة التبشير، وإنشاء لجنة خاصة بذلك للحوار مع الديانات غير المسيحية وخاصة مع الإسلام . وقد أقر هذا المجمع أيضا ان الأناجيل كتبها بشر وأن بها الصالح والبالى ، أى انها ليست منزلة من عند الله وإنما قصص وأدبيات ..
وقد أدت المصالحة مع اليهود إلى اعتراف الفاتيكان بالكيان الصهيوني المحتل لدولة فلسطين وهنا لا يسعنا الا أن نقدم لبابا الفاتيكان الذي أعلن " ضرورة تنصير العالم " بزعم أنه لاخلاص إلا بالمسيح ، ترى كيف سيتم خلاص اليهود الذين اعترف لهم بدولة دينية ؟ هل سيقوم بتنصيرهم أم أن لهم خلاصا عن طريق آخر غير السيد المسيح ؟! والسؤال مطروح أيضا على كافة الكنائس التي تشارك في لعبة التنصير، كما أنه موجه لك ايها الأخ الكريم ..
ومن بين النتائج التي عشناها نتيجة لقرارات ذلك المجمع : إسقاط اليسار في عقد الثمانينات بالتعاون مع المخابرات المركزية الأمريكية وإحياء العام المريمي في الإتحاد السوفيتي السابق، و إقامة حزب تضامن في بولندا ، وقد أصبحت هذه المعلومات من المعلومات الصحفية الدارجة لكثرة ما نشر عنها وعما تكلفته من ملايين الدولارات .. ومن المعروف أن الحرب التي تم شنها على الإتحاد السوفيتي قد بدأها الرئيس الامريكي ريجان بصيحة شهيرة معلنا "أنها حرب صليبية على محاور الشر" ، وهي نفس الصيحة التي أعلنها جورج بوش الإبن في حملته لإقتلاع الإسلام تحت زعم "الإرهاب" ، إذ بدأها هو أيضا معلنا أنها حرب صليبية . .
ولم "يسخر منه العالم" ، يا آخي الفاضل كما أوضحت في هامش صفحة 172 ، لم يسخر منه العالم الغربي أيها الأخ المصري الصميم ، وإنما تواطأ معه ، فعلى الرغم من كل تلك الخلافات العقائدية التي أشرت إليها في كتابك ، وعلى الرغم من الخلافات في المصالح ، فلقد تعاون معه الغرب المسيحي المتعصب لاقتلاع الإسلام بشتي الوسائل ، حتى " بالتدخل لدى الحكام" كما أعلنها البابا يوحنا بولس الثاني ، وهو نفس المطلب الذي يلوّح به لتوحيد كافة الكنائس تحت لواء كاثوليكية روما للتصدى للمد الإسلامى ، وكلها تصريحات مكتوبة ومنشورة .. فدعنا ننتقل إلي المجموعة الثالثة من القضايا التي أثرتها ألا وهي : الإسلام وما يتعلق به.
و أبدأ بأن الإسلام ليس من "عواصف قوى الجحيم " ، وليس عبارة عن "عنف أو قتال وحروب وإرهاب"، وليس "حروبا هلالية" على وزن الحروب الصليبية "أهملها المؤرخون عن جهل أو عن عمد" ، والمسلمون ليسوا مجرد " قبائل من الجياع والعطشى " الطامعين في رخاء مصر القبطية والعالم العربي المسيحي ، والإسلام ليس مجرد "لغة جديدة" تكتسح اللغات القديمة التي مارستها الشعوب آلاف السنين" ، اللهم لا تعليق يا أخي الفاضل.. والإسلام ليس سببا في الإنقلاب الذي حدث في المسيحية وفى "تحول المفكرين في الغرب عن اللاهوت المسيحي" ، وانما السبب الحقيقي لذلك هو اكتشاف الحقيقة ، فعلى حد قول المثل العامي الشائع في بلدنا، من أقصى أعماق الصعيد إلى آخر شطآن بحري ، "الكذب مالوش رجلين" . أن ما حدث في العالم الغربي المسيحي أو لأكبر جزء منه هو اكتشاف أكبر كذبة تمت في التاريخ ألا وهي : تأليه السيد المسيح ! تلك الكذبة التي ندفع جميعا ثمنا لها ، المسلمون بمحاولة اقتلاعهم على أنهم الدليل الحي الكاشف لهذه الكذبة ، والغرب المسيحى بفقدان إيمانه بعد أن رضع قرونا من أكاذيب التعصب الكنسي ، فكفر بالدين ، كفر بذلك الإله الذي اكتشف كيفية تأليهه بالنصوص والوثائق ، فغرق في الإلحاد والعلمانية وفى التخبط الذي يعاني منه "مبتعدا عن الدين" ، كما أشرت دون توضيح الأسباب ...
ومثلما قال السيد المسيح :" لم أرسل إلا إلى خراف بيت اسرائيل الضالة" (متى 15 :24) الأمر الذي سبق أن أكده على حوارييه : "هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلا إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت اسرائيل الضالة" (متى 10 : 5 – 6). الأمر الذي يحصر رسالته بالقطع في نطاق خراف بيت اسرائيل الضالة ، وليس إلى العالم ، كما يزعم التعصب الكنسي.. فمثلما جاء السيد المسيح لتصويب الإنحراف عن رسالة التوحيد في بيت اسرائيل ، جاء سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بالقرآن الكريم الذي أوحى به اليه لتصويب الإنحراف الذي تم في المسيحية بتأليه السيد المسيح وفرض عقيدة التثليث ، فقال الله عز وجل : " لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم " (17 /المائدة) ؛ " لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثالثة" (73 / المائدة) ؛ "فامنوا بالله ورسوله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم" (171/ النساء) ؛ ولذلك أيضا أُنزلت سورة الإخلاص لتحدد معنى التوحيد بالله الذي ليس كمثله شئ ولتنفي عنه بدعة الإنجاب :
" قل هو الله احد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا احد ".
أي أن كل رسالة التوحيد بالله عز وجل في القرآن الكريم ، قائمة على إنكار وإدانة ما تم نسجه من تحريف لرسالة التوحيد عبر المجامع كما رأينا ، بدأ بتأليه السيد المسيح في مجمع نيقية الأول سنة 325 ، واستكمال بدعة الثالوث في مجمع القسطنطينية سنة 381 ، وما ترتب على ذلك من تحريف في الأناجيل ومن انشقاقات بين الكنائس .
وفيما يتعلق بالتحريف والتبديل في الأناجيل الحالية ، فلن استشهد بالموسوعة البريطانية طبعة سنة 1978 ، التي تؤكد على وجود مائة وخمسون الف تناقضا وتحريفا في العهدين ، وانما سأستشهد بالقرآن الكريم الذي يقول : " يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به"، (13/ المائدة )، " وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ، من بعد ما عقلوه " ( 75 /البقرة ) "فبدّل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم" (59 / البقرة ) .
وهنا لن نضرب إلا مثلا واحدا من الأناجيل الحالية كتطبيق لهذه الآيات : إن السيد المسيح يقول أنه ما أُرسل إلا من أجل خراف بيت اسرائيل الضالة ، أي أن رسالته محدودة فيمن كفر من اليهود ، وهو الأمر الذي أكده للحواريين صراحة قائلا : " إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا بل اذهبوا بالحرى إلى خراف بيت اسرائيل الضالة (متى 10 : 5 – 6) ، وهو أمر منطقي ويستقيم مع منطق رسالة التوحيد ومع الأحداث التاريخية بعودتهم إلى عبادة العجل و قتل الأنبياء ، ثم نرى ذلك الإصرار الغريب من جانب التعصب الكنسي على تنصير العالم ، استناداً إلى الآية التي في أواخر إنجيل متى والتى يقول فيها على لسان السيد المسيح : "فاذهبوا وتلمذوا جميع الامم ، وعمدوهم باسم الآب والإبن والروح القدس "(متى 28 : 19).
فكيف يمكن أن توجد عقيدة التثليث التي تمت صياغتها في القرن الرابع كما رأينا ، في إنجيل من المفترض كتابته فيما بين سنة 80 ، 85 ؟ إن الرد لا يخرج عن أحد أمرين : إن كان إنجيل متى صادقا ، فذلك يعني أن المسيحيين لا يؤمنون بمعطيات انجيلهم وكان لابد من فرضها قهرا عبر مجمعي 325 ، 381 – وإن كان هذا الافتراض لا يتفق وكل الذين عارضوا تأليه السيد المسيح ولا يزالوا.. وإما أن عقيدة التثليث هذه قد أضيفت إلى انجيل متى بعد استكمال صياغتها في أواخر القرن الرابع لإضفاء مزيد من المصداقية عليها ! الأمر الذي يتفق تماما مع ما قاله القرآن الكريم ، وإن كانت صياغة تلك الآية في انجيل متى تثير تناقضا جديدا فيما يتعلق بالتعميد : فكيف يقول متى أن يتم التعميد باسم الثالوث (28 : 19) وكان يوحنا المعمدان يعمّد بالماء (اعمال الرسل 1 :5) ونفس هذه الآية تنص على أن الحواريين سوف يعمدون بالروح القدس ، ثم يقول بطرس أن يتم التعميد باسم يسوع المسيح (اعمال الرسل 2 : 38) ؟ و ياله من خلط و تبديل ..
ولا يسعنا الا أن نضيف ما قاله الباحث جيرار ميسادييه من أنه " لا الأناجيل المعتمدة ولا الأناجيل المستبعدة تتضمن أية إشارة إلى الرسالة العالمية ليسوع ، وان هذه الفكرة قد أضيفت بعد ذلك " (الرجل الذي اصبح إلها " صفحة 185 ج2) .
لذلك اقول لك ايها الأخ الكريم ، أن الإسلام ليس مجرد " ذلك الدين الآتي من قلب الصحراء"، وانه لم يأت "لاستعباد البشر وإذلالهم أو إحتقارهم" ، كما أنه لا يمثل "شبح التطرف وكابوس الإرهاب".. لقد أتى الإسلام مصوبا لما تم تحريفه في الرسالتين التوحيديتين السابقتين ، فالإسلام قائم على التوحيد بالله ، وعلى أنه لا إكراه في الدين " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " (29/ الكهف ).
والقرآن الكريم لم يعلن "العداوة الدائمة والبغضاء بين المسيحيين" وانما أتى كاشفا لكل عمليات التحريف التي قامت بها الايادي العابثة في المسيحية حبا في السلطة. وهنا لا يسعني إلا أن أضيف لك ما تعرفه يقينا : أن الإسلام يأمر المسلم بالإيمان بعيسى بن مريم عليه السلام كأحد أنبياء الله ورسله ، كما يفرض عليه أن يؤمن بالأنجيل الذي أوحاه الله اليه ، بالأرامية ، اذ يقول سبحانه وتعالي : " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " ( 4 / ابراهيم ) . وهذه الآية تحديدا تعد أكبر دليل سبّاق علي كل ما كشفه العلم الحديث من تحريف في الأناجيل الحالية ، ودليل سبّاق علي كل الذين يؤمنون بأن اللغة اللاتينية المفروضة كأصل للأناجيل في القرن الخامس ليست هي لغته وليست هي نصه الأصلي كما تفرضها المجامع علي انها نصوص منزلة وموحاه ..
أما قضايا الساعة ، فمن أهم ما طرحته في عجالة ودون الإشارة أيضا إلي أسبابها نتائج معركة الحداثة التي قدمتها علي أنها "نزوة من نزوات الشيطان" ، وهذه العبارة التقييمية لا توضح حقيقة ما حدث في الواقع ـ كما اشرت الي العولمة ، "حديث العصر" علي "أنها فكرة مسيحية" وذكرت الجات مادحا ، متناسيا أنها لطمة كاسحة للأقتصاد المحلي ، وهو مالا يستقيم وحبك المعلن للبلد.. ولعل الجدير بالتناول هنا هي معركة الحداثة لما لها من جوانب متعددة. وفي واقع الأمر ، لقد تعرضت الكنيسة في الغرب ، بعد ثورة الإصلاح وانقسامها، الي معركتين أساسيتين هما : معركة عصر التنوير ، ومعركة الأصولية والحداثة في مطلع القرن العشرين ، وقد قام عصر التنوير ـ كما هو وارد بكافة المراجع التاريخية والإجتماعية ـ ضد ما أطلقوا عليه "عصر الظلمات" أو عصورها .. والمقصود بها الظلمات التي فرضها التعصب الكنسي من تصدي لمنع انتشار العلم، وبإقامة محاكم التفتيش للتحكم في المجتمع ، وفرض الرقابة علي المطبعة عند ظهورها ، وما الي ذلك..
إن الخطب الرسولية في هذا الصدد معروفة ، فمنها تلك التي اشرت إليها في كتابك عن " الشئون الحدثية " الصادرة في 15/ 12/ 1891 . ولقد أصدرها البابا عند إعادة محاولة الكنيسة التدخل في شئون الدولة ، وهو أول خطاب رسولي خاص بالمسألة العمالية ومحاولة منعهم من الإنخراط فى مذهب الأشتراكية أو الشيوعية التي حاربتها الكنيسة بضراوة ، كما يهاجم الخطاب الإشتراكية كحلٍ اجتماعي ويدافع عن الملكية الفردية ويقوم بتبرير تدخل الكنيسة في شئون الدولة بزعم التخفيف من بؤس العمال ! وكان قد سبقه خطاب البابا بيوس التاسع في 8/12/1864 الذى يدين فيه مذهب الطبيعية بكل صورها ، وخاصة مذهب العقلانية الحديثة ومبدأ التحرر من العلاقة بين الكنيسة والمجتمع المدني ، رافضا أن تكون الدولة وحدها هي مصدر كل القوانين ، واتبع الخطاب بقائمة تتضمن ثمانين خطأ في نظر الكنيسة في تلك العلوم الحديثة ومطالبها .. ومن المعروف أن عصر التنوير يمثل أعلي وأعنف ما وصل إليه الصراع الكنسي حتي ذلك الوقت ، فقد بدأت عملية مراجعة واسعة للنصوص الإنجيلية ، لا من جانب البروتستانت وحدهم ، ولكن من جانب الكاثوليك أنفسهم ، الذين طالبوا بتنقيتها حتي تتمشي مع التقدم العلمي ، فأدينت كل أعمال ذلك العصر ووضعت في سجل الكتب المحرمة ( الأندكس ) التي يحرّم البابا علي أتباعه الإطلاع عليها ..
وظلت هذه القائمة أو ذلك السجل معمولا به منذ إنشائه عام 1551 حتى عام 1966 عندما قام مجمع الفاتيكان الثاني بتغيير اسم اللجنة الأساسية التي يخضع لها هذا السجل من " لجنة محاكم التفتيش" إلى "لجنة عقيدة الإيمان " ( القاموس التاريخي للبابوية ) وإذا ما أضفنا إلى ذلك قرار البابا جريجور التاسع سنة 1224 ، بإقرار عذاب الحرق بالنار حياً للمنشقين ، والذي تبعه بالخطاب الرسولي المعنون "من أجل الإنتزاع" سنة 1244 ، والذي أقر فيه استخدام التعذيب في محاكم التفتيش للحصول علي الإعترافات ، وهي المحاكم التي كان البابا إينوسنت الثالث قد أرسي قواعدها في نوفمبر 1215 ( ومن الطريف أن يعني إينوست هذا: البرئ ) وإذا ما أضفنا ما جرى للعالم جاليليو وكوبرنيكس وغيرهما ، أو ذلك الذي أخرجت الكنيسة عظامه من القبر لتنفذ فيه حكم الحرق بالنار ـ من باب التمسك بالرأي والترويع ـ لأدركنا أبعاد عبارة الأب لوازى حينما وصف تلك المواقف الكنسية المتعصبة بعبارة " الإرهاب الأسود " ، ولأدركنا أن تكرارك لعبارات من قبيل "حضارة المحبة " أو "إن هذه الوثائق الباباوية تنير الطريق " ، هي جد عبارات بعيدة عن الواقع ولا تؤدي إلا إلي إبتسامة مريرة ، يشوبها الإستغراب و التعجب .. فمن أجل ما أشرنا إليه وبسببه اندلعت الثورة الفرنسية من ضمن ما اندلعت من أجله وقامت بذبح مئات القساوسة ، ومن أجل ذلك أيضا وبسببه قامت بفصل الدين عن الدولة ، أيام نابليون ، ثم عادت و كررته ثانية سنة 1905 ..
أما معركة الأصولية والحداثة التى سادت مطلع القرن العشرين ، بعد أن تزايدت الهوة بين الكنيسة والتقدم العلمي بعامة والتقدم فى علم اللغويات بخاصة ، فقد طالب علمؤها بمطلبين أساسيين : تنقية النصوص الإنجيلية والدينية من كل ما بها من معطيات لم تعد تتمشى مع العلم ، وتنقيتها من كل ما بها من تناقضات لم يعد الأتباع يقبلونها ، كما طالبوا الكنيسة بإظهار إنجيل يسوع المكتوب بالأرامية ، ولا يسع المجال هنا لمزيد من التفاصيل لكننا نشير بمناسبة هذا لمطلب الثاني الخاص بإنجيل يسوع ، تلك الآية الكريمة التى تقول "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه" ( 47 / المائدة) ، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون "
( 45 / المائدة ) .
وهنا لي اقتراح كأخت لك فى الوطن ، وزميلة لك فى اللقب ، وعلى دراية بقدر لا بأس بها بما تعرفه أنت بالتفصيل ، وتعاني من بعض ما تعاني أنت منه من هموم وأحزان تشوب الإخوة فى الأسرة الواحدة وفى الوطن الواحد ولا ترضى لك أن تكون من الظالمين.. تُرى ماذا لو استعنت بمهنتك ومكانتك اللاهوتية الرفيعة وعملت على إظهار الإنجيل الأصلي للسيد المسيح عليه السلام ، لتقيم المسيحية الحقيقية التى كان عليها ونادي بها ؟! ألا يقول بولس فى رسالته إلى أهل رومية : " و أنا أعلم إنى إذا جئت إليكم سأجىء فى ملء بركة إنجيل المسيح" ( 15 : 29 ) و لم تكن الأناجيل الحالية قد كتبت بعد ..
وبذلك يلتئم شمل الإخوة المتناحرون فى الكنيسة ، ويلتئم شمل الأسرة فى الوطن العربي، لنعيش فى محبة حقيقية ونضرب مثلا حيا للتعصب الغربي ولكل ما يفرضه علينا وعلى العالم من قهر واستبداد ، فالإسلام لا يفرض نفسه على أحد ، فلا إكراه فى الدين ، وكل المطلوب منا نحن معشر البشر أن ندرك أن لا إله إلا الله ، وأن موسى وعيسى ومحمد رسل الله .
وما أقترحه ليس بغريب فالأناجيل الحالية لا تزال تحمل بعض الآيات التى يفرق فيها عيسى عليه السلام بينه وبين الله عز وجل ، ويفرق بينه وبين الروح القدس ، ويقول أنه يبشر بإنجيله .. وذلك هو الإنجيل الذى أوحاه إليه سبحانه وتعالى ، وذلك هو الإنجيل الذى نؤمن به نحن المسلمون، ككتاب منزّل من عند الله ، و ليست الأناجيل الحالية التى تحاول لجنة الحوار تمريرها على أنها هى التى يشير إليها القرآن و بالتالى تفرض علينا الإيمان بها !
وتبقي نقطة الحوار .. ولعلك بحكم المهنة الكهنوتية أدرى منى بمعنى الحوار وأبعاده ، لكنني أوضح باختصار شديد ، حتى يكون القارئ على بيّنة : فمبدأ الحوار كان من ضمن قرارات مجمع الفاتيكان الثاني سنة 1965 ، والذى بادر بانشاء لجنة للحوار مع الديانات غير المسيحية وخاصة مع الإسلام ، وإذا ما طالعنا كافة الإصدارات الكنيسة منذ ذلك الوقت تحديدا وحتى يومنا هذا ، وإذا ما طالعنا تعريف الأسقف فرانسيس أرنزى ، رئيس لجنة الحوار بالفاتيكان ، مرورا بالعديد من الخطب الرسولية وخاصة "رسالة الفادي " الصادرة فى ديسمبر 1990 ، أو خطاب "حوار وتبشير" الصادر فى 20/12/1991، وهو كما يقول العنوان الفرعي ، عبارة عن "تأملات وتوجيهات متعلقة بالحوار بين الأديان والتبشير بالانجيل " ، إضافة إلى كل ما يكتبونه كتوجيه للمبشرين أنفسهم ، لوجدنا عبارة واحدة تتكرر بتنويعات متعددة تقول تحديدا: " أن الحوار يعنى فرض الإرتداد وقبول سر المسيح" ، و "أن الحوار يستخدم كوسيلة لكسب الوقت حتى تتم عملية التنصير " ، كما يتم تكرار عبارة تحميل مسئولية الحوار والتبشير على كافة الكنائس المحلية ، وعلى كافة أتباعها بوسائل مختلفة، وذلك " من أجل غرس الإنجيل فى الثقافات المختلفة للشعوب"!!.. و ياله من خداع لما يفرضه على الأقليات المسيحية من نفاق فى تعاملها مع المسلمين..
وقد سبق للبابا أن حدد فى "رسالة الفادي " فى البند رقم 55 ، "أن الحوار بين الأديان يمثل جزءا من الرسالة التبشيرية للكنيسة ، فالحوار هو الطريق الى الملكوت ".. ومن أهم المجالات التى حددها البابا يوحنا بولس الثاني لاستخدامها فى مجال التبشير : مجال السياحة ، والوظائف المهنية التى يشغلها المسيحيون ، والتصدي للمهاجرين – وخاصة المسلمون فى فرنسا، "الذين يمثلون تحديا للكنيسة" فى نظره ، واستخدام الحياة الدولية بمجالاتها المختلفة كالسياسة والإقتصاد والمواصلات الخ (رسالة الكنيسة ) العدد رقم 91 ، وذلك لمواصلة عملية التبشير حتى يتم تحقيق خطة كان يأمل نيافته أن تتم عشية الألفية الثالثة بتنصير العالم باسره – وفقا لما تم ترتيبه فى مجمع فاتيكان الثانى عام 1965 ، وهو ما أدى إلى إختلاق مسرحية "11 سبتمبر" للتلفع بالشرعية الدولية و القيام بتلك المجازر الدائرة ضد المسلمين ..
لذلك لا يسعني إلا أن أقول لك أيها الأخ فى الوطن وفى المعاناة من كل ما يُفرض على البشرية من صراع ، أن تعمل أنت وزملاؤك على استبعاد هذا "التطرف الإرهابي الاسود " على حد قول الأب لوازي ، بدلا من الانسياق معه و فى ركابه جهلا أو عن عمد … ذلك الإرهاب الأسود المتعصب ، الهادف إلى تنصير العالم بأية وسيلة وبأي ثمن ، حتى بالجوء الى الكذب و النفاق ، و اقتلاع مختلف الحضارات غير المسيحية ..
ليتنا نهتم بالمشاكل الإنسانية الحقيقية التى حاقت بكوكب الأرض و سكانه ، ليتنا نهتم بعمارتها بدلا من خرابها و تدميرها ، لنحيا جميعا فى علاقة انسانية تكاملية ، وليست علاقة استعمارية متعنته كاسحة للآخر ، الذى هو الإسلام والمسلمين ..
وجذورها الكاشفة
الدكتورة زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
ان التصريحات التى أدلى بها الأنبا بيشوى وكل ما بها من إهانات وفريات وإتهامات جارحة فى حق الدولة والوطن والقانون ، والتى تضع الكنيسة القبطية فى تصنيف الخيانة والتواطؤ مع الغرب المسيحى المتعصب و الرضوخ لمخطط الفاتيكان ضد مصلحة أمن الدولة والتعايش السلمى بين أبناء الوطن ، ليست وليدة الأمس وإنما سبق للأنبا يوحنا قلتة ،ممثل الكنيسة الكاثوليكية، أن أعلنها صراحة فى كتابه المعنون "المسيحية والألف الثالثة" والذى تناولته بالرد عليه آنذاك فى اكتوبر 2003 .. وهو كتاب يكشف الى اى مدى الفاتيكان بات يتحكم ويقود الكنائس التى كانت منشقة ويخرجها من عقائدها وتجميعها لإقتلاع الإسلام ، وفيما يلى المقال المشار اليه :
المسيحية والألف الثالثة !
إلى أخ في الوطن وزميل في اللقب العلمى،
إلى المواطن المصرى الدكتور/ الأنبا يوحنا قلتا ..
قرأت كتابك الذى يحمل عنوان نفس هذا الرد ، والصادر عن دار مصر المحروسة ، وهزنى ما في بعض عباراته من صدق وأنين ..نعم ، على حد قولك ، فلنطو صفحة الفى سنة مضت ، ولنفتح صفحة جديدة لألف سنة عنوانها : " مسلمون ومسيحيون لمستقبل أفضل " كما تقول ، وأضيف إلى ما أنهيت به كتابك : " فمصر لكل المصريين " .. لذلك أمد يدى إلى يدك الممدودة في أخوة لنتعاون جميعا على صد تلك الهجمة الشرسة التى يحيكها لنا الغرب المتعصب ، فكلنا على حافة الهاوية ، والقذيفة حين تسقط لا تميّز بين قبطى ومسلم ..
وتابعت تأملاتك ـ كما تطلق عليها ـ وهزنى ذلك الحزن المتردد بين صفحات تحمل العديد من القضايا المطروحة ، وإن كان بكثير من المواربة أو عدم الوضوح ، وأخرى يشار إلى نتائجها فحسب ، الأمر الذى لا يسمح للقارئ بفهمها أو فهم أسبابها ، وبالتالى فلن يمكنه الإسهام في حلها أو في تخطيها ، وإذا ما استثنينا تلك المساحة الواسعة من الكتاب ، والتى تندرج تحت بند التعريف والتبشير الواضح بالمسيحية - ولعل ذلك يرجع إلى مهنتك الكهنوتية بالطبع ، فإنه يمكن تقسيم القضايا المطروحة إلى عدة مجموعات حتى يسهل تناولها تباعا وهى : نغمات نشاز ؛ خلافات عقائدية مسيحية ؛ الإسلام ؛ قضايا الساعة ؛ والحوار ..
وأبدأ بالنغمات النشاز ، لا لأهميتها فحسب ، ولكن لاستبعادها من المناقشة هنا حيث أن حيز المقال لا يسمح بتناولها بشئ من التفصيل ، ولأنها قُتلت بحثا .. ومن هذه النغمات النشاز :
تكرار أن مصر بأسرها كانت قبطية أيام الفتح الإسلامى ، وأن عدد الأقباط كان آنذاك أربعة ملايين نسمة ، ولوم المؤرخين على "إسقاط العصر المسيحى" من تاريخ مصر ، والتأكيد على أنه قد إمتد ستة قرون : "سته قرون سادت فيها المسيحية وسيطرت الكنيسة " أو "حكمت" .. والإصرار على عبارة "مصر القبطية"، و "الشعب القبطى" وعلى أن كلمة "مصر" تعنى " قبط " وإن القبط وحدهم هم المصريون الحقيقيون وهم سلالة المصريين القدماء أصحاب البلد ، وإن المصريين المسلمين دخلاء ، بل والقول بأن كل المنطقة العربية كانت مسيحية بما في ذلك شبه الجزيرة العربية ومكة والمدينة ، وأنها قد دخلت الإسلام بسبب الخلافات العقائدية المسيحية أو بسبب انتشار الإسلام بالسلاح وفرض الجزية قهرا .. وتكرار أن العرب أو أعراب شبه الجزيرة عبارة عن قبائل من "الجياع والعطشى" قد احتلوا البلدان المسيحية ، و"تحول حال المسيحيين من أغلبية إلى أقلية وسط بحر زاخر من المسلمين" وأن الإسلام قد أخذ عن القانون الساسانى الفارسى، وإثارة قضية خلق القرآن أكثر من مرة ، وما إلى ذلك من القضايا التى لا يؤدى إثارتها إلا إلى المساس بمصداقية الكاتب و أمانته العلمية.. وهنا سأكتفى بسؤال واحد : تُرى هل يفقد الإنسان جنسيته لتغيير عقيدته ؟ ..
وإن أمكن الرد في عجالة لأوضحت لك أيها الأخ الكريم إجمالا أن مصر بأسرها لم تكن قبطية في أى وقت من الأوقات ، لا كمرحلة إنتقالية بين العصر الفرعونى والإسلامى ، ولا أيام الفتح الإسلامى ، بل و لم يحدث فى التاريخ أن كان الأقباط يمثلون الأغلبية فى أى وقت من الأوقات ، فقد كان هناك المستعمر اليونانى والرومانى بجلياتهما التى كانت تمثل الطبقة الحاكمة بجنودها و جيشها ، وجاليات اليهود والوثنيين والمصريين القدماء الذين استمرت معابدهم إلى ما بعد الفتح الإسلامى ، فالمسيحية كانت تحارب بضراوة حتى عام 381 عندما أعلنها قسطنطين ديانة رسمية هناك .. فكيف يمكن أن يصل عدد أقباط مصر إلى أربعة ملايين آنذاك في حوالى قرنين ؟!
وبمناسبة تكرار تساؤلك حول تعداد مسيحيي الشرق وتعداد أقباط مصر ومسيحييها ، وأنه " لا توجد إحصائية تحدد ذلك " فيمكنك الرجوع إلى ما أعلنه الفاتيكان من أن عدد المسيحيين في الشرق الاوسط إثنا عشر مليونا ، منهم أربعة ملايين نسمة تقريبا في مصر ( كتاب الجغرافيا السياسية للفاتيكان ) ، وهى نفس الأرقام الواردة بأحدث المراجع ، ومنها "موسوعة تاريخ المسيحية " الصادرة في ابريل عام 2000. وهنا إسمح لى بتعليق بسيط كأخت لك في هذا الوطن الجريح بسبب عدد من الذين يتخذون نفس موقفك ، فأيا كان عدد المسيحيين المصريين بمختلف عقائدهم ، فإن ذلك لا يضيرهم في شئ إطلاقا ولا يمس كرامتهم أو كيانهم في أى شئ ، ومن حقهم كمصريين أن يعيشوا ويسهموا في تقدم مصر ورخائها و فى الدفاع عنها وسط إخوانهم المسلمين كأسرة واحدة وأمة واحدة . وذلك سواء أكان عددهم، كما هو حاليا ، حوالى أربعة ملايين أو حتى أربعة أشخاص ! وتلك هى سماحة الإسلام الحقة .. وإثارة نغمات نشاز من هذا القبيل لا تعنى في الواقع سوى ترديد مطالب الغرب السياسية المتعصبة الذى يسعى حثيثا إلى تقسيم العالم العربى والإسلامى ليسهل تنصيره وحكمه كما يعلنون و كما هو واضح جلى من مجرى الأحداث.. فهذا أمر مرفوض أساسا ولا يليق بمن في مثل مكانتك العلمية أو اللاهوتية .
وهنا أضيف في عجالة أيضا وللعلم ، أن اسم مصر Egypt مشتق من كلمة "كمت" الهيروغليفية وتعنى "الأرض السوداء" ، وأن كلمة " قبط " مشتقة من اسم مدينة " قفط " بالصعيد وكان اسمها coptos أيام اليونان والرومان ، ولا تزال الخرائط القديمة تحمل هذا الاسم ، ومن المعروف أن أوائل المسيحيين المصريين كانوا يهربون من المذابح اليونانية والرومانية إلى أقاصى الصعيد وتجمعوا في مدينة قفط وضواحيها وصار منها اسم قبط ..
وملحوظة أخيرة حول هذه النغمات النشاز : إن الإسلام لم ينتشر بالسلاح والقهر والاستبداد وإنما التعصب الكنسى هو الذى مارس ذلك ، والتاريخ الدموى للكنيسة معروف في صراعه على السلطة منذ بداية تكوينها حتى يومنا هذا ، والإنقسام الجذرى الذى اشرت إليه والذى وقع في القرن الحادى عشر، ثم ذلك الذى وقع في القرن الخامس عشر لم يكن إلا نتيجة لذلك الصراع الدائر بين السلطة الكنسية والسلطة المدنية ، ولم تقم فرنسا أيام الثورة الفرنسية بالفصل بين السلطتين من فراغ ، وهو ما قامت به ثانية عام 1905 عندما لم يرتدع التعصب الكنسى .. وما أكثر ما كُتب في هذا المجال .. فتلك المجازر هى التى أدت بالغرب المسيحى إلى الإلحاد والعلمانية إضافة إلى كل ما كشف عنه التقدم العلمى من تعديل وتبديل في ترجمة النصوص المسيحية و الأناجيل.. فلننتقل إلى نقطة الخلافات العقائدية في تلك المسيحية ..
لقد اشرت يا أخى طوال كتابك إلى تواريخ معيّنة وإلى مجامع بعينها كما أشرت إلى خلافات محزنة ، كما تقول ، وإلى الإنشقاقات الناجمة عنها ، دون أن توضح ما الذى حدث تحديدا. ولكى نكون منصفين ، إن كنا نود أن نضع حدا لكل ما يوجد من خلافات سواء بين المسيحيين بعضهم بعضا أو بين المسيحيين والمسلمين ، فمن الأمانة الموضوعية أن نقول بإيجاز شديد ما الذى دار في هذه المجامع أو تلك التواريخ التى اكتفيت بالإشارة إليها ، حتى يكون القارئ على بيّنة من الأحداث ، خاصة بعد أن قال موريس بوكاى عن حق : "إن أغلب المسيحيين لا يعرفون أن المسيحية قد تم تحريفها عبر المجامع على مر العصور ، كما أنهم لا يعرفون إن الأناجيل التى بين أيديهم لم يكتبها أولئك الذين هى معروفة باسمائهم " ( الإنجيل والقرآن والعلم ) .
والمجامع التى اشرت اليها هى : مجمع سنه 49 في اورشليم ، ومجمع نيقية الأول سنه 325 ، ومجمع القسطنطينية سنه 381 ، وأفسوس سنه 431 ، وخلقيدونيا سنه 451 ، والقسطنطينية الثانى سنه 553 ، والثالث سنه 681 ، ثم انتقلت فجأة وبلا مقدمات إلى اتفاق تم حول " طبيعة المسيح أو شخصه القدوس " ، وتم حسم هذا الخلاف يوم 22/2/1988 بين البابا يوحنا بولس الثانى والبابا شنودة ، عن طريق لجنة الحوار المشتركة بين الكنيستين ، وأوردت نص الإتفاق الذى يقول :
" نؤمن أن ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الكلمة المتجدد هو كامل في ناسوته ، و جعل ناسوته واحدا مع لاهوته بغير اختلاط ولا إمتزاج ولا تغيير ولا تشويش وفى نفس الوقت نحرّم كلا من تعاليم نستور وأوطيخي" (صفحة 79).
والجملة الأولى في هذا النص اللاهوتي بين الكنيستين "نؤمن أن ربنا ومخلصنا يسوع المسيح" وما كررته كثيرا من "أن المسيح هو الله " أو " المسيح الإله" أو "الله الثالوث المقدس" أو "المسيحية هي الإيمان بالمسيح الإله" ، أو" الله المتجسد في المسيح" كل هذه العبارات وكثيرغيرها لا تتفق وما تحاول نفيه من شرك بالله أو من نفى للتعددية فى المسيحية.. وهي نقطة جوهرية أو هي النقطة الجوهرية الأساسية في الخلاف بين الإسلام والمسيحية ، وسوف نعود إليها فيما بعد . ولنواصل التواريخ والمجامع التي أشرت إليها.
فقد أشرت بعد ذلك إلى مجمع 1054 الذي " قسم المسيحية إلى شرقية وغربية " ثم "ثورة الإصلاح" ، ثم أشرت إلى مجمع الفاتيكان الأول عام 1869، ومجمع الفاتيكان الثاني عام 1965 ، إضافة إلى الإشارة إلى اسمين أو ثلاثة بمرارة شديدة هما أريوس ونستور وأوطيخي الذين تواصل الكنيسة حرمانهم حتى يومنا هذا.
ولكي يكون القارئ على بينة من الأحداث سنتناول هذه المجامع والأسماء باختصار شديد لكى يدرك القارىء أو يفهم ما الذى تتحدث عنه فى كتابك :
49 مجمع أورشليم : وهو أول مجمع عقد في أورشليم من أجل تدارس إلغاء الختان الذي كان يقف عقبة في سبيل اعتناق الوثنيين للمسيحية ، وقام صراع بين بولس وبرنابا (أعمال ارسل 15 : 1-2 و 5) فذهبا للقاء الأسقف يعقوب ، أخو الرب (غلاطية 1: 19) أسقف كنيسة أورشليم وتدارسوا الموضوع واقترح بولس إلغاء الختان ( الذي أراده الرب عهدا أزليا أبديا) وقام يعقوب أسقف الكنيسة بإعلان ذلك بحكم منصبه ( أعمال الرسل 15 : 19 –21 ). والمعروف أن بولس لم ير السيد المسيح ولم يكن من الحواريين كما أنه لا يحق له إلغاء ما شرّعه الله .. وكان الإجتماع فى بيت يعقوب فلم تكن هناك كنائس آنذاك.
325 مجمع نيقية الأول : هو المجمع الذي تم فيه تأليه السيد المسيح ، وذلك على عكس الآيات التي لا تزال موجودة والتي يفرق فيها هو بينه وبين الله سبحانه وتعالى ، أو تلك التي تقول أنه نبي. وقد تمت صياغة عقيدة الإيمان في هذا المجمع ، ونصها : " نؤمن بإله واحد ألآب القوي ، خالق كل الكائنات المرئية وغير المرئية ، وبرب واحد يسوع المسيح ، ابن الله المولود من الآب ، المولود الوحيد ، أي من نفس طبيعة الآب، إله من إله ، نور من نور، إله حقيقي من إله حقيقي ، مولود وليس مخلوق ، من نفس طبيعة الآب ، الذي به قد تم كل شئ ، ما هو في السماء وما هو في الأرض ، والذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا قد نزل وتجسد ، وجعل نفسه إنسانا ، وتألم وبعث في اليوم الثالث ، وصعد إلى السماوات ، وسيعود ليحاكم الأحياء والأموات، و(نؤمن) بالروح القدس . والذين يقولون " كان هناك زمن لم يكن موجودا فيه ولم يكن موجودا قبل أن يولد وأنه صار بعد أن لم يكن موجودا ، أو أنه من أي أقنوم أو طبيعة أخرى" ، أو الذين يؤكدون أن ابن الله قابل للتغير أو التحلل ، فان الكنيسة الكاثوليكية والرسولية تلعنهم ".
وكان هذا المجمع قد عقد لإدانة أريوس وحرمانه لأنه كان رافضا لتأليه السيد المسيح (نصوص عقيدة الإيمان مأخوذه من كتاب تاريخ ونصوص المجامع المسكونية 1994) .
381 – مجمع القسطنيطنية الأول : هو المجمع الذي تم فيه مساواة الروح القدس بالله وبالسيد المسيح وفرض عقيدة التثليث ، لذلك تم تعديل عقيدة الإيمان إلى النص التالي : " نؤمن باله واحد ألآب القوي خالق السماء والأرض ، وكل الأشياء المرئية واللامرئية ، وبرب واحد يسوع المسيح، ابن الله ، المولود الوحيد ، الذي ولد من ألآب قبل كل القرون ، نور من نور، اله حقيقي من اله حقيقي ، مولود وليس مخلوق ، من نفس طبيعة ألآب ، الذي به قد تم كل شئ والذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا قد نزل من السماوات وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء وجعل نفسه إنسانا ، وقد صلب من أجلنا أيام بونس بيلاطس، وتألم ودفن ، وبعث في اليوم الثالث وفقا للنصوص المقدسة وصعد إلى السماوات ، ويجلس عن يمين ألآب وسيعود ممجدا ليحاكم الأحياء والأموات ، ولا نهاية لحكمه ،ونؤمن بالروح القدس ، وهو اله يمنح الحياة ، وهو منبثق من ألآب، ويعبد ويمجد مع ألآب والابن ، وقد تحدث إلى الأنبياء ، ونؤمن بكنيسة واحدة كاثوليكية ورسولية. واعترف بتعميد واحد لمغفرة الذنوب ، وانتظر بعث الأموات وحياة العالم الآخر ، آمين ".
فكيف يمكن يا أخي الفاضل أن تقول بعد ذلك "أن الثالوث يعد شرحا لوحدانية الله" أو "ما أبعد المسيحية عن الشرك أو عن التعددية " أو " ليس التثليث معناه انقسام الله إلى ثلاثة استغفر الله العظيم ، وليس هو تأليه المسيح استغفر الله " (صفحات 49 ، 50 ، 93) . ترى هل يجوز لمن فى مثل منصبك أن يخرج صراحة عن عقيدة الإيمان كما طالعناها للتو ؟! كما أن السيد المسيح لم يبق "مدفونا" ثلاثة أيام كما تقول العقيدة إذ أنه "مات" مساء الجمعة و بُعث صباح الأحد ، وفقا لما هو وارد بالأناجيل ..
431 مجمع افسوس : انعقد هذا المجمع لفرض عقيدة أن السيدة مريم العذراء هي أم الله وليس لمجرد مناقشة دورها في التجسد فحسب كما تقول يا أخي ، كما قرر المجمع إدانة وحرمان كل من لا يؤمن بأن السيدة مريم العذراء أم الله ، ومن لا يؤمن بأن المسيح هو الله وأن الله هو المسيح ، ومن يقوم بالتفرقة بين الطبيعيتين (الطبيعة الجسدية والإنسانية والطبيعة الإلهية ) ، ومن يفصل بين الله والمسيح ، ومن ينكر الطبيعة الإلهية للمسيح أو يقول أنه قد تم تمجيده بفضل الروح القدس وكأنه شئ آخر مختلفا عنه وليس هو!! وقام المجمع بإدانة نستور وحرمانه لرفضه اعتبار أن السيدة مريم " أم اله ". ذلك هو ما فرضه مجمع أفسوس..
451 مجمع خلقيدونيا : انعقد المجمع لإدانة القائلين بأن المسيح له طبيعة واحدة جسدية وليست له طبيعة الهية وفرض سيادة الكنيسة الرومانية على كافة الكنائس كما قام بالتصدى للذين رفضوا اعتبار السيدة مريم أم الله وأدان أوطيخي لدفاعه عن النستورية ولرفضه قبول فكرة أن السيد المسيح له طبيعتان مستقلتان إنسانية وإلهية ، وقام المجمع بالتأكيد على " أن مريم أم الله ، و أن المسيح الإبن و الرب ، المولود الوحيد ، له طبيعتان بلا خلط ولا تغيير وانقسام أو تفرقة ، وأن اختلاف الطبيعيتين لا يتلاشى بسبب اتحادهما ، فكل طبيعة منهما مستقلة في شخص واحد وأقنوم واحد ، مسيح واحد لا يتجزأ ولا ينقسم في شخصين ، وإنما ابن واحد ، الوحيد المولود ، الإله الكلمة ، الرب يسوع المسيح ، وهو ما قام الأنبياء بتعليمه وقد أخذوه عنه ، كما علمه لنا يسوع المسيح بنفسه ونقله الينا الآباء عن طريق عقيدة الإيمان "..
وقام المجمع بحرمان كل من يخالف ذلك ، وهذه التحديدات العقائدية هي التي أدت إلى انفصال الكنيسة الأورثوذكسية أو القبطية ، وإن كانت قد عادت وقبلت بعضه وفقا لما هو وارد بالاتفاقية المشار إليها سالفا والتى تم توقيعها يوم 22/2/1988.. وتضفي المراجع أهمية خاصة على هذه المجامع الأربعة الأولى لأنها هي التي صاغت مجمل العقيدة المسيحية تقريبا.
553 مجمع القسطنطينية الثاني : انعقد لإدانة أعمال أوريجين ومؤلفاته ، وإدانة النستوريين الذين لا يزالوا يرفضون عقيدة التثليث وخاصة لرفضهم قبول أن السيدة مريم أم الله ، ولا يزال هناك أتباع للكنيسة النستورية حتى يومنا هذا.
681 مجمع القسطنطينية الثالث : انعقد لإدانة القائلين بأن هناك طبيعة واحدة فقط للسيد المسيح و "إرادة واحدة لطبيعة يسوع الإله الحقيقي وأحد أقانيم الثالوث المقدس" ، كما انعقد لإدانة الذين يعترضون على عقيدة تجسد الله في المسيح ، وقد أقر المجمع عقيدة الإيمان السابقة وأضاف إليها مزيدا من التفاصيل التي تؤكد " أن السيد المسيح هو الله ومن نفس طبيعة الله ومن نفس طبيعة البشر ما عدا الخطية ".
وكانت الخلافات قد تزايدت حول مقولة انبثاق الروح القدس من ألآب ، ومن الابن ومساواتهم الثلاثة أم أنه ينبثق من ألآب عن طريق الإبن ، وبالتالي فإن الاقانيم الثلاثة للثالوث المقدس لا تتساوي .. وقد ظلت الخلافات والمعارك الخاصة بالثالوث تندلع من بلد إلى آخر ومن مجمع إلى آخر حتى رفضه البروتستانت في ثورة الإصلاح ، كما رفضوا أن تكون السيدة مريم أم الله ، وذلك من بين خمس وتسعين إدانة أخرى وجهونها للكنيسة الكاثوليكية ، وقد قامت الكنيسة الهولندية عام 1966 باستبعاد عقيدة الثالوث تماما من كتابها للتعليم الديني لعدم تمشيها مع المنطق وعدم قبول الاتباع لها..
1545 مجمع ترانت : انعقد ليفرض صحة الترجمة اللاتينية للأناجيل التي قام بها القديس جيروم وأقرها مجمع سنة 494 ، كما فرض المجمع الإيمان بهذه النصوص على " أنها نص منزّل نهائي وأساسي " ، وذلك رغم كل ما انتابها من تعديل وتبديل عند نقلها من لغة لأخرى ورغم كل ما واجهها من ادانات. كما صاغ المجمع عقيدة الخطية الأولى ، وحمّلها على كافة الأتباع ، وأدان مارتن لوثر وأصرّ على الحفاظ على الأسرار السبعة للكنيسة التي سبق فرضها في مجمع فلورنسا سنة 1439 ، وكانت الخلافات حولها قد تزايدت لتصبح جزءا من مطالب ثورة الإصلاح ولا تزال الخلافات قائمة حول بعضها . لذلك أعاد المجمع فرض حقيقة " تحول الإفخارستيا فعلا إلى دم المسيح ولحمه عند تناولها " ، وذلك تثبيتا لما فرضه مجمع لاتران سنة 1225. كما قام مجمع ترانت هذا بتجديد قضية المطهر وعبادة القديسين واباحة الصور الدينية .
1869 مجمع فاتيكان الأول : تصدى للمطالبين بتنقية نصوص الأناجيل مما بها من تناقضات أو معلومات لم تعد تتمشى مع الإكتشافات العلمية الحديثة ، كما تصدى للتقدم العلمي والحضاري فيما هو معروف باسم "معركة الكنيسة مع العلم ". وأقر المجمع السيادة الباباوية ومعصومية البابا من الخطأ التي سبق فرضها بما أنه يمثل الله على الأرض ، وفرض "أن الله هو المؤلف الوحيد للأناجيل" !!
1965 مجمع فاتيكان الثاني : يعتبر هذا المجمع أول مجمع هجومي في التاريخ لما تمخض عنه من قرارات فى المجالات اللاهوتية والاجتماعية والسياسية حيث أن كافة المجامع السابقة إجمالا كانت تتعلق بخلافات العقائد وتثبيتها أو الدفاع عنها بالتصدي لرافضيها بالحرق أحياء أو بالقتل أو بالسجن .. ومن أهم قرارات هذا المجمع تبرأة اليهود من دم المسيح ، بعد أن ظلت تلعنهم فى قداس كل يوم أحد على أنهم قتلة الرب ، واقناع المسلمين والعرب آنذاك بأنها مجرد مصالحة دينية ؛ اقتلاع اليسار في عقد الثمانينات حتى لا تبقى هناك أنظمة بديلة للرأسمالية الاستعمارية واقتصادها ؛ اقتلاع الإسلام في عقد التسعينات حتى تبدأ الألفية الثالثة والعالم كله قد أصبح مسيحيا ؛ توحيد كافة الكنائس تحت لواء كاثوليكية روما، الأمر الذي بدأ فعلا كما رأينا في اتفاقية 22/2/1988 الوارد نصها بتنازل الكنيسة الأورثوذكسية عن أحدى عقائدها ؛ تحميل عبء عملية التبشير على كافة المسيحيين بحكم تعميدهم في الصغر ، وذلك للكنسيين منهم والعلمانيين ، وهي أول مرة تفرض فيها الكنيسة عدة بنود خاصة بالاستعانة بالمدنيين بهذا الشكل الواسع ، كما قرر المجمع استخدام الكنائس المحلية في عملية التبشير وإقرار مبدأ الحوار لخدمة التبشير، وإنشاء لجنة خاصة بذلك للحوار مع الديانات غير المسيحية وخاصة مع الإسلام . وقد أقر هذا المجمع أيضا ان الأناجيل كتبها بشر وأن بها الصالح والبالى ، أى انها ليست منزلة من عند الله وإنما قصص وأدبيات ..
وقد أدت المصالحة مع اليهود إلى اعتراف الفاتيكان بالكيان الصهيوني المحتل لدولة فلسطين وهنا لا يسعنا الا أن نقدم لبابا الفاتيكان الذي أعلن " ضرورة تنصير العالم " بزعم أنه لاخلاص إلا بالمسيح ، ترى كيف سيتم خلاص اليهود الذين اعترف لهم بدولة دينية ؟ هل سيقوم بتنصيرهم أم أن لهم خلاصا عن طريق آخر غير السيد المسيح ؟! والسؤال مطروح أيضا على كافة الكنائس التي تشارك في لعبة التنصير، كما أنه موجه لك ايها الأخ الكريم ..
ومن بين النتائج التي عشناها نتيجة لقرارات ذلك المجمع : إسقاط اليسار في عقد الثمانينات بالتعاون مع المخابرات المركزية الأمريكية وإحياء العام المريمي في الإتحاد السوفيتي السابق، و إقامة حزب تضامن في بولندا ، وقد أصبحت هذه المعلومات من المعلومات الصحفية الدارجة لكثرة ما نشر عنها وعما تكلفته من ملايين الدولارات .. ومن المعروف أن الحرب التي تم شنها على الإتحاد السوفيتي قد بدأها الرئيس الامريكي ريجان بصيحة شهيرة معلنا "أنها حرب صليبية على محاور الشر" ، وهي نفس الصيحة التي أعلنها جورج بوش الإبن في حملته لإقتلاع الإسلام تحت زعم "الإرهاب" ، إذ بدأها هو أيضا معلنا أنها حرب صليبية . .
ولم "يسخر منه العالم" ، يا آخي الفاضل كما أوضحت في هامش صفحة 172 ، لم يسخر منه العالم الغربي أيها الأخ المصري الصميم ، وإنما تواطأ معه ، فعلى الرغم من كل تلك الخلافات العقائدية التي أشرت إليها في كتابك ، وعلى الرغم من الخلافات في المصالح ، فلقد تعاون معه الغرب المسيحي المتعصب لاقتلاع الإسلام بشتي الوسائل ، حتى " بالتدخل لدى الحكام" كما أعلنها البابا يوحنا بولس الثاني ، وهو نفس المطلب الذي يلوّح به لتوحيد كافة الكنائس تحت لواء كاثوليكية روما للتصدى للمد الإسلامى ، وكلها تصريحات مكتوبة ومنشورة .. فدعنا ننتقل إلي المجموعة الثالثة من القضايا التي أثرتها ألا وهي : الإسلام وما يتعلق به.
و أبدأ بأن الإسلام ليس من "عواصف قوى الجحيم " ، وليس عبارة عن "عنف أو قتال وحروب وإرهاب"، وليس "حروبا هلالية" على وزن الحروب الصليبية "أهملها المؤرخون عن جهل أو عن عمد" ، والمسلمون ليسوا مجرد " قبائل من الجياع والعطشى " الطامعين في رخاء مصر القبطية والعالم العربي المسيحي ، والإسلام ليس مجرد "لغة جديدة" تكتسح اللغات القديمة التي مارستها الشعوب آلاف السنين" ، اللهم لا تعليق يا أخي الفاضل.. والإسلام ليس سببا في الإنقلاب الذي حدث في المسيحية وفى "تحول المفكرين في الغرب عن اللاهوت المسيحي" ، وانما السبب الحقيقي لذلك هو اكتشاف الحقيقة ، فعلى حد قول المثل العامي الشائع في بلدنا، من أقصى أعماق الصعيد إلى آخر شطآن بحري ، "الكذب مالوش رجلين" . أن ما حدث في العالم الغربي المسيحي أو لأكبر جزء منه هو اكتشاف أكبر كذبة تمت في التاريخ ألا وهي : تأليه السيد المسيح ! تلك الكذبة التي ندفع جميعا ثمنا لها ، المسلمون بمحاولة اقتلاعهم على أنهم الدليل الحي الكاشف لهذه الكذبة ، والغرب المسيحى بفقدان إيمانه بعد أن رضع قرونا من أكاذيب التعصب الكنسي ، فكفر بالدين ، كفر بذلك الإله الذي اكتشف كيفية تأليهه بالنصوص والوثائق ، فغرق في الإلحاد والعلمانية وفى التخبط الذي يعاني منه "مبتعدا عن الدين" ، كما أشرت دون توضيح الأسباب ...
ومثلما قال السيد المسيح :" لم أرسل إلا إلى خراف بيت اسرائيل الضالة" (متى 15 :24) الأمر الذي سبق أن أكده على حوارييه : "هؤلاء الاثنا عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلا إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت اسرائيل الضالة" (متى 10 : 5 – 6). الأمر الذي يحصر رسالته بالقطع في نطاق خراف بيت اسرائيل الضالة ، وليس إلى العالم ، كما يزعم التعصب الكنسي.. فمثلما جاء السيد المسيح لتصويب الإنحراف عن رسالة التوحيد في بيت اسرائيل ، جاء سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بالقرآن الكريم الذي أوحى به اليه لتصويب الإنحراف الذي تم في المسيحية بتأليه السيد المسيح وفرض عقيدة التثليث ، فقال الله عز وجل : " لقد كفر الذين قالوا أن الله هو المسيح ابن مريم " (17 /المائدة) ؛ " لقد كفر الذين قالوا أن الله ثالث ثالثة" (73 / المائدة) ؛ "فامنوا بالله ورسوله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم" (171/ النساء) ؛ ولذلك أيضا أُنزلت سورة الإخلاص لتحدد معنى التوحيد بالله الذي ليس كمثله شئ ولتنفي عنه بدعة الإنجاب :
" قل هو الله احد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا احد ".
أي أن كل رسالة التوحيد بالله عز وجل في القرآن الكريم ، قائمة على إنكار وإدانة ما تم نسجه من تحريف لرسالة التوحيد عبر المجامع كما رأينا ، بدأ بتأليه السيد المسيح في مجمع نيقية الأول سنة 325 ، واستكمال بدعة الثالوث في مجمع القسطنطينية سنة 381 ، وما ترتب على ذلك من تحريف في الأناجيل ومن انشقاقات بين الكنائس .
وفيما يتعلق بالتحريف والتبديل في الأناجيل الحالية ، فلن استشهد بالموسوعة البريطانية طبعة سنة 1978 ، التي تؤكد على وجود مائة وخمسون الف تناقضا وتحريفا في العهدين ، وانما سأستشهد بالقرآن الكريم الذي يقول : " يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به"، (13/ المائدة )، " وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ، من بعد ما عقلوه " ( 75 /البقرة ) "فبدّل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم" (59 / البقرة ) .
وهنا لن نضرب إلا مثلا واحدا من الأناجيل الحالية كتطبيق لهذه الآيات : إن السيد المسيح يقول أنه ما أُرسل إلا من أجل خراف بيت اسرائيل الضالة ، أي أن رسالته محدودة فيمن كفر من اليهود ، وهو الأمر الذي أكده للحواريين صراحة قائلا : " إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين لا تدخلوا بل اذهبوا بالحرى إلى خراف بيت اسرائيل الضالة (متى 10 : 5 – 6) ، وهو أمر منطقي ويستقيم مع منطق رسالة التوحيد ومع الأحداث التاريخية بعودتهم إلى عبادة العجل و قتل الأنبياء ، ثم نرى ذلك الإصرار الغريب من جانب التعصب الكنسي على تنصير العالم ، استناداً إلى الآية التي في أواخر إنجيل متى والتى يقول فيها على لسان السيد المسيح : "فاذهبوا وتلمذوا جميع الامم ، وعمدوهم باسم الآب والإبن والروح القدس "(متى 28 : 19).
فكيف يمكن أن توجد عقيدة التثليث التي تمت صياغتها في القرن الرابع كما رأينا ، في إنجيل من المفترض كتابته فيما بين سنة 80 ، 85 ؟ إن الرد لا يخرج عن أحد أمرين : إن كان إنجيل متى صادقا ، فذلك يعني أن المسيحيين لا يؤمنون بمعطيات انجيلهم وكان لابد من فرضها قهرا عبر مجمعي 325 ، 381 – وإن كان هذا الافتراض لا يتفق وكل الذين عارضوا تأليه السيد المسيح ولا يزالوا.. وإما أن عقيدة التثليث هذه قد أضيفت إلى انجيل متى بعد استكمال صياغتها في أواخر القرن الرابع لإضفاء مزيد من المصداقية عليها ! الأمر الذي يتفق تماما مع ما قاله القرآن الكريم ، وإن كانت صياغة تلك الآية في انجيل متى تثير تناقضا جديدا فيما يتعلق بالتعميد : فكيف يقول متى أن يتم التعميد باسم الثالوث (28 : 19) وكان يوحنا المعمدان يعمّد بالماء (اعمال الرسل 1 :5) ونفس هذه الآية تنص على أن الحواريين سوف يعمدون بالروح القدس ، ثم يقول بطرس أن يتم التعميد باسم يسوع المسيح (اعمال الرسل 2 : 38) ؟ و ياله من خلط و تبديل ..
ولا يسعنا الا أن نضيف ما قاله الباحث جيرار ميسادييه من أنه " لا الأناجيل المعتمدة ولا الأناجيل المستبعدة تتضمن أية إشارة إلى الرسالة العالمية ليسوع ، وان هذه الفكرة قد أضيفت بعد ذلك " (الرجل الذي اصبح إلها " صفحة 185 ج2) .
لذلك اقول لك ايها الأخ الكريم ، أن الإسلام ليس مجرد " ذلك الدين الآتي من قلب الصحراء"، وانه لم يأت "لاستعباد البشر وإذلالهم أو إحتقارهم" ، كما أنه لا يمثل "شبح التطرف وكابوس الإرهاب".. لقد أتى الإسلام مصوبا لما تم تحريفه في الرسالتين التوحيديتين السابقتين ، فالإسلام قائم على التوحيد بالله ، وعلى أنه لا إكراه في الدين " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " (29/ الكهف ).
والقرآن الكريم لم يعلن "العداوة الدائمة والبغضاء بين المسيحيين" وانما أتى كاشفا لكل عمليات التحريف التي قامت بها الايادي العابثة في المسيحية حبا في السلطة. وهنا لا يسعني إلا أن أضيف لك ما تعرفه يقينا : أن الإسلام يأمر المسلم بالإيمان بعيسى بن مريم عليه السلام كأحد أنبياء الله ورسله ، كما يفرض عليه أن يؤمن بالأنجيل الذي أوحاه الله اليه ، بالأرامية ، اذ يقول سبحانه وتعالي : " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم " ( 4 / ابراهيم ) . وهذه الآية تحديدا تعد أكبر دليل سبّاق علي كل ما كشفه العلم الحديث من تحريف في الأناجيل الحالية ، ودليل سبّاق علي كل الذين يؤمنون بأن اللغة اللاتينية المفروضة كأصل للأناجيل في القرن الخامس ليست هي لغته وليست هي نصه الأصلي كما تفرضها المجامع علي انها نصوص منزلة وموحاه ..
أما قضايا الساعة ، فمن أهم ما طرحته في عجالة ودون الإشارة أيضا إلي أسبابها نتائج معركة الحداثة التي قدمتها علي أنها "نزوة من نزوات الشيطان" ، وهذه العبارة التقييمية لا توضح حقيقة ما حدث في الواقع ـ كما اشرت الي العولمة ، "حديث العصر" علي "أنها فكرة مسيحية" وذكرت الجات مادحا ، متناسيا أنها لطمة كاسحة للأقتصاد المحلي ، وهو مالا يستقيم وحبك المعلن للبلد.. ولعل الجدير بالتناول هنا هي معركة الحداثة لما لها من جوانب متعددة. وفي واقع الأمر ، لقد تعرضت الكنيسة في الغرب ، بعد ثورة الإصلاح وانقسامها، الي معركتين أساسيتين هما : معركة عصر التنوير ، ومعركة الأصولية والحداثة في مطلع القرن العشرين ، وقد قام عصر التنوير ـ كما هو وارد بكافة المراجع التاريخية والإجتماعية ـ ضد ما أطلقوا عليه "عصر الظلمات" أو عصورها .. والمقصود بها الظلمات التي فرضها التعصب الكنسي من تصدي لمنع انتشار العلم، وبإقامة محاكم التفتيش للتحكم في المجتمع ، وفرض الرقابة علي المطبعة عند ظهورها ، وما الي ذلك..
إن الخطب الرسولية في هذا الصدد معروفة ، فمنها تلك التي اشرت إليها في كتابك عن " الشئون الحدثية " الصادرة في 15/ 12/ 1891 . ولقد أصدرها البابا عند إعادة محاولة الكنيسة التدخل في شئون الدولة ، وهو أول خطاب رسولي خاص بالمسألة العمالية ومحاولة منعهم من الإنخراط فى مذهب الأشتراكية أو الشيوعية التي حاربتها الكنيسة بضراوة ، كما يهاجم الخطاب الإشتراكية كحلٍ اجتماعي ويدافع عن الملكية الفردية ويقوم بتبرير تدخل الكنيسة في شئون الدولة بزعم التخفيف من بؤس العمال ! وكان قد سبقه خطاب البابا بيوس التاسع في 8/12/1864 الذى يدين فيه مذهب الطبيعية بكل صورها ، وخاصة مذهب العقلانية الحديثة ومبدأ التحرر من العلاقة بين الكنيسة والمجتمع المدني ، رافضا أن تكون الدولة وحدها هي مصدر كل القوانين ، واتبع الخطاب بقائمة تتضمن ثمانين خطأ في نظر الكنيسة في تلك العلوم الحديثة ومطالبها .. ومن المعروف أن عصر التنوير يمثل أعلي وأعنف ما وصل إليه الصراع الكنسي حتي ذلك الوقت ، فقد بدأت عملية مراجعة واسعة للنصوص الإنجيلية ، لا من جانب البروتستانت وحدهم ، ولكن من جانب الكاثوليك أنفسهم ، الذين طالبوا بتنقيتها حتي تتمشي مع التقدم العلمي ، فأدينت كل أعمال ذلك العصر ووضعت في سجل الكتب المحرمة ( الأندكس ) التي يحرّم البابا علي أتباعه الإطلاع عليها ..
وظلت هذه القائمة أو ذلك السجل معمولا به منذ إنشائه عام 1551 حتى عام 1966 عندما قام مجمع الفاتيكان الثاني بتغيير اسم اللجنة الأساسية التي يخضع لها هذا السجل من " لجنة محاكم التفتيش" إلى "لجنة عقيدة الإيمان " ( القاموس التاريخي للبابوية ) وإذا ما أضفنا إلى ذلك قرار البابا جريجور التاسع سنة 1224 ، بإقرار عذاب الحرق بالنار حياً للمنشقين ، والذي تبعه بالخطاب الرسولي المعنون "من أجل الإنتزاع" سنة 1244 ، والذي أقر فيه استخدام التعذيب في محاكم التفتيش للحصول علي الإعترافات ، وهي المحاكم التي كان البابا إينوسنت الثالث قد أرسي قواعدها في نوفمبر 1215 ( ومن الطريف أن يعني إينوست هذا: البرئ ) وإذا ما أضفنا ما جرى للعالم جاليليو وكوبرنيكس وغيرهما ، أو ذلك الذي أخرجت الكنيسة عظامه من القبر لتنفذ فيه حكم الحرق بالنار ـ من باب التمسك بالرأي والترويع ـ لأدركنا أبعاد عبارة الأب لوازى حينما وصف تلك المواقف الكنسية المتعصبة بعبارة " الإرهاب الأسود " ، ولأدركنا أن تكرارك لعبارات من قبيل "حضارة المحبة " أو "إن هذه الوثائق الباباوية تنير الطريق " ، هي جد عبارات بعيدة عن الواقع ولا تؤدي إلا إلي إبتسامة مريرة ، يشوبها الإستغراب و التعجب .. فمن أجل ما أشرنا إليه وبسببه اندلعت الثورة الفرنسية من ضمن ما اندلعت من أجله وقامت بذبح مئات القساوسة ، ومن أجل ذلك أيضا وبسببه قامت بفصل الدين عن الدولة ، أيام نابليون ، ثم عادت و كررته ثانية سنة 1905 ..
أما معركة الأصولية والحداثة التى سادت مطلع القرن العشرين ، بعد أن تزايدت الهوة بين الكنيسة والتقدم العلمي بعامة والتقدم فى علم اللغويات بخاصة ، فقد طالب علمؤها بمطلبين أساسيين : تنقية النصوص الإنجيلية والدينية من كل ما بها من معطيات لم تعد تتمشى مع العلم ، وتنقيتها من كل ما بها من تناقضات لم يعد الأتباع يقبلونها ، كما طالبوا الكنيسة بإظهار إنجيل يسوع المكتوب بالأرامية ، ولا يسع المجال هنا لمزيد من التفاصيل لكننا نشير بمناسبة هذا لمطلب الثاني الخاص بإنجيل يسوع ، تلك الآية الكريمة التى تقول "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه" ( 47 / المائدة) ، "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون "
( 45 / المائدة ) .
وهنا لي اقتراح كأخت لك فى الوطن ، وزميلة لك فى اللقب ، وعلى دراية بقدر لا بأس بها بما تعرفه أنت بالتفصيل ، وتعاني من بعض ما تعاني أنت منه من هموم وأحزان تشوب الإخوة فى الأسرة الواحدة وفى الوطن الواحد ولا ترضى لك أن تكون من الظالمين.. تُرى ماذا لو استعنت بمهنتك ومكانتك اللاهوتية الرفيعة وعملت على إظهار الإنجيل الأصلي للسيد المسيح عليه السلام ، لتقيم المسيحية الحقيقية التى كان عليها ونادي بها ؟! ألا يقول بولس فى رسالته إلى أهل رومية : " و أنا أعلم إنى إذا جئت إليكم سأجىء فى ملء بركة إنجيل المسيح" ( 15 : 29 ) و لم تكن الأناجيل الحالية قد كتبت بعد ..
وبذلك يلتئم شمل الإخوة المتناحرون فى الكنيسة ، ويلتئم شمل الأسرة فى الوطن العربي، لنعيش فى محبة حقيقية ونضرب مثلا حيا للتعصب الغربي ولكل ما يفرضه علينا وعلى العالم من قهر واستبداد ، فالإسلام لا يفرض نفسه على أحد ، فلا إكراه فى الدين ، وكل المطلوب منا نحن معشر البشر أن ندرك أن لا إله إلا الله ، وأن موسى وعيسى ومحمد رسل الله .
وما أقترحه ليس بغريب فالأناجيل الحالية لا تزال تحمل بعض الآيات التى يفرق فيها عيسى عليه السلام بينه وبين الله عز وجل ، ويفرق بينه وبين الروح القدس ، ويقول أنه يبشر بإنجيله .. وذلك هو الإنجيل الذى أوحاه إليه سبحانه وتعالى ، وذلك هو الإنجيل الذى نؤمن به نحن المسلمون، ككتاب منزّل من عند الله ، و ليست الأناجيل الحالية التى تحاول لجنة الحوار تمريرها على أنها هى التى يشير إليها القرآن و بالتالى تفرض علينا الإيمان بها !
وتبقي نقطة الحوار .. ولعلك بحكم المهنة الكهنوتية أدرى منى بمعنى الحوار وأبعاده ، لكنني أوضح باختصار شديد ، حتى يكون القارئ على بيّنة : فمبدأ الحوار كان من ضمن قرارات مجمع الفاتيكان الثاني سنة 1965 ، والذى بادر بانشاء لجنة للحوار مع الديانات غير المسيحية وخاصة مع الإسلام ، وإذا ما طالعنا كافة الإصدارات الكنيسة منذ ذلك الوقت تحديدا وحتى يومنا هذا ، وإذا ما طالعنا تعريف الأسقف فرانسيس أرنزى ، رئيس لجنة الحوار بالفاتيكان ، مرورا بالعديد من الخطب الرسولية وخاصة "رسالة الفادي " الصادرة فى ديسمبر 1990 ، أو خطاب "حوار وتبشير" الصادر فى 20/12/1991، وهو كما يقول العنوان الفرعي ، عبارة عن "تأملات وتوجيهات متعلقة بالحوار بين الأديان والتبشير بالانجيل " ، إضافة إلى كل ما يكتبونه كتوجيه للمبشرين أنفسهم ، لوجدنا عبارة واحدة تتكرر بتنويعات متعددة تقول تحديدا: " أن الحوار يعنى فرض الإرتداد وقبول سر المسيح" ، و "أن الحوار يستخدم كوسيلة لكسب الوقت حتى تتم عملية التنصير " ، كما يتم تكرار عبارة تحميل مسئولية الحوار والتبشير على كافة الكنائس المحلية ، وعلى كافة أتباعها بوسائل مختلفة، وذلك " من أجل غرس الإنجيل فى الثقافات المختلفة للشعوب"!!.. و ياله من خداع لما يفرضه على الأقليات المسيحية من نفاق فى تعاملها مع المسلمين..
وقد سبق للبابا أن حدد فى "رسالة الفادي " فى البند رقم 55 ، "أن الحوار بين الأديان يمثل جزءا من الرسالة التبشيرية للكنيسة ، فالحوار هو الطريق الى الملكوت ".. ومن أهم المجالات التى حددها البابا يوحنا بولس الثاني لاستخدامها فى مجال التبشير : مجال السياحة ، والوظائف المهنية التى يشغلها المسيحيون ، والتصدي للمهاجرين – وخاصة المسلمون فى فرنسا، "الذين يمثلون تحديا للكنيسة" فى نظره ، واستخدام الحياة الدولية بمجالاتها المختلفة كالسياسة والإقتصاد والمواصلات الخ (رسالة الكنيسة ) العدد رقم 91 ، وذلك لمواصلة عملية التبشير حتى يتم تحقيق خطة كان يأمل نيافته أن تتم عشية الألفية الثالثة بتنصير العالم باسره – وفقا لما تم ترتيبه فى مجمع فاتيكان الثانى عام 1965 ، وهو ما أدى إلى إختلاق مسرحية "11 سبتمبر" للتلفع بالشرعية الدولية و القيام بتلك المجازر الدائرة ضد المسلمين ..
لذلك لا يسعني إلا أن أقول لك أيها الأخ فى الوطن وفى المعاناة من كل ما يُفرض على البشرية من صراع ، أن تعمل أنت وزملاؤك على استبعاد هذا "التطرف الإرهابي الاسود " على حد قول الأب لوازي ، بدلا من الانسياق معه و فى ركابه جهلا أو عن عمد … ذلك الإرهاب الأسود المتعصب ، الهادف إلى تنصير العالم بأية وسيلة وبأي ثمن ، حتى بالجوء الى الكذب و النفاق ، و اقتلاع مختلف الحضارات غير المسيحية ..
ليتنا نهتم بالمشاكل الإنسانية الحقيقية التى حاقت بكوكب الأرض و سكانه ، ليتنا نهتم بعمارتها بدلا من خرابها و تدميرها ، لنحيا جميعا فى علاقة انسانية تكاملية ، وليست علاقة استعمارية متعنته كاسحة للآخر ، الذى هو الإسلام والمسلمين ..