[b]
الحمامة والثعلب ومالك الحزين (وهو مثل الذي يرى الرأي لغيره، ولا يراه لنفسه).
زعموا أن حمامة كانت تُفرخ في رأس نخلة طويلة، ذاهبة في السماء، فكانت الحمامة تشرع في
نقل العش إلى رأس تلك النخلة، فلا يُمكنها ما تنقل من العش، وتجعله تحت البيض إلا بعد شدة
وتعب ومشقة، لطول النخلة وسحقها(1)، فإذا فرغت من النقل باضت ثم حضنت بيضها، فإذا فقست(
2) وأدرك فراخها(3) جاءها ثعلب قد تعهّد ذلك منها لوقت قد علمه، ريثما ينهض فراخها، فيقف
بأصل النخلة فيصيح بها ويتوعدها أن يرقى إليها، أو تلقي إليه فراخها، فتلقيها إليه.
فبينما هي ذات يوم، وقد أدرك لها فرخان، إذ أقبل مالك الحزين(5) فوقع على النخلة، فلما
رأى الحمامة كئيبة حزينة شديدة الهم، قال لها:
- يا حمامة، مالي أراك كاسفة البال سيئة الحال؟
فقالت له: يا مالك الحزين، إن ثعلباً دُهيتُ به(6) كلما كان لي فرخان، جاءني يتهددني ويصيح
في أصل النخلة، فأفرق منه(7) فأطرح إليه فراخي.
قال لها مالك الحزين:
- إذا أتاك ليفعل ما تقولين فقولي له: لا أُلقي إليك فرخيّ، فارْقَ إليّ وغرّرْ بنفسك(8)، فإذا
فعلت ذلك وأكلت فرخيّ، طرتُ عنك ونجوت بنفسي.
فلما علّمها مالك الحزين هذه الحيلة، طار فوقع على شاطئ نهر، وأقبل الثعلب في الوقت الذي
عرف إدراك فرخيها، فوقف تحت النخلة ثم صاح، كما كان يفعل. فأجابته الحمامة بما علّمها
مالك الحزين. فقال لها:
- أخبريني من علّمك هذا؟
قالت: علّمني مالك الحزين.
فتوجّه الثعلب حتى أتى مالكاً الحزين، على شاطئ النهر فوجده واقفاً، فقال له الثعلب:
يا مالك الحزين، إذا أتتك الريح عن يمينك فأن تجعل رأسك؟
قال: عن شمالي.
قال: فإذا أتتك عن شمالك، فأين تجعل رأسك؟
قال: أجعله عن يميني أو خلفي.
قال: فإذا أتتك الريح من كل مكان وكل ناحية، فأين تجعله؟
قال: تحت جناحيّ.
قال: وكيف تستطيع أن تجعله تحت جناحيك؟ ما أراه يتهيأ لك(9).
قال: بلى.
قال: فأرني كيف تصنع؟ فلعمري، يا معشر الطير، لقد فضّلكن الله علينا! إنكنّ تدرين في ساعة
واحدة، مثل ما ندري في سنة، وتبلُغن مالا نبلغ، وتُدخلن رؤوسكنّ تحت أجنحتكنّ من البرد
والريح، فهنيئاً لكّ، فأرني كيف تصنع؟
فأدخل الطائر رأسه تحت جناحيه، فوثب عليه الثعلب مكانه، فأخذه، فهمزه همزة دقّ فيها عنقه(10) ثم قال:
- يا عدو نفسه، ترى الرأي للحمامة، وتعلّمها الحيلة لنفسها، وتعجزُ عن ذلك لنفسك، حتى يتمكن منك عدوّك؟
ثم قتله وأكله(11).
من كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع.....
الحمامة والثعلب ومالك الحزين (وهو مثل الذي يرى الرأي لغيره، ولا يراه لنفسه).
زعموا أن حمامة كانت تُفرخ في رأس نخلة طويلة، ذاهبة في السماء، فكانت الحمامة تشرع في
نقل العش إلى رأس تلك النخلة، فلا يُمكنها ما تنقل من العش، وتجعله تحت البيض إلا بعد شدة
وتعب ومشقة، لطول النخلة وسحقها(1)، فإذا فرغت من النقل باضت ثم حضنت بيضها، فإذا فقست(
2) وأدرك فراخها(3) جاءها ثعلب قد تعهّد ذلك منها لوقت قد علمه، ريثما ينهض فراخها، فيقف
بأصل النخلة فيصيح بها ويتوعدها أن يرقى إليها، أو تلقي إليه فراخها، فتلقيها إليه.
فبينما هي ذات يوم، وقد أدرك لها فرخان، إذ أقبل مالك الحزين(5) فوقع على النخلة، فلما
رأى الحمامة كئيبة حزينة شديدة الهم، قال لها:
- يا حمامة، مالي أراك كاسفة البال سيئة الحال؟
فقالت له: يا مالك الحزين، إن ثعلباً دُهيتُ به(6) كلما كان لي فرخان، جاءني يتهددني ويصيح
في أصل النخلة، فأفرق منه(7) فأطرح إليه فراخي.
قال لها مالك الحزين:
- إذا أتاك ليفعل ما تقولين فقولي له: لا أُلقي إليك فرخيّ، فارْقَ إليّ وغرّرْ بنفسك(8)، فإذا
فعلت ذلك وأكلت فرخيّ، طرتُ عنك ونجوت بنفسي.
فلما علّمها مالك الحزين هذه الحيلة، طار فوقع على شاطئ نهر، وأقبل الثعلب في الوقت الذي
عرف إدراك فرخيها، فوقف تحت النخلة ثم صاح، كما كان يفعل. فأجابته الحمامة بما علّمها
مالك الحزين. فقال لها:
- أخبريني من علّمك هذا؟
قالت: علّمني مالك الحزين.
فتوجّه الثعلب حتى أتى مالكاً الحزين، على شاطئ النهر فوجده واقفاً، فقال له الثعلب:
يا مالك الحزين، إذا أتتك الريح عن يمينك فأن تجعل رأسك؟
قال: عن شمالي.
قال: فإذا أتتك عن شمالك، فأين تجعل رأسك؟
قال: أجعله عن يميني أو خلفي.
قال: فإذا أتتك الريح من كل مكان وكل ناحية، فأين تجعله؟
قال: تحت جناحيّ.
قال: وكيف تستطيع أن تجعله تحت جناحيك؟ ما أراه يتهيأ لك(9).
قال: بلى.
قال: فأرني كيف تصنع؟ فلعمري، يا معشر الطير، لقد فضّلكن الله علينا! إنكنّ تدرين في ساعة
واحدة، مثل ما ندري في سنة، وتبلُغن مالا نبلغ، وتُدخلن رؤوسكنّ تحت أجنحتكنّ من البرد
والريح، فهنيئاً لكّ، فأرني كيف تصنع؟
فأدخل الطائر رأسه تحت جناحيه، فوثب عليه الثعلب مكانه، فأخذه، فهمزه همزة دقّ فيها عنقه(10) ثم قال:
- يا عدو نفسه، ترى الرأي للحمامة، وتعلّمها الحيلة لنفسها، وتعجزُ عن ذلك لنفسك، حتى يتمكن منك عدوّك؟
ثم قتله وأكله(11).
من كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع.....