الكاتب أحمد الشيخ
شاهدت جلسة التحقيق في الكونغرس الأميركي مع رئيس شركة بي بي, أو بريتش بتروليوم قبل أن تتخلى الشركة العالمية العابرة للحدود عن الانتساب إلى الإمبراطورية الغابرة, حول كارثة التسرب النفطي في خليج المكسيك.
وكم رثيت لحال الرجل, وربما كان الرثاء في غير محله, وهو يكرر الاعتذار للشعب الأميركي ولضحايا التسرب, ويؤكد استعداد الشركة لفعل كل شيء من أجل وقف التسرب ودفع الأذى عمن لحق بهم. وقد كانت ذروة التذلل إعلانه أن الشركة ستدفع عشرين بليون دولار تعويضا!
ومع أن الرقم لم يثر في الصحافة قدرا عميقا من التحليل, فإنه في حد ذاته خبر مدو وسابقة ربما يكون لها في القانون الدولي ومحافله وقع كبير في المستقبل. فثمة شركة واحدة بصفتها الاعتبارية تتعهد بعشرين ألف مليون من الدولارات تعويضا حتى الآن, وقبل أن تنجح التكنولوجيا المتقدمة بين يديها في وقف التسرب, وقد يتضخم الرقم إن استمر النفط المندفع من جوف الأرض في تلويث المياه والإضرار بحياة الناس.
وإذ يعمل المرء عقله في الواقعة فإن جملة من التساؤلات تبرز بحثا عن أجوبة قد لا يستطيع الكاتب نفسه أن يقدمها جزما, بل هي مجرد طرح لرؤية في خبر متطور منذ فترة.
وأول ما خطر ببالي وقد استمعت هو: لو أن الكارثة التي ألمت ببي بي وبالبيئة والناس في لويزيانا وجوارها وقعت في دولة أخرى غير الولايات المتحدة, هل كانت قادرة على أن تجلب الشركة العالمية لبيت الطاعة وتغرمها؟
فنحن هنا حيال مواجهة بين الدولة الأعظم في العالم جيوشا واقتصادا وتأثيرا, وبين واحدة من الشركات العالمية الكبرى, التي هي في واقع الأمر إحدى تجليات الهيمنة الغربية وإحدى أدواتها في حكم العالم وتسيير أموره, وفقا لما تقتضيه المصالح الكونية للمنظومة الغربية على ضفتي المحيط الأطلسي.
في حالتنا لا بد "لكبير العائلة", إن جاز التعبير إسقاطا من قاموسنا الاجتماعي على ثقافة أخرى, أن يعاقب الفتى المخطئ وإن بغير قصد, ويحرمه من ميزات تمتع بها طويلا.
فلو أن التسرب وقع في بلد آخر خارج دول شمال أوروبا والولايات المتحدة, وربما كندا وأستراليا, ولنقل في بلد عربي أو أفريقي أو آسيوي, هل كانت بي بي ستدفع الثمن وتعتذر مرة ومرة؟
ففي عام 1984 تسربت غازات سامة من مصنع للمبيدات تمتلكه شركة يونيون كاربايد الأميركية في مدينة بهوبال في الهند, وراح ضحيته آلاف الناس وما زال عشرات الألوف من الأحياء يحملون في جيناتهم آثار التسمم تنتقل مع أجيالهم. لم تعتذر يونيون كاربايد آنذاك, ولم تجلب إلى بيت الطاعة, ولم تدفع البلايين مثل بي بي إذ لوثت شواطئ خليج المكسيك, وأدى حادث انفجار منصتها إلى مقتل 11 شخصا فحسب.
وليس القصد من هذه المقارنة التقليل من فداحة ما نجم عن التسرب, أو الدفاع عن بي بي, ولكن الشيء بالشيء يذكر إن حضر أوانه أو حضر رجاله, كما في قول لسيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
ففي حالة يونيون كاربايد تقف إحدى الأذرع الطويلة لدول الغرب المتقدم أمام الهند قبل ربع قرن من الآن, إذ لم تكن الدولة العملاقة سكانا ونموا كما هي عليه اليوم. آنذاك وربما حتى اليوم, قد لا يستطيع رأس الدولة الهندية أن يركع شركة مثل بي بي, لها امتداداتها الاستثمارية وعلاقاتها النافذة في دول ما كان يعرف بالعالم الثالث في الاقتصاد والسياسة على حد سواء، مثل ما فعل باراك أوباما ومعه الكونغرس.
والتساؤل الثاني, الذي يبحث عن جواب, يدور حول ضخامة مبلغ التعويض الذي ستدفعه شركة واحدة فحسب وتظل قادرة في الوقت نفسه على الوقوف على ساقها وتعلن أنها لن تتمكن من دفع أرباح لمساهميها في هذه السنة فحسب. عشرون بليون دولار ستدفعها بي بي ولن تعلن إفلاسها!
فهل تستطيع دول بلاد الشام مثلا أن تخرج من خزائنها مثل هذا المبلغ أو نصفه من دون أن تعلن إفلاسها؟ بل, هل تستطيع حتى الدول العربية النفطية أن تتحمل خسارة كهذه من دون أن تشكو وتصرخ؟ ثم يزعمون في كثير من صحف الغرب ووسائل إعلامه أن دول الخليج العربي أغنى الأغنياء.
هذه هي الشركات العابرة للحدود, التي بدأت بالظهور واشتد عودها وبدأت تسيطر بأساليب مختلفة عن أساليب السيطرة الاستعمارية على العالم بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. فمن أين تأتي أموال تلك الشركات الهائلة ومنها على وجه الخصوص الشركات النفطية مثل بي بي؟
وحتى تتضح الصورة لا بد من العودة إلى عهد الاستعمار في القرن التاسع عشر بالذات, حين انطلقت الدول الأوروبية بعد الثورة الصناعية تستعمر بلدان العالم لتنتزع من مقدراتها ما يشبع نهم مصانعها وآلات إنتاجها ولتعيد ما تصنع إلى المستعمرات سلعا وأدوات.
ولعل شركة الهند الشرقية النموذج الأبرز لمثل هذه الشركات, إذ كانت تلك الشركة المستعمر الحقيقي للهند بحماية آلة الحرب البريطانية التي سخرت الإمبراطورية آنذاك قدراتها التصنيعية لتعزيز جبروتها.
وبعد الحرب الثانية واستقلال الكثير من المستعمرات, وإن شكليا في كثير من الحالات, جاءت الشركات عابرة الحدود والقوميات لتواصل مهمة السيطرة والنهب الاستعمارية تحت غطاءات أخرى ووفق أساليب أخرى ودونما حاجة لآلات حرب تحميها, بل هي تتمتع في حالات كثيرة بحماية أنظمة فاسدة في كثير من الدول المستقلة.
فمن أين كدست بي بي هذه الأموال الطائلة؟ نظرة خاطفة على موقع الشركة في الإنترنت تجيب على السؤال. بدأت عملياتها عام 1908 في إقليم الأحواز الواقع تحت السيطرة الإيرانية ومن ثم امتد نشاطها إلى ليبيا ودول الخليج العربية قبل أن تنال معظمها استقلالها.
وقد كانت الشركة ذراعا قوية للإمبراطورية البريطانية إبان الحربين العالميتين في القرن الماضي. وهي تقول في أدبياتها المنشورة في الإنترنت كيف أن رئيس الوزراء الراحل ونستون تشيرتشل الذي قاد بريطانيا في الحرب الثانية طلب من بي بي وغيرها من الشركات النفطية مثل شيل أن تساعد المجهود الحربي البريطاني. وليس همنا في هذا المقام التوسع في سياق الارتباط العضوي للشركات عابرة الحدود والقوميات بالإمبراطوريات والدول الكبرى التي نشأت تحت حمايتها.
أما التساؤل الثالث الذي خطر ببالي وأنا أتابع استجواب رئيس بي بي, فهو لو أن التسرب وقع في دولة غير الولايات المتحدة وغير دول أوروبا هل كان الأمر سيعامل بمثل هذه الشفافية والوضوح, إعلاميا على الأقل؟
فنحن هنا أمام رئيس يعلن كل يوم أن على بي بي أن تدفع الثمن وأن توقف التسرب مهما كلف الأمر, ومعه في ذلك برلمان ينزع في استجوابه اللحم عن عظام بي بي ورئيسها.
أما في أي دولة أخرى من دول العالم الثالث, فإن المرء يكاد يرجح أن تسوى أزمة التسرب رغم ضررها الكبير وراء الكواليس, فتمتلئ جيوب المسؤولين فوق امتلائها ويستمر التسرب إلى أن يوقفه الزمن, كما هو نهج الكثير من حكوماتنا في ترك الأيام تفعل ما تشاء, فتتفاقم المشكلة وتزداد الدمامل ويعتل الجسد فوق أي أمل في الشفاء والعافية.
أو لم يثبت أن كثيرا من مسؤولي هذه الدول تلقوا عمولات ورشاوى لتمرير صفقات أو السكوت عن مخالفات ألحقت بدولهم أفدح الضرر؟ ثم ألم نقرأ فيضا من التحقيقات والأخبار عن موافقة بعض الحكام وأعوانهم على تخزين النفايات السامة والمشعة في أراضيها مقابل ما يعلمه الله؟
ومع ذلك كله, فإن الشفافية التي تعامل أوباما والكونغرس بها مع قضية التسرب طالتها أيضا تساؤلات عن دور شركات مثل هاليبيرتون التي يديرها ديك تشيني نائب الرئيس السابق, وشركة أخرى يقال إن لوزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد مصلحة كبيرة فيها.
غير أن هذه التساؤلات لا تنفي أبدا روح الحكم الرشيد, التي تبث في جسد الدول المتقدمة نفسا وقوة تجعلها تواجه أزماتها بدراية وعلم وتخرج منها بعبر ودروس تستفيد منها وبها, في معالجة ما يظهر في المستقبل من مشاكل. وإني لأزعم أن من أهم المعضلات التي تواجهنا في الوطن العربي غياب روح الحكم الرشيد, إذ يكاشف الحاكم الشعب فيجد الدعم فيكون قراره مستندا إلى مرجعية الأمة يقودها وتأخذ بيده.
ومن زاوية أخرى فإن قضية التسرب وتغريم بي بي جراءها تثير ازدواجية الموقف الأميركي حيال قضايا البيئة. فها نحن نطالع شبكات التلفزة الأميركية وغيرها تعرض على مدار الساعة فيضا من الصور والتقارير عن الآثار الكارثية للتسرب على البيئة والشواطئ والطيور والمخلوقات البحرية, وتندب حرمان المصطافين من الرمال البيضاء والتلذذ بحمام شمسي, وهو أمر إيجابي ينبغي أن تقوم به.
ولكن لمَ ترفض الولايات المتحدة حتى الآن تطبيق ما جاء في بروتوكولات كيوتو بشأن البيئة والانحباس الحراري الذي بات يهدد البشرية جمعاء؟ أم إن شواطئ خليج المكسيك ولويزيانا والقاطنين فيها صنف من البشر أرقى وأسمى؟ ولم استعملت اليورانيوم المنضب في العراق وما به من مخاطر تهدد أسس الحياة الإنسانية؟ ولم تنشط الشركات الغربية في قطع غابات الأمازون رئة العالم دونما حساب للعواقب على العالم برمته؟
إنه الجشع, الذي بات في سنوات العولمة والسوق الحرة, دونما توقف عند حد جغرافي أو نهي من وازع أخلاقي, القوة الدافعة للشركات عابرة الحدود والقوميات ولمؤسسات المال. نعم, جشع في استغلال موارد الأرض وخاماتها لجني الثروات وتكديس الأموال واستعمالها في بسط النفوذ والسيطرة على العالم. وقد كان هذا ديدن كل الإمبراطوريات حتى اليوم وإن اختلفت الأساليب حسب الظروف التاريخية والواقع الجغرافي والإنساني.
أو ليس هو جشع بيوت الاستثمار وصناديق التحوط وسياسات البنك الدولي وصندوق النقد الذي فجر الأزمة المالية الأخيرة؟ أو لا يجدر بأوباما والكونغرس والعالم كله أن يشرعوا في البحث عن نهج جديد في التعاطي مع الأزمات المتكررة بدلا من حلول ردة الفعل؟ إنه فساد يظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس فهاهم يذوقون بأس فسادهم.
ثم نقطة أخيرة فإن كانت هذه الشركات لا تزال ناشطة في كثير من دولنا تستكشف وتستخرج وتصنع وتذهب بحصة الأسد, ألم يحن الوقت للقائمين على الأمر أن يدركوا أن مصلحة الأوطان ومستقبل الشعوب يكمن في نهج مختلف يحقق للأمة السيطرة على مقدراتها ويتيح لها أن تسخرها في محيطها الحيوي حيث يمليه التاريخ والجغرافيا؟
شاهدت جلسة التحقيق في الكونغرس الأميركي مع رئيس شركة بي بي, أو بريتش بتروليوم قبل أن تتخلى الشركة العالمية العابرة للحدود عن الانتساب إلى الإمبراطورية الغابرة, حول كارثة التسرب النفطي في خليج المكسيك.
وكم رثيت لحال الرجل, وربما كان الرثاء في غير محله, وهو يكرر الاعتذار للشعب الأميركي ولضحايا التسرب, ويؤكد استعداد الشركة لفعل كل شيء من أجل وقف التسرب ودفع الأذى عمن لحق بهم. وقد كانت ذروة التذلل إعلانه أن الشركة ستدفع عشرين بليون دولار تعويضا!
ومع أن الرقم لم يثر في الصحافة قدرا عميقا من التحليل, فإنه في حد ذاته خبر مدو وسابقة ربما يكون لها في القانون الدولي ومحافله وقع كبير في المستقبل. فثمة شركة واحدة بصفتها الاعتبارية تتعهد بعشرين ألف مليون من الدولارات تعويضا حتى الآن, وقبل أن تنجح التكنولوجيا المتقدمة بين يديها في وقف التسرب, وقد يتضخم الرقم إن استمر النفط المندفع من جوف الأرض في تلويث المياه والإضرار بحياة الناس.
وإذ يعمل المرء عقله في الواقعة فإن جملة من التساؤلات تبرز بحثا عن أجوبة قد لا يستطيع الكاتب نفسه أن يقدمها جزما, بل هي مجرد طرح لرؤية في خبر متطور منذ فترة.
وأول ما خطر ببالي وقد استمعت هو: لو أن الكارثة التي ألمت ببي بي وبالبيئة والناس في لويزيانا وجوارها وقعت في دولة أخرى غير الولايات المتحدة, هل كانت قادرة على أن تجلب الشركة العالمية لبيت الطاعة وتغرمها؟
فنحن هنا حيال مواجهة بين الدولة الأعظم في العالم جيوشا واقتصادا وتأثيرا, وبين واحدة من الشركات العالمية الكبرى, التي هي في واقع الأمر إحدى تجليات الهيمنة الغربية وإحدى أدواتها في حكم العالم وتسيير أموره, وفقا لما تقتضيه المصالح الكونية للمنظومة الغربية على ضفتي المحيط الأطلسي.
في حالتنا لا بد "لكبير العائلة", إن جاز التعبير إسقاطا من قاموسنا الاجتماعي على ثقافة أخرى, أن يعاقب الفتى المخطئ وإن بغير قصد, ويحرمه من ميزات تمتع بها طويلا.
فلو أن التسرب وقع في بلد آخر خارج دول شمال أوروبا والولايات المتحدة, وربما كندا وأستراليا, ولنقل في بلد عربي أو أفريقي أو آسيوي, هل كانت بي بي ستدفع الثمن وتعتذر مرة ومرة؟
ففي عام 1984 تسربت غازات سامة من مصنع للمبيدات تمتلكه شركة يونيون كاربايد الأميركية في مدينة بهوبال في الهند, وراح ضحيته آلاف الناس وما زال عشرات الألوف من الأحياء يحملون في جيناتهم آثار التسمم تنتقل مع أجيالهم. لم تعتذر يونيون كاربايد آنذاك, ولم تجلب إلى بيت الطاعة, ولم تدفع البلايين مثل بي بي إذ لوثت شواطئ خليج المكسيك, وأدى حادث انفجار منصتها إلى مقتل 11 شخصا فحسب.
وليس القصد من هذه المقارنة التقليل من فداحة ما نجم عن التسرب, أو الدفاع عن بي بي, ولكن الشيء بالشيء يذكر إن حضر أوانه أو حضر رجاله, كما في قول لسيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
ففي حالة يونيون كاربايد تقف إحدى الأذرع الطويلة لدول الغرب المتقدم أمام الهند قبل ربع قرن من الآن, إذ لم تكن الدولة العملاقة سكانا ونموا كما هي عليه اليوم. آنذاك وربما حتى اليوم, قد لا يستطيع رأس الدولة الهندية أن يركع شركة مثل بي بي, لها امتداداتها الاستثمارية وعلاقاتها النافذة في دول ما كان يعرف بالعالم الثالث في الاقتصاد والسياسة على حد سواء، مثل ما فعل باراك أوباما ومعه الكونغرس.
والتساؤل الثاني, الذي يبحث عن جواب, يدور حول ضخامة مبلغ التعويض الذي ستدفعه شركة واحدة فحسب وتظل قادرة في الوقت نفسه على الوقوف على ساقها وتعلن أنها لن تتمكن من دفع أرباح لمساهميها في هذه السنة فحسب. عشرون بليون دولار ستدفعها بي بي ولن تعلن إفلاسها!
فهل تستطيع دول بلاد الشام مثلا أن تخرج من خزائنها مثل هذا المبلغ أو نصفه من دون أن تعلن إفلاسها؟ بل, هل تستطيع حتى الدول العربية النفطية أن تتحمل خسارة كهذه من دون أن تشكو وتصرخ؟ ثم يزعمون في كثير من صحف الغرب ووسائل إعلامه أن دول الخليج العربي أغنى الأغنياء.
هذه هي الشركات العابرة للحدود, التي بدأت بالظهور واشتد عودها وبدأت تسيطر بأساليب مختلفة عن أساليب السيطرة الاستعمارية على العالم بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. فمن أين تأتي أموال تلك الشركات الهائلة ومنها على وجه الخصوص الشركات النفطية مثل بي بي؟
وحتى تتضح الصورة لا بد من العودة إلى عهد الاستعمار في القرن التاسع عشر بالذات, حين انطلقت الدول الأوروبية بعد الثورة الصناعية تستعمر بلدان العالم لتنتزع من مقدراتها ما يشبع نهم مصانعها وآلات إنتاجها ولتعيد ما تصنع إلى المستعمرات سلعا وأدوات.
ولعل شركة الهند الشرقية النموذج الأبرز لمثل هذه الشركات, إذ كانت تلك الشركة المستعمر الحقيقي للهند بحماية آلة الحرب البريطانية التي سخرت الإمبراطورية آنذاك قدراتها التصنيعية لتعزيز جبروتها.
وبعد الحرب الثانية واستقلال الكثير من المستعمرات, وإن شكليا في كثير من الحالات, جاءت الشركات عابرة الحدود والقوميات لتواصل مهمة السيطرة والنهب الاستعمارية تحت غطاءات أخرى ووفق أساليب أخرى ودونما حاجة لآلات حرب تحميها, بل هي تتمتع في حالات كثيرة بحماية أنظمة فاسدة في كثير من الدول المستقلة .
فمن أين كدست بي بي هذه الأموال الطائلة؟ نظرة خاطفة على موقع الشركة في الإنترنت تجيب على السؤال. بدأت عملياتها عام 1908 في إقليم الأحواز الواقع تحت السيطرة الإيرانية ومن ثم امتد نشاطها إلى ليبيا ودول الخليج العربية قبل أن تنال معظمها استقلالها.
وقد كانت الشركة ذراعا قوية للإمبراطورية البريطانية إبان الحربين العالميتين في القرن الماضي. وهي تقول في أدبياتها المنشورة في الإنترنت كيف أن رئيس الوزراء الراحل ونستون تشيرتشل الذي قاد بريطانيا في الحرب الثانية طلب من بي بي وغيرها من الشركات النفطية مثل شيل أن تساعد المجهود الحربي البريطاني. وليس همنا في هذا المقام التوسع في سياق الارتباط العضوي للشركات عابرة الحدود والقوميات بالإمبراطوريات والدول الكبرى التي نشأت تحت حمايتها.
أما التساؤل الثالث الذي خطر ببالي وأنا أتابع استجواب رئيس بي بي, فهو لو أن التسرب وقع في دولة غير الولايات المتحدة وغير دول أوروبا هل كان الأمر سيعامل بمثل هذه الشفافية والوضوح, إعلاميا على الأقل؟
فنحن هنا أمام رئيس يعلن كل يوم أن على بي بي أن تدفع الثمن وأن توقف التسرب مهما كلف الأمر, ومعه في ذلك برلمان ينزع في استجوابه اللحم عن عظام بي بي ورئيسها.
أما في أي دولة أخرى من دول العالم الثالث, فإن المرء يكاد يرجح أن تسوى أزمة التسرب رغم ضررها الكبير وراء الكواليس, فتمتلئ جيوب المسؤولين فوق امتلائها ويستمر التسرب إلى أن يوقفه الزمن, كما هو نهج الكثير من حكوماتنا في ترك الأيام تفعل ما تشاء, فتتفاقم المشكلة وتزداد الدمامل ويعتل الجسد فوق أي أمل في الشفاء والعافية.
أو لم يثبت أن كثيرا من مسؤولي هذه الدول تلقوا عمولات ورشاوى لتمرير صفقات أو السكوت عن مخالفات ألحقت بدولهم أفدح الضرر؟ ثم ألم نقرأ فيضا من التحقيقات والأخبار عن موافقة بعض الحكام وأعوانهم على تخزين النفايات السامة والمشعة في أراضيها مقابل ما يعلمه الله؟
ومع ذلك كله, فإن الشفافية التي تعامل أوباما والكونغرس بها مع قضية التسرب طالتها أيضا تساؤلات عن دور شركات مثل هاليبيرتون التي يديرها ديك تشيني نائب الرئيس السابق, وشركة أخرى يقال إن لوزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد مصلحة كبيرة فيها.
غير أن هذه التساؤلات لا تنفي أبدا روح الحكم الرشيد, التي تبث في جسد الدول المتقدمة نفسا وقوة تجعلها تواجه أزماتها بدراية وعلم وتخرج منها بعبر ودروس تستفيد منها وبها, في معالجة ما يظهر في المستقبل من مشاكل. وإني لأزعم أن من أهم المعضلات التي تواجهنا في الوطن العربي غياب روح الحكم الرشيد, إذ يكاشف الحاكم الشعب فيجد الدعم فيكون قراره مستندا إلى مرجعية الأمة يقودها وتأخذ بيده.
ومن زاوية أخرى فإن قضية التسرب وتغريم بي بي جراءها تثير ازدواجية الموقف الأميركي حيال قضايا البيئة. فها نحن نطالع شبكات التلفزة الأميركية وغيرها تعرض على مدار الساعة فيضا من الصور والتقارير عن الآثار الكارثية للتسرب على البيئة والشواطئ والطيور والمخلوقات البحرية, وتندب حرمان المصطافين من الرمال البيضاء والتلذذ بحمام شمسي, وهو أمر إيجابي ينبغي أن تقوم به.
ولكن لمَ ترفض الولايات المتحدة حتى الآن تطبيق ما جاء في بروتوكولات كيوتو بشأن البيئة والانحباس الحراري الذي بات يهدد البشرية جمعاء؟ أم إن شواطئ خليج المكسيك ولويزيانا والقاطنين فيها صنف من البشر أرقى وأسمى؟ ولم استعملت اليورانيوم المنضب في العراق وما به من مخاطر تهدد أسس الحياة الإنسانية؟ ولم تنشط الشركات الغربية في قطع غابات الأمازون رئة العالم دونما حساب للعواقب على العالم برمته؟
إنه الجشع, الذي بات في سنوات العولمة والسوق الحرة, دونما توقف عند حد جغرافي أو نهي من وازع أخلاقي, القوة الدافعة للشركات عابرة الحدود والقوميات ولمؤسسات المال. نعم, جشع في استغلال موارد الأرض وخاماتها لجني الثروات وتكديس الأموال واستعمالها في بسط النفوذ والسيطرة على العالم. وقد كان هذا ديدن كل الإمبراطوريات حتى اليوم وإن اختلفت الأساليب حسب الظروف التاريخية والواقع الجغرافي والإنساني.
أو ليس هو جشع بيوت الاستثمار وصناديق التحوط وسياسات البنك الدولي وصندوق النقد الذي فجر الأزمة المالية الأخيرة؟ أو لا يجدر بأوباما والكونغرس والعالم كله أن يشرعوا في البحث عن نهج جديد في التعاطي مع الأزمات المتكررة بدلا من حلول ردة الفعل؟ إنه فساد يظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس فهاهم يذوقون بأس فسادهم.
ثم نقطة أخيرة فإن كانت هذه الشركات لا تزال ناشطة في كثير من دولنا تستكشف وتستخرج وتصنع وتذهب بحصة الأسد, ألم يحن الوقت للقائمين على الأمر أن يدركوا أن مصلحة الأوطان ومستقبل الشعوب يكمن في نهج مختلف يحقق للأمة السيطرة على مقدراتها ويتيح لها أن تسخرها في محيطها الحيوي حيث يمليه التاريخ والجغرافيا؟
شاهدت جلسة التحقيق في الكونغرس الأميركي مع رئيس شركة بي بي, أو بريتش بتروليوم قبل أن تتخلى الشركة العالمية العابرة للحدود عن الانتساب إلى الإمبراطورية الغابرة, حول كارثة التسرب النفطي في خليج المكسيك.
وكم رثيت لحال الرجل, وربما كان الرثاء في غير محله, وهو يكرر الاعتذار للشعب الأميركي ولضحايا التسرب, ويؤكد استعداد الشركة لفعل كل شيء من أجل وقف التسرب ودفع الأذى عمن لحق بهم. وقد كانت ذروة التذلل إعلانه أن الشركة ستدفع عشرين بليون دولار تعويضا!
ومع أن الرقم لم يثر في الصحافة قدرا عميقا من التحليل, فإنه في حد ذاته خبر مدو وسابقة ربما يكون لها في القانون الدولي ومحافله وقع كبير في المستقبل. فثمة شركة واحدة بصفتها الاعتبارية تتعهد بعشرين ألف مليون من الدولارات تعويضا حتى الآن, وقبل أن تنجح التكنولوجيا المتقدمة بين يديها في وقف التسرب, وقد يتضخم الرقم إن استمر النفط المندفع من جوف الأرض في تلويث المياه والإضرار بحياة الناس.
وإذ يعمل المرء عقله في الواقعة فإن جملة من التساؤلات تبرز بحثا عن أجوبة قد لا يستطيع الكاتب نفسه أن يقدمها جزما, بل هي مجرد طرح لرؤية في خبر متطور منذ فترة.
وأول ما خطر ببالي وقد استمعت هو: لو أن الكارثة التي ألمت ببي بي وبالبيئة والناس في لويزيانا وجوارها وقعت في دولة أخرى غير الولايات المتحدة, هل كانت قادرة على أن تجلب الشركة العالمية لبيت الطاعة وتغرمها؟
فنحن هنا حيال مواجهة بين الدولة الأعظم في العالم جيوشا واقتصادا وتأثيرا, وبين واحدة من الشركات العالمية الكبرى, التي هي في واقع الأمر إحدى تجليات الهيمنة الغربية وإحدى أدواتها في حكم العالم وتسيير أموره, وفقا لما تقتضيه المصالح الكونية للمنظومة الغربية على ضفتي المحيط الأطلسي.
في حالتنا لا بد "لكبير العائلة", إن جاز التعبير إسقاطا من قاموسنا الاجتماعي على ثقافة أخرى, أن يعاقب الفتى المخطئ وإن بغير قصد, ويحرمه من ميزات تمتع بها طويلا.
فلو أن التسرب وقع في بلد آخر خارج دول شمال أوروبا والولايات المتحدة, وربما كندا وأستراليا, ولنقل في بلد عربي أو أفريقي أو آسيوي, هل كانت بي بي ستدفع الثمن وتعتذر مرة ومرة؟
ففي عام 1984 تسربت غازات سامة من مصنع للمبيدات تمتلكه شركة يونيون كاربايد الأميركية في مدينة بهوبال في الهند, وراح ضحيته آلاف الناس وما زال عشرات الألوف من الأحياء يحملون في جيناتهم آثار التسمم تنتقل مع أجيالهم. لم تعتذر يونيون كاربايد آنذاك, ولم تجلب إلى بيت الطاعة, ولم تدفع البلايين مثل بي بي إذ لوثت شواطئ خليج المكسيك, وأدى حادث انفجار منصتها إلى مقتل 11 شخصا فحسب.
وليس القصد من هذه المقارنة التقليل من فداحة ما نجم عن التسرب, أو الدفاع عن بي بي, ولكن الشيء بالشيء يذكر إن حضر أوانه أو حضر رجاله, كما في قول لسيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
ففي حالة يونيون كاربايد تقف إحدى الأذرع الطويلة لدول الغرب المتقدم أمام الهند قبل ربع قرن من الآن, إذ لم تكن الدولة العملاقة سكانا ونموا كما هي عليه اليوم. آنذاك وربما حتى اليوم, قد لا يستطيع رأس الدولة الهندية أن يركع شركة مثل بي بي, لها امتداداتها الاستثمارية وعلاقاتها النافذة في دول ما كان يعرف بالعالم الثالث في الاقتصاد والسياسة على حد سواء، مثل ما فعل باراك أوباما ومعه الكونغرس.
والتساؤل الثاني, الذي يبحث عن جواب, يدور حول ضخامة مبلغ التعويض الذي ستدفعه شركة واحدة فحسب وتظل قادرة في الوقت نفسه على الوقوف على ساقها وتعلن أنها لن تتمكن من دفع أرباح لمساهميها في هذه السنة فحسب. عشرون بليون دولار ستدفعها بي بي ولن تعلن إفلاسها!
فهل تستطيع دول بلاد الشام مثلا أن تخرج من خزائنها مثل هذا المبلغ أو نصفه من دون أن تعلن إفلاسها؟ بل, هل تستطيع حتى الدول العربية النفطية أن تتحمل خسارة كهذه من دون أن تشكو وتصرخ؟ ثم يزعمون في كثير من صحف الغرب ووسائل إعلامه أن دول الخليج العربي أغنى الأغنياء.
هذه هي الشركات العابرة للحدود, التي بدأت بالظهور واشتد عودها وبدأت تسيطر بأساليب مختلفة عن أساليب السيطرة الاستعمارية على العالم بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. فمن أين تأتي أموال تلك الشركات الهائلة ومنها على وجه الخصوص الشركات النفطية مثل بي بي؟
وحتى تتضح الصورة لا بد من العودة إلى عهد الاستعمار في القرن التاسع عشر بالذات, حين انطلقت الدول الأوروبية بعد الثورة الصناعية تستعمر بلدان العالم لتنتزع من مقدراتها ما يشبع نهم مصانعها وآلات إنتاجها ولتعيد ما تصنع إلى المستعمرات سلعا وأدوات.
ولعل شركة الهند الشرقية النموذج الأبرز لمثل هذه الشركات, إذ كانت تلك الشركة المستعمر الحقيقي للهند بحماية آلة الحرب البريطانية التي سخرت الإمبراطورية آنذاك قدراتها التصنيعية لتعزيز جبروتها.
وبعد الحرب الثانية واستقلال الكثير من المستعمرات, وإن شكليا في كثير من الحالات, جاءت الشركات عابرة الحدود والقوميات لتواصل مهمة السيطرة والنهب الاستعمارية تحت غطاءات أخرى ووفق أساليب أخرى ودونما حاجة لآلات حرب تحميها, بل هي تتمتع في حالات كثيرة بحماية أنظمة فاسدة في كثير من الدول المستقلة.
فمن أين كدست بي بي هذه الأموال الطائلة؟ نظرة خاطفة على موقع الشركة في الإنترنت تجيب على السؤال. بدأت عملياتها عام 1908 في إقليم الأحواز الواقع تحت السيطرة الإيرانية ومن ثم امتد نشاطها إلى ليبيا ودول الخليج العربية قبل أن تنال معظمها استقلالها.
وقد كانت الشركة ذراعا قوية للإمبراطورية البريطانية إبان الحربين العالميتين في القرن الماضي. وهي تقول في أدبياتها المنشورة في الإنترنت كيف أن رئيس الوزراء الراحل ونستون تشيرتشل الذي قاد بريطانيا في الحرب الثانية طلب من بي بي وغيرها من الشركات النفطية مثل شيل أن تساعد المجهود الحربي البريطاني. وليس همنا في هذا المقام التوسع في سياق الارتباط العضوي للشركات عابرة الحدود والقوميات بالإمبراطوريات والدول الكبرى التي نشأت تحت حمايتها.
أما التساؤل الثالث الذي خطر ببالي وأنا أتابع استجواب رئيس بي بي, فهو لو أن التسرب وقع في دولة غير الولايات المتحدة وغير دول أوروبا هل كان الأمر سيعامل بمثل هذه الشفافية والوضوح, إعلاميا على الأقل؟
فنحن هنا أمام رئيس يعلن كل يوم أن على بي بي أن تدفع الثمن وأن توقف التسرب مهما كلف الأمر, ومعه في ذلك برلمان ينزع في استجوابه اللحم عن عظام بي بي ورئيسها.
أما في أي دولة أخرى من دول العالم الثالث, فإن المرء يكاد يرجح أن تسوى أزمة التسرب رغم ضررها الكبير وراء الكواليس, فتمتلئ جيوب المسؤولين فوق امتلائها ويستمر التسرب إلى أن يوقفه الزمن, كما هو نهج الكثير من حكوماتنا في ترك الأيام تفعل ما تشاء, فتتفاقم المشكلة وتزداد الدمامل ويعتل الجسد فوق أي أمل في الشفاء والعافية.
أو لم يثبت أن كثيرا من مسؤولي هذه الدول تلقوا عمولات ورشاوى لتمرير صفقات أو السكوت عن مخالفات ألحقت بدولهم أفدح الضرر؟ ثم ألم نقرأ فيضا من التحقيقات والأخبار عن موافقة بعض الحكام وأعوانهم على تخزين النفايات السامة والمشعة في أراضيها مقابل ما يعلمه الله؟
ومع ذلك كله, فإن الشفافية التي تعامل أوباما والكونغرس بها مع قضية التسرب طالتها أيضا تساؤلات عن دور شركات مثل هاليبيرتون التي يديرها ديك تشيني نائب الرئيس السابق, وشركة أخرى يقال إن لوزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد مصلحة كبيرة فيها.
غير أن هذه التساؤلات لا تنفي أبدا روح الحكم الرشيد, التي تبث في جسد الدول المتقدمة نفسا وقوة تجعلها تواجه أزماتها بدراية وعلم وتخرج منها بعبر ودروس تستفيد منها وبها, في معالجة ما يظهر في المستقبل من مشاكل. وإني لأزعم أن من أهم المعضلات التي تواجهنا في الوطن العربي غياب روح الحكم الرشيد, إذ يكاشف الحاكم الشعب فيجد الدعم فيكون قراره مستندا إلى مرجعية الأمة يقودها وتأخذ بيده.
ومن زاوية أخرى فإن قضية التسرب وتغريم بي بي جراءها تثير ازدواجية الموقف الأميركي حيال قضايا البيئة. فها نحن نطالع شبكات التلفزة الأميركية وغيرها تعرض على مدار الساعة فيضا من الصور والتقارير عن الآثار الكارثية للتسرب على البيئة والشواطئ والطيور والمخلوقات البحرية, وتندب حرمان المصطافين من الرمال البيضاء والتلذذ بحمام شمسي, وهو أمر إيجابي ينبغي أن تقوم به.
ولكن لمَ ترفض الولايات المتحدة حتى الآن تطبيق ما جاء في بروتوكولات كيوتو بشأن البيئة والانحباس الحراري الذي بات يهدد البشرية جمعاء؟ أم إن شواطئ خليج المكسيك ولويزيانا والقاطنين فيها صنف من البشر أرقى وأسمى؟ ولم استعملت اليورانيوم المنضب في العراق وما به من مخاطر تهدد أسس الحياة الإنسانية؟ ولم تنشط الشركات الغربية في قطع غابات الأمازون رئة العالم دونما حساب للعواقب على العالم برمته؟
إنه الجشع, الذي بات في سنوات العولمة والسوق الحرة, دونما توقف عند حد جغرافي أو نهي من وازع أخلاقي, القوة الدافعة للشركات عابرة الحدود والقوميات ولمؤسسات المال. نعم, جشع في استغلال موارد الأرض وخاماتها لجني الثروات وتكديس الأموال واستعمالها في بسط النفوذ والسيطرة على العالم. وقد كان هذا ديدن كل الإمبراطوريات حتى اليوم وإن اختلفت الأساليب حسب الظروف التاريخية والواقع الجغرافي والإنساني.
أو ليس هو جشع بيوت الاستثمار وصناديق التحوط وسياسات البنك الدولي وصندوق النقد الذي فجر الأزمة المالية الأخيرة؟ أو لا يجدر بأوباما والكونغرس والعالم كله أن يشرعوا في البحث عن نهج جديد في التعاطي مع الأزمات المتكررة بدلا من حلول ردة الفعل؟ إنه فساد يظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس فهاهم يذوقون بأس فسادهم.
ثم نقطة أخيرة فإن كانت هذه الشركات لا تزال ناشطة في كثير من دولنا تستكشف وتستخرج وتصنع وتذهب بحصة الأسد, ألم يحن الوقت للقائمين على الأمر أن يدركوا أن مصلحة الأوطان ومستقبل الشعوب يكمن في نهج مختلف يحقق للأمة السيطرة على مقدراتها ويتيح لها أن تسخرها في محيطها الحيوي حيث يمليه التاريخ والجغرافيا؟
شاهدت جلسة التحقيق في الكونغرس الأميركي مع رئيس شركة بي بي, أو بريتش بتروليوم قبل أن تتخلى الشركة العالمية العابرة للحدود عن الانتساب إلى الإمبراطورية الغابرة, حول كارثة التسرب النفطي في خليج المكسيك.
وكم رثيت لحال الرجل, وربما كان الرثاء في غير محله, وهو يكرر الاعتذار للشعب الأميركي ولضحايا التسرب, ويؤكد استعداد الشركة لفعل كل شيء من أجل وقف التسرب ودفع الأذى عمن لحق بهم. وقد كانت ذروة التذلل إعلانه أن الشركة ستدفع عشرين بليون دولار تعويضا!
ومع أن الرقم لم يثر في الصحافة قدرا عميقا من التحليل, فإنه في حد ذاته خبر مدو وسابقة ربما يكون لها في القانون الدولي ومحافله وقع كبير في المستقبل. فثمة شركة واحدة بصفتها الاعتبارية تتعهد بعشرين ألف مليون من الدولارات تعويضا حتى الآن, وقبل أن تنجح التكنولوجيا المتقدمة بين يديها في وقف التسرب, وقد يتضخم الرقم إن استمر النفط المندفع من جوف الأرض في تلويث المياه والإضرار بحياة الناس.
وإذ يعمل المرء عقله في الواقعة فإن جملة من التساؤلات تبرز بحثا عن أجوبة قد لا يستطيع الكاتب نفسه أن يقدمها جزما, بل هي مجرد طرح لرؤية في خبر متطور منذ فترة.
وأول ما خطر ببالي وقد استمعت هو: لو أن الكارثة التي ألمت ببي بي وبالبيئة والناس في لويزيانا وجوارها وقعت في دولة أخرى غير الولايات المتحدة, هل كانت قادرة على أن تجلب الشركة العالمية لبيت الطاعة وتغرمها؟
فنحن هنا حيال مواجهة بين الدولة الأعظم في العالم جيوشا واقتصادا وتأثيرا, وبين واحدة من الشركات العالمية الكبرى, التي هي في واقع الأمر إحدى تجليات الهيمنة الغربية وإحدى أدواتها في حكم العالم وتسيير أموره, وفقا لما تقتضيه المصالح الكونية للمنظومة الغربية على ضفتي المحيط الأطلسي.
في حالتنا لا بد "لكبير العائلة", إن جاز التعبير إسقاطا من قاموسنا الاجتماعي على ثقافة أخرى, أن يعاقب الفتى المخطئ وإن بغير قصد, ويحرمه من ميزات تمتع بها طويلا.
فلو أن التسرب وقع في بلد آخر خارج دول شمال أوروبا والولايات المتحدة, وربما كندا وأستراليا, ولنقل في بلد عربي أو أفريقي أو آسيوي, هل كانت بي بي ستدفع الثمن وتعتذر مرة ومرة؟
ففي عام 1984 تسربت غازات سامة من مصنع للمبيدات تمتلكه شركة يونيون كاربايد الأميركية في مدينة بهوبال في الهند, وراح ضحيته آلاف الناس وما زال عشرات الألوف من الأحياء يحملون في جيناتهم آثار التسمم تنتقل مع أجيالهم. لم تعتذر يونيون كاربايد آنذاك, ولم تجلب إلى بيت الطاعة, ولم تدفع البلايين مثل بي بي إذ لوثت شواطئ خليج المكسيك, وأدى حادث انفجار منصتها إلى مقتل 11 شخصا فحسب.
وليس القصد من هذه المقارنة التقليل من فداحة ما نجم عن التسرب, أو الدفاع عن بي بي, ولكن الشيء بالشيء يذكر إن حضر أوانه أو حضر رجاله, كما في قول لسيدنا علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
ففي حالة يونيون كاربايد تقف إحدى الأذرع الطويلة لدول الغرب المتقدم أمام الهند قبل ربع قرن من الآن, إذ لم تكن الدولة العملاقة سكانا ونموا كما هي عليه اليوم. آنذاك وربما حتى اليوم, قد لا يستطيع رأس الدولة الهندية أن يركع شركة مثل بي بي, لها امتداداتها الاستثمارية وعلاقاتها النافذة في دول ما كان يعرف بالعالم الثالث في الاقتصاد والسياسة على حد سواء، مثل ما فعل باراك أوباما ومعه الكونغرس.
والتساؤل الثاني, الذي يبحث عن جواب, يدور حول ضخامة مبلغ التعويض الذي ستدفعه شركة واحدة فحسب وتظل قادرة في الوقت نفسه على الوقوف على ساقها وتعلن أنها لن تتمكن من دفع أرباح لمساهميها في هذه السنة فحسب. عشرون بليون دولار ستدفعها بي بي ولن تعلن إفلاسها!
فهل تستطيع دول بلاد الشام مثلا أن تخرج من خزائنها مثل هذا المبلغ أو نصفه من دون أن تعلن إفلاسها؟ بل, هل تستطيع حتى الدول العربية النفطية أن تتحمل خسارة كهذه من دون أن تشكو وتصرخ؟ ثم يزعمون في كثير من صحف الغرب ووسائل إعلامه أن دول الخليج العربي أغنى الأغنياء.
هذه هي الشركات العابرة للحدود, التي بدأت بالظهور واشتد عودها وبدأت تسيطر بأساليب مختلفة عن أساليب السيطرة الاستعمارية على العالم بعد الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. فمن أين تأتي أموال تلك الشركات الهائلة ومنها على وجه الخصوص الشركات النفطية مثل بي بي؟
وحتى تتضح الصورة لا بد من العودة إلى عهد الاستعمار في القرن التاسع عشر بالذات, حين انطلقت الدول الأوروبية بعد الثورة الصناعية تستعمر بلدان العالم لتنتزع من مقدراتها ما يشبع نهم مصانعها وآلات إنتاجها ولتعيد ما تصنع إلى المستعمرات سلعا وأدوات.
ولعل شركة الهند الشرقية النموذج الأبرز لمثل هذه الشركات, إذ كانت تلك الشركة المستعمر الحقيقي للهند بحماية آلة الحرب البريطانية التي سخرت الإمبراطورية آنذاك قدراتها التصنيعية لتعزيز جبروتها.
وبعد الحرب الثانية واستقلال الكثير من المستعمرات, وإن شكليا في كثير من الحالات, جاءت الشركات عابرة الحدود والقوميات لتواصل مهمة السيطرة والنهب الاستعمارية تحت غطاءات أخرى ووفق أساليب أخرى ودونما حاجة لآلات حرب تحميها, بل هي تتمتع في حالات كثيرة بحماية أنظمة فاسدة في كثير من الدول المستقلة .
فمن أين كدست بي بي هذه الأموال الطائلة؟ نظرة خاطفة على موقع الشركة في الإنترنت تجيب على السؤال. بدأت عملياتها عام 1908 في إقليم الأحواز الواقع تحت السيطرة الإيرانية ومن ثم امتد نشاطها إلى ليبيا ودول الخليج العربية قبل أن تنال معظمها استقلالها.
وقد كانت الشركة ذراعا قوية للإمبراطورية البريطانية إبان الحربين العالميتين في القرن الماضي. وهي تقول في أدبياتها المنشورة في الإنترنت كيف أن رئيس الوزراء الراحل ونستون تشيرتشل الذي قاد بريطانيا في الحرب الثانية طلب من بي بي وغيرها من الشركات النفطية مثل شيل أن تساعد المجهود الحربي البريطاني. وليس همنا في هذا المقام التوسع في سياق الارتباط العضوي للشركات عابرة الحدود والقوميات بالإمبراطوريات والدول الكبرى التي نشأت تحت حمايتها.
أما التساؤل الثالث الذي خطر ببالي وأنا أتابع استجواب رئيس بي بي, فهو لو أن التسرب وقع في دولة غير الولايات المتحدة وغير دول أوروبا هل كان الأمر سيعامل بمثل هذه الشفافية والوضوح, إعلاميا على الأقل؟
فنحن هنا أمام رئيس يعلن كل يوم أن على بي بي أن تدفع الثمن وأن توقف التسرب مهما كلف الأمر, ومعه في ذلك برلمان ينزع في استجوابه اللحم عن عظام بي بي ورئيسها.
أما في أي دولة أخرى من دول العالم الثالث, فإن المرء يكاد يرجح أن تسوى أزمة التسرب رغم ضررها الكبير وراء الكواليس, فتمتلئ جيوب المسؤولين فوق امتلائها ويستمر التسرب إلى أن يوقفه الزمن, كما هو نهج الكثير من حكوماتنا في ترك الأيام تفعل ما تشاء, فتتفاقم المشكلة وتزداد الدمامل ويعتل الجسد فوق أي أمل في الشفاء والعافية.
أو لم يثبت أن كثيرا من مسؤولي هذه الدول تلقوا عمولات ورشاوى لتمرير صفقات أو السكوت عن مخالفات ألحقت بدولهم أفدح الضرر؟ ثم ألم نقرأ فيضا من التحقيقات والأخبار عن موافقة بعض الحكام وأعوانهم على تخزين النفايات السامة والمشعة في أراضيها مقابل ما يعلمه الله؟
ومع ذلك كله, فإن الشفافية التي تعامل أوباما والكونغرس بها مع قضية التسرب طالتها أيضا تساؤلات عن دور شركات مثل هاليبيرتون التي يديرها ديك تشيني نائب الرئيس السابق, وشركة أخرى يقال إن لوزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد مصلحة كبيرة فيها.
غير أن هذه التساؤلات لا تنفي أبدا روح الحكم الرشيد, التي تبث في جسد الدول المتقدمة نفسا وقوة تجعلها تواجه أزماتها بدراية وعلم وتخرج منها بعبر ودروس تستفيد منها وبها, في معالجة ما يظهر في المستقبل من مشاكل. وإني لأزعم أن من أهم المعضلات التي تواجهنا في الوطن العربي غياب روح الحكم الرشيد, إذ يكاشف الحاكم الشعب فيجد الدعم فيكون قراره مستندا إلى مرجعية الأمة يقودها وتأخذ بيده.
ومن زاوية أخرى فإن قضية التسرب وتغريم بي بي جراءها تثير ازدواجية الموقف الأميركي حيال قضايا البيئة. فها نحن نطالع شبكات التلفزة الأميركية وغيرها تعرض على مدار الساعة فيضا من الصور والتقارير عن الآثار الكارثية للتسرب على البيئة والشواطئ والطيور والمخلوقات البحرية, وتندب حرمان المصطافين من الرمال البيضاء والتلذذ بحمام شمسي, وهو أمر إيجابي ينبغي أن تقوم به.
ولكن لمَ ترفض الولايات المتحدة حتى الآن تطبيق ما جاء في بروتوكولات كيوتو بشأن البيئة والانحباس الحراري الذي بات يهدد البشرية جمعاء؟ أم إن شواطئ خليج المكسيك ولويزيانا والقاطنين فيها صنف من البشر أرقى وأسمى؟ ولم استعملت اليورانيوم المنضب في العراق وما به من مخاطر تهدد أسس الحياة الإنسانية؟ ولم تنشط الشركات الغربية في قطع غابات الأمازون رئة العالم دونما حساب للعواقب على العالم برمته؟
إنه الجشع, الذي بات في سنوات العولمة والسوق الحرة, دونما توقف عند حد جغرافي أو نهي من وازع أخلاقي, القوة الدافعة للشركات عابرة الحدود والقوميات ولمؤسسات المال. نعم, جشع في استغلال موارد الأرض وخاماتها لجني الثروات وتكديس الأموال واستعمالها في بسط النفوذ والسيطرة على العالم. وقد كان هذا ديدن كل الإمبراطوريات حتى اليوم وإن اختلفت الأساليب حسب الظروف التاريخية والواقع الجغرافي والإنساني.
أو ليس هو جشع بيوت الاستثمار وصناديق التحوط وسياسات البنك الدولي وصندوق النقد الذي فجر الأزمة المالية الأخيرة؟ أو لا يجدر بأوباما والكونغرس والعالم كله أن يشرعوا في البحث عن نهج جديد في التعاطي مع الأزمات المتكررة بدلا من حلول ردة الفعل؟ إنه فساد يظهر في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس فهاهم يذوقون بأس فسادهم.
ثم نقطة أخيرة فإن كانت هذه الشركات لا تزال ناشطة في كثير من دولنا تستكشف وتستخرج وتصنع وتذهب بحصة الأسد, ألم يحن الوقت للقائمين على الأمر أن يدركوا أن مصلحة الأوطان ومستقبل الشعوب يكمن في نهج مختلف يحقق للأمة السيطرة على مقدراتها ويتيح لها أن تسخرها في محيطها الحيوي حيث يمليه التاريخ والجغرافيا؟