إن ، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله - تعالى - من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن العقيدة التي أمرنا الله بها، هي التي جاءت في كتابه، والعقيدة التي جاء بها رسولنا - صلى الله عليه وسلم - والتي أمرنا بإتباعه وإلا هلكنا، هي التي نطقت بها أحاديثه الصحيحة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم -، سواء كانت متواترة أو آحاداً، فنحن أهل السنة والجماعة نأخذ بها كلها، خلافاً لبعض المبتدعة الذين لا يأخذون مسائل الاعتقاد من أحاديث الآحاد.
ومن جمله ما أمرنا باعتباره وأخذه، مسألة الكرامات التي هي محل بحثنا هذا، كرامات الصالحين وأولياء الله - عز وجل -، وقد عد علماء السلف هذه المسألة، من جمله ما يعتقده أهل السنة والجماعة، قال شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمه الله تعالى -في العقيدة الواسطية: " ومن أصول أهل السنة التصديق بكرامات الأولياء، وما يجرى الله على أيديهم من خوارق العادات" (1).
وقال الإمام الطحاوي - رحمه الله تعالى - في عقيدته المشهورة بالطحاوية: " ونؤمن بما جاء من كراماتهم وصح عن الثقات من رواياتهم" (2).
وقال السفاريني - رحمه الله تعالى - في منظومته:
وكل خارق أتى عند صالح *** من تابع لشرعنا وناصح
فإنها من الكرامات التي *** بها نقول فاقف للأدلة
ومن نفاها من ذوى الضلال *** فقد أتى في ذاك بالمحال
فإنها شهيرة ولم تزل *** في كل عصر يا شقا أهل الزلل (3)
إلى غير ذلك من أقوال السلف في هذا الباب، وقد خصص الإمام اللالكائي في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة جزءاً خاصاً بكرامات الأولياء، نقل فيها من الأحاديث والآثار أمراً عجباً، وقبله وبعده فمن كتب في عقيدة السلف أو في الرد على من خالفهم.
فأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن الكرامات والخوارق قد تحصل بأمر الله - جل وتعالى- لبعض أولياءه ولبعض عباده الصالحين لحكم جليلة سنبينها بالتفصيل إن شاء الله - تعالى - في هذا البحث المتواضع.
وبعد هذا الإجمال فقد آن الشروع في التفصيل.
كرامات الأولياء:
وقبل الشروع في ذكر تفاصيل هذه المسألة، كان لزاماً أن نبدأ بتعريف كلٍ من الكرامة، ثم الولاية لتتضح الصورة تماماً.
أولاً: الكرامة:
قال ابن منظور: " الكريم من صفات الله وأسمائه، وهو الكثير الخير الجواد المعطي الذي لا ينفذ عطاؤه"(4).
أما الكرامة فتعريفها أنها: أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة، يظهر على يد عبد ظاهر الصلاح ملتزم المتابعة لنبي كلف بشريعته مصحوباً بصحة الاعتقاد والعمل الصالح، علم بها أو لم يعلم، ولا تدل على غيره لجواز سلبها وأن تكون استدراجاً(5).
وقال السفارينى: " الكرامة وهى أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة، ولا هو مقدمة يظهر على يد عبد ظاهر الصلاح علم بها ذلك العبد الصالح، أم لم يعلم "(6).
ثانياً: الولاية:
إنه لا تعريف للأولياء أحسن من قول الله - تعالى -: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة يونس:62-64]، فالولاية مرتبة في الدين عظيمة، لا يبلغها إلا من قام بالدين ظاهراً وباطناً، فالولاية لها جانبان:
- جانب يتعلق بالعبد: وهو القيام بالأوامر واجتناب النواهي، ثم التدرج في مراقي العبودية بالنوافل.
- وجانب يتعلق بالرب - سبحانه وتعالى -: وهو محبة هذا العبد ونصرته، وتثبيته على الاستقامة.
فالولي هو ذلك العبد الذي آمن بالله - عز وجل - أي: صدق به وبما جاء عنه - سبحانه - في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والتزم بشرعه ظاهراً وباطناً، ثم داوم على ذلك بمراقبة الله - سبحانه - وملازمة التقوى والحذر من الوقوع فيما يسخطه عليه من تقصير في واجب، أو ارتكاب لمحرم هذا العبد هو ولي الله - سبحانه وتعالى - يحبه وينصره ويبشره برضوانه وجنته، وعند فراقه للدنيا يرتفع عنه الخوف والحزن لما يكشف له من رحمة الله وبشارته.
وهذا المعنى يؤكده الحديث القدسي الذي أورده البخاري في صحيحه: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)).
فهذا الحديث تضمن المعاني التي في الآية الكريمة:
جانب العبد: وهو أداء الفرائض ثم التقرب بالنوافل، وجانب الرب - عز وجل - وهو محبته لذلك العبد ونصرته وتأييده ورعايته له في كل موقف، وحفظه لجوارحه فيصبح عبداً محفوظاً في جميع جوارحه، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس -رضي الله عنهما-، ((يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك..))(7).
إن كرامات الأولياء:
- قد تكون تأييداً وتثبيتاً للشخص.
- وقد تكون تأييداً للحق.
ولهذا كانت الكرامات في التابعيين ومن جاء بعدهم أكثر من الصحابة؛ لأن الصحابة عندهم من التثبيت ما يستغنون به عن الكرامات.
فالعاقل الذي يطلب الاستقامة لا الكرامة.
قال أبو علي الجوزجانى: " كن طالباً للاستقامة لا طالباً للكرامة، فإن نفسك منجبلة على طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة".
قال الشيخ السهروردي فى عوارفه: " وهذا الذي ذكره أصل عظيم كبير في الباب، وسر غفل عن حقيقته كثير من أهل السلوك والطلاب، وذلك أن المجتهدين والمتعبدين سمعوا عن سلف الصالحين المتقدمين وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات فأبداً نفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئاً من ذلك، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متهماً لنفسه في صحة عمله حيث لم يكاشف بشيء من ذلك ولو علموا سر ذلك لهان عليهم الأمر، فيعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك باباً، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات، وآثار القدرة تفننا، فيقوى عزمه على هذا الزهد في الدنيا والخروج من دواعي الهوى وقد يكون بعض عباده يكاشف بصدق اليقين، ويرفع عن قلبه الحجاب ومن كوشف بصدق اليقين أغنى بذلك عن رؤية خرق العادات؛ لأن المراد منها كان حصول اليقين، وقد حصل اليقين فلو كوشف هذا المرزوق صدق اليقين بشيء من ذلك لازداد يقيناً، فلا تقتضي الحكمة كشف القدرة بخوارق العادات لهذا الموضوع استغناء به وتقتضي الحكمة كشف ذلك الآخر لموضع حاجته، وكان هذا الثاني يكون أتم استعداداً وأهلية من الأول، فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة ثم إذا وقع في طريقه شيء خارق كان كأن لم يقع فما يبالي ولا ينقص بذلك.
وإنما ينقص بالإخلال بواجب حق الاستقامة" (8).
الكرامة قسمان: -
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -في العقيدة الواسطية: " ومن أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات... ".
أثبت شيخ الإسلام - رحمه الله - في هذا المقطع من عقيدته أن الكرامة قسمان:
1- قسم يتعلق بالعلوم والمكاشفات.
2- قسم يتعلق بالقدرة والتأثيرات.
أما القسم الأول فهو أن يحصل للإنسان من العلوم ما لا يحصل لغيره، والمكاشفات أن يكشف له من الأمور مالا يحصل لغيره.
مثال الأول: وهو أن يحصل للإنسان من العلوم ما لا يحصل لغيره: ما ورد عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أن الله أطلعه على ما في بطن زوجته من الحمل، أعلمه الله بأنه أنثى.
ومثال الثاني: وهو أن يحصل للإنسان من الكشف ما لا يحصل لغيره: ما حصل للفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قصته المشهورة: "يا سارية الجبل".
وما حصل للرسول - صلى الله عليه وسلم - من المكاشفات في غزوة مؤتة عندما أخبر وهو في المدينة بمقتل القواد الثلاثة، وأنه تسلم الراية بعد جعفر خالد بن الوليد.
أما القسم الثاني من أقسام الكرامات: وهو ما يتعلق بالقدرة والتأثيرات، فهو كما قال العلماء عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - رحمة واسعة، وما أعطي من قوة في المناظرة والتأثير على الخصم من العلوم العقلية والنقلية، حتى قالوا: أنه لم ينقطع - رحمه الله - يوماً من الدهر وهو يناظر خصمه، حتى أنه كان يخصم الذي أمامه من أقواله ومذهبه، ولاشك أن هذا مما فتح الله به على شيخ الإسلام من الكرامات.
وهذا القسم من الكرامات، ينال شيئاً منه الواحد منا والله المستعان في بعض المناسبات ونحن الضعاف المهازيل فأحياناً تقوم وتتكلم في مناسبةٍ ما، دون ما إعداد فتتكلم بكلام رصين متين قوي، وتأتي بالأدلة والشواهد حتى أنك أنت تستغرب من نفسك كيف خرج منك مثل هذا الكلام، الذي لو أعددت له ما كان بهذه القوة والرصانة والمتانة، لا شك بأن هذا مما يفتح الله به على العبد، وليس هو بحول العبد ولا بقوته، وإن حصل شيء من هذا لأحدنا في بعض الأحايين فأيضاً ينبغي له ألا يغتر بنفسه فربما يكون استدراجاً له، وربما يكون هذا من تأييد الله - جل وتعالى - للحق لا للشخص.
فوائد الكرامات:
إن الكرامات لا تحصل عبثاً دون حكم وفوائد، وقد لخص العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي فوائد الكرامات في ثلاث قضايا، ذكرها - رحمه الله - في تعليقه على العقيدة الواسطية فقال - رحمه الله -:
" أعظمها الدلالة على كمال قدرة الله ونفوذ مشيئته، وكما أن لله سنناً وأسباباً تقتضى مسبباتها الموضوعة لها شرعاً وقدراً فإن لله أيضاً سنناً أخرى لا يقع عليها علم البشر ولا تدركها أعمالهم وأسبابهم، فمعجزات الأنبياء وكرامات الأوليات بل وأيام الله وعقوباته في أعدائه الخارقة للعادة، كلها تدل دلالة واضحة أن الأمر كله لله، والتقدير والتدبير كله لله، وأن لله سنناً لا يعلمها بشر ولا ملك، فمن ذلك قصة أصحاب الكهف والنوم الذي أوقعه الله بهم تلك المدة العظيمة وقيض أسباباً متنوعة لحفظ دينهم وأبدانهم كما ذكر الله في قصتهم، ومنها ما أكرم الله به مريم بنت عمران وأنه (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) [سورة آل عمران:37]، وكذلك حملها وولادتها بعيسى على ذلك الوصف الذي ذكر الله، وكلامه في المهد هذا فيه كرامة لمريم، ومعجزة لعيسى - عليه السلام -، وكذلك هبته - تعالى - الولد لإبراهيم من سارة وهى عجوز عقيم على كبره، كما وهب لزكريا يحيى على كبره وعقم زوجته، وهذه معجزة للنبي وكرامة لزوجته، وقد أطال شيخ الإسلام - رحمه الله - النفس وبسط الكلام في هذا الموضوع في كتابه - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وذكر قصصاً كثيرة متوافرة تدل على هذه القضية الثانية: أن وقوع الكرامات للأولياء في الحقيقة معجزات للأنبياء؛ لأن تلك الكرامات لم تحصل لهم إلا ببركة متابعة نبيهم الذي نالوا به خيراً كثيراً من جملتها الكرامات.
الثالثة: أن كرامات الأولياء هي من البشرى المعجلة في الحياة الدنيا كما قال - تعالى -: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا) [سورة يونس:64]، وهى على قول بعض المفسرين: كل أمر يدل على ولايتهم وحسن عاقبتهم، ومن ذلك الكرامات، ولم تزل الكرامات موجودة لم تنقطع في أي وقت، وفي أي زمن وقد رأى الناس منها العجائب والأمور الكثيرة"(9).
وهناك تعليق نفيس للشيخ/ ابن عثيمين على الواسطية ذكرها في أشرطته تتعلق بالنقطة الثانية وهو أن الكرامة للولي معجزة للنبي، قال - حفظه الله -: " كل كرامة لولي فهي آية للنبي الذي اتبعه، ولهذا قال بعض العلماء: إن ما جرى من كرامات للأولياء من هذه الأمة فهي آيات للرسول - صلى الله عليه وسلم -"، وقال بعض العلماء أنه ما من آية لنبي من الأنبياء السابقين إلا ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلها، فالرسول مثلاً لم يلق في النار فيخرج حياً كما حصل لإبراهيم - عليه السلام -، فقالوا جرى ذلك لأتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كذلك فلق البحر لموسى - عليه السلام - حصل لأتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمور في البحر أعظم مما حصل لموسى - عليه السلام - وهو المشي على الماء، كذلك إحياء الموتى لعيسى - عليه السلام - حصل لأتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثلها، كذلك الرجل الذي أحيا الله له فرسه حتى بلغ أهله، كذلك إبراء الأكمه وإعادة البصر حصل للرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه.
ضوابط الكرامة:
ليس كل ما يظهر على أيدي الصالحين أو غيرهم يكون كرامة، بل قد تكون غواية من الشيطان أو إضلالاً من بعض الجن، ولذا فقد وضع الدكتور أحمد بن سعد حمدان محقق كتاب اللالكائي - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة- مقدمة في الجزء التاسع منه خاصة بموضوع الكرامات فوضع - حفظه الله - أربعة ضوابط مهمة:
1-أن يكون صاحبها مؤمناً متقياً:
وهو الوصف الذي ذكره الله - عز وجل - في كتابه بقوله - تعالى -: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) [سورة يونس:62-63].
فيؤدى ما افترضه الله - عز وجل - عليه من الفروض والواجبات ويجتنب ما نهاه الله - عز وجل - عنه من المحرمات ثم يترقي في سلم العبودية بعمل المستحبات وترك المكروهات حتى يحقق معنى الولاية.
قال شيخ الإسلام: " وليس لله ولي إلا من اتبعه باطناً وظاهراً، فصدقه فيما أخبر به من الغيوب، والتزم طاعته فيما فرض على الخلق من أداء الواجبات وترك المحرمات.
2- أن لا يدعي صاحبها الولاية:
الولاية هي درجة تتعلق بفعل الرب - عز وجل - وفعل العبد، والعبد كما ذكرنا يترقي في سلم العبودية بفعل الطاعات وترك المخالفات، وهو لا يعلم عن الله - عز وجل - وهل قبل الله من العبد عمله فرفعه به أم لم يقبله منه.
فدعوى الولاية هي دعوى علم الغيب أولاً، ثم إنها تزكية للنفس ثانياً، وقد قال الله - عز وجل -: (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [سورة النجم:32].
3- أن لا تكون سبباً في ترك شيء من الواجبات:
الكرامة يحصل عليها الولي بسبب طاعته لله - عز وجل - بإيمانه وتقواه، ويلزم من ذلك أن لا تخالف ما كان سبباً في حصولها.
4- أن لا تخالف أمراً من أمور الدين:
فلو رأى في المنام أو في اليقظة أن شخصاً في صورة نبي أو ملك أو صالح يقول له: قد أبحت لك الحرام، أو حرمت عليك الحلال، أو أسقطت عنك التكاليف، أو نحو ذلك لم يصدقه، فإن ذلك من الشيطان إذ أن شريعة الله - عز وجل - باقية إلى يوم القيامة من غير نسخ، فما رأى الإنسان يقظةً أو مناماً يخالف ذلك فينبغي أن يعرف أنه من الشيطان (10).
الأشخاص الذين تظهر على أيديهم الخوارق: (11).
ليس كل من ظهر على يديه أمر خارق للعادة كان ولياً، ولذا فيمكن تصنيف أصحاب الخوارق إلى عدة أقسام على النحو التالي:
1- أناس صالحون ملتزمون بالشريعة الإسلامية ظاهراً وباطناً قد آمنوا بالله - عز وجل - وبما أمرهم أن يؤمنوا به وعملوا بما أمروا أن يعملوه ويعبدون الله - عز وجل - على وجل وخشية أن لا يتقبل منهم.
قد اتخذوا من حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدوة يسيرون على منهاجها، ولا يدعون لأنفسهم مكانة زائدة على أفراد الأمة ولا يزكون أنفسهم، فهؤلاء هم أهل كرامة الله - عز وجل - وأهل توفيقه وليس فوق هداية العبد لطاعة الله - عز وجل - منزلة يتطلع إليها الإنسان المسلم.
2- قسم فاسق استخدموا الشياطين واستخدمتهم الشياطين إما عن طريق السحر أو ما شابه ذلك من الوسائل المحرمة، فهؤلاء قد اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله - عز وجل - وباعوا دينهم بما تقدمه لهم الشياطين مخاريق وبما تعينهم عليه من أعمال.
وهذا الصنف قد يظهر على حقيقته أمام الناس ويهمل الواجبات الشرعية، ويرتكب المحذورات المحرمة وهذا كاف في بيان حاله وأنه ليس أهلاً للكرامة، ولا للولاية لمخالفة سلوكه لسلوك أولياء الله - عز وجل -.
3- قسم كفار، استعملوا وسائل متعددة كالقسم السابق إلا أن هؤلاء يعملون ما يعملون لإفساد عقائد المسلمين فيظهرون لهم في مظهر الزهاد الصالحين، ويظهرون لهم من السحر والشعوذة ما يخدعونهم به، ثم يبثون فيهم عقائد الشرك والضلال تحت ستار "الولاية" والناس ينخدعون بما يرونه يظهر على يديه من الأعمال الغريبة والمخاريق العجيبة.
4- وقسم عباد جهلة، أغواهم الشيطان، وهؤلاء ليس لديهم من العلم الشيء الذي يجعلهم يميزون فهؤلاء لا يفرقون بين ما هو كرامة، وما هو من خداع الشيطان.
فإذا رأوا أمراً غريباً أو سمعوا صوتاً ظنوا أن هذا ملك يخاطبهم، وما علموا بأن الشيطان قد يتمثل في صورة دابة، وكل هذا من مكر الشيطان بعباد الكرامات والذين ليس لديهم من العلم الشرعي ما يفرقون به بين الحق والباطل.
بين المعجزة والكرامة:
اسم المعجزة يعم كل خارق للعادة في اللغة وأيضاً في عرف الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد وغيره، ويسمونها الآيات لكن كثيراً من المتأخرين يفرق في اللفظ بينهما، فيجعل المعجزة للنبي والكرامة للولي. وجماعهما الأمر الخارق للعادة.
فالمعجزة، أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي، سالم من المعارضة، والمعجزة تكون حسية وتكون معنوية.
فالحسية هي المشاهدة بالبصر، كخروج الناقة، وانقلاب عصى موسى حية.
أما المعنوية، كمعجزة القرآن.
وقد أوتي نبينا - صلى الله عليه وسلم - من كل ذلك، فمن المحسوسات: انشقاق القمر، وحنين الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه، وتسبيح الطعام، وغيرها.
ومن المعنويات، المعجزة الباقية الخالدة وهو القرآن.
أما الكرامات، فهي للأنبياء وللأولياء، وثبوتها للأولياء حق، وهو ظهور الأمر الخارق للعادة على أيديهم، وإن لم يعلموا كقصة أصحاب الكهف وأصحاب الصخرة، وكلها معجزات لأنبيائهم وكنداء عمر لسارية وككتابته إلى نيل مصر، وكخيل العلاء بن الحضرمي، وسيأتي تفصيل هذه بعد قليل بزيادة إيضاح وأمثله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - تعالى- " فما كان من الخوارق من باب العلم، فتارة بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة ومناماً، وتارة بأن يعلم ما لا يعلم غيره وحياً وإلهاماً أو إنزال علم ضروري أو فراسة صادقه، ويسمى كشفاً ومشاهدات ومكاشفات ومخاطبات، فالسماع مخاطبات والرؤية مشاهدات والعلم مكاشفة، وما كان من باب القدرة فهو التأثير، وقد يكون همة وصدقاً ودعوة مجابة، وقد يكون من فعل الله الذي لا تأثير له فيه بحال، مثل هلاك عدوه بغير أثر فيه كقوله: ((من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة)) (12).
ومثل تذليل النفوس له ومحبتها إياه ونحو ذلك، وكذلك ما كان من باب العلم والكشف قد يكشف لغيره من حاله بعض أمور، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في المبشرات: ((هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له)) (13)، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنتم شهداء الله في الأرض))(14).
وقد جمع لنبينا - صلى الله عليه وسلم - جميع أنواع المعجزات والخوارق، أما العلم والأخبار الغيبية والسماع والرؤية فمثل إخبار نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن الأنبياء المتقدمين وأممهم، ومخاطباته لهم وأحواله معهم، وكذلك إخباره عن أمور الربوبية والملائكة والجنة والنار بما يوافق الأنبياء قبله من غير تعلم منهم، فإخباره عن الأمور الغائبة ماضيها وحاضرها هو من باب العلم الخارق، وكذلك إخباره عن الأمور المستقبلة مثل: مملكة أمته وزوال مملكة فارس والروم، وقتال الترك وألوف مؤلفة من الأخبار التي أخبر بها مذكور بعضها في كتب دلائل النبوة لأبي نعيم والبيهقي" انتهى(15).
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - حفظه الله - تعالى - وأطال في عمره: " الفرق بين المعجزة والكرامة والأحوال الشيطانية الخارقة للعادة على يد السحرة والمشعوذين: أن المعجزة: هي ما يجري الله على أيدي الرسل والأنبياء من خوارق العادات التي يتحدَّون بها العباد ويختبرون بها، ويخبرون بها عن الله لتصديق ما بعثهم به ويؤيدهم بها - سبحانه -، كانشقاق القمر، ونزول القرآن، فإن القرآن هو أعظم معجزة لرسولٍ على الإطلاق، ولحنين الجذع، ونبوع الماء من بين أصابعه، وغير ذلك من المعجزات الكثيرة.
وأما الكرامة فهي ما يجري الله على أيدي أوليائه المؤمنين من خوارق العادات كالعلم والقدرة وغير ذلك، كالظلة التي وقعت على أسيد بن الحضير حين قراءته القرآن، وكإضاءة النور لعباد بن بشر وأسيد بن حضير حين انصرفا من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما افترقا أضاء لكل واحد منهما طرف سوطه، وشرط كونها كرامة أن يكون من جرت على يده هذه الكرامة مستقيماً على الإيمان ومتابعة الشريعة فإن كان خلاف ذلك فالجاري على يده من الخوارق يكون من الأحوال الشيطانية، ثم ليعلم أن عدم حصول الكرامة لبعض المسلمين لا يدل على نقص إيمانهم لأن الكرامة إنما تقع لأسباب:
منها: تقوية إيمان العبد وتثبيته، ولهذا لم ير كثير من الصحابة شيئاً من الكرامات لقوة إيمانهم وكمال يقينهم، ومنها: إقامة الحجة على العدو كما حصل لخالد لما أكل السم وكان قد حاصر حصناً فامتنعوا عليه حتى يأكله، فأكله وفتح الحصن، ومثل ذلك ما جرى لأبي مسلم الخراسانى لما ألقاه الأسود العنسي في النار فأنجاه الله من ذلك لحاجته إلى تلك الكرامة، وكقصة أم أيمن لما خرجت مهاجرة واشتد بها العطش سمعت حساً من فوقها فرفعت رأسها فإذا هي بدلو من ماء فشربت منها ثم رفعت.
وقد تكون الكرامة ابتلاء فيسعد بها قوم ويشقى بها آخرون، وقد يسعد بها صاحبها إن شكر، وقد يهلك إن أعجب ولم يستقم" (16). انتهى كلامه - حفظه الله -.
وقال الشيخ/ عبد العزيز السلمان: " ويفرق بينها وبين المعجزة بأن المعجزة تكون مقرونة بدعوى النبوة بخلاف الكرامة". (17).
صور من المعجزات والكرامات:
فأولاً: هذه بعض معجزات رسولنا - صلى الله عليه وسلم -:
- روى مسلم في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه- قال: " سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلنا وادياً أفيح فذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته فاتبعته بإداوة من ماء فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم ير شيئاً يستتر فإذا شجرتان بشاطئ الوادي فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى إحداهما، فأخذ بغصنين من أغصانها فقال: ((انقادي عليَّ بإذن الله)) فانقادت معه كالبعير المخشوم الذى يصانع قائده حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بعض أغصانها، فقال: ((انقادي عليَّ بإذن الله)) فانقادت كذلك حتى إذا كان بالمنتصف فيما بينهما لأَم بينهما حتى جمع بينهما، فقال: ((التئما عليَّ بإذن الله))، فالتأمتا عليه فخرجت أحضر مخافة أن يحس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقربى فتباعدت فجلست أحدث نفس فحانت مني لفتة فإذا أنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقبلاً وإذا الشجرتان قد افترقتا فقامت كل واحدة منهما على ساق".
- ولما انكسرت رجل عبد الله بن عتيك - رضي الله عنه - بعد ما قتل أبا رافع الذي يؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فانتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثته فقال لي: ((أبسط رجلك))، فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم أشتكها قط.
- وفى الترمذى عن علي - رضي الله عنه - قال: " كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله شجر، ولا جبل إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله".
- وجاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: بم أعرف أنك نبي؟ قال: ((إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أني رسول الله؟))، قال: نعم، فدعاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: ((ارجع)) فعاد، فأسلم الأعرابي.
- وقصة ارتجاف أحد: وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد أحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)).
- وقصة ماء الركوة: وهى ما ورد عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: " عطش الناس يوم الحديبية والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين يديه ركوة فتوضأ فجهش الناس نحوه فقال: ((ما لكم؟)) قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك، قال جابر: فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده في الركوة فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا، قال سالم: قلت لجابر: كم كنتم قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة".
- وقصة عكاشة بن محصن بن حرشان الأسدي حينما اندفع يقاتل المشركين يوم بدر ويحصد فيهم حصدا حتى انكسر سيفه فلم يثنه ذلك عن خوض المعركة ولم يتخذ من كسر سيفه فلم يثنه ذلك عن خوض المعركة ولم يتخذ من كسر سيفه معذرة عند القتال فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبره بكسر سيفه وإرادة غيره فدفع - صلى الله عليه وسلم - جذلاً من حطب فقال له: ((قاتل بهذا يا عكاشة)) فلما أخذه عكاشة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هزه فعاد في يده سيفاً صارماً طويل القامة شديد المتن أبيض الحديدة فقاتل به - رضي الله عنه - حتى فتح الله - تعالى -على المسلمين ولم يزل عنده ذلك السيف يشهد به المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى استشهد في قتال الردة في خلافة أبى بكر الصديق - رضي الله عنه -.
- وقصة حنين الجذع: ما ورد عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أجعل لك شيئاً تقعد عليه فإن لي غلاماً نجاراً قال: ((إن شئت))، قال: فعملت له المنبر، فلما كان يوم الجمعة، وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر الذي صنع، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أخذها فضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت".
- وقصة قتادة بن النعمان: فعن أبى سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ذاك ليلة لصلاة العشاء، وهاجت الظلماء من السماء وبرقت برقة فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتادة بن النعمان فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قتادة؟)) قال: نعم يا رسول الله، علمت أن شاهد الصلاة الليلة قليل فأحببت أن أشهدها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا انصرفت فأتني))، فلما انصرف أعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرجوناً وقال: ((خذه فسيضيء أمامك عشراً وخلفك عشراً)).
- وقصة أبى جابر: وهى ما ورد عند جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: " توفى أبي شهيداً في أحد وعليه دين فاستعنت النبي - صلى الله عليه وسلم - على غرمائه أن يضعوا من دينه فطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يفعلوا، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اذهب فصنف تمرك أصنافاً، العجوة على حدة وعذق زيد على حدة - أنواع التمر- ثم أرسل إلي)) قال جابر: ففعلت ثم أرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس على أعلاه أو في وسطه ثم قال: ((كِلْ للقوم)) قال جابر: فكلتهم حتى أوفيتهم الذي لهم وبقي تمري كأن لم ينقص منه شيء.
- ومن ذلك مجيء المطر في مسيره - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى بدر وكان للمسلمين نعمة وقوة وعلى الكفار بلاء ونقمه.
- ورميه - صلى الله عليه وسلم - المشركين بالحصى والتراب حتى عمت رميته الجمع وتقليل المشركين في أعين المؤمنين، وإشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مصارع المشركين بقوله: ((هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان))، فرأى المسلمون ذلك على ما أشار إليه وذكره.
- وقصه لبن أهل الصفة، وذلك أن أبا هريرة قعد يوماً على الطريق فمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتبسم حين رآه وعرف ما في نفسه وما في وجهه ثم قال: ((يا أبا هريرة))، قلت: لبيك يا رسول الله قال: ((الحقْ))، ومضى فتبعته فاستأذن فأذن لي فدخل فوجد لبناً في قدح، فقال: ((من أين هذا اللبن؟))، قالوا: من فلان أو فلانة قال: ((أبا هر))، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي))، قال أبو هريرة: فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاؤوا أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، قال: فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت فقال: ((يا أبا هريرة))، قلت: لبيك يا رسول الله قال: ((خذ فأعطهم))، قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد على القدح، حتى انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد روي القوم كلهم فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم فقال: ((يا أبا هر))، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((بقيت أنا وأنت))، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: ((أقعد فاشرب))، فقعدت فشربت، فقال: ((اشرب)) فشربت، فما زال يقول اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا، قال: ((فأرني))، فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة - صلى الله عليه وسلم -".
- ومن ذلك رد عين قتادة بن النعمان فقد أصيبت عينه في غزوة أحد حتى وقعت على وجنته فردها النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما نظراً وفى ذلك يقول ابنه:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه *** فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فعادت كما كانت لأول أمرها *** فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد
- وقال رفاعة بن رافع رميت بسهم يوم بدر ففقئت عيني فبصق فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعا لي فما آذاني منها شيء بعد.
- ومن ذلك استسقاؤه - صلى الله عليه وسلم -.
ففي الصحيحين عن أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه ثم قال: ((اللهم أغثنا اللهم أغثنا)) قال أنس: " والله ما نرى في السماء من سحاب ولا من قزعة، وإن السماء مثل الزجاجة وما بيننا وبين سلع من دار، فو الذي نفسي بيده ما وضع يديه حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل من منبره حتى رأيت المطر يتحدر عن لحيته".
- ومن ذلك ما في غزوة خيبر من أنه - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى علي وهو أرمد فبصق في عينيه فبرئ كأن لم يكن به وجع.
- وقصة طعام جابر - رضي الله عنه - معروفه مشهورة.
ولقد صدق من قال:
محمد المبعوث للناس رحمة *** يشيد ما أوهى الضلال ويصلحُ
لئن سبَّحت صمُّ الجبال مجيبة *** لداود أو لان الحديد المصفحُ
فإن الصخور الصمَّ لانت لكفه *** وإن الحصا في كفه ليسبحُ
وإن كان موسى أنبع الماء بالعصا *** فمن كفه قد أصبح الماء يطفحُ
وإن كانت الريح الرخاء مطيعة *** سليمان لا تألو تروح وتسرحُ
فإن الصبا كانت لنصر نبينا *** برعبٍ على شهرٍ به الخصم يكدحُ
وإن أوتي الملك العظيم وسخرت *** له الجن تشفي مارضيه وتلدحُ
وإن كان إبراهيم أعطي خلة *** وموسى بتكليم على الطور يمنحُ
فهذا حبيب بل خليل مكلم *** وخصص بالرؤيا وبالحق أشرحُ
وخصص بالحوض العظيم وباللواء *** ويشفع للعاصين والنار تلفحُ
وبالمقعد الأعلى المقرب عنده *** عطاء ببشراه أقر وأفرحُ
وبالرتبة العليا الأسيلة دونها *** مراتب أرباب المواهب تلمحُ
وفى جنة الفردوس أول داخل *** له سائر الأبواب بالخار تفتحُ
ثانياً: نماذج من كرامات الأولياء:
- قصة سفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ركبنا البحر في سفينة فانكسرت السفينة، فركبت لوحاً من ألواحها فطرحني في أجمة فيها أسد، فلم يرعني إلا به، فقلت: يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فطأطأ رأسه وغمز بمنكبه شقي، فما زال يغمزني ويهديني الطريق حتى وضعني على الطريق وهمهم فظننت أنه يودعني.
- ومنها قصة أبي مسلم الخولاني فإنه لما قال له الأسود العنسي المتنبي: أتشهد أني رسول الله، قال: "ما أسمع"، قال أتشهد أن محمداً رسول الله، قال: "نعم"، فأمر بنار فأوقدت له، وألقي فيها فجاؤوا إليه فوجدوه يصلي فيها، وقد صارت عليه برداً وسلاماً، فقدم المدينة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر، وقال: " الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد من فعل به كما فعل بإبراهيم".
- والعلاء بن الحضرمي كان عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على البحرين، وكان يقول في دعائه: " يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم فيستجاب له، ودعا الله بأن يسقوا ويتوضئوا لما عدموا الماء والسقاء فأجيب، ودعا الله لما اعترضهم البحر ولم يقدروا على المرور بخيولهم، فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سروج خيولهم، ودعا الله أن لا يروا جسمه إذا مات فلم يجدوه في اللحد".
- ولما مات أويس القرني وجدوا في ثيابه أكفاناً لم تكن معه من قبل، ووجدوا له قبراً محفوراً في لحد من صخر فدفنوه فيه وكفنوه في تلك الأثواب.
- وأسيد بن حضير كان يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج وهي الملائكة نزلت لقراءته.
- وكانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين.
- وعباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مظلمة فأضاء لهما نور مثل طرف السوط، فلما افترقا افترق الضوء معهما. رواه البخاري وغيره.
- وقصه الصديق في الصحيحين لما ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته وجعل لا يأكل لقمة إلا ربى من أسفلها أكثر منها، فشبعوا وصارت أكثر مما هي قبل ذلك.
- وخبيب بن عدى كان أسيراً عند المشركين بمكة، وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنبة.
- وعامر بن فهيرة قتل شهيداً فالتمسوا جسده فلم يقدروا عليه، وكان لما قتل رفع فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع، وقال عروة فيرون الملائكة رفعته.
- وخرجت أم أيمن مهاجرة وليس معها زاد ولا ماء، فكادت تموت عطشاً فلما كان وقت الفطر، وكانت صائمة سمعت حساً على رأسها فرفعته، فإذا دلو معلق فشربت منه حتى رويت وما عطشت بقية عمرها.
- والبراء بن مالك كان إذا أقسم على الله أبر قسمه، وكانت الحرب إذا اشتد على المسلمين في الجهاد يقولون يا براء اقسم على ربك فيقول: يا رب أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم ينهزم العدو، فلما كان يوم القادسية قال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد، فمنحوا أكتافهم، وقتل البراء شهيداً".
- وخالد بن الوليد حاصر حصناً منيعاً فقالوا: لا نسلم حتى تشرب السم فشربه فلم يضره.
- وسعد بن أبي وقاص كان مستجاب الدعوة ما دعا قط إلا استجيب له، وهو الذي هزم كسرى وفتح العراق، وذلك أنه لما وقف أمام المدائن ولم يجد شيئاً من السفن وتعذر عليه تحصيل شيء منها بالكلية، وقد ازدادت دجلة زيادة عظيمة واسود ماؤها ورمت بالزبد من كثرة مائها فخطب سعد الناس على الشاطئ، وقال: " ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم"، فقالوا جميعاً: "عزم الله لنا ولك على الرشد، فافعل"، ثم اقتحم بفرسه دجلة واقتحم الناس لم يتخلف عنه أحد، فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملؤوا ما بين الجانبين، فلا يرى وجه الماء من الفرسان والرجال وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض.
- ولما عذبت الزنيرة على الإسلام في الله فأبت إلا الإسلام وذهب بصرها، قال المشركون: أصاب بصرها اللات والعزى قالت: "كلا والله" فرد الله بصرها.
- ودعا سعيد بن زيد على أروى بنت الحكم فأعمى الله بصرها لما كذبت عليه فقال: " اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها، واقتلها في أرضها"، فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت.
- وتغيب الحسن البصري عن الحجاج الظالم المشهور فدخلوا عليه ست مرات فدعا الله - عز وجل - فلم يروه، ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه فخر ميتاً.
- وصلة بن أشيم مات فرسه وهو في الغزو فقال: " اللهم لا تجعل لمخلوق عليَّ منة"، ودعا الله - عز وجل - فأحيا فرسه، فلما وصل إلى بيته قال: يا بني خذ سرجه فإنه عارية فأخذ سرجه فمات الفرس.
إلى غير ذلك كثير من الكرامات التي حصلت لصالحي هذه الأمة، وقد ذكر أضعاف هذا بكثير الإمام أبو القاسم اللالكائي في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، الجزء التاسع منه، فقد خصه بكرامات الأولياء، فمن أراد المزيد رجع إلى ذلك السفر العظيم.
آراء الفرق المخالفة لأهل السنة والرد عليها:
تبين لنا مما سبق أن قول أهل السنة والجماعة في باب الكرامات هو جواز وقوعها على أيدي الصالحين وأنها أمر خارق للعادة غير مقرونة بدعوى النبوة، وأنها لا تصل إلى الخوارق التي أظهرها الله - عز وجل - على أيدي أنبيائه ورسله.
فظهر هناك بعض الفرق المخالفة لمعتقد أهل السنة في هذا الباب، من هذه الفرق الأشاعرة والمعتزلة، وكل فرقه من هاتين الفرقتين غلت في جانب كما سيظهر بعد قليل من عرض آرائهم ثم الرد عليها.
مذهب الأشاعرة:
تعتقد الأشاعرة جواز الكرامات بدون حد، وما جاز وقوعه لنبي جاز وقوعه لولي، بل الخارق للعادة يقع من النبي والولي والساحر، ولا فرق إلا دعوى النبوة من النبي والصلاح من الولي.
يقول الجويني في كتاب الإرشاد صـ 269: " فإن قيل فما الفرق بين الكرامة والمعجزة، قلنا: لا يفترقان في جواز العقل إلا بوقوع المعجزة على حسب دعوى النبوة".
وكما نلاحظ من هذا المذهب أنه لا يخص الأنبياء بمعجزات زائدة على ما يحدث على أيدي الأولياء.
فيرد عليهم:
بأن الخوارق التي تقع على أيدي الأنبياء أظهرها الله - عز وجل - لتأييد دعوى النبوة لإقناع جماعات كافرة جاحدة، أما ما يظهر على أيدي الأولياء فإنه خاص بالولي نفسه جزاء له على عبادته، أو لتقوية إيمانه أو نحو ذلك، ولا يستوي ما كان الغرض منه الإقناع لجماعات متعددة متنوعة الثقافة، ومختلفة العقول تعاند الحق وتحاربه وما كان الغرض منه فردياً لشخص مؤمن في الأصل.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمه الله -: " ثم هؤلاء جوزوا كرامات الصالحين ولم يذكروا بين جنسها وجنس كرامات الأنبياء فرقاً، بل صرح أئمتهم أن كل ما خرق لنبي يجوز أن يخرق للأولياء حتى معراج محمد - صلى الله عليه وسلم - وفرق البحر لموسى - عليه السلام -، وناقة صالح - عليه السلام - وغير ذلك، ولم يذكروا بين المعجزة والسحر فرقاً معقولاً بل قد يجوزون أن يأتي الساحر بمثل ذلك لكن بينهما فرق دعوى النبوة وبين الصالح والساحر والبر والفجور... إلى أن قال - رحمه الله -: ومع هذا فالأولياء دون الأنبياء والمرسلين فلا تبلغ كرامات أحد قط إلى مثل معجزات المرسلين كما أنهم لا يبلغون في الفضيلة والثواب إلى درجاتهم ولكن قد يشاركونهم في بعضها كما قد يشاركونهم في بعض أعمالهم"(18).
مذهب المعتزلة:
يرى المعتزلة أن خوارق العادات لا يمكن أن تقع لغير الأنبياء، ولذا فقد ذهبوا إلى منع وقوع الكرامات للأولياء والصالحين، وقد قال بهذا القول أيضاً الإمام محمد بن حزم - رحمه الله تعالى - قال شيخ الإسلام: " فقالت طائفة لا تخرق العادة إلا لنبي وكذبوا بما يذكر من خوارق السحرة والكهان، وبكرامات الصالحين وهذه طريقة أكثر المعتزلة وغيرهم كأبي محمد بن حزم وغيره"(19).
وحجة المعتزلة فيما ذهبوا إليه أنه بالقول بالكرامات يشتبه النبي بالولي والنبي بالسحر وغيره.
ولا شك بأن هذه الحجة كما هي واضحة حجة عقليه فالمعتزلة كعادتهم يردون مسائل الاعتقاد إلى عقولهم فما وافقهم آخذوا به، وما خالف ردوه.
الرد عليهم:
يكفي في نقض كلام المعتزلة هذه النصوص الصحيحة الواردة في الكتاب والسنة والتي سقنا طرفاً منها في ثنايا هذا البحث والتي تثبت الكرامة لأولياء الله - جل وتعالى -، ولا شك أن نتاج العقل يجب أن يضرب به عرض الحائط إذا خالف نصاً من كتاب أو سنه.
وقد أورد شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - قول المعتزلة ثم رد عليهم بأن هذه الخوارق قد تواترت وشاهدها الناس وهذا كاف في الرد عليهم فقال: " والمنازع لهم - أي للمعتزلة – يقول: هي أي: الخوارق موجودة مشهودة لمن شهدها، متواترة عند كثير من الناس أعظم مما تواترت عندهم بعض معجزات الأنبياء، وقد شهدها خلق كثير لم يشهدوا معجزات الأنبياء فكيف يكذبون بما شهدوه ويصدقون بما غاب عنهم ويكذبون بما تواتر عندهم أعظم مما تواتر غيره"(20).
وقال الشيخ السعدي - رحمه الله -: " وقد أنكرها أيضاً طائفة من أهل الكلام ظناً منهم أن في إثباتها إبطالاً لمعجزات الأنبياء وهذا وهم باطل أبطله المؤلف -يعنى شيخ الإسلام - في كتابه النبوات وغيره من كتبه"(21).
أما بعد:
فإن العقيدة التي أمرنا الله بها، هي التي جاءت في كتابه، والعقيدة التي جاء بها رسولنا - صلى الله عليه وسلم - والتي أمرنا بإتباعه وإلا هلكنا، هي التي نطقت بها أحاديثه الصحيحة الثابتة عنه - صلى الله عليه وسلم -، سواء كانت متواترة أو آحاداً، فنحن أهل السنة والجماعة نأخذ بها كلها، خلافاً لبعض المبتدعة الذين لا يأخذون مسائل الاعتقاد من أحاديث الآحاد.
ومن جمله ما أمرنا باعتباره وأخذه، مسألة الكرامات التي هي محل بحثنا هذا، كرامات الصالحين وأولياء الله - عز وجل -، وقد عد علماء السلف هذه المسألة، من جمله ما يعتقده أهل السنة والجماعة، قال شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمه الله تعالى -في العقيدة الواسطية: " ومن أصول أهل السنة التصديق بكرامات الأولياء، وما يجرى الله على أيديهم من خوارق العادات" (1).
وقال الإمام الطحاوي - رحمه الله تعالى - في عقيدته المشهورة بالطحاوية: " ونؤمن بما جاء من كراماتهم وصح عن الثقات من رواياتهم" (2).
وقال السفاريني - رحمه الله تعالى - في منظومته:
وكل خارق أتى عند صالح *** من تابع لشرعنا وناصح
فإنها من الكرامات التي *** بها نقول فاقف للأدلة
ومن نفاها من ذوى الضلال *** فقد أتى في ذاك بالمحال
فإنها شهيرة ولم تزل *** في كل عصر يا شقا أهل الزلل (3)
إلى غير ذلك من أقوال السلف في هذا الباب، وقد خصص الإمام اللالكائي في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة جزءاً خاصاً بكرامات الأولياء، نقل فيها من الأحاديث والآثار أمراً عجباً، وقبله وبعده فمن كتب في عقيدة السلف أو في الرد على من خالفهم.
فأهل السنة والجماعة يؤمنون بأن الكرامات والخوارق قد تحصل بأمر الله - جل وتعالى- لبعض أولياءه ولبعض عباده الصالحين لحكم جليلة سنبينها بالتفصيل إن شاء الله - تعالى - في هذا البحث المتواضع.
وبعد هذا الإجمال فقد آن الشروع في التفصيل.
كرامات الأولياء:
وقبل الشروع في ذكر تفاصيل هذه المسألة، كان لزاماً أن نبدأ بتعريف كلٍ من الكرامة، ثم الولاية لتتضح الصورة تماماً.
أولاً: الكرامة:
قال ابن منظور: " الكريم من صفات الله وأسمائه، وهو الكثير الخير الجواد المعطي الذي لا ينفذ عطاؤه"(4).
أما الكرامة فتعريفها أنها: أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة، يظهر على يد عبد ظاهر الصلاح ملتزم المتابعة لنبي كلف بشريعته مصحوباً بصحة الاعتقاد والعمل الصالح، علم بها أو لم يعلم، ولا تدل على غيره لجواز سلبها وأن تكون استدراجاً(5).
وقال السفارينى: " الكرامة وهى أمر خارق للعادة غير مقرون بدعوى النبوة، ولا هو مقدمة يظهر على يد عبد ظاهر الصلاح علم بها ذلك العبد الصالح، أم لم يعلم "(6).
ثانياً: الولاية:
إنه لا تعريف للأولياء أحسن من قول الله - تعالى -: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة يونس:62-64]، فالولاية مرتبة في الدين عظيمة، لا يبلغها إلا من قام بالدين ظاهراً وباطناً، فالولاية لها جانبان:
- جانب يتعلق بالعبد: وهو القيام بالأوامر واجتناب النواهي، ثم التدرج في مراقي العبودية بالنوافل.
- وجانب يتعلق بالرب - سبحانه وتعالى -: وهو محبة هذا العبد ونصرته، وتثبيته على الاستقامة.
فالولي هو ذلك العبد الذي آمن بالله - عز وجل - أي: صدق به وبما جاء عنه - سبحانه - في كتابه الكريم وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والتزم بشرعه ظاهراً وباطناً، ثم داوم على ذلك بمراقبة الله - سبحانه - وملازمة التقوى والحذر من الوقوع فيما يسخطه عليه من تقصير في واجب، أو ارتكاب لمحرم هذا العبد هو ولي الله - سبحانه وتعالى - يحبه وينصره ويبشره برضوانه وجنته، وعند فراقه للدنيا يرتفع عنه الخوف والحزن لما يكشف له من رحمة الله وبشارته.
وهذا المعنى يؤكده الحديث القدسي الذي أورده البخاري في صحيحه: ((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشى بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)).
فهذا الحديث تضمن المعاني التي في الآية الكريمة:
جانب العبد: وهو أداء الفرائض ثم التقرب بالنوافل، وجانب الرب - عز وجل - وهو محبته لذلك العبد ونصرته وتأييده ورعايته له في كل موقف، وحفظه لجوارحه فيصبح عبداً محفوظاً في جميع جوارحه، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس -رضي الله عنهما-، ((يا غلام احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك..))(7).
إن كرامات الأولياء:
- قد تكون تأييداً وتثبيتاً للشخص.
- وقد تكون تأييداً للحق.
ولهذا كانت الكرامات في التابعيين ومن جاء بعدهم أكثر من الصحابة؛ لأن الصحابة عندهم من التثبيت ما يستغنون به عن الكرامات.
فالعاقل الذي يطلب الاستقامة لا الكرامة.
قال أبو علي الجوزجانى: " كن طالباً للاستقامة لا طالباً للكرامة، فإن نفسك منجبلة على طلب الكرامة، وربك يطلب منك الاستقامة".
قال الشيخ السهروردي فى عوارفه: " وهذا الذي ذكره أصل عظيم كبير في الباب، وسر غفل عن حقيقته كثير من أهل السلوك والطلاب، وذلك أن المجتهدين والمتعبدين سمعوا عن سلف الصالحين المتقدمين وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات فأبداً نفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك، ويحبون أن يرزقوا شيئاً من ذلك، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب متهماً لنفسه في صحة عمله حيث لم يكاشف بشيء من ذلك ولو علموا سر ذلك لهان عليهم الأمر، فيعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك باباً، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات، وآثار القدرة تفننا، فيقوى عزمه على هذا الزهد في الدنيا والخروج من دواعي الهوى وقد يكون بعض عباده يكاشف بصدق اليقين، ويرفع عن قلبه الحجاب ومن كوشف بصدق اليقين أغنى بذلك عن رؤية خرق العادات؛ لأن المراد منها كان حصول اليقين، وقد حصل اليقين فلو كوشف هذا المرزوق صدق اليقين بشيء من ذلك لازداد يقيناً، فلا تقتضي الحكمة كشف القدرة بخوارق العادات لهذا الموضوع استغناء به وتقتضي الحكمة كشف ذلك الآخر لموضع حاجته، وكان هذا الثاني يكون أتم استعداداً وأهلية من الأول، فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة، فهي كل الكرامة ثم إذا وقع في طريقه شيء خارق كان كأن لم يقع فما يبالي ولا ينقص بذلك.
وإنما ينقص بالإخلال بواجب حق الاستقامة" (8).
الكرامة قسمان: -
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -في العقيدة الواسطية: " ومن أصول أهل السنة والجماعة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات... ".
أثبت شيخ الإسلام - رحمه الله - في هذا المقطع من عقيدته أن الكرامة قسمان:
1- قسم يتعلق بالعلوم والمكاشفات.
2- قسم يتعلق بالقدرة والتأثيرات.
أما القسم الأول فهو أن يحصل للإنسان من العلوم ما لا يحصل لغيره، والمكاشفات أن يكشف له من الأمور مالا يحصل لغيره.
مثال الأول: وهو أن يحصل للإنسان من العلوم ما لا يحصل لغيره: ما ورد عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أن الله أطلعه على ما في بطن زوجته من الحمل، أعلمه الله بأنه أنثى.
ومثال الثاني: وهو أن يحصل للإنسان من الكشف ما لا يحصل لغيره: ما حصل للفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قصته المشهورة: "يا سارية الجبل".
وما حصل للرسول - صلى الله عليه وسلم - من المكاشفات في غزوة مؤتة عندما أخبر وهو في المدينة بمقتل القواد الثلاثة، وأنه تسلم الراية بعد جعفر خالد بن الوليد.
أما القسم الثاني من أقسام الكرامات: وهو ما يتعلق بالقدرة والتأثيرات، فهو كما قال العلماء عن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - رحمة واسعة، وما أعطي من قوة في المناظرة والتأثير على الخصم من العلوم العقلية والنقلية، حتى قالوا: أنه لم ينقطع - رحمه الله - يوماً من الدهر وهو يناظر خصمه، حتى أنه كان يخصم الذي أمامه من أقواله ومذهبه، ولاشك أن هذا مما فتح الله به على شيخ الإسلام من الكرامات.
وهذا القسم من الكرامات، ينال شيئاً منه الواحد منا والله المستعان في بعض المناسبات ونحن الضعاف المهازيل فأحياناً تقوم وتتكلم في مناسبةٍ ما، دون ما إعداد فتتكلم بكلام رصين متين قوي، وتأتي بالأدلة والشواهد حتى أنك أنت تستغرب من نفسك كيف خرج منك مثل هذا الكلام، الذي لو أعددت له ما كان بهذه القوة والرصانة والمتانة، لا شك بأن هذا مما يفتح الله به على العبد، وليس هو بحول العبد ولا بقوته، وإن حصل شيء من هذا لأحدنا في بعض الأحايين فأيضاً ينبغي له ألا يغتر بنفسه فربما يكون استدراجاً له، وربما يكون هذا من تأييد الله - جل وتعالى - للحق لا للشخص.
فوائد الكرامات:
إن الكرامات لا تحصل عبثاً دون حكم وفوائد، وقد لخص العلامة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي فوائد الكرامات في ثلاث قضايا، ذكرها - رحمه الله - في تعليقه على العقيدة الواسطية فقال - رحمه الله -:
" أعظمها الدلالة على كمال قدرة الله ونفوذ مشيئته، وكما أن لله سنناً وأسباباً تقتضى مسبباتها الموضوعة لها شرعاً وقدراً فإن لله أيضاً سنناً أخرى لا يقع عليها علم البشر ولا تدركها أعمالهم وأسبابهم، فمعجزات الأنبياء وكرامات الأوليات بل وأيام الله وعقوباته في أعدائه الخارقة للعادة، كلها تدل دلالة واضحة أن الأمر كله لله، والتقدير والتدبير كله لله، وأن لله سنناً لا يعلمها بشر ولا ملك، فمن ذلك قصة أصحاب الكهف والنوم الذي أوقعه الله بهم تلك المدة العظيمة وقيض أسباباً متنوعة لحفظ دينهم وأبدانهم كما ذكر الله في قصتهم، ومنها ما أكرم الله به مريم بنت عمران وأنه (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) [سورة آل عمران:37]، وكذلك حملها وولادتها بعيسى على ذلك الوصف الذي ذكر الله، وكلامه في المهد هذا فيه كرامة لمريم، ومعجزة لعيسى - عليه السلام -، وكذلك هبته - تعالى - الولد لإبراهيم من سارة وهى عجوز عقيم على كبره، كما وهب لزكريا يحيى على كبره وعقم زوجته، وهذه معجزة للنبي وكرامة لزوجته، وقد أطال شيخ الإسلام - رحمه الله - النفس وبسط الكلام في هذا الموضوع في كتابه - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وذكر قصصاً كثيرة متوافرة تدل على هذه القضية الثانية: أن وقوع الكرامات للأولياء في الحقيقة معجزات للأنبياء؛ لأن تلك الكرامات لم تحصل لهم إلا ببركة متابعة نبيهم الذي نالوا به خيراً كثيراً من جملتها الكرامات.
الثالثة: أن كرامات الأولياء هي من البشرى المعجلة في الحياة الدنيا كما قال - تعالى -: (لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا) [سورة يونس:64]، وهى على قول بعض المفسرين: كل أمر يدل على ولايتهم وحسن عاقبتهم، ومن ذلك الكرامات، ولم تزل الكرامات موجودة لم تنقطع في أي وقت، وفي أي زمن وقد رأى الناس منها العجائب والأمور الكثيرة"(9).
وهناك تعليق نفيس للشيخ/ ابن عثيمين على الواسطية ذكرها في أشرطته تتعلق بالنقطة الثانية وهو أن الكرامة للولي معجزة للنبي، قال - حفظه الله -: " كل كرامة لولي فهي آية للنبي الذي اتبعه، ولهذا قال بعض العلماء: إن ما جرى من كرامات للأولياء من هذه الأمة فهي آيات للرسول - صلى الله عليه وسلم -"، وقال بعض العلماء أنه ما من آية لنبي من الأنبياء السابقين إلا ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثلها، فالرسول مثلاً لم يلق في النار فيخرج حياً كما حصل لإبراهيم - عليه السلام -، فقالوا جرى ذلك لأتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كذلك فلق البحر لموسى - عليه السلام - حصل لأتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمور في البحر أعظم مما حصل لموسى - عليه السلام - وهو المشي على الماء، كذلك إحياء الموتى لعيسى - عليه السلام - حصل لأتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - مثلها، كذلك الرجل الذي أحيا الله له فرسه حتى بلغ أهله، كذلك إبراء الأكمه وإعادة البصر حصل للرسول - صلى الله عليه وسلم - نفسه.
ضوابط الكرامة:
ليس كل ما يظهر على أيدي الصالحين أو غيرهم يكون كرامة، بل قد تكون غواية من الشيطان أو إضلالاً من بعض الجن، ولذا فقد وضع الدكتور أحمد بن سعد حمدان محقق كتاب اللالكائي - شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة- مقدمة في الجزء التاسع منه خاصة بموضوع الكرامات فوضع - حفظه الله - أربعة ضوابط مهمة:
1-أن يكون صاحبها مؤمناً متقياً:
وهو الوصف الذي ذكره الله - عز وجل - في كتابه بقوله - تعالى -: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ) [سورة يونس:62-63].
فيؤدى ما افترضه الله - عز وجل - عليه من الفروض والواجبات ويجتنب ما نهاه الله - عز وجل - عنه من المحرمات ثم يترقي في سلم العبودية بعمل المستحبات وترك المكروهات حتى يحقق معنى الولاية.
قال شيخ الإسلام: " وليس لله ولي إلا من اتبعه باطناً وظاهراً، فصدقه فيما أخبر به من الغيوب، والتزم طاعته فيما فرض على الخلق من أداء الواجبات وترك المحرمات.
2- أن لا يدعي صاحبها الولاية:
الولاية هي درجة تتعلق بفعل الرب - عز وجل - وفعل العبد، والعبد كما ذكرنا يترقي في سلم العبودية بفعل الطاعات وترك المخالفات، وهو لا يعلم عن الله - عز وجل - وهل قبل الله من العبد عمله فرفعه به أم لم يقبله منه.
فدعوى الولاية هي دعوى علم الغيب أولاً، ثم إنها تزكية للنفس ثانياً، وقد قال الله - عز وجل -: (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [سورة النجم:32].
3- أن لا تكون سبباً في ترك شيء من الواجبات:
الكرامة يحصل عليها الولي بسبب طاعته لله - عز وجل - بإيمانه وتقواه، ويلزم من ذلك أن لا تخالف ما كان سبباً في حصولها.
4- أن لا تخالف أمراً من أمور الدين:
فلو رأى في المنام أو في اليقظة أن شخصاً في صورة نبي أو ملك أو صالح يقول له: قد أبحت لك الحرام، أو حرمت عليك الحلال، أو أسقطت عنك التكاليف، أو نحو ذلك لم يصدقه، فإن ذلك من الشيطان إذ أن شريعة الله - عز وجل - باقية إلى يوم القيامة من غير نسخ، فما رأى الإنسان يقظةً أو مناماً يخالف ذلك فينبغي أن يعرف أنه من الشيطان (10).
الأشخاص الذين تظهر على أيديهم الخوارق: (11).
ليس كل من ظهر على يديه أمر خارق للعادة كان ولياً، ولذا فيمكن تصنيف أصحاب الخوارق إلى عدة أقسام على النحو التالي:
1- أناس صالحون ملتزمون بالشريعة الإسلامية ظاهراً وباطناً قد آمنوا بالله - عز وجل - وبما أمرهم أن يؤمنوا به وعملوا بما أمروا أن يعملوه ويعبدون الله - عز وجل - على وجل وخشية أن لا يتقبل منهم.
قد اتخذوا من حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدوة يسيرون على منهاجها، ولا يدعون لأنفسهم مكانة زائدة على أفراد الأمة ولا يزكون أنفسهم، فهؤلاء هم أهل كرامة الله - عز وجل - وأهل توفيقه وليس فوق هداية العبد لطاعة الله - عز وجل - منزلة يتطلع إليها الإنسان المسلم.
2- قسم فاسق استخدموا الشياطين واستخدمتهم الشياطين إما عن طريق السحر أو ما شابه ذلك من الوسائل المحرمة، فهؤلاء قد اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله - عز وجل - وباعوا دينهم بما تقدمه لهم الشياطين مخاريق وبما تعينهم عليه من أعمال.
وهذا الصنف قد يظهر على حقيقته أمام الناس ويهمل الواجبات الشرعية، ويرتكب المحذورات المحرمة وهذا كاف في بيان حاله وأنه ليس أهلاً للكرامة، ولا للولاية لمخالفة سلوكه لسلوك أولياء الله - عز وجل -.
3- قسم كفار، استعملوا وسائل متعددة كالقسم السابق إلا أن هؤلاء يعملون ما يعملون لإفساد عقائد المسلمين فيظهرون لهم في مظهر الزهاد الصالحين، ويظهرون لهم من السحر والشعوذة ما يخدعونهم به، ثم يبثون فيهم عقائد الشرك والضلال تحت ستار "الولاية" والناس ينخدعون بما يرونه يظهر على يديه من الأعمال الغريبة والمخاريق العجيبة.
4- وقسم عباد جهلة، أغواهم الشيطان، وهؤلاء ليس لديهم من العلم الشيء الذي يجعلهم يميزون فهؤلاء لا يفرقون بين ما هو كرامة، وما هو من خداع الشيطان.
فإذا رأوا أمراً غريباً أو سمعوا صوتاً ظنوا أن هذا ملك يخاطبهم، وما علموا بأن الشيطان قد يتمثل في صورة دابة، وكل هذا من مكر الشيطان بعباد الكرامات والذين ليس لديهم من العلم الشرعي ما يفرقون به بين الحق والباطل.
بين المعجزة والكرامة:
اسم المعجزة يعم كل خارق للعادة في اللغة وأيضاً في عرف الأئمة المتقدمين كالإمام أحمد وغيره، ويسمونها الآيات لكن كثيراً من المتأخرين يفرق في اللفظ بينهما، فيجعل المعجزة للنبي والكرامة للولي. وجماعهما الأمر الخارق للعادة.
فالمعجزة، أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي، سالم من المعارضة، والمعجزة تكون حسية وتكون معنوية.
فالحسية هي المشاهدة بالبصر، كخروج الناقة، وانقلاب عصى موسى حية.
أما المعنوية، كمعجزة القرآن.
وقد أوتي نبينا - صلى الله عليه وسلم - من كل ذلك، فمن المحسوسات: انشقاق القمر، وحنين الجذع، ونبع الماء من بين أصابعه، وتسبيح الطعام، وغيرها.
ومن المعنويات، المعجزة الباقية الخالدة وهو القرآن.
أما الكرامات، فهي للأنبياء وللأولياء، وثبوتها للأولياء حق، وهو ظهور الأمر الخارق للعادة على أيديهم، وإن لم يعلموا كقصة أصحاب الكهف وأصحاب الصخرة، وكلها معجزات لأنبيائهم وكنداء عمر لسارية وككتابته إلى نيل مصر، وكخيل العلاء بن الحضرمي، وسيأتي تفصيل هذه بعد قليل بزيادة إيضاح وأمثله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - تعالى- " فما كان من الخوارق من باب العلم، فتارة بأن يسمع العبد ما لا يسمعه غيره وتارة بأن يرى ما لا يراه غيره يقظة ومناماً، وتارة بأن يعلم ما لا يعلم غيره وحياً وإلهاماً أو إنزال علم ضروري أو فراسة صادقه، ويسمى كشفاً ومشاهدات ومكاشفات ومخاطبات، فالسماع مخاطبات والرؤية مشاهدات والعلم مكاشفة، وما كان من باب القدرة فهو التأثير، وقد يكون همة وصدقاً ودعوة مجابة، وقد يكون من فعل الله الذي لا تأثير له فيه بحال، مثل هلاك عدوه بغير أثر فيه كقوله: ((من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة)) (12).
ومثل تذليل النفوس له ومحبتها إياه ونحو ذلك، وكذلك ما كان من باب العلم والكشف قد يكشف لغيره من حاله بعض أمور، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في المبشرات: ((هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له)) (13)، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أنتم شهداء الله في الأرض))(14).
وقد جمع لنبينا - صلى الله عليه وسلم - جميع أنواع المعجزات والخوارق، أما العلم والأخبار الغيبية والسماع والرؤية فمثل إخبار نبينا - صلى الله عليه وسلم - عن الأنبياء المتقدمين وأممهم، ومخاطباته لهم وأحواله معهم، وكذلك إخباره عن أمور الربوبية والملائكة والجنة والنار بما يوافق الأنبياء قبله من غير تعلم منهم، فإخباره عن الأمور الغائبة ماضيها وحاضرها هو من باب العلم الخارق، وكذلك إخباره عن الأمور المستقبلة مثل: مملكة أمته وزوال مملكة فارس والروم، وقتال الترك وألوف مؤلفة من الأخبار التي أخبر بها مذكور بعضها في كتب دلائل النبوة لأبي نعيم والبيهقي" انتهى(15).
وقال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز - حفظه الله - تعالى - وأطال في عمره: " الفرق بين المعجزة والكرامة والأحوال الشيطانية الخارقة للعادة على يد السحرة والمشعوذين: أن المعجزة: هي ما يجري الله على أيدي الرسل والأنبياء من خوارق العادات التي يتحدَّون بها العباد ويختبرون بها، ويخبرون بها عن الله لتصديق ما بعثهم به ويؤيدهم بها - سبحانه -، كانشقاق القمر، ونزول القرآن، فإن القرآن هو أعظم معجزة لرسولٍ على الإطلاق، ولحنين الجذع، ونبوع الماء من بين أصابعه، وغير ذلك من المعجزات الكثيرة.
وأما الكرامة فهي ما يجري الله على أيدي أوليائه المؤمنين من خوارق العادات كالعلم والقدرة وغير ذلك، كالظلة التي وقعت على أسيد بن الحضير حين قراءته القرآن، وكإضاءة النور لعباد بن بشر وأسيد بن حضير حين انصرفا من عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما افترقا أضاء لكل واحد منهما طرف سوطه، وشرط كونها كرامة أن يكون من جرت على يده هذه الكرامة مستقيماً على الإيمان ومتابعة الشريعة فإن كان خلاف ذلك فالجاري على يده من الخوارق يكون من الأحوال الشيطانية، ثم ليعلم أن عدم حصول الكرامة لبعض المسلمين لا يدل على نقص إيمانهم لأن الكرامة إنما تقع لأسباب:
منها: تقوية إيمان العبد وتثبيته، ولهذا لم ير كثير من الصحابة شيئاً من الكرامات لقوة إيمانهم وكمال يقينهم، ومنها: إقامة الحجة على العدو كما حصل لخالد لما أكل السم وكان قد حاصر حصناً فامتنعوا عليه حتى يأكله، فأكله وفتح الحصن، ومثل ذلك ما جرى لأبي مسلم الخراسانى لما ألقاه الأسود العنسي في النار فأنجاه الله من ذلك لحاجته إلى تلك الكرامة، وكقصة أم أيمن لما خرجت مهاجرة واشتد بها العطش سمعت حساً من فوقها فرفعت رأسها فإذا هي بدلو من ماء فشربت منها ثم رفعت.
وقد تكون الكرامة ابتلاء فيسعد بها قوم ويشقى بها آخرون، وقد يسعد بها صاحبها إن شكر، وقد يهلك إن أعجب ولم يستقم" (16). انتهى كلامه - حفظه الله -.
وقال الشيخ/ عبد العزيز السلمان: " ويفرق بينها وبين المعجزة بأن المعجزة تكون مقرونة بدعوى النبوة بخلاف الكرامة". (17).
صور من المعجزات والكرامات:
فأولاً: هذه بعض معجزات رسولنا - صلى الله عليه وسلم -:
- روى مسلم في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه- قال: " سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلنا وادياً أفيح فذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته فاتبعته بإداوة من ماء فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم ير شيئاً يستتر فإذا شجرتان بشاطئ الوادي فانطلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى إحداهما، فأخذ بغصنين من أغصانها فقال: ((انقادي عليَّ بإذن الله)) فانقادت معه كالبعير المخشوم الذى يصانع قائده حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بعض أغصانها، فقال: ((انقادي عليَّ بإذن الله)) فانقادت كذلك حتى إذا كان بالمنتصف فيما بينهما لأَم بينهما حتى جمع بينهما، فقال: ((التئما عليَّ بإذن الله))، فالتأمتا عليه فخرجت أحضر مخافة أن يحس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقربى فتباعدت فجلست أحدث نفس فحانت مني لفتة فإذا أنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقبلاً وإذا الشجرتان قد افترقتا فقامت كل واحدة منهما على ساق".
- ولما انكسرت رجل عبد الله بن عتيك - رضي الله عنه - بعد ما قتل أبا رافع الذي يؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فانتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثته فقال لي: ((أبسط رجلك))، فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم أشتكها قط.
- وفى الترمذى عن علي - رضي الله عنه - قال: " كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله شجر، ولا جبل إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله".
- وجاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: بم أعرف أنك نبي؟ قال: ((إن دعوت هذا العذق من هذه النخلة أتشهد أني رسول الله؟))، قال: نعم، فدعاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل ينزل من النخلة حتى سقط إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: ((ارجع)) فعاد، فأسلم الأعرابي.
- وقصة ارتجاف أحد: وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صعد أحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)).
- وقصة ماء الركوة: وهى ما ورد عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: " عطش الناس يوم الحديبية والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين يديه ركوة فتوضأ فجهش الناس نحوه فقال: ((ما لكم؟)) قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك، قال جابر: فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده في الركوة فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا، قال سالم: قلت لجابر: كم كنتم قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة".
- وقصة عكاشة بن محصن بن حرشان الأسدي حينما اندفع يقاتل المشركين يوم بدر ويحصد فيهم حصدا حتى انكسر سيفه فلم يثنه ذلك عن خوض المعركة ولم يتخذ من كسر سيفه فلم يثنه ذلك عن خوض المعركة ولم يتخذ من كسر سيفه معذرة عند القتال فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبره بكسر سيفه وإرادة غيره فدفع - صلى الله عليه وسلم - جذلاً من حطب فقال له: ((قاتل بهذا يا عكاشة)) فلما أخذه عكاشة من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هزه فعاد في يده سيفاً صارماً طويل القامة شديد المتن أبيض الحديدة فقاتل به - رضي الله عنه - حتى فتح الله - تعالى -على المسلمين ولم يزل عنده ذلك السيف يشهد به المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى استشهد في قتال الردة في خلافة أبى بكر الصديق - رضي الله عنه -.
- وقصة حنين الجذع: ما ورد عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن امرأة من الأنصار قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا أجعل لك شيئاً تقعد عليه فإن لي غلاماً نجاراً قال: ((إن شئت))، قال: فعملت له المنبر، فلما كان يوم الجمعة، وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر الذي صنع، فصاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشق، فنزل النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أخذها فضمها إليه فجعلت تئن أنين الصبي الذي يسكت".
- وقصة قتادة بن النعمان: فعن أبى سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج ذاك ليلة لصلاة العشاء، وهاجت الظلماء من السماء وبرقت برقة فرأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتادة بن النعمان فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قتادة؟)) قال: نعم يا رسول الله، علمت أن شاهد الصلاة الليلة قليل فأحببت أن أشهدها، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا انصرفت فأتني))، فلما انصرف أعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرجوناً وقال: ((خذه فسيضيء أمامك عشراً وخلفك عشراً)).
- وقصة أبى جابر: وهى ما ورد عند جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: " توفى أبي شهيداً في أحد وعليه دين فاستعنت النبي - صلى الله عليه وسلم - على غرمائه أن يضعوا من دينه فطلب النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يفعلوا، فقال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اذهب فصنف تمرك أصنافاً، العجوة على حدة وعذق زيد على حدة - أنواع التمر- ثم أرسل إلي)) قال جابر: ففعلت ثم أرسلت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلس على أعلاه أو في وسطه ثم قال: ((كِلْ للقوم)) قال جابر: فكلتهم حتى أوفيتهم الذي لهم وبقي تمري كأن لم ينقص منه شيء.
- ومن ذلك مجيء المطر في مسيره - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه إلى بدر وكان للمسلمين نعمة وقوة وعلى الكفار بلاء ونقمه.
- ورميه - صلى الله عليه وسلم - المشركين بالحصى والتراب حتى عمت رميته الجمع وتقليل المشركين في أعين المؤمنين، وإشارة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى مصارع المشركين بقوله: ((هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان))، فرأى المسلمون ذلك على ما أشار إليه وذكره.
- وقصه لبن أهل الصفة، وذلك أن أبا هريرة قعد يوماً على الطريق فمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتبسم حين رآه وعرف ما في نفسه وما في وجهه ثم قال: ((يا أبا هريرة))، قلت: لبيك يا رسول الله قال: ((الحقْ))، ومضى فتبعته فاستأذن فأذن لي فدخل فوجد لبناً في قدح، فقال: ((من أين هذا اللبن؟))، قالوا: من فلان أو فلانة قال: ((أبا هر))، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((الحق إلى أهل الصفة فادعهم لي))، قال أبو هريرة: فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاؤوا أمرني فكنت أنا أعطيهم وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، قال: فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا فاستأذنوا فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت فقال: ((يا أبا هريرة))، قلت: لبيك يا رسول الله قال: ((خذ فأعطهم))، قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ثم يرد على القدح، حتى انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد روي القوم كلهم فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إلي فتبسم فقال: ((يا أبا هر))، قلت: لبيك يا رسول الله، قال: ((بقيت أنا وأنت))، قلت: صدقت يا رسول الله، قال: ((أقعد فاشرب))، فقعدت فشربت، فقال: ((اشرب)) فشربت، فما زال يقول اشرب حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا، قال: ((فأرني))، فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة - صلى الله عليه وسلم -".
- ومن ذلك رد عين قتادة بن النعمان فقد أصيبت عينه في غزوة أحد حتى وقعت على وجنته فردها النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانت أحسن عينيه وأحدَّهما نظراً وفى ذلك يقول ابنه:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه *** فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فعادت كما كانت لأول أمرها *** فيا حسن ما عين ويا حسن ما خد
- وقال رفاعة بن رافع رميت بسهم يوم بدر ففقئت عيني فبصق فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعا لي فما آذاني منها شيء بعد.
- ومن ذلك استسقاؤه - صلى الله عليه وسلم -.
ففي الصحيحين عن أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - رفع يديه ثم قال: ((اللهم أغثنا اللهم أغثنا)) قال أنس: " والله ما نرى في السماء من سحاب ولا من قزعة، وإن السماء مثل الزجاجة وما بيننا وبين سلع من دار، فو الذي نفسي بيده ما وضع يديه حتى ثار السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل من منبره حتى رأيت المطر يتحدر عن لحيته".
- ومن ذلك ما في غزوة خيبر من أنه - صلى الله عليه وسلم - أرسل إلى علي وهو أرمد فبصق في عينيه فبرئ كأن لم يكن به وجع.
- وقصة طعام جابر - رضي الله عنه - معروفه مشهورة.
ولقد صدق من قال:
محمد المبعوث للناس رحمة *** يشيد ما أوهى الضلال ويصلحُ
لئن سبَّحت صمُّ الجبال مجيبة *** لداود أو لان الحديد المصفحُ
فإن الصخور الصمَّ لانت لكفه *** وإن الحصا في كفه ليسبحُ
وإن كان موسى أنبع الماء بالعصا *** فمن كفه قد أصبح الماء يطفحُ
وإن كانت الريح الرخاء مطيعة *** سليمان لا تألو تروح وتسرحُ
فإن الصبا كانت لنصر نبينا *** برعبٍ على شهرٍ به الخصم يكدحُ
وإن أوتي الملك العظيم وسخرت *** له الجن تشفي مارضيه وتلدحُ
وإن كان إبراهيم أعطي خلة *** وموسى بتكليم على الطور يمنحُ
فهذا حبيب بل خليل مكلم *** وخصص بالرؤيا وبالحق أشرحُ
وخصص بالحوض العظيم وباللواء *** ويشفع للعاصين والنار تلفحُ
وبالمقعد الأعلى المقرب عنده *** عطاء ببشراه أقر وأفرحُ
وبالرتبة العليا الأسيلة دونها *** مراتب أرباب المواهب تلمحُ
وفى جنة الفردوس أول داخل *** له سائر الأبواب بالخار تفتحُ
ثانياً: نماذج من كرامات الأولياء:
- قصة سفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " ركبنا البحر في سفينة فانكسرت السفينة، فركبت لوحاً من ألواحها فطرحني في أجمة فيها أسد، فلم يرعني إلا به، فقلت: يا أبا الحارث أنا مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فطأطأ رأسه وغمز بمنكبه شقي، فما زال يغمزني ويهديني الطريق حتى وضعني على الطريق وهمهم فظننت أنه يودعني.
- ومنها قصة أبي مسلم الخولاني فإنه لما قال له الأسود العنسي المتنبي: أتشهد أني رسول الله، قال: "ما أسمع"، قال أتشهد أن محمداً رسول الله، قال: "نعم"، فأمر بنار فأوقدت له، وألقي فيها فجاؤوا إليه فوجدوه يصلي فيها، وقد صارت عليه برداً وسلاماً، فقدم المدينة بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأجلسه عمر بينه وبين أبي بكر، وقال: " الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد من فعل به كما فعل بإبراهيم".
- والعلاء بن الحضرمي كان عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على البحرين، وكان يقول في دعائه: " يا عليم يا حليم يا علي يا عظيم فيستجاب له، ودعا الله بأن يسقوا ويتوضئوا لما عدموا الماء والسقاء فأجيب، ودعا الله لما اعترضهم البحر ولم يقدروا على المرور بخيولهم، فمروا كلهم على الماء ما ابتلت سروج خيولهم، ودعا الله أن لا يروا جسمه إذا مات فلم يجدوه في اللحد".
- ولما مات أويس القرني وجدوا في ثيابه أكفاناً لم تكن معه من قبل، ووجدوا له قبراً محفوراً في لحد من صخر فدفنوه فيه وكفنوه في تلك الأثواب.
- وأسيد بن حضير كان يقرأ سورة الكهف فنزل من السماء مثل الظلة فيها أمثال السرج وهي الملائكة نزلت لقراءته.
- وكانت الملائكة تسلم على عمران بن حصين.
- وعباد بن بشر وأسيد بن حضير خرجا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ليلة مظلمة فأضاء لهما نور مثل طرف السوط، فلما افترقا افترق الضوء معهما. رواه البخاري وغيره.
- وقصه الصديق في الصحيحين لما ذهب بثلاثة أضياف معه إلى بيته وجعل لا يأكل لقمة إلا ربى من أسفلها أكثر منها، فشبعوا وصارت أكثر مما هي قبل ذلك.
- وخبيب بن عدى كان أسيراً عند المشركين بمكة، وكان يؤتى بعنب يأكله وليس بمكة عنبة.
- وعامر بن فهيرة قتل شهيداً فالتمسوا جسده فلم يقدروا عليه، وكان لما قتل رفع فرآه عامر بن الطفيل وقد رفع، وقال عروة فيرون الملائكة رفعته.
- وخرجت أم أيمن مهاجرة وليس معها زاد ولا ماء، فكادت تموت عطشاً فلما كان وقت الفطر، وكانت صائمة سمعت حساً على رأسها فرفعته، فإذا دلو معلق فشربت منه حتى رويت وما عطشت بقية عمرها.
- والبراء بن مالك كان إذا أقسم على الله أبر قسمه، وكانت الحرب إذا اشتد على المسلمين في الجهاد يقولون يا براء اقسم على ربك فيقول: يا رب أقسمت عليك لما منحتنا أكتافهم ينهزم العدو، فلما كان يوم القادسية قال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم وجعلتني أول شهيد، فمنحوا أكتافهم، وقتل البراء شهيداً".
- وخالد بن الوليد حاصر حصناً منيعاً فقالوا: لا نسلم حتى تشرب السم فشربه فلم يضره.
- وسعد بن أبي وقاص كان مستجاب الدعوة ما دعا قط إلا استجيب له، وهو الذي هزم كسرى وفتح العراق، وذلك أنه لما وقف أمام المدائن ولم يجد شيئاً من السفن وتعذر عليه تحصيل شيء منها بالكلية، وقد ازدادت دجلة زيادة عظيمة واسود ماؤها ورمت بالزبد من كثرة مائها فخطب سعد الناس على الشاطئ، وقال: " ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم"، فقالوا جميعاً: "عزم الله لنا ولك على الرشد، فافعل"، ثم اقتحم بفرسه دجلة واقتحم الناس لم يتخلف عنه أحد، فساروا فيها كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملؤوا ما بين الجانبين، فلا يرى وجه الماء من الفرسان والرجال وجعل الناس يتحدثون على وجه الماء كما يتحدثون على وجه الأرض.
- ولما عذبت الزنيرة على الإسلام في الله فأبت إلا الإسلام وذهب بصرها، قال المشركون: أصاب بصرها اللات والعزى قالت: "كلا والله" فرد الله بصرها.
- ودعا سعيد بن زيد على أروى بنت الحكم فأعمى الله بصرها لما كذبت عليه فقال: " اللهم إن كانت كاذبة فاعم بصرها، واقتلها في أرضها"، فعميت ووقعت في حفرة من أرضها فماتت.
- وتغيب الحسن البصري عن الحجاج الظالم المشهور فدخلوا عليه ست مرات فدعا الله - عز وجل - فلم يروه، ودعا على بعض الخوارج كان يؤذيه فخر ميتاً.
- وصلة بن أشيم مات فرسه وهو في الغزو فقال: " اللهم لا تجعل لمخلوق عليَّ منة"، ودعا الله - عز وجل - فأحيا فرسه، فلما وصل إلى بيته قال: يا بني خذ سرجه فإنه عارية فأخذ سرجه فمات الفرس.
إلى غير ذلك كثير من الكرامات التي حصلت لصالحي هذه الأمة، وقد ذكر أضعاف هذا بكثير الإمام أبو القاسم اللالكائي في كتابه شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، الجزء التاسع منه، فقد خصه بكرامات الأولياء، فمن أراد المزيد رجع إلى ذلك السفر العظيم.
آراء الفرق المخالفة لأهل السنة والرد عليها:
تبين لنا مما سبق أن قول أهل السنة والجماعة في باب الكرامات هو جواز وقوعها على أيدي الصالحين وأنها أمر خارق للعادة غير مقرونة بدعوى النبوة، وأنها لا تصل إلى الخوارق التي أظهرها الله - عز وجل - على أيدي أنبيائه ورسله.
فظهر هناك بعض الفرق المخالفة لمعتقد أهل السنة في هذا الباب، من هذه الفرق الأشاعرة والمعتزلة، وكل فرقه من هاتين الفرقتين غلت في جانب كما سيظهر بعد قليل من عرض آرائهم ثم الرد عليها.
مذهب الأشاعرة:
تعتقد الأشاعرة جواز الكرامات بدون حد، وما جاز وقوعه لنبي جاز وقوعه لولي، بل الخارق للعادة يقع من النبي والولي والساحر، ولا فرق إلا دعوى النبوة من النبي والصلاح من الولي.
يقول الجويني في كتاب الإرشاد صـ 269: " فإن قيل فما الفرق بين الكرامة والمعجزة، قلنا: لا يفترقان في جواز العقل إلا بوقوع المعجزة على حسب دعوى النبوة".
وكما نلاحظ من هذا المذهب أنه لا يخص الأنبياء بمعجزات زائدة على ما يحدث على أيدي الأولياء.
فيرد عليهم:
بأن الخوارق التي تقع على أيدي الأنبياء أظهرها الله - عز وجل - لتأييد دعوى النبوة لإقناع جماعات كافرة جاحدة، أما ما يظهر على أيدي الأولياء فإنه خاص بالولي نفسه جزاء له على عبادته، أو لتقوية إيمانه أو نحو ذلك، ولا يستوي ما كان الغرض منه الإقناع لجماعات متعددة متنوعة الثقافة، ومختلفة العقول تعاند الحق وتحاربه وما كان الغرض منه فردياً لشخص مؤمن في الأصل.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمه الله -: " ثم هؤلاء جوزوا كرامات الصالحين ولم يذكروا بين جنسها وجنس كرامات الأنبياء فرقاً، بل صرح أئمتهم أن كل ما خرق لنبي يجوز أن يخرق للأولياء حتى معراج محمد - صلى الله عليه وسلم - وفرق البحر لموسى - عليه السلام -، وناقة صالح - عليه السلام - وغير ذلك، ولم يذكروا بين المعجزة والسحر فرقاً معقولاً بل قد يجوزون أن يأتي الساحر بمثل ذلك لكن بينهما فرق دعوى النبوة وبين الصالح والساحر والبر والفجور... إلى أن قال - رحمه الله -: ومع هذا فالأولياء دون الأنبياء والمرسلين فلا تبلغ كرامات أحد قط إلى مثل معجزات المرسلين كما أنهم لا يبلغون في الفضيلة والثواب إلى درجاتهم ولكن قد يشاركونهم في بعضها كما قد يشاركونهم في بعض أعمالهم"(18).
مذهب المعتزلة:
يرى المعتزلة أن خوارق العادات لا يمكن أن تقع لغير الأنبياء، ولذا فقد ذهبوا إلى منع وقوع الكرامات للأولياء والصالحين، وقد قال بهذا القول أيضاً الإمام محمد بن حزم - رحمه الله تعالى - قال شيخ الإسلام: " فقالت طائفة لا تخرق العادة إلا لنبي وكذبوا بما يذكر من خوارق السحرة والكهان، وبكرامات الصالحين وهذه طريقة أكثر المعتزلة وغيرهم كأبي محمد بن حزم وغيره"(19).
وحجة المعتزلة فيما ذهبوا إليه أنه بالقول بالكرامات يشتبه النبي بالولي والنبي بالسحر وغيره.
ولا شك بأن هذه الحجة كما هي واضحة حجة عقليه فالمعتزلة كعادتهم يردون مسائل الاعتقاد إلى عقولهم فما وافقهم آخذوا به، وما خالف ردوه.
الرد عليهم:
يكفي في نقض كلام المعتزلة هذه النصوص الصحيحة الواردة في الكتاب والسنة والتي سقنا طرفاً منها في ثنايا هذا البحث والتي تثبت الكرامة لأولياء الله - جل وتعالى -، ولا شك أن نتاج العقل يجب أن يضرب به عرض الحائط إذا خالف نصاً من كتاب أو سنه.
وقد أورد شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى - قول المعتزلة ثم رد عليهم بأن هذه الخوارق قد تواترت وشاهدها الناس وهذا كاف في الرد عليهم فقال: " والمنازع لهم - أي للمعتزلة – يقول: هي أي: الخوارق موجودة مشهودة لمن شهدها، متواترة عند كثير من الناس أعظم مما تواترت عندهم بعض معجزات الأنبياء، وقد شهدها خلق كثير لم يشهدوا معجزات الأنبياء فكيف يكذبون بما شهدوه ويصدقون بما غاب عنهم ويكذبون بما تواتر عندهم أعظم مما تواتر غيره"(20).
وقال الشيخ السعدي - رحمه الله -: " وقد أنكرها أيضاً طائفة من أهل الكلام ظناً منهم أن في إثباتها إبطالاً لمعجزات الأنبياء وهذا وهم باطل أبطله المؤلف -يعنى شيخ الإسلام - في كتابه النبوات وغيره من كتبه"(21).