نعمة الألم والابتلاء
قد
يتعجب البعض عندما يقرأ هذا العنوان ويتساءل:
هل الألم والابتلاء نعمة؟!
والإجابة: نعم، لأن الألم تهذيب للنفس
وتخليص لها من شوائب الدنيا التي قد
تكون علقت بها كما يقول العلماء.
. فإذا نظرت يمينك ويسارك ستجد الكل
مبتلي.. فهذا
مبتلي في صحته.. وذلك مبتلي بالفقر وضيق ذات اليد..
وذاك
ابتلاه الله بفقد الولد أو مرضه.. فلست وحدك إنما الكل يعاني
ويكابد حتي يتحمل مصائب الدنيا ومتاعبها ويعلو فوق آلامه.
إلا أننا لو علمنا أن 'الابتلاء' سنة كونية تتجلي في قوله تعالي
: 'لقد خلقنا الإنسان في كبد' أي أن هذا ما قدره الله علي
عباده، الحياة مع التعب والمشقة والمعاناة التي تتفاوت
درجتها من شخص لآخر كل حسب احتماله: لأن الله عز وجل لا
يحمٌلنا ما لا طاقة لنا به.
فلو علمت حكمة الله عز وجل في الابتلاء والجزاء
الذي أعده للصابرين عليه لحسد 'أصحاب النعم' غيرهم من 'المبتلين' لما
سيلقونه من نعيم أعده الله في الآخرة.. فمن صبر
علي الفقر في الدنيا عوضه الله عن ذلك بنعيم دائم لا ينقطع في الآخرة..
ومن احترق قلبه لوعة لفقده ولده وصبر
واحتسبه عند الله عز وجل وصبر عند الصدمة الأولي بني الله له بيتا في الجنة
يسمي بيت الحمد كما جاء في الحديث القدسي
'يسأل الله
سبحانه ملائكته اقبضوا ولد عبدي اقبضوا ثمرة فؤاده فيقولون نعم
يا ربنا'.
فيقول تعالي وهو الأعلم بعباده: فماذا
قال؟! قالوا: حمدك. فيقول: 'ابنوا
له بيتا في الجنة اسمه بيت الحمد'.
ويروي أيضا أن أحد صحابة رسول الله سلم كان له صبي صغير يحبه أشد ما يكون الحب
فرآه رسول الله
صلي الله عليه وسلم وهو يداعبه. فقال له:
'أتحبه'؟ قال له: 'أحببك الله مثلما أحببته يا رسول الله، ثم تغيب يومين عن
مجلس رسول الله صلي الله عليه وسلم. فسأل عنه فقالوا له: إن ولده توفاه الله، فذهب إليه رسول الله صلي الله عليه وسلم ..
قال له: ماذا كنت تفضل أن يعيش معك في الدنيا ويكبر ولا تعرف أيكون صالحا أم لا.. أم أن يقبضه الله عنده وتجده عند إيٌي
من أبواب الجنة الثمانية شئت أن تدخل منها'.
وقد قال الإمام ابن القيم رحمهما الله:
'إذا أراد الله
بعبد خيرا سقاه دواء من الابتلاء والامتحان علي قدر حاله يستفرغ به من
الأدواء المهلكة حتي إذا هذبه ونقاه وصفاه أهٌله لأشرف
مراتب الدنيا وهي
عبوديته وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه
عز وجل'.
فالألم ليس
مذموما دائما ولا مكروها في المطلق.. فقد يكون خيرا للعبد أن يتألم..
فالدعاء الحار يأتي مع الألم والتسبيح
الصادق يصاحب الألم والقرب من الله عز وجل ومناجاته
وعبادته حق العبادة والخشوع في الصلاة والحرص علي رضاه عز
وجل يكون أقرب للاخلاص مع وجود الألم.
وكيف لا يكون البلاء أوالألم نعمة من الله عز وجل
وجزاء من يصبر عليهما الجنة ونعيمها؟! وفي ذلك قال رسول الله
صلي
الله عليه وسلم: ورد في صحيح البخاري
'ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب
ولا هم ولا حزن ولا أذي ولا غم حتي
الشوكة يشاكها إلا كفر بها خطاياه'.
وقديما
قال أحد أهل السلف:
'لولا مصائب الدنيا لوردنا مفلسين' أي لوردنا يوم
القيامة مفلسين لا نملك ما ندخل به الجنة. وقد
يتخفي البلاء في ثوب النعم
فتصبح بعض النعم 'بلاء'
أو أنها بلاء في الأصل لكن تظهر في صورة نعمة
ويتجلي هذا المعني
في قوله تعالي في أوائل سورة العنكبوت:
'الم أحسب الناس
أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون'.. فالنعم ليست في
مطلقها خيرا،
بل قد تكون امتحانا من الله سبحانه لعبده الذي أعطاه
هذه النعمة وكلنا يتذكر 'قارون' الذي أعطاه الله عز وجل
أموالا لا تعد.
وعن امتحان الله
للعبد بالعطاء والمنح
وعدم اقتصار الامتحان الإلهي علي البلاء والألم قال
أحد الصالحين: 'العبد لضعفه
وعجزه لا يدري ما وراء حجب الغيب
، فهو لا يري
إلا ظواهر الأمور، أما الخوافي فعلمها عند ربي فكم من محنة صارت
منحة، وكم
من بلية أصبحت عطية، فالخير كامن في المكروه'.
د. مصطفي الشكعة
الأستاذ بجامعة الأزهر سابقا يعرًٌف الابتلاء
بأنه 'امتحان من الخالق
ليكشف به إيمان عبده' فإذا صبر
فإنه يجازيه بخير لا حدود له وإن لم يصبر
فإنه يكون
حكم علي نفسه بالعذاب في الدنيا والآخرة لأنه لم يقو علي احتمال
ما
قدره الله عليه.. وإن صبر فإنه يثاب علي ذلك ويجزيه الله عز وجل أحسن جزاء.
وأضاف د. الشكعة: أن الابتلاء ليس غضبا من الله
سبحانه وتعالي كما يظن البعض، بل إن هذا البلاء دليل علي حب الله
للعبد. فقد قال أحد الصالحين: 'إن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فيمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط'.
والدليل
علي ذلك أن أكثر وأشد الناس بلاء هم الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل،
فالرجل
يبتلي علي قدره دينه، فإن كان في دينه
صلابة اشتد بلاؤه وإن كان في دينه
رقة ابتلي علي قدر دينه.
. فما يبرح البلاء بالعبد حتي يتركه يمشي علي
الأرض وما
عليه خطيئة فقد قال صلي الله عليه وسلم: 'ما من عبد يصرع صرعة من مرض إلا بعثه الله منها طاهرا'.
ويضيف 'إلا أن الابتلاء لا يكون في المحن
فقط والمصائب، بل يكون أيضا
في النعم، فالمال نعمة لكنه في الوقت
نفسه فتنة. الولد نعمة لكنه فتنة.
كذلك الصحة والجمال وسائر النعم التي ينعم بها الله علي عباده'
والسؤال الآن: 'كيف السبيل إلي معرفة
إن كانت النعم التي منحها الله إيانا نعمة بالفعل أم ابتلاء من الله سبحانه أراد به أن
يختبر قوة إيماننا بها؟'
والإجابة: 'إن كان استخدامك للنعمة في طاعة الله عز وجل يكون ما رزقت به نعمة بالفعل ومنحة من الله ومكافأة علي
طاعتك له،
وإن كان استخدامك لهذه النعمة في غير طاعة الله تصبح هذه النعمة بلاء لأنك أخفقت في استخدامها فيما يرضي
الله،
كذلك الحال إذا ازددت بهذه النعمة تواضعا واقترابا من الله
وسخرت هذه النعمة لإعانة المحتاج فإنك تكون نجحت في
الامتحان الإلهي، وإن
زادتك تكبرا وغلظة
في القلب ففي هذه الحالة تكون أخفقت.. فعليك بالنظر إلي
نفسك وإلي حالك التي
أنت عليها لتعرف ما أنت به من عطايا ونعم آلهية نعمة
أم إبتلاء من المولي عز وجل'.
وعلينا أن نتذكر الحديث الشريف الذي
يقول
: عجبا لأمر المؤمن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلاالمؤمن إن أصابته
سراء
شكر فكان خيرا له، وإن اصابته ضراء صبرفكان خيرا له..
فعلينا أن نشكر
الله في جميع الأحوال ولتعلم أن ما أصابك لم يكن
ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك'.
ولنتخذ من الأنبياء والصالحين قدوة لنا فرسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم عاني إيذاء قريش .
وسجن
الإمام أحمد بن حنبل وعذب في سجنه وجلد فصار إمام السنة.. وحبس الإمام ابن
تيمية فأخرج من محبسه علما جما..
ووضع الإمام الفقيه 'السرخسي' في قعر بئر
معطلة فأخرج عشرين مجلدا في الفقه.. ومرض بن الأثير وأصبح قعيدا فصنف
'جامع الأصول' و'النهاية' وهما من أشهر وأوثق كتب الحديث.. ونفي بن الجوزي
من بغداد فجود 'القراءات السبع'
وأصابت حمي الموت مالك بن الريب من أبرع
شعراء الدولة العباسية فكتب
أروع قصائده التي تعدل دواوين شعراء الدولة
العباسية، ومات أبناء ابي ذؤيب الهذلي فرثاهم بإلياذته التي
أدمع لها
الدهر وأصبحت علامة ناصعة في جبين التاريخ..
فعلينا أن نتذكر
قول الله عز وجل '((وعسي أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسي أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم
وأنتم لا تعلمون')))