لم يأخذ الاهتمام بظاهرة "جيل ما بعد الصحوة" المتناميّة محلياً بصورة جليّة واضحة مكانته التي يستحقها لدى النخب الثقافيّة المُستقلة أو الأوساط الشرعيّة الفاعلة في المملكة العربيّة السعوديّة، فعلى الرغم من أهميّة هذه المرحلة الانتقالية التي أخذت تتشكّل فيها معالم التصوّر لدى "جيل ما بعد الصحوة" والتحولات المهمّة المنبثقة عنه إلا أنها لم تستوف حقها من الدراسة والبحث، ورصد واقعها واستشراف مستقبلها بشقّيه المرحلي القريب أو البعيد، ومرد ذلك فيما يظهر لي إلى قلة مراكز بحثيّة النوعيّة المعنيّة بدراسة مثل هذه الظواهر دراسة علميّة موضوعيّة مبنيّة على استقراء الواقع وتتبّعه واستعراض مسيرة العمل الإسلامي العلمي أو الدعوي أو الخيري وتقييمه بتطبيق المعايير المتعبة في هذا النوع من الدراسات.
وبعيداً عن البحث في أسباب عدم الاهتمام بهذا النوع من الدراسات فهو ليس بموضوعنا حالياً مع أهمّيته في نفسه، إلا أنَّ "جيل ما بعد الصحوة" وحجم تأثيره، ومعالم فكره، وموارد ثقافته، ومصادر معلوماته، ودائرة اهتمامه، وتشكيل ولائه، وبلورة وعْيه، ومنظومة قيَمه، وغير ذلك من الأمور المهمة التي تتصل به يحتاج إلى قراءة فاحصة ومراجعة متأنية.
لفتت نظري قبل مدّة أثناء انشغالي الذهني بالتفكير في "جيل ما بعد الصحوة" مقاربة مهمّة قدّمها عرّاب الملف الإيراني في الصحافة الغربيّة الكاتب الأمريكي "كينيث تيمرمان Kenneth Timmerman " مؤلف الكتاب المشهور "العد التنازلي للأزمة: المواجهة النووية القادمة مع إيران countdown to crisis:the coming nuclear showdown with Iran " - ونُشرت حينها في الصحافة الأمريكية ذكر فيها أن ما بين 60% إلى 70% من مجموع الشعب الإيراني نشأ بعد ثورة الخميني، أي أنهم جميعاً من "جيل ما بعد الثورة"، وهو يرى بموجب أن من الممكن التعويل على هذه الشريحة الآخذة في الاتساع والتمدد لإعادة بناء المجتمع الإيراني وُفق المنظور والرؤية الغربيّة، ولخلخلة نظام الحكم الديني في إيران الأمر الذي يمهّد لإحداث تغيير داخليّ جذري، لاسيّما أن "جيل ما بعد الثورة" لا ينتمي إلى معمّمي الثورة برابط الولاء المطلق، فلم يحضروا مآثر الثورة، ولا شاركوا فيها، ولهذا أصبحوا من أهم العوامل التي استخدمتها الولاية المتحدة الأمريكية لإحداث الهزّة داخل المجتمع الإيراني، ومحاولة تنحية التيّار المحافظ، وقد نجحوا إلى حد بعيد في ذلك.
هذا الذي أشار إليه "كينيث تيمرمان Kenneth Timmerman " واهتم به الاهتمام البالغ يمكن تنزيله على واقع الصحوة لدينا لكن مع فرق في الدرجة لا في النوع، إذ نشأ لدينا جيل لم يعش التفاصيل الكاملة لحالة الصحوة الإسلاميّة، ولا أدرك رموزها الكبار، أو تنعّم بمنجزاتها ولم يتدرّج في محاضنها بل شبَّ عن الطوق، وقد أدرك ثالبيها ووقف على طوفان من النقائص التي نيطت بالصحوة وأهلها، فهو بذلك منبتُّ الصلة عنها ويعتريه حالة من اليأس والإحباط الشديد المستولي على تفكيره لمستقبل الصحوة، ويشعر بنوع من الاستقلالية والقدرة على اختطاط طريق جديد، فضلاً عن شعوره بشيء من اليأس لعدم قدرة الصحوة على مجاراة واقع الحياة الذي اختار طريقاً مجافياً للمحافظة والتمسك.
نحن إذاً في عهد جديد تعدد فيه الفاعلون، وتنوّعت فيه التوجهات بمناهجها المتخلفة وأدواتها الجديدة، ولم تعد الصحوة برموزها الحاليين ومنجزاتها الباهرة ومكتسباتها الضخمة اللاعب الوحيد على الساحة المحليّة ولا المتفرّدة بقيادة المشهد الثقافي.
ثمّة عوامل مهمّة أدّت إلى تسارع النشأة الأولى لجيل ما بعد الصحوة، واتساع المساحة الوجودية له.
(2)
لو تأمّلنا في الأدوات المعرفيّة العلميّة والتراثيّة المشكّلة لجيل الصحوة والتي أورثهم إياها قادة ذلك الجيل وملهموه من العلماء والدعاة والمفكّرين فسوف نلحظ بوضوح أنها بدأت تنفصم عن الأدوات الجديدة التي أخذت تستحوذ على اهتمام متزايد من قبل "جيل ما بعد الصحوة"، وتبعاً لذلك تباينت أسئلة الجيلين، وتناءت الاهتمامات، فبدأنا نلحظ العناية المرتفعة بالمؤلفات الفكرية وبالقراءة المهاجرة وإشباع النقص الشعوري والعاطفي، والجفاف الروحي بالقراءة الحادة والمركّزة في الأدب القصصي، وتتبع الروايات وأخذت الأفكار الفلسفيّة والحداثيّة بكافة تفاصيلها، وتعددها واختلاف مذاهبها، والمشاريع النقديّة بروادها ومؤلفيها، والمباحث الحقوقية والوعْي المدني، وقضايا المواطنة وشؤون القانون، والاهتمام بتطوير الذات وبرامج التفكير تحتل مركزها في دائرة اهتمام هذا الجيل مع تفاوت في درجة الاهتمام، الأمر الذي أدّى إلى ضمور في العناية بالأفكار القديمة أو المذاهب السابقة ناهيك عن قصور في تتبع الأحكام الشرعيّة التفصيليّة من فروع الفقه والحديث والتفسير، والإعراض عن المتون العلميّة وضبط الأصول الكليّة، وهو ما تمخّض عنه البحث عن رموز آخرين يدركون هذه الثقافات البرّاقة بأدواتها الجديدة ويعون مباحثها، وبذلك ضعف التواصل مع علماء الصحوة ورموزها الموجودين، وتفاوتت أيضاً معايير التقييم للشخصيات العلميّة بحسب عنايتها بالأدوات الجديدة وقدرتها على استيعابها وإشباع فضول السائلين عنها والباحثين فيها.
ولم يكن الأمر مقتصراً على التباين في الأدوات المعرفيّة فحسب، بل زاحمه أمر آخر مهم وهو السيل الهادر والكم الكبير من المؤلفات والكتب التي كانت حيناً من الدهر مقصورة على فئة قليلة جداً من الناس ولم تكن متاحة لعامة المطالعين، وأخذت المعلومات المجرّدة تنهال على "جيل ما بعد الصحوة" بكثافة عالية وغزارة شديدة، فتسهلت سبل الوصول للمعلومة وتنوعت مصادرها بعد الانفتاح التقني من خلال شبكة الإنترنت وتطوّر وسائل الاتصال، الأمر الذي أسهم في تلاشي القدرات العلميّة الذاتيّة والإصابة بالكسل المعرفي اتكالاً على وفرة المخزون العلمي التقني، والوصول إلى المعلومة البحثيّة بيسر وسهولة، كما ساهم ذلك مساهمة مباشرة في تقليص الارتباط بالجهات العلميّة سواءً كانوا أفراداً أو مؤسسات، فرأينا تعويل الكثير من الشباب على المنتديات الإلكترونيّة والمواقع الأخرى في الحصول على المعلومة أو بناء الثقافة، وبذلك ازدادت الهوّة بين هؤلاء وبين العلماء والمربّين، ولا ريب أن الأعراض الانسحابيّة المتوقعة والانكفاء على الذات والاستغراق في البحث التجزيئي لأفراد المسائل وغيرها من الأمور التي قد تنشأ عن كثرة التعاطي مع هذه المنافذ المعرفيّة، وإدمان النظر فيها سوف تؤثر سلباً على الشخصيّة العلميّة لأفراد "جيل ما بعد الصحوة".
وأخطر ما في الأمر هنا أن المواقع والمنتديات وسيل المعلومات عزّز الشعور بالاستقلال المعرفي دون الرجوع إلى أهل المعرفة والعلم الذين سبروا أغوار المذاهب والمؤلفات، وفحصوا تلك المعلومات وكشفوا ما بها من الخلل إن وُجد، ولهذا صرنا نرى كثرة المتجرئين على العلماء وانتشار الأقوال الغريبة، كل ذلك لغلبة الاعتداد بالنفس والثقة بالذات.
وإذا كانت أجيال الصحوة تُراعي حق العلم الشرعي، وتعرف أقدار أهله وتلتزم القواعد المنهجيّة المتبعة لدى سلف الأمة، وتخضع لها وتجعل من فهم السلف وطريقة تعاملهم مع النصوص معياراً مرجعيّاً لآرائهم وأقوالهم وحكمهم على المذاهب فإن "جيل ما بعد الصحوة" قد تخلخلت عنده هذه المفاهيم، فرأينا من يعترض على اعتبار طريقة السلف أو فهمهم حكماً وفيصلاً، ويجعل النصوص الشرعيّة هي المعيار دون تحديد مرجعية حاكمة على تفسير هذه النصوص ليستدل بما شاء من النصوص على ما يريد من الأحكام ولو كان بطريقة استدلالية لم يقل بها أحد من المسلمين من قبلُ، فاهتزت مكانة السلف لدى هذا الجيل وهو يرى من يوعز إليهم بالانقضاض على ذلك التراث، وتجاوزه باعتباره آراءً مجرّدة لأناس خضعوا لسياق زمني معيّن وظروف وقتيّة اقتضت أن يقولوا ما قالوا، فحصل للشاب الناشئ نفرة، وتردد في قبول مذهب السلف وتقريره وطريقة فهمه للنصوص الشرعيّة، وتأثرت صورتهم النقيّة لكثرة ما يقرؤون في كلام بعض الباحثين من اللغط حول السلف ودس النقائص في منهجهم بطريقة ظاهرها الرحمة والإنصاف الموضوعيّة، وباطنها العذاب والانتقاص والهدم، ولزم عن هذا كلّه سهولة الخروج عن إجماع أهل العلم والالتفاف على تقريراتهم وطريقة معالجتهم للمسائل الشرعيّة.
وهذا الزخم المعلوماتي الكبير أدّى أيضاً إلى انحسار دور العلم الذاتي وأثره في بناء الشخصيّة العلميّة المعروفة بسلامة المنهج وحسن الاستدلال والارتباط بالأصول الكليّة للمناهج الشرعيّة المنضبطة، فبتنا نرى الاهتمام بأنواع من الكتابة الثقافية أو الصحفيّة أو النقديّة أو التوصيفيّة المبنيّة على حضور الفكرة وجمع المادة المنثورة لا على استدعاء الكم العلمي التأصيلي الذاتي.
كما أن الجيل الجديد من مواقع الإنترنت "web2.0" والذي يترك تحديد المحتوى للمتصفحين والمشاركين دون تدخل أو توجيه من أصحابها، ويمنحهم مساحة واسعة للكتابة والتعليق والتعبير عن وجهات النظر وتقييمها ودعم الهواتف النقالة لها والدخول من خلالها بيسر وسهولة ومرونة شديدة وإمكانية الربط بينهما مما يجعل المتصفّح والمشارك حاضراً على مدار الساعة في هذا النوع من المواقع، إضافةً إلى التقنيات المتجددة للحواسيب وللهواتف النقّالة والتحوّل النّوعي المبهر للتقدّم التقنّي الذي يساهم في ربط الشخص بالعالم وبما يحدث فيه من الأمور السياسية والثقافيّة والفنيّة بيسر وسهولة وسرعة عالية، كل ذلك سوف يكون له دور مهم في تكريس الثقة بالنفس وتعزيز البنية الثقافية لدى "جيل ما بعد الصحوة" وتدوير الأفكار بينهم وزيادة القدرة التواصليّة وتكوين الشبكات الاجتماعيّة ذات الاهتمام المشترك وهذه جميعها عوامل تزيد من الدافعية نحو الاستقلال والتفرّد وإثبات الذات، ويأتي على رأس الجيل الثاني من مواقع الإنترنت ما بات يُعرف بالشبكات الاجتماعيّة مثل "Facebook" و"Twitter" و"YouTube" و"Blogger" وغيرها، ومن عيوب هذا الجيل من المواقع أنها تخلق فرصاً واضحة للتزيّد الثقافي دون الارتواء من المعارف السليمة أو التشبّع بالعلوم المنضبطة، فالمواقع قديماً كانت تحرص على إتاحة المعلومات الموثوقة والصحيحة إبراءً لذمّتها وصيانة لزائريها، أما الجيل الجديد من المواقع فلا يعتني بهذا أصلاً.
هذا العامل كان له دور فاعل في بناء الثقة النفسيّة العالية لدى "جيل ما بعد الصحوة"، فأخذ يختط لنفسه طريقاً متفرّداً، والملهمون الجدد لهم يعزّزون فيهم هذا الجانب ويؤكدون عليه، فيحثّونهم على نزعة الاستقلال الثقافي والمعرفي والتعود على البحث المستقل، وحضور الشخصيّة وعدم تغييب العقل أو التأثر بسطوة الآخرين وسلطتهم، ولهذا فإن الآراء المعرفيّة الشاذة أو كثرة الخروج عن المدارس العلميّة المتبعة والمناهج البحثيّة المعروفة سوف تكون سمة ظاهرة في "جيل ما بعد الصحوة" وهو ما يجعلنا نتهيّأ نفسيّاً لتقبل الآراء الشاذة والأقوال الغريبة.
إنَّ نظرة فاحصة في المحاضن التي نشأ فيها جيل الصحوة بمراحله المختلفة ومقارنتها بنظيراتها لدى "جيل ما بعد الصحوة" سوف تكشف لنا مدى التربية العميقة الراسخة والطبائع الزكيّة والخصال الحميدة التي حصّلتها أجيال الصحوة، فقد تربّوا في أكناف العلماء الربانيين المتجردين من حظوظ النفس أو الكادحين في جمع الدنيا، ولحقوا بحلق العلم، وحفظوا القرآن في الجوامع، وعمروا بيوت الله، وتشرّبوا متون العلم، وضبطوا أبواب المسائل، واعتنوا بالتحقيق والبحث العلمي الفائق، ولم يقتصروا على العلم فحسب بل شابوه بالعمل، فخرجوا أفواجاً تلو أفواج لواجب الدعوة إلى الله في القرى والمدن والأمصار وعامة بلاد الدنيا، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وشاركوا بالأساليب المشروعة في مناصحة ولاة الأمر وزيارتهم والانفتاح عليهم، وناضلوا في سبيل الفضيلة، وانتشار القيم نضالاً سلميّاً رفيعاً، ثم لمّا دعا داعي الجهاد الشرعي، ذروة سنام الإسلام، كانوا من أوائل المسارعين إلى جبهات القتال في أفغانستان ثم البوسنة ثم الشيشان، كلّما سمعوا فزعة أو هيعة طاروا إليها يبتغون القتل مظانّه، فبذلوا مهجهم وأرواحهم في سبيل الله، وامتزجت نفوسهم بقيم العطاء والبذل والعمل الخيري فقد عرفتهم أفريقيا بأدغالها وغاباتها، وحفظت تفاصيل وجوههم آسيا بمختلف مناطقها وتنائي ديارها، وهكذا فقد مرت تجربة الصحوة بعدد من المحاضن المهمة، وتمرّست على أنواع متعددة من القربات والطاعات النفسيّ منها والجماعي، والخلاصة أن أجيال الصحوة المتعاقبة قرنت بين العلم والعمل، وكان للتضحية حضور كبير في حياتهم تغلبوا من خلالها على جانب الأثرة والأنانيّة وحظوظ النفس.
غير أن أغلب هذه المحاضن المهمة لا يكاد يتهيأ لجيل ما بعد الصحوة إما لندرته وقلّته أو لانعدامه أو لانصرافهم عنها وانشغالهم بأشياء أخرى، ولهذا سوف يظهر الفرق واضحاً جليّا بين قدرة الجيلين على التعاطي مع الواقع، ومع الأزمات، ومع الشدائد والمدلهمّات.
(3)
يؤكد الواقع أن انخرام جيل العلماء المؤثرين أحدث فراغاً سلبيّاً ساهم مساهمة مباشرةً في استهلال هذا الظهور لجيل ما بعد الصحوة، فقد كان لأولئك العلماء دور مهم في السيطرة على النفوس وقيادتها، وتهذيب نزعاتها وتحديد مساراتها الثقافية، وتصفية الأفكار الواردة إليها من خارج المنظومة وترشيدها وضبط المناهج، كما أنهم كانوا يتحلون بعدد من الخصائص الشخصية القياديّة المهمة من سيلان الذهن، وفرط الذكاء، وسعة المعرفة، وحضور الحجة، والتشبع بالآثار السلفيّة، والعزة بالانتساب إلى الشرع، والقوّة في الحق والاحتساب في نشر العلم والدعوة والتجرد لله - تعالى -، وقلة العناية بالحياة الدنيا، والإقبال على الآخرة بنفس مطمئنة، والارتقاء في مقامات العبوديّة الصادقة مع ارتباط محكم نادر جمعوا فيه بين حب الحكام من ولاة الأمر لهم وتوقيرهم، وتقدير العامة من الناس لهم وقبول أحكامهم وفتاويهم، وهذا مما لم يتهيّأ في البقية من علماء الجيل الحاضر فظهر الفرق الكبير بين الجيلين.
وغياب العلماء الحسّي أو المعنوي له أثر كبير في التأثير على الأفراد والحركات، وقد قص الله - تعالى - في كتابه ما حصل من قوم نبيّه موسى - عليه السلام - حين غاب عنهم لميقات ربه فاتخذوا العجل من بعده وهم ظالمون، وأحدث فيهم السامري شرخاً عقديّاً خطيراً مع أن غياب موسى - عليه السلام - كان غياباً مؤقتاً بأمر من ربه - سبحانه وتعالى - وخلفه في قومه نبيّ الله أخوه هارون، وأخرج العقيلي في ضعفائه عن محمد بن سليمان الأصفهاني قال: لما مات إبراهيم يعني النخعي اجتمع خمسة من أهل الكوفة فيهم عمر بن قيس الماصر وأبو حنيفة، فجمعوا أربعين ألف درهم وجاؤوا بها إلى الحكم بن عتيبة فقالوا: إنا قد جمعنا أربعين ألف درهم نأتيك بها، وتكون رئيسنا في الإرجاء، فأبى الحكم، فأتوا حماد بن أبي سليمان فقالوا له، فأجابهم وأخذ أربعين ألف درهم.
وهذه القصة فيها عبر مهمة منها تربّص أهل المذاهب المخالفة موت العلماء الربانيين ليخلو لهم الجو فينشروا آراءهم، وقد رأينا بأم أعيننا شيئاً من ذلك بموت العالمين الربّانيين عبد العزيز بن باز، ومحمد بن عثيمين فانبعث على إثر موتهم فئام من دعاة العلم تنكر منهم أكثر مما تعرف، وقد كانوا في حياة الشيخين نسياً منسياً، وقد كان إبراهيم النخعي شديداً على أهل الإرجاء، ولهذا كانوا ينتظرون وفاته ويتحيّنون موته ويعدّون العدة لما يفعلونه بعد ذلك، قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي في التنكيل 1/188-189: "كان إبراهيم شديداً على المرجئة وفي ترجمته من طبقات ابن سعد عدة حكايات في ذلك... فكأنهم كانوا مقموعين في حياته فلما مات خلا لهم الجو واستعانوا بالمال"، وفيها من العبر أن أهل الآراء المخالفة يستعينون بالمال وبما أمكنهم الاستعانة به لنشر مذاهبهم وآرائهم، وقد لا يتصور هذا كثيرٌ من أهل الحقِّ لكمال نفوسهم وسلامة مقاصدهم ومجافاتهم للمطامع وحظوظ النفس فيعتقدون بُعْد حصوله إلا أنه موجود معروف، وهذه القصة وأمثالها دليل عليه، وفي القصة أن أصحاب الآراء المخالفة يؤثرون الكمون تارة على النشاط والحركة حتى لا تنقرض مذاهبهم بقوّة ردود العلماء عليهم، وحتى ترسخ أفكارهم مع مرور الوقت ويفنى مناوئوهم، فلا يظنن ظان أن فترة النشاط وخفوته لدى أصحاب تلك الآراء مرده إلى تبدل القناعات أو تحول الآراء، فإن لهم في هذه الفترة والخفوت مآرب شتى، ومن العبر في هذه القصّة الكشف عن المقاصد المخالفة لبعض أئمة المذاهب فإن قصد الدنيا ظاهر في مبتغي المال والباحث عن الرئاسة، وهذا خلاف ما عليه أهل التجرّد والإخلاص، وسلامة المقصد ممن يريد الله والدار الآخرة.
(4)
ترتّب على فراغ الساحة لدينا من العلماء المؤثرين بروز اليسار بشقّيه الإسلامي والليبرالي، ومع بون ما بين هذين التوجّهين إلا أن ظهورهما وبروزهما كان في مدة متقاربة، واليسار الإسلامي بتوجهاته الداخلية الحقوقي الإصلاحي منها أو التنموي المدني أو العصراني أو التنويري أو الفقه التيسيري وغيرها قد أخذ مساحة واضحة في المنظومة الثقافية داخل النسيج المكون لجيل ما بعد الصحوة، واستقطب عدداً مهمّاً من الأنصار والمؤيدين مستفيداً من المساحات الكبيرة التي أمنتها لهم وسائل الإعلام المقروءة والمرئية، ولو تأمّلنا في الأفراد المؤثرين في توجه اليسار الإسلامي المحلي لوجدنا أن كثيراً من أصحاب التوجهات الإصلاحية السابقة يأتي في مقدمتهم.
وجد التوجّه اليساري الإسلامي هامشاً واضحاً للنشاط الحركي والتغلغل الاجتماعي والاختراق المعرفي، فنما نموّاً سريعاً وأصبح ملهماً في جزء منه لجيل ما بعد الصحوة، ولو دققنا النظر في مسار حركة يساريّة مشابهة سابقة لوجدنا أن تلك الحركة تحطمت أمواجها على صخرة الثبات وضعف مساحات الحركة أو النمو فلم تُحدث شرخاً أو تجد لها عمقاً مجتمعيّاً، وذلك ما حدث لعبد الله القصيمي، فإن القصيمي في بدايات تغيّره الفكري والذي لخّص القدر المهم منه في كتابه "هذه الأغلال" لم يكن يختلف كثيراً عن حركات اليسار الإسلامي، فالفرق بينهم فرق في درجة المواجهة والخروج لا في نوعها، لكن القصيمي لم يجد مساحات يستطيع من خلالها الحركة أو التبشير بهذه الرؤية الجديدة أو الاستحواذ على طائفة من الأنصار والأتباع مع حضوره المعرفي العلمي ومكانته عند العلماء وقوّته في نفسه آنذاك، وشدة عارضته وبراعة ملحظه، فقد واجه ثباتاً وممانعة شديدةً من العلماء وردوداً راسخة علميّة مؤصّلة من الداخل والخارج، ورفضاً اجتماعياً على كافة الأصعدة، وهو ما أدّاه لاحقاً إلى إعلان التمرّد العام على دين الله، وانتحاله للإلحاد نسأل الله السلامة والعافية.
ولو تأملنا جيّداً في المدة التي خرج فيها القصيمي لرأينا عدداً من الحركات اليسارية الناشطة المناوئة للتوجهات الشرعيّة كما هو الحال في الحركات القوميّة والماركسيّة والبعثيّة التي كانت تنشط في تلك الحقبة، ومع الفورة الحركية لتلك المجموعات وإفادتها من المناخ السياسي العام وقدرتها على الاختراق للمجتمع المحلّي إلا أنها لم تتجذّر فيه، ولم تترك لنفسها مساحة ولو هامشية، ولهذا تجاوزها الناس سريعاً وانقلب أصحابها عليها.
ومن الجدير بالملاحظة أن موجة الاستقطابات وحركات التحول لليسار بشقيه الإسلامي والليبرالي التي نعيش الآن فورتها كانت في السابق تأخذ طابعاً نمطيّا محدّداً فالشخص الذي يصاب بضعف في التديّن أو يتراخى عن مصاحبة الصالحين يؤثر الانزواء على نفسه، ويبتعد عن محيط رفقته معترفاً بتقصيره غارقاً في شهواته، غير أن هذا تغيّر جذريّاً مع ظهور اليسار الإسلامي المحلّي، فقد أصبحت ظاهرة التحوّل نوعاً من الثقافة الجديدة المشروعة، وأخذ أصحابها يبحثون لهم عن المسوّغات العلميّة لإثبات صحة التوجه، وسلامة المنهج وتبرير التغيّر السلوكي والمنهجي، فانتقل التحوّل من كونه انتكاسة ونكوصاً وشيئاً مرذولاً يستحي منه أصحابه وتنفر عنه النفوس ويستغرب له الناس إلى اعتباره حقّاً مشاعاً، وتنويراً يفتح لصاحبه أبواب الاقتيات والاسترزاق في الصحافة والإعلام، ويُصبح من وجهاء النّاس وأعيانهم.
ولا ريب أن بدايات عهد التحوّل شهدت حالات من الخروج العنيف لحق أصحابها من خلالها بأشد المناهج غلواً وتشدّداً، وسمعنا ببعض من ألحد منهم باطناً، لكن هذه التحوّلات المغالية قد تكون مفهومة ومستوعبة في المراحل الانتقاليّة ولربما انحسرت مع اتساع مساحة اليسار الإسلامي وتجذّره فسيجدون فيه ملاذاً لهم لاسيّما مع ضعف التأصيل الواضح لدى اليسار الليبرالي وعدم حضوره اجتماعيّاً فالانتماء إليه ضربٌ من الانتحار العلميِّ.
وطائفة من رموز اليسار الإسلامي المحلي استفاد من سابقته في الصحوة ومكانته العلميّة قبل التحوّل باعتباره شخصيّة جماهيريّة ذات حضور طاغ في أوساط المجتمع، فأكسبه ذلك مصداقيّة لدى كثير من الناس، ومكّنه من صنع دائرة تأثيرية واضحة ساهمت في حفظ مكانته ونشر أفكاره الجديدة، وبعضهم قدم نفسه على أنه من رحم الصحوة ومن أبنائها البررة، وأن خطابه متناغم مع أصول الصحوة ويرغب في تصحيح مسيرتها ما لحقها من الأخطاء، فلمّا كشف عن حقيقة توجّهه فإذا هو مباين لأصول الصحوة، وحاكم على منجزاتها بالنقض والإبطال.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام يحسن إيراده في الذين يخالفون توجهات أئمة المذاهب، ويحدثون التغيير بعدهم، وأنهم بهذا يناقضون أصول أئمتهم، ويخالفون طريقتهم حتى وإن انتسبوا إليهم ظاهراً إذ العبرة بحقيقة الحال وبظاهر الأقوال، قال ابن تيمية في كتاب الاستقامة 1/15: "الشافعي من أعظم الناس ذمّاً لأهل الكلام ولأهل التغيير، ونهياً عن ذلك وجعلاً له من البدعة الخارجة عن السنّة، ثم إن كثيراً من أصحابه عكسوا الأمر حتى جعلوا الكلام الذي ذمّه الشافعي هو السنة وأصول الدين الذي يجب اعتقاده وموالاة أهله، وجعلوا موجب الكتاب والسنة الذي مدحه الشافعي هو البدعة التي يعاقب أهلها!.. والإمام أحمد في أمره باتباع السنة ومعرفته بها ولزومه لها ونهيه عن البدع وذمه لها ولأهلها وعقوبته لأهلها بالحال التي لا تخفى، ثم إن كثيراً مما نص هو على أنه من البدع التي يُذم أهلُها صار بعض أتباعه يعتقد أنَّ ذلك من السنة! وأن الذي يُذم من خالف ذلك! ثم إن من أصحابه من جعل ما بدّعه الإمام أحمد هو السنة" انتهى كلامه.
وثمة من رموز اليسار الإسلامي الحاليين من كان حاذقاً في المعرفة والعلم بتخصصه الشرعي فجمع فيه فأوعى، وكان مضرباً للمثل في براعته وجودة فهمه وحسن ملحظه، فركب إليه النّاس من كل حدب وصوب يأخذون عنه العلم وعقدت له الدروس وطُبعت له الكتب فقضى القاصي والداني له بالعلم والمعرفة والنباهة، ثم لمّا ركب موجة اليسار الإسلامي ورؤس فيه انتحل عدداً من قضاياه الأبيّة على التأصيل وحاول التنظير لها فظهر للنّاس عجزه وبان خلله الواضح، ومن تكلّم في غير فنه وعلمه الذي يعرفه أتى بالعجائب، فجاهر بأقوال خالف فيها إجماع الأئمة وأتى بآراء غاية في النكارة والغرابة لا يأتي بمثلها صغار طلبة العلم المستجدّين، فإذا كان هذا حال العالم منهم وصاحب الفهم في الشريعة وقواعدها، فكيف بحال الفرد العادي الذي يأنس من نفسه عقلاً وفهماً فيركب الصعب والذلول ليخرج على الأمة بأقوال ما خطرت على بال غلاة المبتدعة السابقين!
أما اليسار الليبرالي فلم يقدم خطاباً تأصيلياً صريحاً يشفع له بالحضور المهيب، بل غلب على مخرجاته المهلهلةِ والسطحيّةِ الضعيفةِ الاستفزازُ للمجتمع ولعلومه المكوّنة لثقافته وعلى رأسها الأصول الشرعيّة والمعارف الدينيّة ومعاداة القيم والخروج عن الفضيلة، وتطبّع أصحابها بالنفعيّة والبحث عن المصلحة والضرب بتديّن المجتمع وثقافته عرض الحائط، ولهذا فإن دائرة تأثيره ضيقة جداً، ولا يكاد يلحق بهذا التوجّه أو ينتسب إلا من وجد فيه مصلحة ذاتيّة أو استدفأ الحضن الغربيَّ وتنعّم باحتوائه، ولولا استثمارهم للمزاج الغربي الذي يدعم هذه التوجهات ويؤيدها وإلا لما وجدوا موطئ قدم لهم وللفظتهم المجتمعات عن بكرة أبيها.
وتمر الأيام وتنقضي الليالي ويدعو دعاة الليبراليّة إلى شيء نُكُر، زاعمين فيه أن المجتمع المحلي قد أخذ المبادرة بالتوجه نحو الليبراليّة مؤيدين دعواهم ببعض المظاهر المنتشرة هنا وهناك وعلى رأسها البنوك والسفور وبعض مظاهر الاختلاط وغيرها، وهاهنا نحن بحاجة إلى أن نفرق بين الليبراليّة التي تُعد فكراً له قواعده ونظرياته ومنظومته، وبين بعض الممارسات الذاتيّة والسلوكيات الخاطئة التي تقع ضمن الإطار الفردي وتصنّفها الشريعة على أنها من المعاصي ذات الطابع الشهواني، سواءً كانت شهوة فرج أو شهوة مال أو شهوة منصب، فإنَّ النفوس تحب الميل إلى الملذات، وتؤثر في جوانب عدة الحياةَ الدنيا فتعصي الله أو تمارس سلوكياتٍ تتعارض مع طابع الديانة فيها لكنّها في الوقت ذاتها تعترف بالخطأ والتقصير وتُلهب ذاتها بسياط التوبيخ والتقريع واللوم، فهذا الثنائية أو الازدواجيّة هي من صميم النفس البشرية ومن طبيعتها وليست شذوذاً أو ازدواجية نفاقيّة خوفاً من المجتمع ووعّاظه المؤثرين كما يراها الدكتور على الوردي، ولهذا أقسم الله - تعالى - بالنفس التي تصارع هذه الثنائية وتعالجها فقال - سبحانه -: (ولا أقسم بالنفس اللوامة) قال ابن جرير: "الأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات".
فالخلق بطبيعتهم يحبون الشهوات ويميلون إليها، فمنهم من يعصمه الله بدينه ومنهم من يقع فيها، والانغماس في الشهوات لا يقع ضمن السلوك الليبرالي الذي يسوّغ هذه الشهوات ويجعلها حرّية فرديّة ويمنع من المعاقبة عليها ما دامت تقع ضمن الإطار الفردي كما يروّج لذلك بعض الليبراليين ليثبتوا به تحوّل المجتمع إلى الليبراليّة وتقبلهم لها! ومن ثم فإن ارتفاع معدلات الخروج عن الفضيلة أو كثرة السلوكيات المخالفة للشريعة لا يغيّر تصنيف المجتمع من محافظ إلى ليبرالي لأنها تقع من تلك النفوس مع اعترافها بتقصيرها، وتجاوزها وإيمانها بحرمة هذه الأفعال وخروجها عن حدود الشريعة فيجب أن نضعها في سياقها الطبيعي، سياق الشهوة النفسية الغالبة مع حضور الإيمان القلبي واللوم الداخلي على الفعل، نعم سوف يكون مؤشراً سلبياً على ضعف التديّن فيه لكنّه ضعف مؤقت أو لعوارض خارجيّة.
وللإنصاف فإن بعض التوجهات الحداثيّة في العالم العربي حمل أصحابها كمّاً معرفيّاً كبيراً بهروا به مجتمعاتهم، وهو ما قادهم إلى تقديم مشاريع وأفكار تحمل تأصيلاً مُكثّفاً، غير أنَّ نظراءهم من المحليين لدينا لم يكن لديهم ذلك العمق ولا الاتساع المعرفي ممّا أدّى إلى ضعف خطابهم، وعدم اختراقه لسياج المحافظة في المجتمع، لكونه خطاباً مفرّعاً عن شهوة داخلية وليس مبنياً على قوة علميّة أو حجة مقبولة، ولهذا نلمس في بعض أفراد "جيل ما بعد الصحوة" انبهاراً معرفيّاً وتماهياً في شخصيّات معرفيّة عربيّة مشهورة بحربها على الإسلام، وتشبّعها بالمناهج الحداثيّة الغربيّة، والذي دعاهم إلى هذا ما وجدوه لديهم من التضلّع العلمي المعرفي وكثافة الإنتاج وغزارة البحوث، لكن لا نجد عشر معشار هذا الاهتمام منهم بأحد من أقطاب التوجه الحداثي المحلّي.
وقد استفاد اليسار بشقيه الإسلامي والليبرالي من بروز غلاة الجهاديين الذين فجّروا في المملكة بعد أن نظّروا وقرّروا جواز مثل هذه الأعمال الظالمة الباغية، وكفّروا ولاة الأمر واستباحوا دماء رجال الأمن وأعلنوا الحرب عليهم، وهؤلاء الغلاة رماهم النّاس جميعاً عن قوس واحد، وأنكروا عليهم أيما إنكار، وكان على رأس أولئك المنكرين رموز الصحوة وعامة شبابها، فضلاً عن كبار العلماء وطبقات المجتمع المتعددة، و الذي كفى البلاد والعباد شر هذه التفجيرات ووقانا بأسها فقد أوشكت على الانصرام والتولّي، غير أن اليسار لاسيّما الليبرالي أخذ يقتات على هذه الحوادث ويصفّي حساباته مع خصومه ومخالفيه من التيار المتدين العريض واستغل هذه الحوادث للإساءة إلى دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، واتهام مناهج التعليم وشن الغارة على المؤسسات الخيرية النظاميّة، وعلى حلق تحفيظ القرآن الكريم والمراكز الصيفيّة ومخيمات الدعوة، فكان من شؤم تلك التفجيرات الباغية الظالمة أن جرأت علينا هؤلاء السفهاء، وفتحت لهم باباً للظهور والبروز بعد أن أُخمدوا دهراً، وانصرف عنهم الناس وعن القراءة لهم.
وإضافة إلى اليسار السنّي فقد برز على السطح توجّه شيعي يحمل عمقاً فكرياً حقوقياً، ونُضجاً سياسياً وتجربة حركيّة سابقة فنفض عن نفسه عباءة الكمون وأخذ ينشط في الساحة مقدّماً وعْياً جديداً مبنيّاً على خطابٍ تصالحيٍّ مع الواقع السنّي بمحاولة البعد عن نقاط المماحكة الطائفيّة، والتماس المناطق الدافئة بين السنّة والشيعة والقرب منها، كما أخذ يعزف على وتر حقوق الأقلية مستفيداً من الضغط الدولي حيال هذه المنظومة، مستثمراً في الوقت ذاته ازدياد القوة الصلبة لدى الدولة الإيرانيّة والحراك الشيعي المنظّم داخل دول الخليج وداخل الدول الأفريقيّة التي نشط فيها الشيعة نشاطاً واضحاً ظاهراً، وحققوا عدداً من المكتسبات المهمّة واستطاعوا تقليص النفوذ السنّي في تلك المناطق من خلال الدعم الإيراني غير المحدود للتبشير بالمذهب الشيعي والدعوة إلى ما يُسمى بمذهب آل البيت.
وقد استثمر الشيعة نشاط اليسار الإسلامي لصالحهم خير استثمار فرأينا تطبيعاً طائفياً بالمجّان من رموز اليسار الإسلامي تجاه الشيعة وتقديم عدد من التنازلات الكبيرة دون أن يكسبوا شيئاً مهمّاً ذا بال من الشيعة لصالح السنّة، ولهذا رأينا هيجان الشيعة الغلاة وتحريضهم لعامتهم على ارتكاب الخروقات والتجاوزات سواءً في مناطق النفوذ الشيعية أو في بعض الأماكن الأخرى كالذي حدث في البقيع بالمدينة النبويّة وصمت عدد من مراجع الاعتدال فيهم.
وإنّه لمن الطبيعي أن يجد اليسار ممانعة شديدة وانحيازاً إلى المحافظة والتمسّك، وهذا ما يجعلنا نتوقع عدداً من النزالات العلميّة والمعارك الفكريّة الشديدة، وقد يصحب ذلك بعض الجنوح والشطط وشيء من البغي في الخصومة، والمسلك الشرعي يحتم على أصحابه معالجة ما يرونه من الخطأ في الرأي ببيان الحكم الشرعي ورد الأمور إلى نصابها الصحيح.
(5)
إذا تخطّينا الحديث عن اليسار مع أهميته - فهو حديث الناس الآن - فلسوف يستوقفنا أمر آخر مهم وله تأثير ظاهر على "جيل ما بعد الصحوة" وهو التضخّم الإعلامي وتمدد مؤسساته، وهذا النمو خلق واحدة من دوائر التأثير المهمة والسريعة والفعّالة، ولو تأملنا مسار الحركة العلميّة وطبيعتها في حقبة قريبة ماضية لوجدنا أن آليات التأثير وتقنياته كانت محصورة في عدد محدود من الأدوات، وهذه المحدودية مكنت من السيطرة على تلك الأدوات وضبطها وإمكانية تقنينها بيسر وسهولة، أما مع الانفتاح الإعلامي فقد تغيّر الوضع جذرياً، فأصبحت وسائل الإعلام تمارس دوراً مفتوحاً بعيداً عن الضوابط والحدود فتبرز من أرادت من الناس ولو كان مغموراً، وتوفّر لهم المنابر الحرة للحديث بما شاؤوا بعيداً عن صرامة الأنظمة وجمود البيروقراطية، والتقارب الإعلامي وسعة انتشاره وسهولة التعامل معه كل ذلك ساهم بشكل واضح في نشر الثقافات الجديدة وتعبئة المجتمع ضد الأفكار التي يراها الإعلام جديرة بالرفض أو المواجهة، ومن هنا فإن بعض رموز اليسار الإسلامي المحلي وجد في الإعلام ضالته المنشودة، ونشط من خلاله في نشر منظومة أفكاره البديلة وحجز له مساحة واسعة وجمهوراً عريضاً، ولست مبالغاً فيما لو قلت أن ساعة واحدة لأحد رموز ذلك التوجه في قناة جماهيرية يفوق في تأثيره مجموع ما يطرحه بعض مخالفيه مستفيدين من الأدوات الأخرى التقليدية غير الإعلاميّة.
وقد استطاع الإعلام بقوته وحضوره أن يشكّك في عدد من القضايا الشرعيّة الراسخة، ويثير حولها الشبه والأقاويل، حتى ظن الناس خطأ تلك القضايا وانحراف القائلين بها مع صحّتها في نفس الأمر فعليها العمل عند عامة أهل العلم، غير أن جسارة الإعلام وهيمنته وسلطته نقلت تلك الأقوال من كونها شرائع وديانة إلى جعلها شذوذاً وانحرافاً، والمستقبل سوف ينكشف عن المزيد من هذه المجازفات والضلالات ما دام الإعلام متروكاً للمخالفين الذين يبرعون في التزييف والتضليل.
والفرق بين الوسائل الإعلاميّة التقليدية كالقنوات والفضائيات، وبين الوسائل التقنيّة الأخرى كشبكات المعلومات والمواقع الاجتماعيّة والبرامج الموسوعيّة أن الأول منها يأتي غالباً موجّهاً ويُرادُ من وراءه بناء الثقافات المؤسِّسة والمساهمة في تغيير القناعات وإحداث التغييرات المجتمعيّة، أما الوسائل التقنيّة فهي في الغالب محايدة ومستقلّة والتأثر بها بحسب الفرد.
لم يكتف الإعلام بخلخلة الثوابت الشرعيّة فحسب، لكنه نشط أيضاً في عمليات الفرز والتصنيف للرموز والقدوات فرأينا تحوّلاً مهمّاً في مفهوم القدوة ومقوماتها، فبعد أن كانت مقومات القدوة تتركز في العلم والديانة والأثر المجتمعي وخدمة الناس ونفعهم، حلَّ النّجومُ محل ذلك بفعل السلطة الإعلاميّة! من اللاعبين والإعلاميّين، والشعراء والفنانين، وروّاد تطوير الذات وقوانين الجذب، وبرامج الثراء وتكديس الأموال، والغناء الذي كان معيباً ومستهجناً صار سلعة يتهافت النّاس على طلبها من خلال برامج تعليم الغناء وتلفزيون الواقع، وأصبحت المسلسلات التركيّة جزءاً مهمّاً من ثقافة المُجتمع وبرنامج الأسرة اليومي فهم يتطلّبونها من مختلف القنوات، ولا يستقبلون أحداً في ساعة عرضها.
ومن هنا يظهر لنا مدى التحدي الذي تشكله القنوات الفضائية وتأثيرها الكبير على "جيل ما بعد الصحوة"، لأن غالب ما يُنشر فيها، ويُبث ليس شيئاً محايداً، بل هو في غالبه موجّه مدعوم ويدخل ضمن النفوذ الناعم والقوة الناعمة لمراكز التأثير وصناعة التوجهات، ولهذا فإنَّ ترك القنوات الفضائية والإعراض عنها أو الدخول إليها عبر الشخصيات النمطيّة التقليدية سوف يجعلنا نفقد الفاعليّة المطلوبة في إدارة هذه الأداة المهمة والخطيرة، ويزيد الهوّة بين رموز الصحوة والجيل الناشئ الذي بدأ يستهويه الخطاب الإعلامي الجديد بأفراده الذين لا يمتلكون كمّاً معرفيّاً كبيراً لكنهم يديرون هذه المنابر بكفاءة عالية تمكّنهم من إحداث التغيير واستقطاب شرائح واسعة من المتابعين والمتأثرين.
(6)
ثمة عامل بدأ يطفو على السطح في ثقافة الجيل الحالي وهو العامل المادي والمبالغة في تقديره والاهتمام به والسعي لتحصيله، فثقافة المادة وتغليب الوعْي المادي المدني أو استحضاره ليكون واحداً من أهم المحدّدات الثقافية والذهنيّة ساهم في تغيير بعض المفاهيم التي كانت سائدة في أجيال الصحوة المتعاقبة.
ممّا يؤكد هذه الملاحظة الإقبال اللافت على التخصصات المدنيّة وانحسار العوامل الدافعة نحو دراسة التخصصات الشرعيّة والمسارعة إلى تبنّي الوعْي المدني، والحديث عن أدبياته والبحث في إشكالياته، وجعله محوراً رئيساً في الذهنيّة المشكلة لوعْي ما بعد الصحوة، ولا ريب أنَّ المناخ العالمي المادي الذي يغلب عليه الجشع في جمع المادة وتكديسها والسباق المحموم نحو التطبيع مع الثقافات الغربيّة بنظمها وتقنياتها الماديّة والمدنيّة، وحمّى الحرّيات والديمقراطيّة، وحقوق الإنسان وفاعليّة مؤسسات المجتمع المدني جعل لواقعنا المحلي نصيباً من ذلك، والمسوّغات لهذا الإقبال متفاوتة، فهناك من يرى ضرورة التترّس خلف المال لتحقيق الغايات، وهناك من ينظر إلى الوعي المدني باعتباره ضرورة حضارية لها الأولوية في البحث والنظر والتطبيق لأنها أساس التقدّم الحضاري، لاسيّما وهم يرون العالم الإسلامي يزداد في تقهقره وتراجعه والاستبداد فيه يتجذّر ويتأصّل.
والتقارير الدوليّة تتحدث عن نمو قوي للاقتصاديات في المنطقة وتركّز الأموال والثروات الطبيعية والنقديّة وزيادة فرص الاستثمار فيها والتعويل على المنطقة باعتبارها مخزناً استراتيجيّاً مهمّاً لمصادر الطاقة سواءً التقليدي منها أو البديل كالطاقة الشمسيّة، وهذه التنبؤات تعطينا شيئاً من الوجهة العالميّة وأثره على الواقع لدينا، فإن ازدياد الفرص التجارية والاستثماريّة وإقبال الشركات الغربيّة والشرقيّة وانتقال رؤوس الأموال إليها يكشف لنا عن اتجاه المؤشر وبوصلته وتأثير ذلك على المجتمع، فالمجتمعات المنغمسة في الترف ومباهج الحياة الدنيا والمبالغة في الاهتمام بالجوانب الماديّة سوف تميل أكثر إلى السكون المعرفي والتواكل العلمي وذبول النشاط العقلي والفكري وتخبو في دواخلهم الدافعية الاحتسابيّة والبحث عن مراد الشارع بتجرّد وصفاء نفس دون مزاحمةٍ من الخوف على الأموال والمكتنزات كما سوف تغيب أسئلة المعاني والرقائق وروافد الزاد الروحي.
(7)
إذا تجاوزنا هذه المظاهر العامة فلن نُغفل عاملاً مهمّاً وهو الضغط الخارجي ودفعه باتجاه إحداث التغييرات المجتمعيّة الجذريّة، والمتتبع للدراسات الغربيّة والتقارير الصادرة عنهم سوف يلمس ذلك بوضوح، فالغرب مهووس حالياً بتغيير المجتمع السعودي وغيرها من المجتمعات المحافظة والضغط باتجاه التحرر من الثقافة المتشددة بزعمهم والمكونة لقيمه ومعارفه، وغالب ما يُكتب عن الإصلاح السياسي لدينا في الغرب فإنما يقصدون به هذه القضايا، ولهذا يكثر في خطابهم عن الإصلاح السياسي الحديث عن المرأة والتعليم، والمناهج الدراسيّة والعمل الخيري، والموقف من الآخر وحرية الرأي، وحرية الديانة وزيادة المساحة للحريات العامة، ودعم التوجهات الليبراليّة أو التديّن السكوني وتصفية المذهب الوهابي، ومحاربة التشدد الديني وغيرها من القضايا المنهجيّة الفكريّة الثقافيّة.
ولا شك فإن هز القناعات في "جيل ما بعد الصحوة" أيسر منه وأسهل من أجيال الصحوة التي سبقته، ولهذا فليس بمُستغرب أن يركز الغرب عليهم ويستقطبهم من خلال أدواته المحليّة المتمثّلة في بعض اليسار الإسلامي المتقاطع مع الغرب ولو عن غير قصد أو من خلال المجوعات الليبراليّة المتماهيّة في المشروع الغربي، وقد لخّص "ديفيد كابلان David Kaplan" هذا التوجّه الغربي في تقرير مهم نشرته يو إس نيوز عام 2005 بعنوان: " Hearts، Minds، and Dollars" ومما جاء فيه: " قامت واشنطن في أكثر من عشرين دولة بتمويل برامج إذاعية وتلفزيونية إسلامية أو ورش تدريبية في مدارس إسلامية أو مراكز فكر إسلامية أو ورش سياسية أو غير ذلك من البرامج التي تشجع على إسلام معتدل، وهناك مساعدات فيدرالية لترميم مساجد وصيانة مصاحف قديمة وربما أيضاً بناء مدارس إسلامية، ففي عام 2003، كان المسؤولون قد نشروا نسخة علنية أقدم من وثيقة تتضمن الإستراتيجية القوميّة لمكافحة الإرهاب، ولكن يوجد الآن نسخة سرية أكبر منها لها ملحقات تتناول أهدافاً مركزية بينها تمويل الإرهاب وكسب حرب الأفكار، ومن أجل تقوية معسكر المعتدلين، تعترف الخطة الجديدة بأن أمريكا لم تحسن التواصل معهم، وتخطو بعدها خطوة أكبر قائلةً أن الولايات المتحدة وحلفاءها لديها مصلحة أمن قومي ليس فقط فيما يجري في العالم الإسلامي، بل فيما يجري داخل الإسلام نفسه، وتضيف الوثيقة أن أمريكا بسبب محدودية ما تستطيع أن تفعله في الصراع الديني، فإن عليها أن تعتمد أساساً على شركاء يشاطرونها قيماً مثل الديمقراطية وحقوق المرأة والتسامح، ومن بين هؤلاء الشركاء الدول الإسلامية الحليفة والمؤسسات الخاصة والمجموعات غير الربحية".
ولا يفوتني كذلك الإشارة إلى أن الغرب يعيش الآن مرحلة مهمة من مراحل تاريخه وهي المرحلة التي تعرض لها تقرير لمجلس الاستخبارات القومي الأمريكي حمل عنوان "اتجاهات عالمية 2025: عالم متحوّل global trends 2025: a transformed world" وقد وصف التقرير التوقيت الراهن بأنه مرحلة تاريخية مهمة تنتقل فيه القوة الاقتصاديّة ومراكز التأثير من الغرب إلى الشرق وتتلاشى معه بذلك الهيمنة الغربيّة المطلقة ليحل محله عالم جديد متعدد الأقطاب تحظى فيه الصين بقوة هائلة من الناحية المالية والعسكرية، وهو ما يؤهلها لأن تمارس دوراً مؤثراً على العالم خلال العشرين سنة المقبلة يفوق دور أي دولة أخرى بما فيها الولايات المتحدة الأمريكيّة، كما سوف تنمو عدد من الدول لتتحوّل إلى لاعب مهم، ومشارك رئيس على الخارطة الدولية كما هو الحال مع البرازيل وإندونيسيا وتركيا، أمّا أوروبا فسوف يخفت وهجها تدريجياً ويتقلص نفوذها، وسوف تستمر أفريقيا متدهورة من الناحية السياسيّة والأمنية والاقتصاديّة، أما منطقة الخليج العربي فسوف تحقق نمواً اقتصادياً كبيراً بسبب ارتفاع أسعار النفط ونمو الطلب العالمي عليه وضعف موارد الطاقة البديلة، وأشار التقرير كذلك إلى زيادة متوقعة في الأعمال الخارجة عن السيطرة الحكومية في العالم كما هو الحال في المجموعات الإرهابيّة، والمؤسسات الإجراميّة وشبكات الميلشيا، والعصابات وازدياد نفوذ العشائر والقبائل في مناطقهم وضعف سلطة الدولة عليهم.
ومن المقاربات المهمة حول هذا الموضوع ما كتبه "ريتشارد هاس Richard N.Haass" رئيس مجلس العلاقات الأمريكية الخارجيّة في دوريّة " foreign affairs" عدد شهري نوفمبر وديسمبر من عام 2006م وحمل عنوان: "الشرق الأوسط الجديد The New Middle East"، وقد ضمّن مقاربته عدداً من الملامح لعهد ما بعد الهيمنة الأمريكيّة على المنطقة التي بدأت بالحرب الاضطراريّة على العراق في تحرير الكويت وانتهت بالحرب الاختيارية على العراق لإزالة حكم صدام حسين، ومما يهمنا من كلامه ما يتصل بواقعنا فقد أشار إلى ازدياد عمليات العنف في المنطقة، وارتفاع أسعار النفط، وازدياد ظهور الميلشيات المسلحة في الشرق الأوسط، وبروز الشيعة بدور أكبر في المنطقة واستمرار التوتر بينهم وبين السنة سواء في أماكن الصراع المباشرة كالعراق أو في الدول ذات النفوذ والجيوب الشيعية مثل لبنان والسعودية، واستمرار العراق على ما هو عليه من الحرب الطاحنة وفي أحسن أحوالها تكون فيها دولة ضعيفة هزيلة مشغولة ببناء ما دمرته الحرب، أما إيران فسوف تكون واحدة من أقوى دولتين في المنطقة بالإضافة إلى إسرائيل والتي أخذت في التدهور والتراجع بسبب سياساتها الباغية وحروبها الجائرة.
ولو ضربنا مثلاً بما أشار إليه "ريتشارد هاس Richard N.Haass" من تضخم القوة الإيرانيّة باعتبار هذا التحليل أحد الآراء القويّة في الموضوع، فإننا أمام تحدٍّ واضح لقوة صاعدة بوعْي طائفي مُحكم، والجيوب الشيعية كثيرة في المنطقة ومنها الجيوب الموجودة في المملكة وهي مجموعات ناشطة وفاعلة وذات طابع حركي، وإذا استحضرنا طريقة التعامل اليساري بشقيه الإسلامي والليبرالي مع القضية فلن نجد إلا طريقة واحدة وهي التطبيع الطائفي وتقبّل الشيعة والقيام بمبدأ التساكت المتبادل دون التعرّض للعقائد والأصول الشرعيّة، و"جيل ما بعد الصحوة" سوف يتعامل غالباً مع الأمر بمبدأ الوسط المرفوع: إما التطبيع الطائفي وإما الانفجار الطائفي لأنه أمام وضع خارجي مليء بلغة القوة والتحدي ووضع داخلي يشحنه اليسار بالخوف من الطائفية والدفع باتجاه التطبيع والتحذير من التنافر، والإعلام لا يبرز إلا هذين الحلّين، وهكذا يكون الشأن مع المعضلات الأخرى بدفع الناس إلى أحد الاتجاهين من خلال التعبئة الإعلامية الجاهلة والجائرة.
جميع هذه الأحداث والتحليلات تكشف عن تحوّل مهم وخطير في التوجه الدولي، وبه سوف ينتهي عهد النظام العالمي الجديد الذي أطلقته أمريكا بعد انكشاف المعسكر الشرقي عليها بسقوط الاتحاد السوفيتي، وتفككه إلى دول انضم أغلبها للتوجه الليبرالي الغربي، أي أنّنا سوف نشهد عهداً جديداً تعود فيه التحالفات إلى الواجهة وتكثر فيه الاستقطابات الإقليمية والدوليّة، وسوف يطفو على السطح العديد من الإشكاليات التي كانت حيناً من الدهر كامنة ساكنة كما هو الحال في ملف الأقليات والحريّات العامة، والقضايا الحقوقيّة والتحالفات الدوليّة، وهذا يحتاج إلى وعْي شامل بالواقع الجديد واستيعابه جيداً والعمل على إدارته إدارة تحمل عمقاً شرعياً راسخاً على أصول أهل السنة وفهماً واقعيّاً مُحكماً، وهو ما يمثّل تحدياً كبيراً للصحوة، أما "جيل ما بعد الصحوة" فإن المؤشرات الأولية تقضي ببعده كثيراً عن مثل هذه الأجواء وعدم قدرته على معالجة تلك القضايا، فقد انحسرت الرؤى الإقليمية لدى عا
وبعيداً عن البحث في أسباب عدم الاهتمام بهذا النوع من الدراسات فهو ليس بموضوعنا حالياً مع أهمّيته في نفسه، إلا أنَّ "جيل ما بعد الصحوة" وحجم تأثيره، ومعالم فكره، وموارد ثقافته، ومصادر معلوماته، ودائرة اهتمامه، وتشكيل ولائه، وبلورة وعْيه، ومنظومة قيَمه، وغير ذلك من الأمور المهمة التي تتصل به يحتاج إلى قراءة فاحصة ومراجعة متأنية.
لفتت نظري قبل مدّة أثناء انشغالي الذهني بالتفكير في "جيل ما بعد الصحوة" مقاربة مهمّة قدّمها عرّاب الملف الإيراني في الصحافة الغربيّة الكاتب الأمريكي "كينيث تيمرمان Kenneth Timmerman " مؤلف الكتاب المشهور "العد التنازلي للأزمة: المواجهة النووية القادمة مع إيران countdown to crisis:the coming nuclear showdown with Iran " - ونُشرت حينها في الصحافة الأمريكية ذكر فيها أن ما بين 60% إلى 70% من مجموع الشعب الإيراني نشأ بعد ثورة الخميني، أي أنهم جميعاً من "جيل ما بعد الثورة"، وهو يرى بموجب أن من الممكن التعويل على هذه الشريحة الآخذة في الاتساع والتمدد لإعادة بناء المجتمع الإيراني وُفق المنظور والرؤية الغربيّة، ولخلخلة نظام الحكم الديني في إيران الأمر الذي يمهّد لإحداث تغيير داخليّ جذري، لاسيّما أن "جيل ما بعد الثورة" لا ينتمي إلى معمّمي الثورة برابط الولاء المطلق، فلم يحضروا مآثر الثورة، ولا شاركوا فيها، ولهذا أصبحوا من أهم العوامل التي استخدمتها الولاية المتحدة الأمريكية لإحداث الهزّة داخل المجتمع الإيراني، ومحاولة تنحية التيّار المحافظ، وقد نجحوا إلى حد بعيد في ذلك.
هذا الذي أشار إليه "كينيث تيمرمان Kenneth Timmerman " واهتم به الاهتمام البالغ يمكن تنزيله على واقع الصحوة لدينا لكن مع فرق في الدرجة لا في النوع، إذ نشأ لدينا جيل لم يعش التفاصيل الكاملة لحالة الصحوة الإسلاميّة، ولا أدرك رموزها الكبار، أو تنعّم بمنجزاتها ولم يتدرّج في محاضنها بل شبَّ عن الطوق، وقد أدرك ثالبيها ووقف على طوفان من النقائص التي نيطت بالصحوة وأهلها، فهو بذلك منبتُّ الصلة عنها ويعتريه حالة من اليأس والإحباط الشديد المستولي على تفكيره لمستقبل الصحوة، ويشعر بنوع من الاستقلالية والقدرة على اختطاط طريق جديد، فضلاً عن شعوره بشيء من اليأس لعدم قدرة الصحوة على مجاراة واقع الحياة الذي اختار طريقاً مجافياً للمحافظة والتمسك.
نحن إذاً في عهد جديد تعدد فيه الفاعلون، وتنوّعت فيه التوجهات بمناهجها المتخلفة وأدواتها الجديدة، ولم تعد الصحوة برموزها الحاليين ومنجزاتها الباهرة ومكتسباتها الضخمة اللاعب الوحيد على الساحة المحليّة ولا المتفرّدة بقيادة المشهد الثقافي.
ثمّة عوامل مهمّة أدّت إلى تسارع النشأة الأولى لجيل ما بعد الصحوة، واتساع المساحة الوجودية له.
(2)
لو تأمّلنا في الأدوات المعرفيّة العلميّة والتراثيّة المشكّلة لجيل الصحوة والتي أورثهم إياها قادة ذلك الجيل وملهموه من العلماء والدعاة والمفكّرين فسوف نلحظ بوضوح أنها بدأت تنفصم عن الأدوات الجديدة التي أخذت تستحوذ على اهتمام متزايد من قبل "جيل ما بعد الصحوة"، وتبعاً لذلك تباينت أسئلة الجيلين، وتناءت الاهتمامات، فبدأنا نلحظ العناية المرتفعة بالمؤلفات الفكرية وبالقراءة المهاجرة وإشباع النقص الشعوري والعاطفي، والجفاف الروحي بالقراءة الحادة والمركّزة في الأدب القصصي، وتتبع الروايات وأخذت الأفكار الفلسفيّة والحداثيّة بكافة تفاصيلها، وتعددها واختلاف مذاهبها، والمشاريع النقديّة بروادها ومؤلفيها، والمباحث الحقوقية والوعْي المدني، وقضايا المواطنة وشؤون القانون، والاهتمام بتطوير الذات وبرامج التفكير تحتل مركزها في دائرة اهتمام هذا الجيل مع تفاوت في درجة الاهتمام، الأمر الذي أدّى إلى ضمور في العناية بالأفكار القديمة أو المذاهب السابقة ناهيك عن قصور في تتبع الأحكام الشرعيّة التفصيليّة من فروع الفقه والحديث والتفسير، والإعراض عن المتون العلميّة وضبط الأصول الكليّة، وهو ما تمخّض عنه البحث عن رموز آخرين يدركون هذه الثقافات البرّاقة بأدواتها الجديدة ويعون مباحثها، وبذلك ضعف التواصل مع علماء الصحوة ورموزها الموجودين، وتفاوتت أيضاً معايير التقييم للشخصيات العلميّة بحسب عنايتها بالأدوات الجديدة وقدرتها على استيعابها وإشباع فضول السائلين عنها والباحثين فيها.
ولم يكن الأمر مقتصراً على التباين في الأدوات المعرفيّة فحسب، بل زاحمه أمر آخر مهم وهو السيل الهادر والكم الكبير من المؤلفات والكتب التي كانت حيناً من الدهر مقصورة على فئة قليلة جداً من الناس ولم تكن متاحة لعامة المطالعين، وأخذت المعلومات المجرّدة تنهال على "جيل ما بعد الصحوة" بكثافة عالية وغزارة شديدة، فتسهلت سبل الوصول للمعلومة وتنوعت مصادرها بعد الانفتاح التقني من خلال شبكة الإنترنت وتطوّر وسائل الاتصال، الأمر الذي أسهم في تلاشي القدرات العلميّة الذاتيّة والإصابة بالكسل المعرفي اتكالاً على وفرة المخزون العلمي التقني، والوصول إلى المعلومة البحثيّة بيسر وسهولة، كما ساهم ذلك مساهمة مباشرة في تقليص الارتباط بالجهات العلميّة سواءً كانوا أفراداً أو مؤسسات، فرأينا تعويل الكثير من الشباب على المنتديات الإلكترونيّة والمواقع الأخرى في الحصول على المعلومة أو بناء الثقافة، وبذلك ازدادت الهوّة بين هؤلاء وبين العلماء والمربّين، ولا ريب أن الأعراض الانسحابيّة المتوقعة والانكفاء على الذات والاستغراق في البحث التجزيئي لأفراد المسائل وغيرها من الأمور التي قد تنشأ عن كثرة التعاطي مع هذه المنافذ المعرفيّة، وإدمان النظر فيها سوف تؤثر سلباً على الشخصيّة العلميّة لأفراد "جيل ما بعد الصحوة".
وأخطر ما في الأمر هنا أن المواقع والمنتديات وسيل المعلومات عزّز الشعور بالاستقلال المعرفي دون الرجوع إلى أهل المعرفة والعلم الذين سبروا أغوار المذاهب والمؤلفات، وفحصوا تلك المعلومات وكشفوا ما بها من الخلل إن وُجد، ولهذا صرنا نرى كثرة المتجرئين على العلماء وانتشار الأقوال الغريبة، كل ذلك لغلبة الاعتداد بالنفس والثقة بالذات.
وإذا كانت أجيال الصحوة تُراعي حق العلم الشرعي، وتعرف أقدار أهله وتلتزم القواعد المنهجيّة المتبعة لدى سلف الأمة، وتخضع لها وتجعل من فهم السلف وطريقة تعاملهم مع النصوص معياراً مرجعيّاً لآرائهم وأقوالهم وحكمهم على المذاهب فإن "جيل ما بعد الصحوة" قد تخلخلت عنده هذه المفاهيم، فرأينا من يعترض على اعتبار طريقة السلف أو فهمهم حكماً وفيصلاً، ويجعل النصوص الشرعيّة هي المعيار دون تحديد مرجعية حاكمة على تفسير هذه النصوص ليستدل بما شاء من النصوص على ما يريد من الأحكام ولو كان بطريقة استدلالية لم يقل بها أحد من المسلمين من قبلُ، فاهتزت مكانة السلف لدى هذا الجيل وهو يرى من يوعز إليهم بالانقضاض على ذلك التراث، وتجاوزه باعتباره آراءً مجرّدة لأناس خضعوا لسياق زمني معيّن وظروف وقتيّة اقتضت أن يقولوا ما قالوا، فحصل للشاب الناشئ نفرة، وتردد في قبول مذهب السلف وتقريره وطريقة فهمه للنصوص الشرعيّة، وتأثرت صورتهم النقيّة لكثرة ما يقرؤون في كلام بعض الباحثين من اللغط حول السلف ودس النقائص في منهجهم بطريقة ظاهرها الرحمة والإنصاف الموضوعيّة، وباطنها العذاب والانتقاص والهدم، ولزم عن هذا كلّه سهولة الخروج عن إجماع أهل العلم والالتفاف على تقريراتهم وطريقة معالجتهم للمسائل الشرعيّة.
وهذا الزخم المعلوماتي الكبير أدّى أيضاً إلى انحسار دور العلم الذاتي وأثره في بناء الشخصيّة العلميّة المعروفة بسلامة المنهج وحسن الاستدلال والارتباط بالأصول الكليّة للمناهج الشرعيّة المنضبطة، فبتنا نرى الاهتمام بأنواع من الكتابة الثقافية أو الصحفيّة أو النقديّة أو التوصيفيّة المبنيّة على حضور الفكرة وجمع المادة المنثورة لا على استدعاء الكم العلمي التأصيلي الذاتي.
كما أن الجيل الجديد من مواقع الإنترنت "web2.0" والذي يترك تحديد المحتوى للمتصفحين والمشاركين دون تدخل أو توجيه من أصحابها، ويمنحهم مساحة واسعة للكتابة والتعليق والتعبير عن وجهات النظر وتقييمها ودعم الهواتف النقالة لها والدخول من خلالها بيسر وسهولة ومرونة شديدة وإمكانية الربط بينهما مما يجعل المتصفّح والمشارك حاضراً على مدار الساعة في هذا النوع من المواقع، إضافةً إلى التقنيات المتجددة للحواسيب وللهواتف النقّالة والتحوّل النّوعي المبهر للتقدّم التقنّي الذي يساهم في ربط الشخص بالعالم وبما يحدث فيه من الأمور السياسية والثقافيّة والفنيّة بيسر وسهولة وسرعة عالية، كل ذلك سوف يكون له دور مهم في تكريس الثقة بالنفس وتعزيز البنية الثقافية لدى "جيل ما بعد الصحوة" وتدوير الأفكار بينهم وزيادة القدرة التواصليّة وتكوين الشبكات الاجتماعيّة ذات الاهتمام المشترك وهذه جميعها عوامل تزيد من الدافعية نحو الاستقلال والتفرّد وإثبات الذات، ويأتي على رأس الجيل الثاني من مواقع الإنترنت ما بات يُعرف بالشبكات الاجتماعيّة مثل "Facebook" و"Twitter" و"YouTube" و"Blogger" وغيرها، ومن عيوب هذا الجيل من المواقع أنها تخلق فرصاً واضحة للتزيّد الثقافي دون الارتواء من المعارف السليمة أو التشبّع بالعلوم المنضبطة، فالمواقع قديماً كانت تحرص على إتاحة المعلومات الموثوقة والصحيحة إبراءً لذمّتها وصيانة لزائريها، أما الجيل الجديد من المواقع فلا يعتني بهذا أصلاً.
هذا العامل كان له دور فاعل في بناء الثقة النفسيّة العالية لدى "جيل ما بعد الصحوة"، فأخذ يختط لنفسه طريقاً متفرّداً، والملهمون الجدد لهم يعزّزون فيهم هذا الجانب ويؤكدون عليه، فيحثّونهم على نزعة الاستقلال الثقافي والمعرفي والتعود على البحث المستقل، وحضور الشخصيّة وعدم تغييب العقل أو التأثر بسطوة الآخرين وسلطتهم، ولهذا فإن الآراء المعرفيّة الشاذة أو كثرة الخروج عن المدارس العلميّة المتبعة والمناهج البحثيّة المعروفة سوف تكون سمة ظاهرة في "جيل ما بعد الصحوة" وهو ما يجعلنا نتهيّأ نفسيّاً لتقبل الآراء الشاذة والأقوال الغريبة.
إنَّ نظرة فاحصة في المحاضن التي نشأ فيها جيل الصحوة بمراحله المختلفة ومقارنتها بنظيراتها لدى "جيل ما بعد الصحوة" سوف تكشف لنا مدى التربية العميقة الراسخة والطبائع الزكيّة والخصال الحميدة التي حصّلتها أجيال الصحوة، فقد تربّوا في أكناف العلماء الربانيين المتجردين من حظوظ النفس أو الكادحين في جمع الدنيا، ولحقوا بحلق العلم، وحفظوا القرآن في الجوامع، وعمروا بيوت الله، وتشرّبوا متون العلم، وضبطوا أبواب المسائل، واعتنوا بالتحقيق والبحث العلمي الفائق، ولم يقتصروا على العلم فحسب بل شابوه بالعمل، فخرجوا أفواجاً تلو أفواج لواجب الدعوة إلى الله في القرى والمدن والأمصار وعامة بلاد الدنيا، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وشاركوا بالأساليب المشروعة في مناصحة ولاة الأمر وزيارتهم والانفتاح عليهم، وناضلوا في سبيل الفضيلة، وانتشار القيم نضالاً سلميّاً رفيعاً، ثم لمّا دعا داعي الجهاد الشرعي، ذروة سنام الإسلام، كانوا من أوائل المسارعين إلى جبهات القتال في أفغانستان ثم البوسنة ثم الشيشان، كلّما سمعوا فزعة أو هيعة طاروا إليها يبتغون القتل مظانّه، فبذلوا مهجهم وأرواحهم في سبيل الله، وامتزجت نفوسهم بقيم العطاء والبذل والعمل الخيري فقد عرفتهم أفريقيا بأدغالها وغاباتها، وحفظت تفاصيل وجوههم آسيا بمختلف مناطقها وتنائي ديارها، وهكذا فقد مرت تجربة الصحوة بعدد من المحاضن المهمة، وتمرّست على أنواع متعددة من القربات والطاعات النفسيّ منها والجماعي، والخلاصة أن أجيال الصحوة المتعاقبة قرنت بين العلم والعمل، وكان للتضحية حضور كبير في حياتهم تغلبوا من خلالها على جانب الأثرة والأنانيّة وحظوظ النفس.
غير أن أغلب هذه المحاضن المهمة لا يكاد يتهيأ لجيل ما بعد الصحوة إما لندرته وقلّته أو لانعدامه أو لانصرافهم عنها وانشغالهم بأشياء أخرى، ولهذا سوف يظهر الفرق واضحاً جليّا بين قدرة الجيلين على التعاطي مع الواقع، ومع الأزمات، ومع الشدائد والمدلهمّات.
(3)
يؤكد الواقع أن انخرام جيل العلماء المؤثرين أحدث فراغاً سلبيّاً ساهم مساهمة مباشرةً في استهلال هذا الظهور لجيل ما بعد الصحوة، فقد كان لأولئك العلماء دور مهم في السيطرة على النفوس وقيادتها، وتهذيب نزعاتها وتحديد مساراتها الثقافية، وتصفية الأفكار الواردة إليها من خارج المنظومة وترشيدها وضبط المناهج، كما أنهم كانوا يتحلون بعدد من الخصائص الشخصية القياديّة المهمة من سيلان الذهن، وفرط الذكاء، وسعة المعرفة، وحضور الحجة، والتشبع بالآثار السلفيّة، والعزة بالانتساب إلى الشرع، والقوّة في الحق والاحتساب في نشر العلم والدعوة والتجرد لله - تعالى -، وقلة العناية بالحياة الدنيا، والإقبال على الآخرة بنفس مطمئنة، والارتقاء في مقامات العبوديّة الصادقة مع ارتباط محكم نادر جمعوا فيه بين حب الحكام من ولاة الأمر لهم وتوقيرهم، وتقدير العامة من الناس لهم وقبول أحكامهم وفتاويهم، وهذا مما لم يتهيّأ في البقية من علماء الجيل الحاضر فظهر الفرق الكبير بين الجيلين.
وغياب العلماء الحسّي أو المعنوي له أثر كبير في التأثير على الأفراد والحركات، وقد قص الله - تعالى - في كتابه ما حصل من قوم نبيّه موسى - عليه السلام - حين غاب عنهم لميقات ربه فاتخذوا العجل من بعده وهم ظالمون، وأحدث فيهم السامري شرخاً عقديّاً خطيراً مع أن غياب موسى - عليه السلام - كان غياباً مؤقتاً بأمر من ربه - سبحانه وتعالى - وخلفه في قومه نبيّ الله أخوه هارون، وأخرج العقيلي في ضعفائه عن محمد بن سليمان الأصفهاني قال: لما مات إبراهيم يعني النخعي اجتمع خمسة من أهل الكوفة فيهم عمر بن قيس الماصر وأبو حنيفة، فجمعوا أربعين ألف درهم وجاؤوا بها إلى الحكم بن عتيبة فقالوا: إنا قد جمعنا أربعين ألف درهم نأتيك بها، وتكون رئيسنا في الإرجاء، فأبى الحكم، فأتوا حماد بن أبي سليمان فقالوا له، فأجابهم وأخذ أربعين ألف درهم.
وهذه القصة فيها عبر مهمة منها تربّص أهل المذاهب المخالفة موت العلماء الربانيين ليخلو لهم الجو فينشروا آراءهم، وقد رأينا بأم أعيننا شيئاً من ذلك بموت العالمين الربّانيين عبد العزيز بن باز، ومحمد بن عثيمين فانبعث على إثر موتهم فئام من دعاة العلم تنكر منهم أكثر مما تعرف، وقد كانوا في حياة الشيخين نسياً منسياً، وقد كان إبراهيم النخعي شديداً على أهل الإرجاء، ولهذا كانوا ينتظرون وفاته ويتحيّنون موته ويعدّون العدة لما يفعلونه بعد ذلك، قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي في التنكيل 1/188-189: "كان إبراهيم شديداً على المرجئة وفي ترجمته من طبقات ابن سعد عدة حكايات في ذلك... فكأنهم كانوا مقموعين في حياته فلما مات خلا لهم الجو واستعانوا بالمال"، وفيها من العبر أن أهل الآراء المخالفة يستعينون بالمال وبما أمكنهم الاستعانة به لنشر مذاهبهم وآرائهم، وقد لا يتصور هذا كثيرٌ من أهل الحقِّ لكمال نفوسهم وسلامة مقاصدهم ومجافاتهم للمطامع وحظوظ النفس فيعتقدون بُعْد حصوله إلا أنه موجود معروف، وهذه القصة وأمثالها دليل عليه، وفي القصة أن أصحاب الآراء المخالفة يؤثرون الكمون تارة على النشاط والحركة حتى لا تنقرض مذاهبهم بقوّة ردود العلماء عليهم، وحتى ترسخ أفكارهم مع مرور الوقت ويفنى مناوئوهم، فلا يظنن ظان أن فترة النشاط وخفوته لدى أصحاب تلك الآراء مرده إلى تبدل القناعات أو تحول الآراء، فإن لهم في هذه الفترة والخفوت مآرب شتى، ومن العبر في هذه القصّة الكشف عن المقاصد المخالفة لبعض أئمة المذاهب فإن قصد الدنيا ظاهر في مبتغي المال والباحث عن الرئاسة، وهذا خلاف ما عليه أهل التجرّد والإخلاص، وسلامة المقصد ممن يريد الله والدار الآخرة.
(4)
ترتّب على فراغ الساحة لدينا من العلماء المؤثرين بروز اليسار بشقّيه الإسلامي والليبرالي، ومع بون ما بين هذين التوجّهين إلا أن ظهورهما وبروزهما كان في مدة متقاربة، واليسار الإسلامي بتوجهاته الداخلية الحقوقي الإصلاحي منها أو التنموي المدني أو العصراني أو التنويري أو الفقه التيسيري وغيرها قد أخذ مساحة واضحة في المنظومة الثقافية داخل النسيج المكون لجيل ما بعد الصحوة، واستقطب عدداً مهمّاً من الأنصار والمؤيدين مستفيداً من المساحات الكبيرة التي أمنتها لهم وسائل الإعلام المقروءة والمرئية، ولو تأمّلنا في الأفراد المؤثرين في توجه اليسار الإسلامي المحلي لوجدنا أن كثيراً من أصحاب التوجهات الإصلاحية السابقة يأتي في مقدمتهم.
وجد التوجّه اليساري الإسلامي هامشاً واضحاً للنشاط الحركي والتغلغل الاجتماعي والاختراق المعرفي، فنما نموّاً سريعاً وأصبح ملهماً في جزء منه لجيل ما بعد الصحوة، ولو دققنا النظر في مسار حركة يساريّة مشابهة سابقة لوجدنا أن تلك الحركة تحطمت أمواجها على صخرة الثبات وضعف مساحات الحركة أو النمو فلم تُحدث شرخاً أو تجد لها عمقاً مجتمعيّاً، وذلك ما حدث لعبد الله القصيمي، فإن القصيمي في بدايات تغيّره الفكري والذي لخّص القدر المهم منه في كتابه "هذه الأغلال" لم يكن يختلف كثيراً عن حركات اليسار الإسلامي، فالفرق بينهم فرق في درجة المواجهة والخروج لا في نوعها، لكن القصيمي لم يجد مساحات يستطيع من خلالها الحركة أو التبشير بهذه الرؤية الجديدة أو الاستحواذ على طائفة من الأنصار والأتباع مع حضوره المعرفي العلمي ومكانته عند العلماء وقوّته في نفسه آنذاك، وشدة عارضته وبراعة ملحظه، فقد واجه ثباتاً وممانعة شديدةً من العلماء وردوداً راسخة علميّة مؤصّلة من الداخل والخارج، ورفضاً اجتماعياً على كافة الأصعدة، وهو ما أدّاه لاحقاً إلى إعلان التمرّد العام على دين الله، وانتحاله للإلحاد نسأل الله السلامة والعافية.
ولو تأملنا جيّداً في المدة التي خرج فيها القصيمي لرأينا عدداً من الحركات اليسارية الناشطة المناوئة للتوجهات الشرعيّة كما هو الحال في الحركات القوميّة والماركسيّة والبعثيّة التي كانت تنشط في تلك الحقبة، ومع الفورة الحركية لتلك المجموعات وإفادتها من المناخ السياسي العام وقدرتها على الاختراق للمجتمع المحلّي إلا أنها لم تتجذّر فيه، ولم تترك لنفسها مساحة ولو هامشية، ولهذا تجاوزها الناس سريعاً وانقلب أصحابها عليها.
ومن الجدير بالملاحظة أن موجة الاستقطابات وحركات التحول لليسار بشقيه الإسلامي والليبرالي التي نعيش الآن فورتها كانت في السابق تأخذ طابعاً نمطيّا محدّداً فالشخص الذي يصاب بضعف في التديّن أو يتراخى عن مصاحبة الصالحين يؤثر الانزواء على نفسه، ويبتعد عن محيط رفقته معترفاً بتقصيره غارقاً في شهواته، غير أن هذا تغيّر جذريّاً مع ظهور اليسار الإسلامي المحلّي، فقد أصبحت ظاهرة التحوّل نوعاً من الثقافة الجديدة المشروعة، وأخذ أصحابها يبحثون لهم عن المسوّغات العلميّة لإثبات صحة التوجه، وسلامة المنهج وتبرير التغيّر السلوكي والمنهجي، فانتقل التحوّل من كونه انتكاسة ونكوصاً وشيئاً مرذولاً يستحي منه أصحابه وتنفر عنه النفوس ويستغرب له الناس إلى اعتباره حقّاً مشاعاً، وتنويراً يفتح لصاحبه أبواب الاقتيات والاسترزاق في الصحافة والإعلام، ويُصبح من وجهاء النّاس وأعيانهم.
ولا ريب أن بدايات عهد التحوّل شهدت حالات من الخروج العنيف لحق أصحابها من خلالها بأشد المناهج غلواً وتشدّداً، وسمعنا ببعض من ألحد منهم باطناً، لكن هذه التحوّلات المغالية قد تكون مفهومة ومستوعبة في المراحل الانتقاليّة ولربما انحسرت مع اتساع مساحة اليسار الإسلامي وتجذّره فسيجدون فيه ملاذاً لهم لاسيّما مع ضعف التأصيل الواضح لدى اليسار الليبرالي وعدم حضوره اجتماعيّاً فالانتماء إليه ضربٌ من الانتحار العلميِّ.
وطائفة من رموز اليسار الإسلامي المحلي استفاد من سابقته في الصحوة ومكانته العلميّة قبل التحوّل باعتباره شخصيّة جماهيريّة ذات حضور طاغ في أوساط المجتمع، فأكسبه ذلك مصداقيّة لدى كثير من الناس، ومكّنه من صنع دائرة تأثيرية واضحة ساهمت في حفظ مكانته ونشر أفكاره الجديدة، وبعضهم قدم نفسه على أنه من رحم الصحوة ومن أبنائها البررة، وأن خطابه متناغم مع أصول الصحوة ويرغب في تصحيح مسيرتها ما لحقها من الأخطاء، فلمّا كشف عن حقيقة توجّهه فإذا هو مباين لأصول الصحوة، وحاكم على منجزاتها بالنقض والإبطال.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية كلام يحسن إيراده في الذين يخالفون توجهات أئمة المذاهب، ويحدثون التغيير بعدهم، وأنهم بهذا يناقضون أصول أئمتهم، ويخالفون طريقتهم حتى وإن انتسبوا إليهم ظاهراً إذ العبرة بحقيقة الحال وبظاهر الأقوال، قال ابن تيمية في كتاب الاستقامة 1/15: "الشافعي من أعظم الناس ذمّاً لأهل الكلام ولأهل التغيير، ونهياً عن ذلك وجعلاً له من البدعة الخارجة عن السنّة، ثم إن كثيراً من أصحابه عكسوا الأمر حتى جعلوا الكلام الذي ذمّه الشافعي هو السنة وأصول الدين الذي يجب اعتقاده وموالاة أهله، وجعلوا موجب الكتاب والسنة الذي مدحه الشافعي هو البدعة التي يعاقب أهلها!.. والإمام أحمد في أمره باتباع السنة ومعرفته بها ولزومه لها ونهيه عن البدع وذمه لها ولأهلها وعقوبته لأهلها بالحال التي لا تخفى، ثم إن كثيراً مما نص هو على أنه من البدع التي يُذم أهلُها صار بعض أتباعه يعتقد أنَّ ذلك من السنة! وأن الذي يُذم من خالف ذلك! ثم إن من أصحابه من جعل ما بدّعه الإمام أحمد هو السنة" انتهى كلامه.
وثمة من رموز اليسار الإسلامي الحاليين من كان حاذقاً في المعرفة والعلم بتخصصه الشرعي فجمع فيه فأوعى، وكان مضرباً للمثل في براعته وجودة فهمه وحسن ملحظه، فركب إليه النّاس من كل حدب وصوب يأخذون عنه العلم وعقدت له الدروس وطُبعت له الكتب فقضى القاصي والداني له بالعلم والمعرفة والنباهة، ثم لمّا ركب موجة اليسار الإسلامي ورؤس فيه انتحل عدداً من قضاياه الأبيّة على التأصيل وحاول التنظير لها فظهر للنّاس عجزه وبان خلله الواضح، ومن تكلّم في غير فنه وعلمه الذي يعرفه أتى بالعجائب، فجاهر بأقوال خالف فيها إجماع الأئمة وأتى بآراء غاية في النكارة والغرابة لا يأتي بمثلها صغار طلبة العلم المستجدّين، فإذا كان هذا حال العالم منهم وصاحب الفهم في الشريعة وقواعدها، فكيف بحال الفرد العادي الذي يأنس من نفسه عقلاً وفهماً فيركب الصعب والذلول ليخرج على الأمة بأقوال ما خطرت على بال غلاة المبتدعة السابقين!
أما اليسار الليبرالي فلم يقدم خطاباً تأصيلياً صريحاً يشفع له بالحضور المهيب، بل غلب على مخرجاته المهلهلةِ والسطحيّةِ الضعيفةِ الاستفزازُ للمجتمع ولعلومه المكوّنة لثقافته وعلى رأسها الأصول الشرعيّة والمعارف الدينيّة ومعاداة القيم والخروج عن الفضيلة، وتطبّع أصحابها بالنفعيّة والبحث عن المصلحة والضرب بتديّن المجتمع وثقافته عرض الحائط، ولهذا فإن دائرة تأثيره ضيقة جداً، ولا يكاد يلحق بهذا التوجّه أو ينتسب إلا من وجد فيه مصلحة ذاتيّة أو استدفأ الحضن الغربيَّ وتنعّم باحتوائه، ولولا استثمارهم للمزاج الغربي الذي يدعم هذه التوجهات ويؤيدها وإلا لما وجدوا موطئ قدم لهم وللفظتهم المجتمعات عن بكرة أبيها.
وتمر الأيام وتنقضي الليالي ويدعو دعاة الليبراليّة إلى شيء نُكُر، زاعمين فيه أن المجتمع المحلي قد أخذ المبادرة بالتوجه نحو الليبراليّة مؤيدين دعواهم ببعض المظاهر المنتشرة هنا وهناك وعلى رأسها البنوك والسفور وبعض مظاهر الاختلاط وغيرها، وهاهنا نحن بحاجة إلى أن نفرق بين الليبراليّة التي تُعد فكراً له قواعده ونظرياته ومنظومته، وبين بعض الممارسات الذاتيّة والسلوكيات الخاطئة التي تقع ضمن الإطار الفردي وتصنّفها الشريعة على أنها من المعاصي ذات الطابع الشهواني، سواءً كانت شهوة فرج أو شهوة مال أو شهوة منصب، فإنَّ النفوس تحب الميل إلى الملذات، وتؤثر في جوانب عدة الحياةَ الدنيا فتعصي الله أو تمارس سلوكياتٍ تتعارض مع طابع الديانة فيها لكنّها في الوقت ذاتها تعترف بالخطأ والتقصير وتُلهب ذاتها بسياط التوبيخ والتقريع واللوم، فهذا الثنائية أو الازدواجيّة هي من صميم النفس البشرية ومن طبيعتها وليست شذوذاً أو ازدواجية نفاقيّة خوفاً من المجتمع ووعّاظه المؤثرين كما يراها الدكتور على الوردي، ولهذا أقسم الله - تعالى - بالنفس التي تصارع هذه الثنائية وتعالجها فقال - سبحانه -: (ولا أقسم بالنفس اللوامة) قال ابن جرير: "الأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر وتندم على ما فات".
فالخلق بطبيعتهم يحبون الشهوات ويميلون إليها، فمنهم من يعصمه الله بدينه ومنهم من يقع فيها، والانغماس في الشهوات لا يقع ضمن السلوك الليبرالي الذي يسوّغ هذه الشهوات ويجعلها حرّية فرديّة ويمنع من المعاقبة عليها ما دامت تقع ضمن الإطار الفردي كما يروّج لذلك بعض الليبراليين ليثبتوا به تحوّل المجتمع إلى الليبراليّة وتقبلهم لها! ومن ثم فإن ارتفاع معدلات الخروج عن الفضيلة أو كثرة السلوكيات المخالفة للشريعة لا يغيّر تصنيف المجتمع من محافظ إلى ليبرالي لأنها تقع من تلك النفوس مع اعترافها بتقصيرها، وتجاوزها وإيمانها بحرمة هذه الأفعال وخروجها عن حدود الشريعة فيجب أن نضعها في سياقها الطبيعي، سياق الشهوة النفسية الغالبة مع حضور الإيمان القلبي واللوم الداخلي على الفعل، نعم سوف يكون مؤشراً سلبياً على ضعف التديّن فيه لكنّه ضعف مؤقت أو لعوارض خارجيّة.
وللإنصاف فإن بعض التوجهات الحداثيّة في العالم العربي حمل أصحابها كمّاً معرفيّاً كبيراً بهروا به مجتمعاتهم، وهو ما قادهم إلى تقديم مشاريع وأفكار تحمل تأصيلاً مُكثّفاً، غير أنَّ نظراءهم من المحليين لدينا لم يكن لديهم ذلك العمق ولا الاتساع المعرفي ممّا أدّى إلى ضعف خطابهم، وعدم اختراقه لسياج المحافظة في المجتمع، لكونه خطاباً مفرّعاً عن شهوة داخلية وليس مبنياً على قوة علميّة أو حجة مقبولة، ولهذا نلمس في بعض أفراد "جيل ما بعد الصحوة" انبهاراً معرفيّاً وتماهياً في شخصيّات معرفيّة عربيّة مشهورة بحربها على الإسلام، وتشبّعها بالمناهج الحداثيّة الغربيّة، والذي دعاهم إلى هذا ما وجدوه لديهم من التضلّع العلمي المعرفي وكثافة الإنتاج وغزارة البحوث، لكن لا نجد عشر معشار هذا الاهتمام منهم بأحد من أقطاب التوجه الحداثي المحلّي.
وقد استفاد اليسار بشقيه الإسلامي والليبرالي من بروز غلاة الجهاديين الذين فجّروا في المملكة بعد أن نظّروا وقرّروا جواز مثل هذه الأعمال الظالمة الباغية، وكفّروا ولاة الأمر واستباحوا دماء رجال الأمن وأعلنوا الحرب عليهم، وهؤلاء الغلاة رماهم النّاس جميعاً عن قوس واحد، وأنكروا عليهم أيما إنكار، وكان على رأس أولئك المنكرين رموز الصحوة وعامة شبابها، فضلاً عن كبار العلماء وطبقات المجتمع المتعددة، و الذي كفى البلاد والعباد شر هذه التفجيرات ووقانا بأسها فقد أوشكت على الانصرام والتولّي، غير أن اليسار لاسيّما الليبرالي أخذ يقتات على هذه الحوادث ويصفّي حساباته مع خصومه ومخالفيه من التيار المتدين العريض واستغل هذه الحوادث للإساءة إلى دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، واتهام مناهج التعليم وشن الغارة على المؤسسات الخيرية النظاميّة، وعلى حلق تحفيظ القرآن الكريم والمراكز الصيفيّة ومخيمات الدعوة، فكان من شؤم تلك التفجيرات الباغية الظالمة أن جرأت علينا هؤلاء السفهاء، وفتحت لهم باباً للظهور والبروز بعد أن أُخمدوا دهراً، وانصرف عنهم الناس وعن القراءة لهم.
وإضافة إلى اليسار السنّي فقد برز على السطح توجّه شيعي يحمل عمقاً فكرياً حقوقياً، ونُضجاً سياسياً وتجربة حركيّة سابقة فنفض عن نفسه عباءة الكمون وأخذ ينشط في الساحة مقدّماً وعْياً جديداً مبنيّاً على خطابٍ تصالحيٍّ مع الواقع السنّي بمحاولة البعد عن نقاط المماحكة الطائفيّة، والتماس المناطق الدافئة بين السنّة والشيعة والقرب منها، كما أخذ يعزف على وتر حقوق الأقلية مستفيداً من الضغط الدولي حيال هذه المنظومة، مستثمراً في الوقت ذاته ازدياد القوة الصلبة لدى الدولة الإيرانيّة والحراك الشيعي المنظّم داخل دول الخليج وداخل الدول الأفريقيّة التي نشط فيها الشيعة نشاطاً واضحاً ظاهراً، وحققوا عدداً من المكتسبات المهمّة واستطاعوا تقليص النفوذ السنّي في تلك المناطق من خلال الدعم الإيراني غير المحدود للتبشير بالمذهب الشيعي والدعوة إلى ما يُسمى بمذهب آل البيت.
وقد استثمر الشيعة نشاط اليسار الإسلامي لصالحهم خير استثمار فرأينا تطبيعاً طائفياً بالمجّان من رموز اليسار الإسلامي تجاه الشيعة وتقديم عدد من التنازلات الكبيرة دون أن يكسبوا شيئاً مهمّاً ذا بال من الشيعة لصالح السنّة، ولهذا رأينا هيجان الشيعة الغلاة وتحريضهم لعامتهم على ارتكاب الخروقات والتجاوزات سواءً في مناطق النفوذ الشيعية أو في بعض الأماكن الأخرى كالذي حدث في البقيع بالمدينة النبويّة وصمت عدد من مراجع الاعتدال فيهم.
وإنّه لمن الطبيعي أن يجد اليسار ممانعة شديدة وانحيازاً إلى المحافظة والتمسّك، وهذا ما يجعلنا نتوقع عدداً من النزالات العلميّة والمعارك الفكريّة الشديدة، وقد يصحب ذلك بعض الجنوح والشطط وشيء من البغي في الخصومة، والمسلك الشرعي يحتم على أصحابه معالجة ما يرونه من الخطأ في الرأي ببيان الحكم الشرعي ورد الأمور إلى نصابها الصحيح.
(5)
إذا تخطّينا الحديث عن اليسار مع أهميته - فهو حديث الناس الآن - فلسوف يستوقفنا أمر آخر مهم وله تأثير ظاهر على "جيل ما بعد الصحوة" وهو التضخّم الإعلامي وتمدد مؤسساته، وهذا النمو خلق واحدة من دوائر التأثير المهمة والسريعة والفعّالة، ولو تأملنا مسار الحركة العلميّة وطبيعتها في حقبة قريبة ماضية لوجدنا أن آليات التأثير وتقنياته كانت محصورة في عدد محدود من الأدوات، وهذه المحدودية مكنت من السيطرة على تلك الأدوات وضبطها وإمكانية تقنينها بيسر وسهولة، أما مع الانفتاح الإعلامي فقد تغيّر الوضع جذرياً، فأصبحت وسائل الإعلام تمارس دوراً مفتوحاً بعيداً عن الضوابط والحدود فتبرز من أرادت من الناس ولو كان مغموراً، وتوفّر لهم المنابر الحرة للحديث بما شاؤوا بعيداً عن صرامة الأنظمة وجمود البيروقراطية، والتقارب الإعلامي وسعة انتشاره وسهولة التعامل معه كل ذلك ساهم بشكل واضح في نشر الثقافات الجديدة وتعبئة المجتمع ضد الأفكار التي يراها الإعلام جديرة بالرفض أو المواجهة، ومن هنا فإن بعض رموز اليسار الإسلامي المحلي وجد في الإعلام ضالته المنشودة، ونشط من خلاله في نشر منظومة أفكاره البديلة وحجز له مساحة واسعة وجمهوراً عريضاً، ولست مبالغاً فيما لو قلت أن ساعة واحدة لأحد رموز ذلك التوجه في قناة جماهيرية يفوق في تأثيره مجموع ما يطرحه بعض مخالفيه مستفيدين من الأدوات الأخرى التقليدية غير الإعلاميّة.
وقد استطاع الإعلام بقوته وحضوره أن يشكّك في عدد من القضايا الشرعيّة الراسخة، ويثير حولها الشبه والأقاويل، حتى ظن الناس خطأ تلك القضايا وانحراف القائلين بها مع صحّتها في نفس الأمر فعليها العمل عند عامة أهل العلم، غير أن جسارة الإعلام وهيمنته وسلطته نقلت تلك الأقوال من كونها شرائع وديانة إلى جعلها شذوذاً وانحرافاً، والمستقبل سوف ينكشف عن المزيد من هذه المجازفات والضلالات ما دام الإعلام متروكاً للمخالفين الذين يبرعون في التزييف والتضليل.
والفرق بين الوسائل الإعلاميّة التقليدية كالقنوات والفضائيات، وبين الوسائل التقنيّة الأخرى كشبكات المعلومات والمواقع الاجتماعيّة والبرامج الموسوعيّة أن الأول منها يأتي غالباً موجّهاً ويُرادُ من وراءه بناء الثقافات المؤسِّسة والمساهمة في تغيير القناعات وإحداث التغييرات المجتمعيّة، أما الوسائل التقنيّة فهي في الغالب محايدة ومستقلّة والتأثر بها بحسب الفرد.
لم يكتف الإعلام بخلخلة الثوابت الشرعيّة فحسب، لكنه نشط أيضاً في عمليات الفرز والتصنيف للرموز والقدوات فرأينا تحوّلاً مهمّاً في مفهوم القدوة ومقوماتها، فبعد أن كانت مقومات القدوة تتركز في العلم والديانة والأثر المجتمعي وخدمة الناس ونفعهم، حلَّ النّجومُ محل ذلك بفعل السلطة الإعلاميّة! من اللاعبين والإعلاميّين، والشعراء والفنانين، وروّاد تطوير الذات وقوانين الجذب، وبرامج الثراء وتكديس الأموال، والغناء الذي كان معيباً ومستهجناً صار سلعة يتهافت النّاس على طلبها من خلال برامج تعليم الغناء وتلفزيون الواقع، وأصبحت المسلسلات التركيّة جزءاً مهمّاً من ثقافة المُجتمع وبرنامج الأسرة اليومي فهم يتطلّبونها من مختلف القنوات، ولا يستقبلون أحداً في ساعة عرضها.
ومن هنا يظهر لنا مدى التحدي الذي تشكله القنوات الفضائية وتأثيرها الكبير على "جيل ما بعد الصحوة"، لأن غالب ما يُنشر فيها، ويُبث ليس شيئاً محايداً، بل هو في غالبه موجّه مدعوم ويدخل ضمن النفوذ الناعم والقوة الناعمة لمراكز التأثير وصناعة التوجهات، ولهذا فإنَّ ترك القنوات الفضائية والإعراض عنها أو الدخول إليها عبر الشخصيات النمطيّة التقليدية سوف يجعلنا نفقد الفاعليّة المطلوبة في إدارة هذه الأداة المهمة والخطيرة، ويزيد الهوّة بين رموز الصحوة والجيل الناشئ الذي بدأ يستهويه الخطاب الإعلامي الجديد بأفراده الذين لا يمتلكون كمّاً معرفيّاً كبيراً لكنهم يديرون هذه المنابر بكفاءة عالية تمكّنهم من إحداث التغيير واستقطاب شرائح واسعة من المتابعين والمتأثرين.
(6)
ثمة عامل بدأ يطفو على السطح في ثقافة الجيل الحالي وهو العامل المادي والمبالغة في تقديره والاهتمام به والسعي لتحصيله، فثقافة المادة وتغليب الوعْي المادي المدني أو استحضاره ليكون واحداً من أهم المحدّدات الثقافية والذهنيّة ساهم في تغيير بعض المفاهيم التي كانت سائدة في أجيال الصحوة المتعاقبة.
ممّا يؤكد هذه الملاحظة الإقبال اللافت على التخصصات المدنيّة وانحسار العوامل الدافعة نحو دراسة التخصصات الشرعيّة والمسارعة إلى تبنّي الوعْي المدني، والحديث عن أدبياته والبحث في إشكالياته، وجعله محوراً رئيساً في الذهنيّة المشكلة لوعْي ما بعد الصحوة، ولا ريب أنَّ المناخ العالمي المادي الذي يغلب عليه الجشع في جمع المادة وتكديسها والسباق المحموم نحو التطبيع مع الثقافات الغربيّة بنظمها وتقنياتها الماديّة والمدنيّة، وحمّى الحرّيات والديمقراطيّة، وحقوق الإنسان وفاعليّة مؤسسات المجتمع المدني جعل لواقعنا المحلي نصيباً من ذلك، والمسوّغات لهذا الإقبال متفاوتة، فهناك من يرى ضرورة التترّس خلف المال لتحقيق الغايات، وهناك من ينظر إلى الوعي المدني باعتباره ضرورة حضارية لها الأولوية في البحث والنظر والتطبيق لأنها أساس التقدّم الحضاري، لاسيّما وهم يرون العالم الإسلامي يزداد في تقهقره وتراجعه والاستبداد فيه يتجذّر ويتأصّل.
والتقارير الدوليّة تتحدث عن نمو قوي للاقتصاديات في المنطقة وتركّز الأموال والثروات الطبيعية والنقديّة وزيادة فرص الاستثمار فيها والتعويل على المنطقة باعتبارها مخزناً استراتيجيّاً مهمّاً لمصادر الطاقة سواءً التقليدي منها أو البديل كالطاقة الشمسيّة، وهذه التنبؤات تعطينا شيئاً من الوجهة العالميّة وأثره على الواقع لدينا، فإن ازدياد الفرص التجارية والاستثماريّة وإقبال الشركات الغربيّة والشرقيّة وانتقال رؤوس الأموال إليها يكشف لنا عن اتجاه المؤشر وبوصلته وتأثير ذلك على المجتمع، فالمجتمعات المنغمسة في الترف ومباهج الحياة الدنيا والمبالغة في الاهتمام بالجوانب الماديّة سوف تميل أكثر إلى السكون المعرفي والتواكل العلمي وذبول النشاط العقلي والفكري وتخبو في دواخلهم الدافعية الاحتسابيّة والبحث عن مراد الشارع بتجرّد وصفاء نفس دون مزاحمةٍ من الخوف على الأموال والمكتنزات كما سوف تغيب أسئلة المعاني والرقائق وروافد الزاد الروحي.
(7)
إذا تجاوزنا هذه المظاهر العامة فلن نُغفل عاملاً مهمّاً وهو الضغط الخارجي ودفعه باتجاه إحداث التغييرات المجتمعيّة الجذريّة، والمتتبع للدراسات الغربيّة والتقارير الصادرة عنهم سوف يلمس ذلك بوضوح، فالغرب مهووس حالياً بتغيير المجتمع السعودي وغيرها من المجتمعات المحافظة والضغط باتجاه التحرر من الثقافة المتشددة بزعمهم والمكونة لقيمه ومعارفه، وغالب ما يُكتب عن الإصلاح السياسي لدينا في الغرب فإنما يقصدون به هذه القضايا، ولهذا يكثر في خطابهم عن الإصلاح السياسي الحديث عن المرأة والتعليم، والمناهج الدراسيّة والعمل الخيري، والموقف من الآخر وحرية الرأي، وحرية الديانة وزيادة المساحة للحريات العامة، ودعم التوجهات الليبراليّة أو التديّن السكوني وتصفية المذهب الوهابي، ومحاربة التشدد الديني وغيرها من القضايا المنهجيّة الفكريّة الثقافيّة.
ولا شك فإن هز القناعات في "جيل ما بعد الصحوة" أيسر منه وأسهل من أجيال الصحوة التي سبقته، ولهذا فليس بمُستغرب أن يركز الغرب عليهم ويستقطبهم من خلال أدواته المحليّة المتمثّلة في بعض اليسار الإسلامي المتقاطع مع الغرب ولو عن غير قصد أو من خلال المجوعات الليبراليّة المتماهيّة في المشروع الغربي، وقد لخّص "ديفيد كابلان David Kaplan" هذا التوجّه الغربي في تقرير مهم نشرته يو إس نيوز عام 2005 بعنوان: " Hearts، Minds، and Dollars" ومما جاء فيه: " قامت واشنطن في أكثر من عشرين دولة بتمويل برامج إذاعية وتلفزيونية إسلامية أو ورش تدريبية في مدارس إسلامية أو مراكز فكر إسلامية أو ورش سياسية أو غير ذلك من البرامج التي تشجع على إسلام معتدل، وهناك مساعدات فيدرالية لترميم مساجد وصيانة مصاحف قديمة وربما أيضاً بناء مدارس إسلامية، ففي عام 2003، كان المسؤولون قد نشروا نسخة علنية أقدم من وثيقة تتضمن الإستراتيجية القوميّة لمكافحة الإرهاب، ولكن يوجد الآن نسخة سرية أكبر منها لها ملحقات تتناول أهدافاً مركزية بينها تمويل الإرهاب وكسب حرب الأفكار، ومن أجل تقوية معسكر المعتدلين، تعترف الخطة الجديدة بأن أمريكا لم تحسن التواصل معهم، وتخطو بعدها خطوة أكبر قائلةً أن الولايات المتحدة وحلفاءها لديها مصلحة أمن قومي ليس فقط فيما يجري في العالم الإسلامي، بل فيما يجري داخل الإسلام نفسه، وتضيف الوثيقة أن أمريكا بسبب محدودية ما تستطيع أن تفعله في الصراع الديني، فإن عليها أن تعتمد أساساً على شركاء يشاطرونها قيماً مثل الديمقراطية وحقوق المرأة والتسامح، ومن بين هؤلاء الشركاء الدول الإسلامية الحليفة والمؤسسات الخاصة والمجموعات غير الربحية".
ولا يفوتني كذلك الإشارة إلى أن الغرب يعيش الآن مرحلة مهمة من مراحل تاريخه وهي المرحلة التي تعرض لها تقرير لمجلس الاستخبارات القومي الأمريكي حمل عنوان "اتجاهات عالمية 2025: عالم متحوّل global trends 2025: a transformed world" وقد وصف التقرير التوقيت الراهن بأنه مرحلة تاريخية مهمة تنتقل فيه القوة الاقتصاديّة ومراكز التأثير من الغرب إلى الشرق وتتلاشى معه بذلك الهيمنة الغربيّة المطلقة ليحل محله عالم جديد متعدد الأقطاب تحظى فيه الصين بقوة هائلة من الناحية المالية والعسكرية، وهو ما يؤهلها لأن تمارس دوراً مؤثراً على العالم خلال العشرين سنة المقبلة يفوق دور أي دولة أخرى بما فيها الولايات المتحدة الأمريكيّة، كما سوف تنمو عدد من الدول لتتحوّل إلى لاعب مهم، ومشارك رئيس على الخارطة الدولية كما هو الحال مع البرازيل وإندونيسيا وتركيا، أمّا أوروبا فسوف يخفت وهجها تدريجياً ويتقلص نفوذها، وسوف تستمر أفريقيا متدهورة من الناحية السياسيّة والأمنية والاقتصاديّة، أما منطقة الخليج العربي فسوف تحقق نمواً اقتصادياً كبيراً بسبب ارتفاع أسعار النفط ونمو الطلب العالمي عليه وضعف موارد الطاقة البديلة، وأشار التقرير كذلك إلى زيادة متوقعة في الأعمال الخارجة عن السيطرة الحكومية في العالم كما هو الحال في المجموعات الإرهابيّة، والمؤسسات الإجراميّة وشبكات الميلشيا، والعصابات وازدياد نفوذ العشائر والقبائل في مناطقهم وضعف سلطة الدولة عليهم.
ومن المقاربات المهمة حول هذا الموضوع ما كتبه "ريتشارد هاس Richard N.Haass" رئيس مجلس العلاقات الأمريكية الخارجيّة في دوريّة " foreign affairs" عدد شهري نوفمبر وديسمبر من عام 2006م وحمل عنوان: "الشرق الأوسط الجديد The New Middle East"، وقد ضمّن مقاربته عدداً من الملامح لعهد ما بعد الهيمنة الأمريكيّة على المنطقة التي بدأت بالحرب الاضطراريّة على العراق في تحرير الكويت وانتهت بالحرب الاختيارية على العراق لإزالة حكم صدام حسين، ومما يهمنا من كلامه ما يتصل بواقعنا فقد أشار إلى ازدياد عمليات العنف في المنطقة، وارتفاع أسعار النفط، وازدياد ظهور الميلشيات المسلحة في الشرق الأوسط، وبروز الشيعة بدور أكبر في المنطقة واستمرار التوتر بينهم وبين السنة سواء في أماكن الصراع المباشرة كالعراق أو في الدول ذات النفوذ والجيوب الشيعية مثل لبنان والسعودية، واستمرار العراق على ما هو عليه من الحرب الطاحنة وفي أحسن أحوالها تكون فيها دولة ضعيفة هزيلة مشغولة ببناء ما دمرته الحرب، أما إيران فسوف تكون واحدة من أقوى دولتين في المنطقة بالإضافة إلى إسرائيل والتي أخذت في التدهور والتراجع بسبب سياساتها الباغية وحروبها الجائرة.
ولو ضربنا مثلاً بما أشار إليه "ريتشارد هاس Richard N.Haass" من تضخم القوة الإيرانيّة باعتبار هذا التحليل أحد الآراء القويّة في الموضوع، فإننا أمام تحدٍّ واضح لقوة صاعدة بوعْي طائفي مُحكم، والجيوب الشيعية كثيرة في المنطقة ومنها الجيوب الموجودة في المملكة وهي مجموعات ناشطة وفاعلة وذات طابع حركي، وإذا استحضرنا طريقة التعامل اليساري بشقيه الإسلامي والليبرالي مع القضية فلن نجد إلا طريقة واحدة وهي التطبيع الطائفي وتقبّل الشيعة والقيام بمبدأ التساكت المتبادل دون التعرّض للعقائد والأصول الشرعيّة، و"جيل ما بعد الصحوة" سوف يتعامل غالباً مع الأمر بمبدأ الوسط المرفوع: إما التطبيع الطائفي وإما الانفجار الطائفي لأنه أمام وضع خارجي مليء بلغة القوة والتحدي ووضع داخلي يشحنه اليسار بالخوف من الطائفية والدفع باتجاه التطبيع والتحذير من التنافر، والإعلام لا يبرز إلا هذين الحلّين، وهكذا يكون الشأن مع المعضلات الأخرى بدفع الناس إلى أحد الاتجاهين من خلال التعبئة الإعلامية الجاهلة والجائرة.
جميع هذه الأحداث والتحليلات تكشف عن تحوّل مهم وخطير في التوجه الدولي، وبه سوف ينتهي عهد النظام العالمي الجديد الذي أطلقته أمريكا بعد انكشاف المعسكر الشرقي عليها بسقوط الاتحاد السوفيتي، وتفككه إلى دول انضم أغلبها للتوجه الليبرالي الغربي، أي أنّنا سوف نشهد عهداً جديداً تعود فيه التحالفات إلى الواجهة وتكثر فيه الاستقطابات الإقليمية والدوليّة، وسوف يطفو على السطح العديد من الإشكاليات التي كانت حيناً من الدهر كامنة ساكنة كما هو الحال في ملف الأقليات والحريّات العامة، والقضايا الحقوقيّة والتحالفات الدوليّة، وهذا يحتاج إلى وعْي شامل بالواقع الجديد واستيعابه جيداً والعمل على إدارته إدارة تحمل عمقاً شرعياً راسخاً على أصول أهل السنة وفهماً واقعيّاً مُحكماً، وهو ما يمثّل تحدياً كبيراً للصحوة، أما "جيل ما بعد الصحوة" فإن المؤشرات الأولية تقضي ببعده كثيراً عن مثل هذه الأجواء وعدم قدرته على معالجة تلك القضايا، فقد انحسرت الرؤى الإقليمية لدى عا