من طرف عبدالله السعيد 18/7/2010, 4:38 pm
عن أبي ذر جندب بن جنادة ، و أبي عبد الرحمن معاذ بِن جبل رضي الله عنهما، عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( اتق الله حيثما
كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن ) . رواه الترمذي وقال: حديث حسن .
الشرح
التقوى هي سفينة النجاة ، ومفتاح كل خير
، كيف لا ؟ وهي الغاية العظمى ، والمقصد الأسمى من العبادة ؟ ، إنها
محاسبة دائمة للنفس ، وخشية مستمرة لله ، وحذر من أمواج الشهوات والشبهات
التي تعيق من أراد السير إلى ربه ، إنها الخوف من الجليل ، والعمل بالتنزيل
، والقناعة بالقليل ، والاستعدادُ ليوم الرحيل .
من هنا كانت
التقوى هي وصية الله للأولين والآخرين من خلقه ، قال تعالى : { ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا
الله } ( النساء : 131 ) ، وهي وصية النبي صلى الله عليه وسلم
لجميع أمته ، ووصية السلف بعضهم لبعضهم ، فلا عجب إذا أن يبتدأ بها رسول
الله صلى الله عليه وسلم نصيحته ل معاذ بن جبل
و أبي ذر رضي الله عنهما .
والتقوى
ليست كلمة تقال ، أو شعاراً يرفع ، بل هي منهج حياة ، يترفّع فيه المؤمن عن
لذائذ الدنيا الفانية ، ويجتهد فيه بالمسابقة في ميادين الطاعة ، ويبتعد
عن المعاصي والموبقات ، وقد جسد أبي بن كعب
رضي الله عنه هذا المعنى لما سئل عن التقوى ؟ فقال : " هل أخذت طريقا ذا
شوك ؟ قال : نعم ، قال : فكيف صنعت؟ قال : إذا رأيت الشوك عزلت عنه أو
جاوزته أو قصرت عنه ، قال : ذاك التقوى " وقد أخذ
ابن المعتز رحمه الله هذا المعنى ، وصاغه بأبيات بديعة من الشعر
فقال :
خل الذنوب
صغيـــرها وكبيــرها ذاك التقـى
واصنع كمـــاش
فوق أر ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقـــرن
صغيــرة إن الجبـال من الحصى
ومن تمام التقوى ، أن
يترك العبد ما لا بأس به ، خشية أن يقع في الحرام ، ويشهد لذلك قول النبي
صلى الله عليه وسلم : ( فمن اتقى الشبهات ، فقد استبرأ
لدينه وعرضه ) رواه مسلم ، وفي هذا
المعنى يقول أبو الدرداء رضي الله عنه :
"تمام التقوى ، أن يتقي الله العبد ، حتى يتقيه من مثقال ذرة ، وحتى يترك
بعض ما يرى أنه حلال ، خشية أن يكون حراما ، فيكون حجابا بينه وبين الحرام ،
فإن الله قد بيّن للعباد الذي يصيرهم إليه فقال : {
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } (
الزلزلة : 7 - 8 ) " ، فلا تحقرن شيئا من الخير أن تفعله ، ولا شيئا من
الشر أن تتقيه .
وفي قوله صلى الله عليه وسلم :
( اتق الله حيثما كنت ) تنبيه للمؤمن على ملازمة التقوى في كل
أحواله ، انطلاقاً من استشعاره لمراقبة الله له في كل حركاته وسكناته ،
وسره وجهره ، وفي قوله صلى الله عليه وسلم : ( اتق
الله حيثما كنت ) إشارة إلى حقيقة التقوى ، وأنها خشية الله في
السرّ والعلن ، وحيث كان الإنسان أو صار ، فمن خشي الله أمام الناس فحسب
فليس بتقي ، وقد قال تعالى في وصف عباده المؤمنين : {
من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب ، ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود }
( ق : 33 - 34 ) .
وقد يظن ظان أن المتقي معصوم من الزلل ، وهذا
خطأ في التصور ؛ فإن المتقي قد تعتريه الغفلة ، فتقع منه المعصية ، أو يحصل
منه التفريط في الطاعة ، وهذه هي طبيعة البشر المجبولة على الضعف ، ولكن
المتقي يختلف عن غيره بأنه إذا تعثّرت به قدمه ، بادر بالتوبة إلى ربه ،
والاستغفار من ذنبه ، ولم يكتف بذلك ، بل يتبع التوبة بارتياد ميادين
الطاعة ، والإكثار من الأعمال الصالحة ، كما أمره ربه في قوله : { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن
السيئات ذلك ذكرى للذاكرين } ( هود : 114 ) ومن هنا قال النبي صلى
الله عليه وسلم : ( وأتبع السيئة الحسنة تمحها )
.
ولئن كانت التقوى صلة مع الله تبارك وتعالى ، وتقرّبا إليه ، فهي
أيضا إحسان إلى الخلق ، وطيبة في التعامل ، وإعطاء كل ذي حق حقه ، وهكذا
يظهر لنا التكامل والتناسق في القيم الإيمانية ، فإن الأخلاق الحميدة رافد
من روافد التقوى ، وشعبة من شعب الإيمان .
وللأخلاق الفاضلة مكانة
عظيمة في شريعتنا ، فإنها تثقل ميزان العبد يوم الحساب ، ويبلغ بها درجة
الصائم القائم ، وهو سبب رئيس في دخول الجنة ؛ فإن النبي صلى الله عليه
وسلم لما سئل عن أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ ، قال : (
تقوى الله ، وحسن الخلق ) رواه أحمد
.
وإذا عرفنا ذلك ، فإن هناك وسائل تعين العبد على التخلق بالأخلاق
الحسنة ، أعلاها : التأمل في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من
الأنبياء ، لاسيما وأنهم أعلى الناس خلقا ، وأوفرهم أدبا ، فإذا أراد
المسلم التحلي بالصبر ، قرأ قصة نبي الله يوسف
عليه السلام ، وإذا أراد التخلّق بالحلم ، نظر إلى حلم رسول الله صلى الله
عليه وسلم مع قومه ، وهكذا ينهل من أخلاق الأنبياء ، ويتعلّم منهم شمائل
الخير كلها .
وبعد : فقد تبيّن لنا من خلال هذا الحديث معاني التقوى
وأحوالها ، كما تبيّن لنا أيضا أن الإسلام يقبل من العاصي توبته ، ولا
يطرده من رحمة الله ، وظهرت لنا معالم الخلق الحسن وأهميته ، فجدير بنا أن
نعمل بهذه الوصايا الثلاث ، نسأل الله تعالى أن يجعلنا من عباده المتقين،
آمين.